الفصل الثالث عشر

كونك قارئًا شغوفًا للروايات البوليسية في مرحلة المراهقة ليس بالأمر الذي يَعُدُّك للحياة الحقيقية. تصوَّرتُ حقًّا أن حياتي بصفتي شخصًا بالغًا ستكون شبيهةً بالكتب أكثرَ مما اتَّضح فيما بعد. اعتقدتُ، على سبيل المثال، أنه سيكون هناك عدةُ لحظات أستقلُّ فيها سيارة أُجرة لتعقُّب شخصٍ ما. اعتقدتُ أنني سأحضُر المزيد من الجلسات لفتح وصية شخصٍ ما، وأنني سأحتاج إلى معرفة كيفية فتح الأقفال دون مفتاح، وأنه في أي وقت أقوم فيه بإجازة (خصوصًا في النُّزُل القديمة المليئة بالصرير، أو منازل البحيرة المستأجرة) سيحدث شيءٌ غامض. اعتقدتُ أنَّ ركوب القطار سيتضمَّن حتمًا جريمةَ قتل، وأنَّ الأحداث المشئومة ستجتاح عطلات نهاية الأسبوع في حفلات الزفاف، وأنَّ الأصدقاء القُدامى سيتَّصلون دائمًا لطلب المساعدة، ليُخبروني أن حياتهم في خطر. حتى إنني اعتقدتُ أنَّ الرمال المتحركة ستكون إحدى المشكلات التي ستواجهني.

كنتُ مستعدًّا لكلِّ هذا بالطريقة نفسِها التي لم أكن مستعدًّا بها لتفاصيل الحياة المُحطِّمة للرُّوح. الفواتير. تحضير الطعام. الإدراك البطيء بأن البالغين يعيشون في فقاعاتٍ غير مثيرة للاهتمام من صُنعهم. الحياة ليست غامضةً ولا مغامرة. وبالطبع، توصَّلتُ إلى هذه الاستنتاجات قبل أن أصبح قاتلًا. لا يعني ذلك أن مسيرتي الإجرامية قد أشبعَت الحياةَ الخيالية التي كانت لديَّ عندما كنت طفلًا. ففي تخيُّلاتي، لم أكن القاتلَ قط. كنتُ الرجلَ الطيب، المحقِّق (الهاوي، عادةً)، الذي يحلُّ لغز الجريمة. لم أكن الشريرَ قط.

كان من بين مجموعة المهارات الأخرى التي اعتقدتُ أنني سأستخدمها أكثرَ في سنوات البلوغ هي القدرة على تعقُّب شخصٍ ما. والقدرة على معرفة أن أحدهم يتعقَّبني في المقابل. ومرةً أخرى، لم تظهر هذه الأشياء في الواقع مطلقًا. لكن في ليلةِ السبت تلك، بعد أن أغلقتُ «أُولد ديفيلز»، مشيتُ عبْر منتزه بوسطن كومن، وكانت الرياحُ تمرُّ خلال ملابسي، وقد انتهى بي المطافُ في الحانة في جاكوب ويرث، أحتسي البيرةَ الألمانية وآكلُ شريحة وينر. كان ذلك في منتصف شهر فبراير، لكن أضواء عيد الميلاد كانت لا تزال معلَّقة على طول الأسقف العالية للحانة، وبطريقةٍ ما، جعلني هذا المكان أشعرُ بالرضا حيال تناول الطعام بمفردي. هكذا كنت أحكم على المطاعم القريبة مني؛ إذ كانت هناك تلك الأماكن التي تجعلك تشعر بالوحدة عندما تأكل بمفردك، مثل بعض الأماكن الراقية التي تضجُّ بها باك باي، ثم كانت هناك تلك الأماكنُ — «جاكوب ويرث» ومطعم يُسمى «ستوداردز» — كانت صاخبةً بما فيه الكفاية، ومظلمةً بما فيه الكفاية، حيث لا يهمُّ كثيرًا كونُك وحيدًا.

عندما غادرتُ «جاكوب ويرث»، وبدأتُ أمشي في ذلك الطقس البارد عائدًا إلى المنزل، شعرتُ يقينًا بأنني كنتُ مراقَبًا. ربما قرأتُ الكثيرَ من الكتب حقًّا، لكنني شعرتُ بذلك في قرارة نفسي، إحساسٌ مادي تقريبًا بأنَّ أحدًا ما كان يُراقبُني. استدرتُ إلى الخلف، وتفحَّصتُ الأهاليَ والسيَّاح المحتشدين بكثرة، لكنني لم أرَ أحدًا يبدو مريبًا. لكن الشعور استمرَّ طَوال الطريق إلى شارع تشارلز، وعندما توجَّهتُ إلى ريفير باتجاه شقتي، نظرتُ إلى الخلف ورأيتُ رجلًا في الضوء الخافت لمصابيح الغاز يمشي ببطءٍ عبْر التقاطع مُحدِّقًا في اتجاهي ووجهُه في الظِّل. السِّمة الوحيدة التي استطعتُ تمييزها هي أنه كان يرتدي قبعةً رفيعة الحافات. استمر في المشي، مِشية بطيئة متموِّجة، وفكَّرتُ لحظةً في الالتفاف لمواجهته. لكنه اختفى بعد ذلك خلف مبنًى، وعدَلتُ عن رأيي. كان كلُّ مَن يجتاز شارع تشارلز يُلقي نظرةً على الشوارع الجانبية السكنيَّة، لا سيَّما في فصل الشتاء عندما تكون في أجمل حالاتها.

عندما كنت في الداخل، فكَّرتُ أكثرَ في الرجل الموجود في الشارع وقررتُ أنني مصابٌ بجنون الارتياب. لا أحدَ كان يتبعني حرفيًّا. لكن هذا لا يعني أنني لم أكن مراقبًا بطريقةٍ أو بأخرى، أو أنَّ أحدًا لم يكن يتلاعبُ بي.

منذ أن وصلَت جوين مالفي إلى «أُولد ديفيلز»، سائلةً إيَّايَ عن قائمة جرائم القتل الكاملة، وأنا أفكِّر في ظلِّي، ذلك الرجلِ (دائمًا ما كنت أفكِّر فيه على أنه رجل) الذي التقيتُه عندما ردَّ على رسالتي المجهولةِ المصدر حولَ رواية «غريبان على متن قطار». الرجل الذي قتل إريك أتويل من أجلي. الرجل الذي أرادَ موتَ نورمان تشيني.

ماذا لو اكتشف مَن أكون؟ لن يكون الأمر عسيرًا للغاية. ربما وجدني من خلال بعض البحث حول إريك أتويل. لو أمعن النظرَ قليلًا، لَعلمَ بحادث سيارة كلير، والزوج الذي تركته وراءها، وهو رجلٌ كان يعمل في متجرٍ لبيع الروايات البوليسية. ليس هذا فحسب، بل أيضًا رجلٌ نشر مرةً منشورًا على مدوَّنة حول ثمانٍ من جرائم القتل الكاملة المفضَّلة لديه؛ إحداها «غريبان على متن قطار». ومن ثمَّ، من السهل أن يجدني. وماذا بعد أن يجدَني؟ ربما كان قد استمتع بقتل إيريك أتويل، وأراد أن يمضيَ قُدمًا؟ ماذا لو قرَّر استخدام قائمتي مخطَّطًا لارتكاب مزيدٍ من جرائم القتل؟ ستكون تلك وسيلةً لجذب انتباهي. أليس كذلك؟ هل كان هذا كلُّه بمنزلة لُعبةٍ ما؟

كلما أمعنت التفكير في الأمر، زاد اقتناعي بأنَّ تشارلي، الذي نظَّم جرائمَ الأبجدية وجريمةَ قتل القطار المستوحاة من رواية «تعويض مزدوج»، وربما أخافَ إيلين جونسون حتى الموت في روكلاند بولاية مين، كان هو نفسه الرجلَ الذي أطلق النار على إريك أتويل من أجلي.

لقد عرَفني.

وقد جلبَت أفعالُه مكتبَ التحقيقات الفيدرالي إلى باب منزلي. ربما كانت هذه هي نيتَه أيضًا.

«تشارلي، ما الذي تريده؟»

فكَّرتُ أكثرَ في «غريبان على متن قطار». لم يكن الكتاب عن الشخصَين اللذين قُتِلَا. بل كان عن القاتلَين برونو وجاي، وعلاقتهما معًا. ربما شعر أيًّا كان مَن اتصلتُ به من خلال هذا الموقع كما لو كنا على علاقةٍ أيضًا. تذكَّرتُ صاحبَ التعليق على منشور المدوَّنة الخاص بي، دكتور شيبارد. كان من الواضح أنه أراد أن يعرفني، وأنه أرادني أن أعرفه.

رنَّ هاتفي الخلوي. ألقيتُ نظرةً لأجد أنها جوين.

قلتُ: «مرحبًا.»

«آسفة، أتصلُ بك في وقتٍ متأخرٍ جدًّا. أمَا زلتَ مستيقظًا؟»

قلتُ: «لا بأس. أنا مستيقظ.»

«رائع. هناك أمران. لقد أجريتُ مزيدًا من البحث في قضية إيلين جونسون، ضحيةِ الأزمة القلبية.»

«صحيح.»

«لقد تحدَّثتُ مع محقِّقة الشرطة التي حضَرَت إلى مكان الحادث، وأخبرتني أنَّ المنزل كان مكتظًّا تمامًا بالكتب.»

«لستُ متفاجئًا.»

سكتَت جوين هُنيهةً، ثم قالت: «لديَّ طلب منك. أعلم أنه غريب، لكنني أعتقد أنه سيكون مفيدًا. سأقود سيارتي إلى روكلاند بعد ظُهر الغد. هل يمكنك أن تأتيَ معي؟»

قلتُ: «أعتقدُ أنَّ باستطاعتي ذلك، لكنني لست متأكِّدًا من أنني سأكون ذا فائدة. ما الذي سيُمكنني رؤيته ولن تكوني قادرةً على رؤيته؟»

قالت جوين: «لقد فكَّرتُ في هذا الأمر بالفعل. ربما لن ترى شيئًا، وربما سترى الكثير. لقد كنتَ تعرفها. أنا لستُ متأكِّدة من أنَّ ذلك سيكون مفيدًا، لكنني لا أعتقد أنه قد يضرُّ. هل هذا منطقي بالنسبة إليك؟»

قلتُ: «قليلًا.»

«إذن هل ستأتي؟»

«بالتأكيد، على ما أظن. متى ستغادرين؟»

«ممتاز. يجب أن أكون هنا في نيوهافن طوال الصباح، وبعد ذلك أعتقدُ أنه يمكنني المغادرةُ في الظهيرة تقريبًا. سوف أمرُّ ببوسطن وآخذُك في الواحدة والنصف، وسنصل إلى روكلاند في نحو الساعة الخامسة بعد الظهر. هل يناسبك هذا؟»

قلتُ: «حسنًا. سيوجَد مَن يحلُّ محلي في المتجر. هل سنبيت هناك؟»

«لم أفكِّر في ذلك حتى. لقد قررتُ القيامَ بهذه الرحلة قبل خمس دقائق فقط.» فكَّرت لحظة. «دعنا نخطِّط لكيفية المبيت. قالت المحقِّقة إنها ستلتقي بنا هناك في تمام الخامسة، لكننا قد نرغب في إلقاء أكثرَ من نظرةٍ واحدة على المنزل، وقد يكون هناك شهودٌ آخَرون يمكنني مقابلتهم في اليوم التالي. هل يناسبك المبيت ليلًا؟»

قلتُ: «بالتأكيد.»

«ممتاز. سأرسل لك رسالةً نصية عندما أغادر نيوهافن. هل أمرُّ عليك في المتجر أم في شقتك؟»

أخبرتُها أنني سأكون في المتجر، وأنهينا المكالمة.

وقفتُ لحظة ثم ذهبتُ وانتزعتُ عبوةَ بيرة من الثلاجة. لم أكن أعرفُ حقًّا لماذا أرادت جوين أن آتيَ معها إلى منزل إيلين جونسون. كانت تتعلَّق بقشة. ربما كانت طموحة واعتقدت أنني سأساعدها في القضاء على قاتلٍ متسلسل. وربما أرادتني هناك لأنها كانت تأمُل أن أُفشيَ سرِّي، حيث سأكون في مواجهة مسرح الجريمة وعندها سأخرُّ معترفًا. كان دافعُها صحيحًا بالطبع. كانت إيلين جونسون واحدةً من جرائم القتل المدرجة في القائمة. لقد قرَّر الرجل نفسُه، ظلِّي، الذي قتل إريك أتويل، الاستمرارَ في قتل الناس واستخدامَ قائمتي. وكان يحاول التواصلَ معي، وهو ما اتضح جليًّا من خلال اختياره إيلين واحدةً من الضحايا. ولكن كيف عرَف بشأنها بالضبط، هل عرَف أنها اعتادت أن تتردَّد على متجر الكتب؟ ما مدى قُربه مني؟

لم تكن لديَّ إجاباتٌ عن هذه الأسئلة، لكنني كنتُ أعرف في داخلي أنَّ جوين مالفي سوف تكتشف ذلك. لقد جمعَت كلَّ الخيوط معًا حتى الآن وستُواصل تجميعها معًا. وها هي ذي تقودها إليَّ، إلى مقتل إريك أتويل، وما فعلته بنورمان تشيني في نيو هامبشير. سوف تجدني. وهذا يعني أنني بحاجةٍ إلى العثور على ظلِّي أولًا. يجب أن أسبقها إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤