الفصل الخامس عشر

كان منزل إيلين جونسون من الداخل كما تخيَّلتُه إلى حدٍّ كبير؛ كتبًا مبعثرة ومغبرة في كل مكان.

كان المنزل عبارةً عن بيتٍ ريفي ذي طلاءٍ رمادي متقشِّر من الخارج. كان على شارعٍ يبعُد نحو نصف ميل من الطريق ١، تتضاءلُ أمامه أشجار الصنوبر، ويكاد يتعذَّر الوصول إليه بسبب تساقط الثلوج مؤخرًا. أوقفت جوين سيارتها الإكوينوكس في الشارع المليء بالحُفر، مباشرةً خلف سيارة الشرطة التي كانت تنتظرنا إلى جانب قائدتها المحقِّقة لورا سيفيلي، وهي امرأة في منتصف العمر ذات وجه مستدير جميل محجوب أغلبه بقلنسوة مبطَّنة بالفراء لمعطفٍ ضخم. كان وقت الغروب، وكانت الشمس باهتة منخفضة في الأفق، تصاعدت أنفاسنا في الهواء الذي كانت درجة حرارته تحت الصفر. سرعان ما ألقى ثلاثتنا التحية، ثم اندفعنا عبْر الثلوج إلى الباب الأمامي؛ حيث وقفنا قُرابة خمس دقائق بينما استعادت المحقِّقة سيفيلي المفتاحَ من أحد جيوبها. كانت هناك سيارة في الممر، واحدة من تلك السيارات القديمة من طراز لينكولن، ربما كانت كبيرة جدًّا بالنسبة إلى مرأب السيارة الواحدة الملحق بالمنزل. أخبرتنا المحقِّقة، بمجرد دخولنا المنزل، أن آخرَ ما سمِعته أن المنزل عبارةٌ عن ملكيةٍ لم تتمَّ المطالبة بها في هذه المرحلة لأن إيلين جونسون ماتت دون وصية، وبلا أقارب مباشرين.

سألت جوين: «هل هناك أضواء؟» وأجابت المحقِّقة سيفيلي بضغطةٍ من يدها على أقربِ مفتاح، وهو ما أغرق المطبخ بإضاءة شديدة فوق رءوسنا.

قالت: «لم يُوقَف تشغيل المرافق بعد. وأعتقدُ أنهم يُبقون الحرارةَ منخفضة؛ لكيلا تتجمَّد الأنابيب.»

نظرتُ في أرجاء المطبخ، وفُوجئتُ برؤية مرطبانِ زبدة فول سوداني مفتوحٍ على طاولة المطبخ المُبلطة، وداخلها سكين عالق. لم أكن أحبُّ إيلين جونسون، لكن هذا لا يعني أنني ابتهجتُ بموتها وحيدة.

سألت جوين: «هل قدَّم أيٌّ من الضباط الذين عاينوا مسرح الجريمة تقريرًا؟»

«كلَّا. الطبيبُ الشرعي فقط. قرَّر أنها مِيتةٌ طبيعية. نوبةٌ قلبية. وعلى حدِّ علمي، لم يعُد أحدٌ منذ إخراج الجثة من هنا.»

«هل كنتَ هنا؟»

«أجل. تلقيتُ المكالمة. كانت الجثة في غرفة النوم، في منتصف المسافة بين خزانة ملابسها والفِراش. يمكنني أن أريك إذا أردت؟ كانت الجثة هنا بمفردها لأكثر من أسبوع. عرفتُ أنها كانت جثة هامدة بمجرد وصولي إلى هذا المطبخ.»

قالت جوين: «آه، آسفة. مَن الذي أبلغ عن ذلك؟»

«أخبرتنا إحدى الجارات بالشارع المقابل أن بريدها كان يتراكم. ذلك أنَّ صناديق البريد الخاصة بهم متجاورة. وعندما جئتُ لأتحرَّى الأمر، كان الباب الأمامي مفتوحًا، فدخلتُ. وعلمتُ على الفور أن أمرًا سيئًا قد وقع.»

«هل أبلغَت الجارةُ عن أيِّ شيءٍ آخر؟ أيِّ نشاط مشبوه في الجوار؟»

«ليس على حدِّ علمي. لم نَعُدَّ هذا موتًا مشبوهًا رغم ذلك، ومن ثمَّ لم نستجوبها قط. إذا كنتِ ترغبين في استجواب الجارة بنفسكِ، فعلى الرُّحب والسَّعَة. ربما غدًا؟ هل تمضين الليلةَ هنا؟»

قالت: «أجل. قد أرغبُ في التحدُّث إلى الطبيب الشرعي أيضًا. هذا يعتمد على ما سنجده هنا في المنزل.»

كنت أشاهدُ الاثنَين يُجريان هذه المحادثة، لكنني بدأتُ أنظر في أرجاء المطبخ أيضًا. كانت هناك وحدتا رفوف فوق الجدار الخلفي للمطبخ، ربما كانتا مخصَّصتَين لأدوات الطهي، أو المواد الغذائية، لكن إيلين ملأتهما برواياتٍ صغيرة للجيب. رُحتُ أتفحَّصُ أغلفة الكتب، الكثير من روايات إليزابيث جورج، وروايات آن بيري، وهما اثنتان من كُتَّابها المُفضَّلين، ولكن كان هناك أيضًا بعضُ الكتب التي صنَّفتُها على أنها في فئة التشويق الرومانسي، التي تتجه نحو الرومانسية، وهو أمرٌ ادعت إيلين جونسون أنها كانت تحتقره.

قالت المحقِّقة سيفيلي: «سيكون ذلك جيدًا»، ثم أضافت: «ولذا، يسعدني البقاءُ معكما، ومساعدتكما في إلقاء نظرة في أرجاء المكان. كما يُسعدني بالقدْر نفسه أن أترك لكِ المفتاح وأدعكِ تأخذينه، فقط ما دمتِ ستُعيدينه إلينا في الصباح.»

قالت جوين: «لست بحاجةٍ إلى البقاء. لقد قمت بما يكفي.»

«رائع إذن. سأتركك هنا، ويمكنك أن تُعرِّجي على مركز الشرطة في أي وقتٍ في الصباح.»

«يبدو هذا جيدًا». ألقى كلانا تحيةَ الوداع ووقفنا نشاهد المحقِّقة وهي تسير عائدةً عبْر الثلوج.

استدارت جوين نحوي وقالت: «مستعد؟»

«بالتأكيد. هل يجب أن تكون لدينا خطة للهجوم أم مجرد إلقاء نظرة في الأرجاء؟»

«فكَّرتُ أنه يمكنك التركيزُ على الكتب، بينما ألقي أنا نظرة على كلِّ ما عدا ذلك.»

قلتُ: «بالتأكيد.»

دخلنا إلى ما كان من المفترض أنه غرفة طعام، ووجدت جوين مفتاح الإضاءة الذي أضاء ثُريَّا وامضة. كانت كلُّ الأسطح مُغطاة بالكتب، معظمها مُكدَّسة بأسلوب عشوائي على الأرض أو على طاولة غرفة الطعام المستطيلة. قلتُ: «ربما سأحتاج إلى بعض المساعدة بشأن الكتب.»

«لست بحاجةٍ إلى فحصها، ولكني أبحثُ فقط عن أي شيءٍ خارج عن المألوف. أنا ذاهبة إلى غرفة النوم في الطابق العلوي.»

مكثتُ في غرفة الطعام. كان من الصعب إلقاءُ نظرة على مجموعة الروايات البوليسية الموجودة لدى إيلين جونسون دون التفكير في قيمتها. كان لديها الكثيرُ من الكتب التي لا قيمةَ لها، أكوام من الكتب التي تكتظُّ بها أسواق الجملة في حالةٍ مثيرة للجدل، ولكن سرعان ما تعرَّفتُ على طبعةٍ أولى من رواية «ما بعد الموت» بقلم باتريشيا كورنويل، وطبعةٍ أولى من رواية «الصدى الأسود» بقلم مايكل كونلي. تساءلتُ عمَّا سيحلُّ بهذه الكتب، ثم ذكَّرتُ نفسي بأنني لست هنا في رحلة عمل.

«مالكوم.» كانت تلك جوين تهتف من الطابق الثاني.

هتفتُ مجيبًا: «نعم.»

«هل يمكنك القدوم إلى هنا؟»

صعدتُ الدرَج، كان متكدِّسًا أيضًا بالكتب على طول حافة كلِّ درجة، ووجدتُ جوين في غرفة النوم، تحدِّق إلى زوجَين من الأصفاد المتدلية من مسمار. أشرتُ إليهما.

قالت جوين سريعًا: «لا تلمس أيَّ شيءٍ. أعتقدُ أننا يجب أن نحصُل على بصمات الأصابع.»

«هناك أصفاد على الحائط في «مصيدة الموت». إنها تلعب دورًا حيويًّا في المسرحية.»

قالت: «أعرف. لقد شاهدتُ الفيلم مرة أخرى البارحة. وانظر إلى الأرض.»

كانت هناك لوحة مبروَزة — صورة لفنار — متَّكئة على الحائط. «هل تعتقدين أن تشارلي أحضر الأصفاد، وأنزل تلك الصورة، وعلَّق الأصفاد، حتى نكون على يقين فحسب من أن هذا تكريمٌ ﻟ «مصيدة الموت»؟»

قالت جوين: «بالفعل»، ثم التفَّت لتنظر نحو الخزانة. «لعله كان يختبئ، في تلك الخزانة على الأرجح، ربما ارتدى قناعًا، ثم قفز خارجًا وأخافها حتى الموت.»

قلتُ: «هذا غريب. فعلى حدِّ علمنا، هذه هي المرة الأولى التي يضع فيها شيئًا في مسرح الجريمة للإشارة إلى القائمة على وجه التحديد.»

«إنها أيضًا المرة الأولى التي يقتل فيها شخصًا تعرفه.»

كنا نقف معًا وننظر نحو الخِزانة. قالت جوين: «لقد رأيتُ ما يكفي، بصراحة. أريدُ فقط تصوير هذه الأصفاد وبصمات الأصابع.»

«ربما كان يرتدي قفازات.»

«لن نعرف حتى نفحص، ولكن، نعم، من المحتمَل أنه كان يرتدي قفازات.»

نظرتُ في بقية أنحاء الغرفة بينما أخرجَت جوين هاتفها وحدَّقت فيما بدا كأنه رسالة نصية تلقَّتها للتو. كان هناك سرير قديم ذو أربعة أعمدة، غير مُحكَم الصنع، ومغطًّى بغطاء سرير من الشنيل الوردي. وكانت الأرضيات المصنوعة من الخشب الصلب قد أُلقيَ عليها بسجادٍ منسوج، بهت لونُه على مرِّ السنين. وكانت تلك الموجودة في أسفل السرير مغطاة بالفراء.

قلت: «هل كان لديها حيوانٌ أليف؟»

قالت جوين: «لا أتذكَّر أنني قرأتُ عن ذلك في التقرير.»

حاولتُ أن أعود بذاكرتي إلى الوراء حين اعتادت إيلين جونسون المجيء إلى «أُولد ديفيلز»، ولم أتذكَّر أنها أبدت اهتمامًا بنيرو مطلقًا. في اعتقادي أنَّ شقيقتها كانت تمتلك كلبًا أو قطة، ولم تُنظِّف البساط قط. في الواقع، لم يكن هناك شيءٌ نظيف في المنزل. ذهبتُ ونظرتُ إلى صورةٍ مبروَزة على الحائط فوق المكتب. كان الإطار أبيض، وقد تحوَّلت حافتُه العلوية إلى أسودَ لامعٍ مع كلِّ ما عليها من أوساخ. كانت الصورة الموجودة في الإطار لعائلةٍ في إجازة؛ أبٍ يرتدي قميصًا للجولف، وأمٍّ ترتدي فستانًا قصيرًا منقوشًا ونظَّارة ذات إطار سميك. وكان هناك أربعةُ أطفال، ولَدان أكبران وفتاتان صغريان. كانوا يقفون أمام شجرة ضخمة، على الأرجح شجرة السكويا، في مكانٍ ما في كاليفورنيا. اتَّكأتُ على الحائط في محاولةٍ لتحديد أيُّ الفتاتين اللتين في مُقتبل المراهقة هي إيلين، لكن الصورة كانت ضبابية قليلًا، وقد بهتَت مع الزمن. ومع ذلك افترضتُ أن أصغرهما هي إيلين، تلك التي تضع نظَّارة وتحمل دُميةً إلى جانبها. كانت الطفلةَ الوحيدة التي لا تبتسم.

قالت جوين: «مُستعد؟»

«بالتأكيد.»

عندما وصلنا إلى أسفل الدَّرج، أمعنتُ النظر في غرفة المعيشة، التي تصطفُّ على جانبيها الرفوف. قلتُ: «هل يمكنني إلقاء نظرة على الكتب هنا سريعًا؟» وهزَّت جوين كتفيها وأومأت.

كان من الواضح أنَّ شقيقة إيلين قارئةٌ أيضًا، وأنَّ معظم الكتب التي تملأ رفوف غرفة المعيشة كانت تخصُّها. كان هناك الكثيرُ من الكتب الواقعية والروايات التاريخية. وكان قد خُصِّص رفٌّ كامل لجيمس ميتشينر. ولكن كانت هناك أيضًا خِزانة كتب طويلة مُكدَّسة في زاوية، تبدو كما لو كانت قد أحضرتها إيلين. أحدُ رفوفها كان مليئًا بمجموعة عتيقة يعلوها الغبار من ثقَّالات الورق الزجاجية. أما البقية، فكانت مكتظَّة بمزيدٍ من روايات الغموض المرتَّبة وفقًا للمؤلِّف. كنتُ متفاجئًا برؤية الأعمال المُجمعة لتوماس هاريس، وهو كاتبٌ كانت إيلين قد حدَّثَتني في إحدى المرات عنه بأنه «منحرف مُبالَغ فيه». لقد فُوجئتُ أيضًا برؤية نسخة من «المُغْرِق» حتى رأيتُ أنها كانت قابعةً بين «غريبان على متن قطار» ونسخة من «مصيدة الموت». انتابتني القُشَعريرة. كانت جميع الكتب موجودة هناك — كلُّ الكتب الثمانية من قائمتي — بالترتيب. أحضرتُ جوين إلى هنا، واتسَعَت عيناها. ثم التقطت صورةً بهاتفها.

قالت: «أتعتقد أنه أحضرَ هذه الكتب هنا بنفسه أم إنها كانت موجودة هنا مسبقًا؟»

«أعتقدُ أنه هو مَن أحضرها على الأرجح. ربما كان لدى إيلين كلُّ هذه الكتب، لكني أشكُّ في ذلك.»

قالت: «هل تعتقد أننا سنكون قادرين على معرفة أيِّ شيءٍ من هذه النُّسخ؟»

قلتُ: «ربما، لقد ابتاعهم من مكانٍ ما. ربما من متجري، أو ربما من مكانٍ آخر. عادةً، عندما تشتري كتابًا مُستعملًا، يكون هناك سعرٌ مكتوب بالقلم الرصاص على الصفحة الأولى، وأحيانًا يكون هناك ملصقٌ باسم التاجر.»

«لا أريدك أن تلمسها، لكن هل يمكنك أن تخبرني بأي شيءٍ بالنظر إلى أغلفة الكتب؟»

استعرضتُ جميعَ الكتب الثمانية من قائمتي، بينما هي قابعةٌ هناك لتشكِّل معًا مصدرَ اتهام واضح. وكانت الوحيدة التي برزت من مكانها هي رواية «سبق الإصرار». عرَفتُها؛ لأنها كانت كتيبًا ورقيَّ الغلاف صدرَ في المملكة المتحدة في طبعةٍ ترويجيةٍ بالتزامن مع مسلسل تلفزيوني قصير منذ نحو عشر سنوات. وهذه النُّسخة وصلَت بالتأكيد من المتجر؛ لأنني تذكَّرتُ كم كنت أمقتُ تلك الطبعة. ذلك أنني أكره كلَّ أغلفة الكتب الترويجية بوجه عام. أخبرتُ جوين أنني أعتقد أنني استطعتُ أن أميِّز كتابًا على أنه أحد الكتب التي كانت لديَّ في المتجر.

قالت: «حسنًا، جيد». استطعت سماعَ الإثارة في صوتها. «بعد أن أفحصها بحثًا عن البصمات، سأصوِّرها ويمكننا أن نتصفَّحها معًا. هيا لنسجِّل الوصول إلى الفندق.»

•••

كانت قد حجزت لنا غرفتين في فندق «هامبتون إن آند سويتس» على بُعد ميل واحد من وسط مدينة روكلاند. وكان على الجانب الآخر من الشارع مطعمُ ماكدونالدز. كنت قلقًا من أن ينتهيَ بنا الأمر بتناول العشاء هناك، لكنها ذكَرَت مكانًا تحبه في شارع مين. «لقد حجزتُ لشخصين ولكن … إذا كنت تفضِّل الذهابَ إلى مكان آخر …»

قلتُ: «كلَّا. يُسعدني أن أتبعك.»

سجَّلنا الوصول ثم التقينا مرة أخرى في الرَّدهة بعد ساعة، وتوجَّهنا إلى المدينة. كنا في نهاية الموسم، وفُوجئتُ حين رأيتُ أن العديد من المطاعم تبدو مفتوحة. أوقفنا السيارةَ مباشرةً أمام مبنًى من القِرميد مُؤلَّفٍ من طابقَين على بُعد خطواتٍ قليلة فقط من مَدْخَل «ذا تاون تافرن»، الذي يشير إلى نفسه على أنه «مطعم للبيرة والمَحار». كانت ليلة الأحد وكان المكان خاليًا كما توقَّعنا، على الرغم من جلوس زوجَين في الحانة. أخذتنا النادلة، وهي امرأةٌ شابة ترتدي سترةً من طراز «برونس»، إلى مقصورة.

قالت جوين: «هل هذا جيد؟»

«بالتأكيد. قلت إنك كنت هنا من قبل؟»

«يمتلك أجدادي منزلًا على بحيرة ميجونتيكوك، وهي ليست بعيدة عن هنا. آتي إلى الساحل الأوسط أسبوعين على الأقل كلَّ صيف. بصراحة، جَدي هو الذي يُبجِّل هذا المكان لأنهم يصنعون المَحار المطهو في الفرن بالطريقة التي يحبُّها.»

حضرت النادلة، وطلبت شراب الشعير المخمَّر اللاذع ماركة «جريتي ماكدوف» على الطريقة الإنجليزية، وشطيرة مَحار. وطلبت جوين زجاجة من البيرة ماركة «هاربون» وسمك الحدُوق.

قلتُ: «ألا يوجد محَّار مطهو في الفرن؟»

التفتَت إلى النادلة. «هل يمكننا الحصول على ستِّ محاراتٍ مبدئيًّا؟»

بعد أن غادرَت النادلة، قالت جوين: «بالنسبة إلى جَدي. سأخبره بذلك.»

سألتُ: «أين يُقيمون بقيةَ العام؟»

«شمال ولاية نيويورك، على الرغم من أنهم يُواصلون الحديثَ عن الانتقال هنا على مدار العام. لكن سيتعيَّن عليهم شراءُ منزل جديد. فمنزلُ البحيرة لا يصلح للإقامة شتاءً. هل زرت هذا الجزء من ولاية مين من قبل؟»

«ذهبتُ إلى كامدن. مرة واحدة. إنَّها قريبة من هنا، أليس كذلك؟»

«المدينة المجاورة، نعم. متى كان ذلك؟»

«لا أعرفُ بالضبط. قبل عشر سنوات. كانت مجرد إجازة». لقد ذهبتُ مع كلير، بالطبع، عندما كنا نقوم كثيرًا برحلاتٍ برِّية في جميع أنحاء نيو إنجلاند.

كانت الجِعَة الخاصة بنا قد وصلت مع سلَّةٍ من الخبز. احتسى كلٌّ منا رشَفاتٍ، ثم قالت جوين: «هل يمكنني أن أسألك عن زوجتك؟ هل تمانع؟»

قلتُ: «كلَّا، لا أمانع»، وحاولتُ أن أبدوَ طبيعيًّا. لكنني كنت على علمٍ بأننا فقدنا التواصل البصري عبْر الطاولة.

«متى تُوفِّيَت؟»

«منذ خمس سنواتٍ، وإن كنت لا أشعر أن كل هذا الوقت قد مرَّ.»

قالت جوين وهي تمسح بعضَ الرغوة من شفتها العليا بإصبعها: «أنا متأكِّدة. لا بد أنَّ ذلك كان فظيعًا. موتُها في سنٍّ مبكرة. والطريقة التي ماتت بها.»

«يبدو أنك قمت ببعض التحريات.»

«أجل. قليلًا. عندما حصلتُ على اسمك لأول مرة، عند عثوري على القائمة، تحرَّيتُ عنك.»

«هل عرَفت باستجوابي في التحقيق في جريمة قتل إريك أتويل؟»

«نعم، عرفتُ ذلك.»

«كنت سأقتله، لو سنحَت لي الفرصة. لكن لم يكن هذا أنا.»

«أعرفُ ذلك.»

«لا بأس إذا لم تفعلي. أعلم أنكِ تؤدِّين عملك، وأعلم أنك تتساءلين عن العلاقة التي تربطني بكل جرائم القتل هذه. الحقيقة أنني ليست لديَّ أيُّ علاقة، أو على الأقل لا توجد علاقة من الأساس على حدِّ علمي. فبعد وفاة زوجتي، قلتُ لنفسي إنني سأواصلُ حياتي بمفردي، أقوم بعملي، وأقرأ الكتب. أريدُ حياةً هادئة.»

قالت: «أنا أصدِّقُك»، ونظرَت إليَّ بعاطفةٍ لم أستطِع تفسيرها تمامًا. بدَت وكأنها تأثُّر. أو ربما كان إحساسًا بالشفقة.

«متأكِّدة؟»

«حسنًا، مسرح الجريمة هنا، ومقتل إيلين جونسون، يغيِّر الأمور بالفعل. إنه مختلفٌ عن الجرائم السابقة. إنه يشير إليك مباشرةً، مباشرةً إلى القائمة.»

«أعلم أنه كذلك. إنَّ ذلك يمنحني شعورًا غريبًا جدًّا.»

«أخبرني بالمزيد عن براين موري. هل كان يعرف إيلين جونسون؟»

قلتُ: «كان يعرفها بالفعل. حسنًا، لا أعرفُ ما إذا كان قد تحدَّث إليها، لكنه عرَفها بالتأكيد لأنَّ براين يحضُر جميعَ ندواتنا، كما تحضُر إيلين أيضًا، اعتادت أن تحضُر.»

«كيف انتهى بكما الأمر بشراء المتجر معًا؟»

«كنا صديقَين، لم نكن صديقَين مقرَّبين، لكنه كان يأتي إلى المتجر كثيرًا، وكنا نتناول مشروبًا من حينٍ إلى آخر. عندما قرَّر المالكُ السابق البيع، لا بد أنني أخبرتُ براين عن ذلك، عن كيف كنت سأشتريه إذا كان لديَّ المال. أعتقدُ أنه عرَض أن يُشاركني على الفور. طلب من محاميه أن يُحرِّر عَقدًا ينصُّ على أنه سيوفِّر المقدار الأكبر من رأس المال وسأتولى أنا الإدارة. كان هذا اتفاقًا مثاليًّا. وما زال. ليست له أيُّ علاقة بجرائم القتل هذه.»

«كيف تعرف ذلك؟»

ارتشفتُ الجِعةَ الخاصة بي. «إنه مُدمنٌ للكحول، يواصل أنشطته كالعادة، ولكن بصعوبة. يكتبُ كتابه السنوي خلال شهرين تقريبًا، ويأخذ بقيةَ العام إجازة لاحتساء الكحول. يبلغ من العمر ستين عامًا لكنه يبدو في السبعين من عمره، وفي كلِّ مرة نتسكَّع معًا يخبرني بالقصص نفسِها. أنا فقط لا أرى ذلك. حتى لو كان لديه نوايا إجرامية لسببٍ ما، فسيكون من المستحيل تحقيقُ ذلك. إنه لا يقود سيارته حتى. بل يستقل سياراتِ الأجرة للذهاب إلى كل مكان.»

«حسنًا.»

«هل تُصدقينني؟»

«سوف أنظرُ في أمره، لكن أجل، أصدِّقك. في الواقع، اعتدتُ أن أقرأ كتبَه، عندما كنت مراهقة. كانت إليس فيتزجيرالد أحدَ الأسباب التي جعلتني أرغبُ في دخول مجال تطبيق القانون.»

«الكتب الأولى كانت جيدة.»

«لقد أحببتُها. أتذكَّر أنه كان بمقدوري قراءة كتابٍ بأكمله في يوم واحد.»

جاء المَحار الخاص بنا، وبقية طعامنا بعده بمدةٍ وجيزة. لم نَعُد نتحدَّثُ عن مسرح الجريمة أو براين موري أو أي شيءٍ شخصي ولو من بعيد. تناولنا الطعام، وراجعت جوين خطَّتها لليوم التالي. كانت تعتزم الذَّهاب إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي المحلي الترتيب مع الضابط المعاين لمسرح الجريمة لإجراء تحقيق في منزل إيلين جونسون. أرادت أيضًا التحدُّث مع الجيران الذين ربما شاهدوا شخصًا غريبًا، أو على الأقل سيارة غريبة، قبيل وفاة إيلين.

قالت: «يمكنني أن أبحثَ لك عن حافلة تعيدك إلى بوسطن. أو يمكنك العودة معي، ولكن قد لا يمكننا ذلك حتى وقتٍ متأخر من بعد الظهر.»

قلتُ: «سأنتظر. ما لم تعتقدي أنه ستكون هناك ليلةٌ أخرى. أحضرتُ معي كتابًا.»

قالت: «كتاب آخر من القائمة؟»

«بالفعل، لقد أحضرتُ «سبق الإصرار».»

بعد العشاء، قادت بي السيارةَ عائدَين في صمتٍ إلى الفندق، ثم وقفنا معًا في الضوء القاسي للرَّدهة الفارغة. قالت: «شكرًا لمجيئك معي، أدركُ أنَّ الأمر ربما يكون مصدر إزعاج لك.»

قلت: «إنه أمرٌ رائع حقًّا، أن أخرج من المدينة …»

«وأن تأتيَ إلى مسرح جريمة قتل …»

قلتُ: «أجل.»

وقفنا مرتبكَين لحظة. تساءلتُ هُنيهةً عمَّا إذا كانت جوين لديها أي اهتمام رومانسي بي. إنني أكبُرها بعشر سنواتٍ فقط، وأعرفُ أنني لستُ دميمًا. كان شَعري بأكمله قد أصبح رماديًّا الآن، بل يميل أكثرَ إلى اللون الفضي، لكنني تركتُه كما هو. كنت نحيفًا ولديَّ خطُّ فكٍّ لائق. ولديَّ عينان زرقاوان. تراجعتُ خطوةً إلى الوراء. شعرتُ بذلك الجدار الزجاجي اللامع بيننا، ذلك الجدار الذي منعني من الاقتراب من أي شخصٍ باستثناء الأشباح. لا بد أنها شعرت بذلك أيضًا؛ لأنها تمنَّت لي ليلة سعيدة.

عُدتُ إلى غرفتي في الفندق وبدأتُ أقرأ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤