الفصل الرابع عشر

في اليوم التالي استيقظتُ مبكرًا، وحزمتُ حقيبةً من أجل المبيت وذهبتُ إلى «أُولد ديفيلز». لم أنَمْ جيدًا. كنت أفكِّر فيه بالطبع. أُدرك أنني بحاجةٍ إلى اتخاذ قرار بشأن اسمٍ رسمي لهذا الرجل. لطالما فكَّرتُ فيه على أنه ظلي، لكن هذا يبدو إلى حدٍّ بعيد مثلَ شخصية في كتاب هزلي. أعتقد بدلًا من ذلك أنني سأستخدم تشارلي، الاسم الذي توصَّلنا إليه أنا وجوين. لا بأس بتشارلي.

بعد أن فتحتُ البابَ الأمامي للمتجر، دخل نيرو عبْر البابِ المخصَّصِ له، الذي يؤدي إلى شبه سرداب. كان ذلك هو المكانَ الذي ينام فيه أحيانًا بالقرب من التنُّور، لكنه لم يكن يمكث هناك بتاتًا عندما يوجد أناسٌ في الجوار. انخفض واسترخى أمامي، وانحنيتُ وفركت صدره وتحت ذقنه. اعتقدتُ أنه قد تأتي مرحلةٌ في حياتي يتمدَّد فيها نيرو لجذب الانتباه ولا أفكِّر في جثة نورمان تشيني الملطَّخة بالدماء، ولكن ذلك لم يحدُث بعد.

ذهبتُ إلى كمبيوتر المتجر وتفقَّدتُ رسائلَ البريد الإلكتروني، ثم كتبتُ رسالةً سريعة إلى براندون، أسأله فيها عمَّا إذا كان على استعدادٍ لإغلاق المتجر بعد الانتهاء من مناوبته بعد الظهر. كنتُ أعلم أنه سيفعل ذلك، لكنني أردتُ فقط التأكُّد. كان ذلك في صباح يوم الأحد، مبكرًا، ومن ثمَّ لم أكن أتوقَّع تلقِّيَ بريد إلكتروني في أي وقتٍ قريبًا.

احتسيتُ القهوةَ وفكَّرتُ أكثرَ في خُطتي لذلك الصباح. أدركتُ أنه بحلول الساعة التاسعة، أو ربما حتى الثامنة والنصف، سيكون الوقت مناسبًا للاتصال بمارتي كينجشيب وهو ضابط شرطة سابق أعرفه، يعمل الآن مستشارًا أمنيًّا بدوام جزئي لدى أحد الفنادق الكبيرة في وسط المدينة. كنت قد قابلتُ مارتي قبل ثلاث سنواتٍ عندما جاء إلى المتجر أثناء توقيع دينيس ليهان. وقد مكث مدةً طويلة بعد مغادرة ليهان، وطرح عليَّ أسئلة حول روايات الجريمة، قائلًا إنه كان يفكِّر في كتابة رواية بنفسه منذ أن كان في القوات العسكرية. وقبل أن يغادر تلك الليلة، سألني إذا كنتُ أرغب في تناول مشروب معه في وقتٍ ما. أخبرتُه أنني سأفعل وفُوجئتُ عندما اقترح على الفور مكانًا ووقتًا لهذا اللقاء؛ حانة تُسمى «مارلياف» على الجانب الآخر من المنتزَه في ليلة الخميس المقبل في تمام الثامنة.

لم تكن حانة «مارلياف» بالمكان الذي زرتُه من قبل، وهي تقع بعيدًا في شارعٍ جانبي بالقرب من داون تاون كروسينج. كان المدخل عبارةً عن ممرٍّ ضيق يؤدي إلى بارٍ مكسوٍّ بالبلاط يبدو أشبهَ بحانة صغيرة فرنسية أكثرَ منه مكانًا قد يرغب شرطيٌّ سابق في احتساء الشراب فيه. كان مارتي كينجشيب عند البار الطويل، يتحدَّث إلى أحد السقاة. وقد بدا متفاجئًا تقريبًا عندما جذبت المقعد المجاور له، كما لو أنه نسي ترتيب لقائنا.

قال: «أجئت؟»

«بالتأكيد.»

«ماذا ستطلب؟ أنا سأطلب ميلر لايت ولكن روبرت هنا» أشار إلى النادل، «أخبرني أن لديَّ ذوقًا سيئًا.»

طلبتُ جِعةَ شعير. وحصلَ مارتي على جِعةٍ أخرى وطلب بعض الطعام؛ حلزونًا، وطبقًا من شطائر كرات اللحم.

لم أكن قط جيدًا في تكوين صداقات. أحيانًا أُلقي باللوم في ذلك على حقيقةِ أنني طفلٌ وحيد، وأنه لم يكن أيٌّ من والديَّ، باستثناء أبي عندما يكون ثمِلًا، اجتماعيًّا للغاية. لكني أعتقدُ أنَّ الأمر أعمقُ من ذلك، الأمر يرجع إلى عدم القدرة على إقامة علاقاتٍ حقيقية مع الناس. فكلما طال تفاعلي مع شخصٍ ما، بدأت أشعر ببُعدي عنه. أستطيع أن أشعر بقدْرٍ كبير من المودة تجاه سائح ألماني مُسن يزور متجري مدة عشر دقائق ويشتري نسخةً مستعملة من رواية سيمون بريت، ولكن في كل مرة أبدأ في التعرُّف إلى الناس حقًّا، يبدو الأمر كما لو أنهم يأخذون في الخفوت، كما لو كانوا خلف حاجز زجاجي يزداد سُمكًا وسُمكًا. كلما عرَفتُ عنهم أكثر، زادت صعوبة رؤيتهم وسماعهم بأي طريقة ذات معنًى. لكن كان هناك استثناءات. كلير على سبيل المثال. لورانس تيبود أعزُّ أصدقائي في الإعدادية، الذي انتقل ليعيش في مكانٍ ما في البرازيل في نهاية الصف الثامن. وشخصيات في الكتب بالطبع. والشعراء. كلما عرَفت عنهم أكثرَ، ازددتُ حُبًّا لهم.

كان مارتي، عندما قابلتُه لأول مرة، يبحث عن أصدقاء، ولمدةٍ حاولتُ أن أشغل هذا الدَّور. عمل ضابط شرطة في الكتلة الغربية لكنه استقال بعد وقتٍ قصير من مغادرة أطفاله المنزل وطلبِ زوجته الطلاق. كان قد انتقل إلى شقة بغرفة نوم واحدة بالقرب من ميدان دودلي واعتبر نفسه شبهَ متقاعد، على الرغم من ممارسته العملَ الأمني غير الرسمي، وعلى الرغم من أنه كان يرسم الخطوطَ العريضة لرواية كنتُ متأكِّدًا من أنه لن يكتبها أبدًا. كان رجلًا مرحًا. كما أنه كان أذكى بكثير مما بدا عليه بقَصَّة شعره القصيرة وأنفه المكسور وجسده الذي يُشبه ثمرةَ الكُمَّثرى؛ كان يقرأ بسهولةٍ نحو خمسة كتب في الأسبوع. لمدةٍ من الوقت كان يأتي إلى متجرِ بيع الكتب بالقرب من وقتِ الإغلاق، يشتري مخزونًا من الكتب الجديدة، ثم نذهب إلى مكانٍ ما لتناول الشراب. كان لديه دائمًا قصة، أو حكاية مضحكة، ولم يكن يتخلَّل جلستَنا أيُّ فتراتٍ من الصمت. في البداية، نجح الأمر، لكنَّ مثل معظم علاقاتي، بعد مدة شعرتُ أنَّ هناك جدارًا يظهر بيننا. كان الأمر كما لو أننا وصلنا إلى قمةِ صداقتنا وذروتها، ولن تتوسَّع أبدًا. في هذه الأيام، عادةً ما نجتمع فقط لتناول شراب بحلول أعياد الميلاد.

لم أكن أعرفُ إن كان في إمكان مارتي مساعدتي أم لا، لكنني اعتقدتُ أنَّ الأمر يستحق المحاولة. سيكون لديه الوقت والمصادر لمعرفةِ معلوماتٍ حول نورمان تشيني. لقد كانت مخاطرة، لكنها مخاطرة عليَّ أن أتحمَّلها. أيًّا مَن كان تشارلي، فقد أراد موت نورمان تشيني. وأنا أعلم أيضًا أنه أراد أن يتولى شخصٌ آخر هذه المهمة، مما يعني أنه سيكون مشتبهًا به في جريمة القتل.

اتصلتُ بمارتي في تمام التاسعة.

قال: «مرحبًا أيها الغريب.»

«هل أيقظتُك؟»

«كلَّا، لقد خرَجتُ من فوري من الحمَّام. اللعنة، لقد أمضيتُ نحو عشرين دقيقة في محاولة إلصاق بواقي الصابون القديمة بقالب الصابون الجديد. لا بد أنني اشتريتُ صابونًا من علامة تجارية جديدة ولن يظلا معًا على الإطلاق. ليست الفكرة أنَّ أحدهما أخضر والآخر بُنيٌّ أو شيء من هذا القبيل. لقد كانا إلى حدٍّ كبير من اللون نفسه، لكنهما لا ينطبقان أبدًا. أنا متأكِّد من أن هذا هو سبب اتصالك؛ لمعرفة المزيد عن حمَّامي، أليس كذلك؟»

«كلَّا، لكنها كانت قصةً رائعة. لديك الكثير مما يحدُث في حياتك، هه؟»

«نعم، فعلًا. ستأتي سيندي وتبقى هنا لقضاء عطلة الربيع. أنا لست مغفَّلًا … إنها مهتمة بشابٍّ ما في جامعة بوسطن. ومع ذلك، لا يزال قدومها شيئًا أترقَّبه بلهفة.»

سيندي هي ابنة مارتي، الشخص الوحيد في العائلة الذي لا يزال على اتصالٍ منتظم به.

«هذه أخبارٌ جيدة يا مارتي. انظر، في الواقع أريدك أن تسدي إليَّ معروفًا.»

«أوه، حقًّا؟»

«إن كان هذا أمرًا لا يمكنك القيام به، أو لا تشعر بالراحة تجاهه، فقط أخبرني. ولن تكون هناك مشكلة.»

قال: «هل تريدني أن أقتل أحدهم؟» ثم ضحك.

«لا، لكنني في الحقيقة أريدُ بعضَ المعلومات عن شخصٍ قُتل. هل يمكنك القيام بهذا، بصفتك شرطيًّا سابقًا؟»

«أيُّ نوعٍ من المعلومات؟»

قلتُ: «يجب أن يكون هذا بيننا فقط. لا يمكنك إخبارُ أي شخص.»

«لا مشكلة. هل أنت في ورطة؟»

قلتُ: «لا، لا». وخلال المحادثة الهاتفية، بدأتُ أدرك أنني سأحتاج إلى تبريرٍ لما كنتُ أطلبه منه. وبسرعة قرَّرتُ إخباره النسخة الملتوية من الحقيقة. «اتصل بي مكتبُ التحقيقات الفيدرالي بشأن قضية قتلٍ قديمة. رجلٌ من نيو هامبشير قُتل قبل نحو أربع سنوات. نورمان تشيني. ت. ش. ي. ن. ي. لم يخبروني بكلِّ شيءٍ، ولكنه — على ما يبدو — قد حصل على الكثير من الكتب من متجري، ويعتقدون أنه ربما يكون هناك رابطٌ ما.»

«أيُّ نوعٍ من الروابط؟»

«لم يُخبروني بالضبط. أنا فقط … أشعرُ أنَّ هذا الأمر برُمَّته قد ألقى به عليَّ، وكنت أتساءل عما إذا كان بإمكانك النظر في الأمر من أجلي، ومعرفة شيءٍ عن هذا الرجل. أشعرُ وكأنهم ربما لا يُخبرونني بالقصة بأكملها، وأنه قد تكون لها علاقةٌ بكلير، أو شيء من هذا القبيل.»

قال مارتي، وبدا مرتبكًا شيئًا: «يمكنني إجراءُ بعض المكالمات بالتأكيد. إنَّه على الأرجح أمرٌ غير مهم، مال. يحدُث دوريًّا تسليمُ قضية لم تُحلَّ إلى شخصٍ ما، ويجدون ثغرةً لم يتناولها التحقيقُ تناولًا كاملًا — مثل من أين حصل على كتبه — ويقرِّرون التحقُّق منه. إنها محاولة للتعلق بقشَّة. قلت إنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي جاء لرؤيتك؟»

«نعم. هذا غريبٌ، أليس كذلك؟»

«لا تقلق بشأن ذلك. سأجري بعض المكالمات. أنا متأكِّد من أنه أمرٌ غير مهم.»

«شكرًا جزيلًا يا مارتي.»

«ما الذي يجري أيضًا معك؟»

«ليس الكثير. ما بين شراء الكتب وبيعها.»

«دعنا نحتسي الجِعة قريبًا. سأتصلُ بك عندما أحصلُ على معلوماتٍ عن دونالد تشيني، ويمكننا أن نلتقيَ.»

«نورمان تشيني.»

«صحيح، صحيح. نورمان تشيني.»

قلتُ: «أجل، فليكن ذلك. لنحتسِ الشراب.»

أغلقتُ الهاتف، وأدركتُ فقط بعد أن فعلت ذلك أنَّ كتفيَّ كانتا قد تصلَّبتا، وأنَّ فكي يؤلمني. كان نورمان تشيني اسمًا أحاول نسيانه لسنوات. مجرد نطقه بصوتٍ عالٍ قد أحدث فيَّ تغيراتٍ جسدية. مرةً أخرى، تساءلتُ عمَّا إذا كنت قد ارتكبتُ خطأً بإقحام مارتي في هذا، لكنني كنت بحاجةٍ إلى معرفة مَن أراد موت تشيني. حرَّكتُ كتفيَّ، لإرخائهما، في اللحظة نفسِها التي دخلَت فيها إيميلي من الباب، وهي تفكُّ وشاحًا طويلًا حول رقبتها. كان هذا موعد بدء العمل، وأُضيئت جميع الأنوار في المتجر، ذهبتُ ووضعتُ لافتة «المتجر مفتوح» على الباب الأمامي. كانت هناك حُزمة من الكتب الجديدة الوافدة في الخلف بحاجة لرصِّها، وبعد أن أزالت إيميلي كلَّ ملابسها الخارجية، بدأنا نحن الاثنان العمل، في صمتٍ على الأغلب. وعندما تحدَّثنا، لاحظتُ أنَّ صوتها كان أجشَّ قليلًا، كما لو كانت مصابةً بنزلة برد، أو تحدَّثَت كثيرًا في الليلة السابقة. تذكَّرتُ أنه كان لديها خطط. ومع ذلك، كان من الصعب تخيُّل إيميلي تتحدَّث كثيرًا مع أي شخص. وكان من الصعب تخيُّل وجود خطط لدى إيميلي.

سألتُها: «ما الجديدُ لديك هذه الأيام؟»

قالت: «ماذا تقصد؟»

«لا شيء حقًّا. أتساءل فقط بدافع الفضول إن كان أي شيء قد تغيَّر في حياتك. أمَا زلتِ تعيشين في كامبريدج؟ هل تواعدين أحدًا؟»

قالت: «آه»، وانتظرتُ المزيد.

قلتُ: «هل شاهدتِ أيَّ أفلامٍ جيدة؟» فقط لأمنحها مخرجًا بعد أن استغرق الصمتُ مدًى لا يبعثُ على الراحة.

قالت: «شاهدتُ «تحت الجلد».»

«أوه، أجل. هل ذلك هو الفيلم الذي تلعب فيه سكارليت جوهانسون دور كائن فضائي؟»

«بالضبط.»

«كيف وجدتِه؟»

«رائعٌ حقًّا.»

قلتُ: «من الجيد معرفةُ ذلك»، وقررتُ عدم طرح المزيد من الأسئلة عليها. لم يكن لديَّ أطفال قط، ومن ثمَّ لن أعرف أبدًا كيف يكون الحال عندما يكون لديَّ مراهق صامت فجأة، لكنني شعرتُ في بعض الأحيان أن هذه كانت علاقتي مع إيميلي.

عُدنا مرةً أخرى إلى رصِّ الكتب فوق الرفوف، ووجدتُ نفسي أفكِّر في حديثي مع مارتي. ربما كان من الخطأ أن أطلب منه أن ينظر في أمر نورمان تشيني، لكنني شعرتُ أنه كان عليَّ القيام بذلك. لقد كان تشيني هو حلقةَ الوصل بيني وبين تشارلي. حسنًا، وكذلك إيلين جونسون، على ما أعتقد، لكن لا بد أنه اختارها لأنه علِم أنني أعرفُها. وإذا افترضتُ أنَّ جرائم القتل الأخرى كانت عشوائيةً بطريقة أو بأخرى، فإنَّ الجريمة التي ستقودني إلى هُويته كانت جريمةَ قتل نورمان تشيني. لقد أراد موت تشيني، وإذا عرَفتُ السبب، فسوف أجد تشارلي.

رنَّ هاتفي عند الظهيرة. كانت جوين، تراسلني لتخبرني أنها في طريقها. أخبرتُ إيميلي أنني سأغادر في وقتٍ مبكر من ذلك اليوم، لكن براندون سيغلق أبواب المتجر، وأخبرتُها أيضًا أنَّ هناك احتمالًا أن تُضطرَّ إلى فتح المتجر بنفسها في صباح اليوم التالي. كان لكلٍّ من براندون وإيميلي مفاتيحهما الخاصة لأُولد ديفيلز. وإذا كانت تشعر بالفضول حيال المكان الذي سأذهبُ إليه، فلم تكن لتظهره.

في نحو الساعة الواحدة، بدأتُ أراقبُ الباب الأمامي، المُطلَّ على شارع بري. كانت حقيبتي مليئة بما يكفي من الملابس وأدوات الزينة لاحتمالية المبيت لليلةٍ واحدة. على الرغم من القلق الذي كنت أشعر به حيال الموقف، وما قد تكتشفه جوين، فإنني كنت أتوق إلى الرحلة. كنت أشعر بأنني محاصَر في بوسطن هذا الشتاء. كنت أتوق إلى الطريق السريع، إلى المناظر الثلجية، وإلى زيارة مكانٍ لم أزُره من قبل.

في الواحدة والنصف، أخرجتُ رأسي من الباب الأمامي ورأيتُ جوين تتوقَّف فجأةً أمام صنبور إطفاء حريق في سيارة بيج من طراز «تشيفي إكوينوكس». ودَّعتُ إيميلي واتجهتُ إلى الخارج عندما بدأ هاتفي الخُلوي يرن. رأيتُ رقم جوين على الشاشة، تجاهلتُه، وسِرتُ عبْر الشارع إلى الباب الجانبي للراكب، وطرَقتُ على الزجاج. نظرَت في اتجاهي، وأغلقَت هاتفها، ودخلتُ أنا السيارة. كانت رائحتُها كالجديدة، وتساءلتُ إذا كانت سيارةَ شركة. ربطتُ حزامَ الأمان ووضعتُ حقيبتي الصغيرة على الأرض بين قدميَّ.

قالت: «مرحبًا، حجزتُ لنا غرفتَين في روكلاند، من باب الاحتياط فحسب. ألديك كلُّ ما تحتاج إليه؟»

قلتُ: «أجل.»

واصلت السيرَ في شارع بري باتجاه طريق ستورو درايف. كنا هادئَين، وقررتُ ألَّا أتحدَّثُ أولًا؛ فأنا لا أعرفُ ما إذا كانت تحاول التركيزَ على الخروج من بوسطن. ومع ذلك، بمجرد وصولنا إلى طريق ٩٣ شمالًا، شكرتني على القدوم.

قلتُ: «سيكون من الرائع الخروج من المدينة». استدرتُ ونظرتُ إليها للمرة الأولى منذ أن ركبت السيارة. كانت قد خلعت مِعطفها حتى تتمكَّن من القيادة، وكانت ترتدي سترةً محبوكة على شكل ضفائر، وبنطالًا من الجينز الغامق. كانت تضع يديها بوضعيةٍ صحيحة على عجلةِ القيادة (عند الرقمَين عشرة واثنين) وكانت تدرس الطريق وكأنها شخصٌ يحتاج إلى ارتداء نظَّارة. كانت منهمكة للغاية حتى إنني تمكَّنتُ من تأمُّل وجهها قليلًا؛ إذ كان من الأسهل أن أميِّز ملامحها من الجانب بوضوحٍ أكبر، مع أنفها المرتفع إلى أعلى قليلًا، وجبينها البارز، وبشَرتها الناعمة الشاحبة، التي تناثر فوقها قليلٌ من الحُمرة هنا وهناك. كلما أمعنتُ النظر في الناس حقًّا، لا يمكنني أن أمنع نفسي من تصوُّرهم على أنهم إما صغارٌ جدًّا أو كبار جدًّا. بالنسبة إلى جوين، رأيتُها في الخامسة من عمرها، لها عينان واسعتان، تمضغ شفتَها السفلية، وتتوارى خلف ساق أحد والديها. ثم تخيَّلتُها امرأةً عجوزًا، لها شَعر رمادي معقود أسفل ظهرها، وجِلدها من النوع الورقي الذي يكتسبه بعض كبار السن، لكنها جميلة بعينيها الكبيرتين اللتَين تشعَّان ذكاءً، كان هناك شيءٌ مألوف بشأنها، وبشأن وجهها البيضاوي الشاحب أيضًا، لكنني لم أتمكَّن من تحديد ماهيته.

«سوف نقابل المحقِّقة سيفيلي في منزل إيلين جونسون عند الساعة السادسة، هل تناولت الغداء؟»

أخبرتُها أني تناولتُ وجبةَ الإفطار في وقتٍ متأخر، وانتهى بنا الأمر بالتوقُّف عند منطقة استراحة بالقرب من مدينة كينيبانك بولاية مين. وكان هناك أحد مطاعم «برجر كينج» و«بوبايز». طلب كلٌّ منَّا البرجر والقهوة وتناولنا الطعام سريعًا في زاويةٍ بالقرب من إحدى النوافذ. كان الجوُّ بالخارج مشرقًا للغاية، والسماء صافية، وكانت الأرض قد اكتسَت بالثلوج المتساقطة حديثًا، لدرجة أننا كنا نحدِّق النظر بينما نتناول الطعام.

بعد أن تناولت البرجر الخاص بها، ثم نقرَت بإصبعها على غطاء قهوتها، قالت: «لقد ألقَوا القبضَ على شخصٍ بتهمة قتل دانيال جونزاليس. مساء أمس.»

قلتُ: «أوه، الشخص الذي أُطلق عليه الرصاصُ بينما كان يُنزِّه كلبه؟»

«أجل، اتضح أنه كان أيضًا يروِّج منشِّطات الإكستاسي (إم دي إم إيه) بين طلابه في الكلية حيث كان يعمل، وقد أطلق عليه الرصاص تاجرُ مخدرات منافس. أعتقدُ أننا لم نفهم الموقف جيدًا.»

قلتُ: «وليكن.»

«فعلًا. لدينا العديد من الأمور المؤكَّدة. «جرائم الأبجدية» أكيدة، وجريمة «تعويض مزدوج» أكيدة. وأنا واثقة تمامًا مما سنجده في منزل إيلين جونسون في روكلاند.»

قلتُ: «ما الذي تثقين في إيجاده؟»

«شيءٌ ما. لا بد أنه ترك شيئًا. إنَّ تشارلي هذا شخصٌ مسرحي. كما لو أنه لم يكن كافيًا أن يقتل ثلاثة أشخاص لديهم قاسمٌ مشترك بين أسمائه، فكان عليه أن يُرسل ريشة.»

قلتُ: «عن أي ريشةٍ تتحدثين؟»

«أوه، نسيتُ أنني لم أخبرك. هذا ما وصل إلى مراكز الشرطة بعد مقتل كلٍّ من روبن كالاهان وإيثان بيرد وجاي برادشو. تسلَّمَت الشرطة ظرْفًا يحتوي على ريشةِ طائر. لم يكن ينبغي أن أخبرك بذلك حقًّا؛ لأنهم حجَبوه عن الصحافة، لكنني أعتقد أنني أثق بك الآن.»

قلتُ: «هذا جيد، على ما أعتقد.»

«والآن بتَّ تعرف ما أعنيه بكونه مسرحيًّا. لهذا السبب أعتقد أننا سنجد شيئًا ما في مسرح الجريمة. فضلًا عن أنك تعرفها. لأن أيًّا مَن كان يتبع قائمتك، فهو يعرفك. لا أقصد أنك تعرفه … أعني، ربما لا تعرفه. لكنه يعرفك. تشارلي يعرفك. وأعتقد أننا سنجد شيئًا هناك … شيئًا يربط الجريمة بالقائمة. شيئًا ملموسًا. ينتابني شعورٌ جيِّد بشأن هذا. أمَا زلتَ تأكل؟»

أدركتُ أنني كنت أحمل نصف شطيرة البرجر خلال الدقيقتَين الماضيتَين. قلتُ: «أوه، آسف»، وأخذتُ قضمة كبيرة، على الرغم من أنني لم أعُد جائعًا. كنت أعرفُ أنَّ كلَّ ما تقوله جوين صحيح، لكن كان لا يزال سماعه من شخصٍ آخر شيئًا مخيفًا.

«يمكنك أن تأخذها معك إذا أردت، ولكن علينا استئناف الطريق. ما زال أمامنا ساعتان على الأقل إلى روكلاند.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤