الفصل العاشر

مع أنني لم أَعُد أقرأ الروايات البوليسية المعاصرة، فإنني أُجاري التيارات السائدة. إنني أدركُ جيدًا أنَّ رواية «الزوجة المفقودة» للكاتبة جيليان فلين قد غيَّرت الصناعة، وأنَّ فكرة الرواة غير الموثوق بهم أصبحت ذائعةً فجأة، بالإضافة إلى التشويق والإثارة النفسية التي تُركِّز الضوءَ على العلاقات الشخصية، فضلًا عن الكتب التي تناقش مسألةَ هل في مقدورنا حقًّا الوثوقُ بأحدٍ، لا سيَّما أولئك الأقرب إلينا. بدا لي من بعض التعليقات التي قرأتُها أن الأمر بات كما لو أنه ظاهرة حديثة، كما لو أن فكرة اكتشاف أسرار أحد الزوجين تُشكِّل شيئًا جديدًا، أو أن إغفال الحقائق من السرد لم يكن هو الأساس الذي بُنيَت عليه الروايات النفسية المثيرة لأكثر من قرن. في رواية «ربيكا»، التي نُشرت عام ١٩٣٨، لم يُزوَّد القراء حتى باسمها مطلقًا.

الأمرُ هو، وربما كنت متحيِّزًا بسبب كلِّ تلك السنوات التي قضيتُها في عوالمَ خيالية مبنيَّة على الخداع، أنني ما عدتُ أثق في الرواة أكثرَ مما أثق في الأشخاص الفعليين في حياتي. فنحن لا نحصُل على الحقيقة كاملة، ليس من أي شخص. عندما نقابل شخصًا ما لأول مرة، وقبل أن نتجاذب أطرافَ الحديث حتى، تكون هناك بالفعل أكاذيبُ وأنصاف حقائق. إن الملابس التي نرتديها تغطي حقيقةَ أجسادنا، لكنها تُفصح للعالم أيضًا عن رغباتنا وهويتنا. إنها افتراءاتٌ، مجازية وحرفية.

ومن ثمَّ، لم أُفاجَأ عندما وجدتُ مذكرات زوجتي السرية، ولم أُفاجأ بوجودِ أشياء بداخلها لم تُخبرني بها قط. العديد من الأشياء. لأهداف هذه القصة — قصتي — لن أخوض في كلِّ ما اكتشفتُه من قراءة المذكرات. ذلك أنها لم تكن تريد أن يعرف العالم، وأنا لا أريد ذلك أيضًا.

لكنني بحاجةٍ فعلًا إلى سردِ ما حدث بين كلير وإيريك أتويل. من غير المفاجئ أنهما كانا على علاقة جسدية. لم تكن علاقةَ ارتباطٍ عاطفية. كانت كلير قد أصبحَت مدمنةً على الكوكايين، وبعد مدةٍ أمَدَّها خلالها أتويل بالكوكايين مجانًا، بدأ يطلب منها المال. كنا أنا وهي نتقاسم معًا حسابًا مصرفيًّا واحدًا — للإيجار، والنفقات المنزلية، والعطلات، ولكن كان لكلٍّ منا حسابٌ منفصل كذلك. وكان حسابُها المصرفي قد أُفرغ في غضون ثلاثة أسابيع. وبعدها، بدأت تدفع لأتويل المقابل في هيئةِ علاقاتٍ جنسية. كانت تلك فكرتَه. ودون الخوض في التفاصيل، كان بعضُ ما طلبه منها مُهينًا حقًّا. لقد أخبرَته في مرحلةٍ ما عن تجربتها السيئة مع السيد كليفتون، مدرس المدرسة الإعدادية؛ إذ كتبَت: «كان بإمكاني رؤيةُ الإثارة في عينَيه.»

قرأتُ بقيةَ المذكرات، ثم في عطلة نهاية الأسبوع التالية، توجَّهتُ بالسيارة إلى بحيرة والدن بوند في كونكورد، مرورًا بساوثويل. كانت الساحة فارغة تقريبًا … كانت درجة الحرارة بالخارج تُقارب عشر درجات، البحيرة متجمِّدة، والسماء فوقها بيضاءُ بلون الطباشير. اجتزتُ ممرًّا يجتاز سلسلةً من التلال فوق البحيرة، ثم غمَستُ المذكرات في الكيروسين وأحرقتُها في بقعة أرض جرداء، داعسًا على البقايا حتى لم يتبقَّ من أثر الدفتر إلا فوَّهة سخام أسود في الثلج ورماد في الهواء.

لم أشعر بالنَّدم على حرق مذكرات كلير مطلقًا رغم أنني أحيانًا، وحتى يومنا هذا، أندم على قراءتها. عندما انتقلتُ من شقتنا في سومرفيل إلى الشقة الاستوديو في بيكون هيل، تخلَّصتُ من كلِّ ما تبقَّى من كلير … ملابسها، الأثاث الذي ابتاعته لمنزلنا، وكُتُبها في سنوات الكلية. احتفظتُ ببعض كُتُبها، نسخة طفولتها من «شائبة في الزمن»، وهو كُتيب مُذيَّل لقصائدَ مُجمَّعة من تأليف آن سيكستون، ابتاعتْه من أجل الدراسةِ خلال عامها الأول في جامعة بوسطن. هذا الكتاب موجودٌ دائمًا على منضدةٍ بجانب سريري. أحيانًا أقرأ القصائد الموجودة داخله، لكنني في أغلب الأحيان أُلقي نظرةً على ملاحظات كلير ورسوماتها العابثة والأبيات والكلمات التي وضعت سطرًا تحتها. أحيانًا ألمسُ النتوءات التي صنعها قلمُها الجاف في الصفحة.

هذه الأيام، غالبًا ما أحبُّ فقط كون الكتاب موجودًا هناك، في متناوَل يدي. لقد مرَّت خمسة أعوام على وفاتها، لكنني أتحدَّث إليها الآن في رأسي، أكثرَ مما فعلتُ فور وفاتها. لقد تحدَّثتُ إليها في الليلة التي استلقيتُ فيها في الفراش مع رواية أجاثا كريستي «مقتل روجر أكرويد»، أخبرتُها بكل شيءٍ عن القائمة، وعن زيارة العميلة مالفي، وكيف كان شعوري وأنا أقرأ هذه الكتب مجددًا.

•••

استيقظتُ في نحو الساعة الثامنة والنصف صباحًا، متفاجئًا بأنني قد استطعتُ النوم. كنت قد نسيتُ أن أسدل الستائر في شقتي، وكانت أشعَّة الشمس القاسية تتدفَّق لتغمر المكان بالداخل. نظرتُ من النافذة باتجاه خطِّ السقف غير المنتظم عبْر الشارع، المُغطَّى الآن بالثلوج، بينما تُزيِّن رقاقاتُ الثلج المزاريب. كانت هناك خطوطُ صقيع عنكبوتية على السطح الخارجي للنوافذ، وكان الشارع أدناه شاحبًا رماديًّا مما يعني أن الطقس بالخارج كان باردًا على نحوٍ بالغ للغاية. تفقَّدتُ هاتفي، وكان يُسجِّل حاليًّا درجةً واحدة فوق الصفر. أوشكتُ على إرسال بريد إلكتروني إلى إيميلي وبراندون؛ لأعلمهما أن في وُسعهما عدمَ المجيء اليوم، وبأن الطقس بارد جدًّا يتعذَّر معه مطالبتهما بالحضور، لكنني غيَّرتُ رأيي.

ارتديتُ ملابسَ دافئة وسرتُ إلى شارع تشارلز، حيث مقهًى يقدِّم الشوفان. كنت أجلسُ إلى طاولة بالزاوية وأقرأ نسخةَ أمسِ من صحيفة «جلوب» التي كانت تقبع فوق الطاولة حين دقَّ هاتفي الخلوي.

«مالكوم، أنا جوين.»

قلتُ: «مرحبًا.»

«هل كنتَ نائمًا؟»

«أوه، لا. أنا أتناول الفطور. إنني على وشْك الذهاب إلى المتجر. أمَا زلتِ في بوسطن؟»

«كلَّا، عُدتُ إلى المنزل بعد ظهر أمس، وقد وصلَت جميع الكتب التي طلبتها، ومن ثمَّ قرأتُ البارحة «غريبان على متن قطار».»

«أجل، و…؟»

«أريدُ التحدُّث معك عن ذلك. هل من وقتٍ مناسب؟»

قلتُ: «هل يمكنني معاودة الاتصال بكِ عندما أصل إلى المتجر؟» كان الشوفان قد وصلَ للتو، وكان البخار يتدفَّق من الوعاء.

قالت: «بالتأكيد. عاوِد الاتصال بي.»

بعد أن أنهيتُ الإفطار، ذهبتُ إلى «أُولد ديفيلز». كانت إيميلي هناك بالفعل، وتناول نيرو طعامه.

قلتُ: «جئتِ مبكرًا.»

«تذكَّر أنني سوف أغادر مبكرًا.»

قلتُ، وإنْ لم أتذكَّر ذلك: «أوه، صحيح.»

قالت وهي تفرك يديها معًا: «لقد اشتكى السيد بوبوفيتش مجددًا. يريد إعادةَ شحنته الأخيرة.»

«الشحنة بأكملها؟»

«أجل. يقول إنها كلها متسلسلةٌ على نحوٍ خاطئ.»

كان ديفيد بوبوفيتش جامعًا للكتب يعيش في نيو مكسيكو، لكننا جميعًا في المكتبة كنا نشعر كما لو أنه يعيش في الجوار. لقد ابتاع من متجرنا طُنًّا من الكتب وأعاد نصفها على الأقل إلينا، كان يتصل من حينٍ لآخر متذمِّرًا، لكنه في الغالب كان يرسل إلينا رسائلَ إلكترونية مِلؤها الازدراء.

«أوقِفوا التعامُل معه.»

«ماذا؟»

«اكتبي إليه مرةً أخرى وأخبريه أننا سنقبل أيَّ مرتجعاتٍ لديه، لكن لا يمكنه أن يُجري معنا أيَّ طلبات شراء بعد الآن. لقد اكتفيتُ منه.»

«هل أنتَ جادٌّ؟»

«نعم. هل تُفضِّلين أن أكتب أنا الرسالة الإلكترونية؟»

«كلَّا، يُسعدني القيام بذلك. هل أرسل نسخة إليك؟»

قلتُ: «بالتأكيد.» ربما قد يُضرُّ إقصاء بوبوفيتش بأرباحنا الإجمالية في النهاية، لكنني لم أعُد أكترث في الوقت الحالي. وشعرتُ بالارتياح.

قبل معاودة الاتصال بجوين، أرسلتُ بريدًا إلكترونيًّا إلى مسئول الدعاية في «راندوم هاوس» الذي كنت أتجاهله، وأكدتُ موعدَ حضورِ مؤلِّفتهم للندوة النقاشية في مارس. ثم فتحتُ الخزانة الزجاجية وأخذتُ نسختنا الأولى من «غريبان على متن قطار»، وأعدتُها معي إلى حيث الهاتف. كان غلافُها أزرقَ غامقًا، ومزوَّدًا بصورة مقرَّبة لوجه رجلٍ وامرأةٍ شاحبة المظهر، لها شعرٌ أحمر.

التقطت جوين سماعة الهاتف بعد رنَّة واحدة.

قلتُ: «مرحبًا جوين»، وبدا اسمُها الأول غريبًا وأنا أنطِقه.

«شكرًا لمعاودة الاتصال بي. إذن، هذا الكتاب …»

«ما رأيُك؟»

«كئيب. عرَفتُ القصة من الفيلم. ولكن الكتاب كان مختلفًا. رأيتُ أنه أكثرُ كآبةً، وهل يرتكب كِلا الرجلَين جرائمَ قتلٍ في الفيلم؟»

حاولتُ أن أتذكَّر. ثم قلتُ: «لا أعتقد. كلَّا، بالتأكيد لا. أعتقدُ أنَّ الشخصية الرئيسية في الفيلم — لاعب التنس — يُوشك أن يقتل الأب لكنه لا يفعل. ربما كان لهذا علاقةٌ بقانون الإنتاج أكثر مما كان له علاقة بما أراد هيتشكوك فِعله حقًّا. لا أعتقدُ أنه كان مسموحًا لهم بترك الشخصيات تفلتُ بجريمة قتل». لم أقرأ الكتاب منذ سنوات عديدة، ولم أشاهد الفيلم مرةً أخرى، لكنني تذكَّرتُ كليهما جيدًا.

قالت: «قانون هايز للإنتاج السينمائي، ليته كان المُتَّبع في الحياة الواقعية.»

«صحيح.»

«وهو ليس لاعبَ تنس في الكتاب.»

«مَن؟»

«جاي. الشخصية الرئيسية. إنه مهندسٌ معماري.»

قلتُ: «أوه، صحيح. هل كانت قراءة الكتاب مفيدة؟»

قالت متجاهلةً سؤالي: «لقد ذكرت في قائمتك أنك تعتقد أنه المثال الأفضل على جريمة قتل كاملة. فماذا قصدت بالضبط؟»

قلتُ: «إنها جريمة كاملة؛ لأنه عندما تُرتكب جرائمُ قتلٍ بالوكالة مع شخصٍ آخر، شخصٍ غريب في الأساس، فعندئذٍ لن توجد صلةٌ بين القاتل وضحيته. وهذا ما يجعلها محبوكة.»

قالت: «هذا ما كنتُ أفكِّرُ فيه». وتابعت: «الأمرُ الذكي في جريمة القتل بالكتاب هو أن الشخص الذي ارتكبها لا يمكن ربطُه بالجريمة. ولا علاقة لهذا بأسلوب القتل.»

قلتُ: «ماذا تعنين؟»

«يقتل برونو زوجةَ جاي في مُتنزَّه. يقتلها خنقًا حتى الموت. لكن لا يوجد شيءٌ ذكي في ذلك. لقد كنت أفكِّر في قواعد تشارلي مرةً أخرى. ولذا، إذا كنت تشارلي، فلتُجارِني فحسب، فكيف إذن سترتكب جريمةً مبنيَّة على «غريبان على متن قطار»؟»

«فهمتُ ما تعنينه. سيكون الأمر صعبًا للغاية.»

«صحيح. يمكنك فحسب خنقُ شخص في مُتنزَّهٍ ما، ولكن هذا لن يتَّبع فلسفة الجريمة.»

«سيكون عليه أن يجد شخصًا آخرَ لارتكاب جريمة قتل معه.»

قالت: «هذا ما فكَّرتُ فيه، ولكن ليس بالضرورة، في واقع الأمر. إذا كنتُ تشارلي، إذا كنتُ أحاول تقليد جريمة «غريبان على متن قطار»، فسأختارُ شخصًا من المُحتمل أن يُقتل فعلًا ليكون الضحية. أشعرُ أن عقلي صار فارغًا من الأفكار الآن؛ لا أستطيع التفكير بوضوح، لكن لنفترض أن شخصًا ما قد تعرَّض الآن إلى طلاقٍ مرير، أو …»

قلتُ: «مَن هو الرجل الذي سرق أموال الجميع في نيويورك؟»

«برني مدوف؟»

«أجل، هو.»

«سوف يفي بالغرض، لكن ربما كان هناك العديد من الأشخاص الذين يتمنَّون موته. لو أني مكانه لاخترت أحد طرَفَي طلاقٍ سيئ، على ما أعتقد، شيئًا علنيًّا نوعًا ما، ثم سأنتظر حتى يبتعد الشريك الذي تعرَّض للازدراء، وأرتكبُ جريمة القتل. أعتقد أن هذا سيكون أفضلَ طريقة للالتزام بما جاء في الكتاب.»

قلتُ: «يبدو ذلك منطقيًّا.»

«أظن ذلك أيضًا. إنها فكرة تستحق النظر. ماذا عنك، هل راودَتك أيُّ أفكار جديدة ليلة البارحة؟»

«كنت متعبًا جدًّا أمس، حيث ظللتُ مستيقظًا الليلة التي تسبقها. ومن ثمَّ، لم تُراودني أفكار جديدة. لكنني سأواصل التفكير في الأمر.»

قالت: «شكرًا. كنتَ خيرَ عون لي». ثم أضافت بنبرةِ صوتٍ مختلفة قليلًا: «لا تنسَ أن ترسل إليَّ معلومات رحلة الطيران التي قمت بها إلى لندن الخريف الماضي.»

قلتُ: «سأرسلها إليكِ اليوم.»

بعد أن أغلقتُ سماعة الهاتف، جاء نيرو وهو ينقر على الأرضية الخشبية ليستقر أسفل ساقي. شاهدتُه في خدَرٍ طفيف، وأنا أفكِّر في المحادثة الهاتفية التي قد أجريتُها للتو.

جاء صوتُ إيميلي يقول: «فعلتُها»، واستدرتُ لأجدها قادمةً نحوي، وعلى وجهها ابتسامةٌ استثنائية.

«فعلتِ ماذا؟»

«أرسلتُ البريدَ الإلكتروني إلى بوبوفيتش، سيُصدم من ذلك.»

«يبدو أنكِ سعيدة للغاية.»

«كلَّا، إنني … أنت تعرف كم يدفعني هذا الرجل إلى الجنون.»

«لا بأس. بصراحة، أعتقدُ أنه يحتاج إلينا أكثرَ مما نحتاج إليه. الزَّبون ليس دائمًا على حق، كما تعلمين.»

ابتسمت إيميلي ابتسامةً عريضةً مرة أخرى، ثم قالت: «هل أنت بخير؟»

«أنا بخير. لماذا؟»

«أوه، لا شيء. تبدو مشتَّتًا، هذا كلُّ ما في الأمر. لا أدري إنْ كان ثمَّة خطْبٌ ما.»

لم يكن من عادتها أن تُبدي هذا الاهتمام الكبير بي لدرجةِ أنني أدركتُ أنني أتصرَّفُ بطريقة مختلفة على نحوٍ ملحوظ. أعتقدُ أنني شخصٌ رزين، شخصٌ لا يكشف الكثيرَ عن نفسه، وقد أقلقني ألا يكون الأمر كذلك.

قلتُ: «هل من ضيرٍ إنْ خرجتُ لأتمشَّى قليلًا؟ يمكنك تولِّي أمر المتجر، أليس كذلك؟»

«بالتأكيد.»

قلتُ: «سوف تكون تمشيةً سريعة.»

كان الجو في الخارج لا يزال قارسَ البرودة، لكن الشمس كانت ساطعة، واكتست السماءُ بلون أزرقَ زاهٍ للغاية. كانت الأرصفة قد أُزيلت منها الثلوج وسِرتُ باتجاه شارع تشارلز، معتقدًا أنني سأقطع الطريق إلى الحديقة العامة. ظللتُ أفكِّرُ في المحادثة التي دارت بيني وبين جوين حول كتاب «غريبان على متن قطار»، وهو كتابٌ قد عملت جاهدًا على عدم التفكير فيه لسنواتٍ عديدة.

كان عددٌ من الناس في الحديقة أكبرَ مما ظننتُ بالنظر إلى درجة الحرارة في ذلك الوقت. وكان هناك أبٌ يمسح الثلج عن أحدِ التماثيل البرونزية المدعوَّة ﺑ «افسح الطريقَ للبط الصغير» حتى يتمكَّن من وضْع طفله فوقه والتقاط صورة. لا بد أنني مررتُ بجوار صغار البط تلك آلافَ المرات، وكان هناك دائمًا أمٌّ أو أبٌ أو مجموعة من الآباء، يساعدون طفلهم أن يتخذ وضعيةً معينة لالتقاط صورة. وكثيرًا ما كان يوجد صفُّ انتظار في فصل الصيف. وتساءلتُ دومًا عما سيخرج به الوالدان من إصرارهما على توثيق لحظةٍ معينة. ولأنني لست أبًا، فإنني حقًّا لا أعرف. في الواقع، لم نتحدَّث أنا وكلير قط عن مسألة الإنجاب. لقد أخبرتُ نفسي أن الأمر متروكٌ لها، لكن ربما كانت تنتظر مني أن أفتح أنا الموضوع.

مشيتُ حول البحيرة المتجمِّدة، أخذَتِ الرياح الآن تذري أوراق الشجر الجافة، وشرَعتُ أشقُّ طريقي إلى المتجر. لم أكن بريئًا، مع أنني سمحتُ لنفسي أحيانًا برفاهية التفكير في أنني كذلك. وإذا اكتشفَت جوين مالفي الحقيقة، فسيتحتَّم عليَّ تقبُّل الأمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤