الفصل السادس عشر

ما أثار إعجابي بشأن رواية «سبق الإصرار»، عندما صادفتُها أولَ مرة بعد أن أنهيتُ دراستي الجامعية، هو الإصرار البارد للقاتل.

نكتشف في الصفحة الأولى من الرواية أن إدموند بيكلي قد قرَّر قتلَ زوجته المتسلِّطة ذات النزعة الانتقامية. كان طبيبًا ويمكنه الوصولُ إلى مجموعةٍ من الأدوية. على مدار النصف الأول من الكتاب، يحوِّل زوجته تدريجيًّا إلى مدمنة للمورفين. وذلك عن طريقِ خلط الشاي الخاص بها بعقار يسبِّب لها نوباتٍ من الصداع المزمن، ثم يُعالجها بالأفيون. ثم يقطع المورفين عنها، بما يكفي حتى تبدأ في تزويرِ توقيعه على الوصفات الطبية كي تتمكَّن من شرائه بنفسها. ومن ثمَّ، يصبح من الواضح لأهالي قريتهم أنها قد أصبحَت مدمنة. والباقي سهل؛ ففي إحدى الأمسيات يُعطيها ببساطةٍ جرعةً زائدة. ويصبح من المستحيل توجيهُ أصابع الاتهام إليه على الجريمة.

قرأتُ معظمَ الكتاب في تلك الليلة، ثم انتهيتُ منه في صباح اليوم التالي. كان من الصعب التركيزُ ولكن كانت هناك أوقاتٌ في الرواية — في الواقع مضحكة للغاية — حين انجرفتُ في القصة. وكما هو الحال دائمًا، عُدتُ بذاكرتي إلى آخرِ مرة قرأتُ فيها الكتاب، كم كنت صغيرًا، وكيف كان ردُّ فعلي مختلفًا تجاه الكلمات نفسِها. عندما بدأتُ العمل في متجر «ريدلاين» للكتب في ميدان هارفارد بعد المدة التي قضيتُها في الكلية، أعطتني شارون أبرامز، زوجةُ المالك، قائمةً مكتوبة بخط اليد لكتبها المفضَّلة، وكانت جميعها روايات بوليسية فيما عدا واحدة. لقد فقدتُ تلك القائمة منذ مدة طويلة، لكنني كنتُ قد حفظتها. وإلى جانب «سبق الإصرار» كانت قد أدرجَت «ليلة حفل العشاء» و«الخيَّاطون التسعة» بقلم دوروثي إل سايرز، و«ابنة الزمن» بقلم جوزفين تاي، و«ريبيكا» لدافني دو مورييه، وأول كتابين لسو جرافتون، و«الحمَّام الطقسي» لفاي كيلرمان، و«اسم الوردة» لأومبيرتو إكو، على الرغم من أنها قالت إنها لم تُكملها قط: «إنني فقط أحب البداية كثيرًا.» وكان كتابها المُفضَّل الآخر هو كتاب «المنزل الكئيب» لتشارلز ديكنز. أعتقدُ أنه يمكنك القول إنه يحتوي على عناصرِ غموضٍ أيضًا.

أذكر أنني تأثَّرتُ كثيرًا بحقيقة أنها كتبت هذه القائمة من أجلي لدرجةِ أنني قرأتُ كلَّ شيءٍ مدرَج بها في غضون أسبوعين تقريبًا، حتى إنني أعدتُ قراءةَ الكتب التي كنت على دراية بها. وبقراءة «سبق الإصرار» آنذاك أتذكَّر أنَّ نظرتها القاتمة للإنسانية، كانت قد أشعرتني بالمؤازرة. إنها ساخرة في الأساس، حيث تمزق فكرةَ الرومانسية إلى أشلاء. وعندما قرأتُ الكتاب في فندق «هامبتون إن» في روكلاند، شعرتُ كأنها قصة رعب هذه المرة. بيكلي، المهووس بالحياة التي لا يستطيع أن يعيشها، يقتل زوجته بطريقة وحشية، وهو ما يدمِّر حياته. ويصبح مصابًا إلى الأبد بفعل القتل.

قبيل الظهيرة مباشرةً، أرسلت جوين رسالةً نصية تخبرني بأنها ستتأهَّب لمغادرة مين في موعدٍ أقصاه الرابعة. رددتُ على رسالتها قائلًا بأنها ينبغي لها أن تأخذ كلَّ الوقت الذي تحتاج إليه. وكنت قد قررتُ السير في المدينة. كان يومًا مشمسًا، ودرجات الحرارة أعلى قليلًا مما كانت عليه مؤخرًا، وكنت قد حفظتُ أمسِ الطريقَ إلى المدينة.

سجَّلتُ مغادرتي من الفندق، وسألتُ مكتب الاستقبال عمَّا إذا كان بإمكانهم الاحتفاظُ بحقيبة ظهري طَوال وقت النهار، ثم مشيتُ إلى وسط مدينة روكلاند. زرتُ متجرًا صغيرًا لبيع الكتب المُستعملة، وهناك اشتريتُ نسخةً من كتاب «الصقر تحت المطر» بقلم تيد هيوز. أخذتُ الكتاب معي إلى المطعمِ نفسِه حيث تناولنا العشاءَ أنا وجوين أمسِ وجلسنا في البار. حصَلتُ على جِعةٍ ووعاء من حساء البطلينوس الذي قُدِّمَت معه لفائفُ بيضاء ناعمة. قرأتُ الشعر وحاولتُ إفراغَ ذهني من هموم الأيام القلائل الماضية. لم يكن قلقي مقتصرًا على أنَّ جوين ستركِّز اهتمامها في النهاية على دوري في وفاة إريك أتويل ونورمان تشيني، ولكن هذا التحقيق أثار ذكرياتٍ متعلقةً بكلير، والسنة التي أعقبَت وفاتها، والتي اعتقدتُ أنني سأطرحها جانبًا إلى الأبد. بعد أن أنهيتُ تناول الحساء، طلبتُ زجاجةً أخرى من الجِعة. وكان التلفزيون الوحيد يعرض — صورةً فقط دون صوت — حلقةً قديمة من مسلسل «تشيرز»، وهي إحدى الحلقات الأولى لكوتش وديان.

رنَّ هاتفي في جيبي مُحدِثًا طنينًا وافترضتُ أنها جوين، تتصل لتخبرني بأنها مستعدةٌ للمغادرة، لكن اتضح أنَّ المتصل كان مارتي كينجشيب.

قلتُ: «مرحبًا.»

«أتسمح بدقيقة من وقتك؟»

قلتُ: «بالتأكيد»، وفكَّرتُ في الخروج من المطعم، لكنني كنت الشخصَ الوحيد في البار، وكان النادل يفرغ صناديق النبيذ بعيدًا عن المكان الذي أجلس به.

«لقد بحثتُ لك عن تشيني، إنه شخصٌ بغيض، دعني أخبرك.»

«ماذا تقصد؟»

«أقصد، إذا كنت تبحث عمن أراد موته، فالأجدر بك أن تحصُر مَن لم يرغب في موته. فإنه على الأرجح قد قتل زوجته.»

«ماذا تقصد ﺑ «على الأرجح»؟»

«اندلعَ حريقٌ في المنزل، وقد تمكَّن من الفِرار منه بينما لم تفعل هي. قدَّم صِهرُ تشيني، شقيقُ زوجته، شكوى قال فيها إنه متأكِّد من أن تشيني قد دبَّر الأمر، وحاصر زوجته في غرفة النوم. لقد أخبر ضباط التحقيق في ذلك الوقت أن شقيقته مارجريت، زوجة تشيني، كانت تعتزم الانفصال عن نورمان، وأنَّ نورمان يعرف ذلك. لقد خانها أكثرَ من مرة وكان لديها الدليل، ومن ثمَّ كانت ستحصُل على نصف المال على الأقل إن لم يكن أكثر.»

«هل كانا من الأثرياء؟»

«كان لديهم بعضُ المال بالتأكيد. لقد كان يمتلك محطتَين لخدمة السيارات، ولكن حُقِّق معه أيضًا بتهمة غسل الأموال. وقد وصلَ التحقيق إلى طريقٍ مسدود رغم ذلك.»

«لصالح مَن كانت تتم عملياتُ غسل الأموال؟»

«أوه، جماعة محلية لبيع المخدرات. لا بد أنه تخطَّى الحدودَ في مرحلةٍ ما؛ لأن إحدى محطات الخدمة الخاصة به توقَّفت، وأصيب موظفٌ بالرصاص. لم يعتقد أحدٌ أنه كان سطوًا عاديًّا. لقد كان على الأرجح انتقامًا. وكان هذا قبل ستة أشهر فقط من وفاة زوجته. كما قلت، كان هناك عددٌ كبير من الناس يريدون التخلُّص من نورمان تشيني. لقد كان تفاحة فاسدة.»

«ماذا حدث له بعد أن احترق المنزل؟»

«باع محطتَي الخدمة الخاصة به واشترى منزلًا في بلدة صغيرة في نيو هامبشير. بالقرب من منتجعات التزلج. لكن أحدهم وجده هناك وقتله. ربما شقيقُ الزوجة.»

«لماذا تقول ذلك؟»

«لستُ أنا مَن يقول ذلك، لكنه الشرطي الذي تحدَّثتُ إليه. لقد تعرَّض للضرب حتى الموت في منزله، وكانت هناك مقاومة. من المُحتمل ألا يكون لهذا علاقةٌ بالمخدرات. إذا كان قد استُهدِف من قِبل تاجر مخدراتٍ ما، فإن شخصًا ما كان ليصعد إلى هناك ويُطلق النار عليه فحسب. لقد كان شخصًا غيرَ محترف، مما يعني أنه ربما كان صِهرَ الزوج.»

«ولكن ألم يُقبَض عليه قط؟»

«أعتقد أنه كانت لديه حُجَّة غياب.»

«ماذا كان اسمه؟»

«نيكولاس برويت. إنه أستاذ في اللغة الإنجليزية بجامعة نيو إسيكس. أعلم ذلك حقًّا … إنه لا يبدو بالضبط قاتلًا.»

«هذا يعتمد على نوع الكتاب الذي ترغب في قراءته.»

ضحك مارتي. «بالضبط. إنه حتمًا قاتلٌ في كتاب المفتش مورس. أما في الحياة الواقعية، فليس بالكثير.»

قلتُ: «شكرًا على ما قمت به، مارتي.»

«هل تمزح معي؟ لقد كانت هذه أكثرَ متعة حَظِيتُ بها منذ حمَّام الأمس. وليست هذه سوى البداية. سوف أواصلُ البحث من أجلك.»

قلتُ: «حقًّا؟ سيكون ذلك رائعًا.»

سعَل مارتي، ثم قال: «لا أعني التطفل، ولكنك لست في مشكلةٍ ما، أو شيءٍ من هذا القبيل؟»

«كلَّا، الأمر كما أخبرتُك تمامًا. لقد سألني مكتب التحقيقات الفيدرالي عن هذا الرجل الذي لم أسمع به من قبل، وأخبرني أن لديه مجموعةً من الروايات البوليسية المستعملة، الكثير منها مع مجموعة من فواصل الكتب من أُولد ديفيلز.»

«هل صدَّقتهم بشأن ذلك؟»

خفضتُ صوتي وحاولتُ أن أبدوَ هادئًا. «لا أعرف مارتي. ليس حقًّا. فقبْل وفاتها، عادت كلير إلى المخدرات … أنت تعرف كلَّ شيءٍ عن ذلك. ربما كانت تعرف نورمان تشيني ويعتقدون أنني ربما كنت أطارده لأنه زوَّدها بالمخدرات، أو شيء من هذا القبيل. هذا ما أظنه. ما كان يجب أن أطلب منك قط أن …»

قال مارتي بسرعة: «لا، لا، لا. عليهم اللعنة. أعلم أنه لا علاقة لك بهذا الأمر، لكن كان عليَّ أن أسأل.»

«بصراحة، لم أكن لأقلقَ بشأن ذلك، لكن عندما بدأت أفكِّر في أنَّ للأمر علاقةً بكلير، لم أنفكَّ أُقلِّبه في ذهني مرارًا وتكرارًا.»

«سأواصلُ البحث في شأن هذا الرجل، لكن لم يظهر شيءٌ عن كلير. ولن يظهر كذلك، مال. أنا متأكِّد من ذلك.»

قلت: «شكرًا يا مارتي. ما حصلتُ عليه رائع. أنا مَدينٌ لك بشراب.»

«دعنا نفعل ذلك في وقتٍ قريب. سأجمع مزيدًا من الأخبار من أجلك، وسوف أسلِّمك تقريري. ماذا عن يوم الأربعاء؟»

قلتُ: «هذا مناسب.» وجعلنا الأمر رسميًّا. الساعة السادسة في مطعم «جاك كرو».

بعد أن انتهيتُ من المكالمة، جاء النادل ليتفقَّد الجِعَة الخاصة بي. وطلبتُ قلمًا بدلًا من ذلك، ثم دوَّنتُ اسم نيكولاس برويت على منديل الحانة. كان جسدي ينبض بالإثارة. بدا نيكولاس برويت صحيحًا بطريقةٍ ما. إذا كان نورمان تشيني قد قتل شقيقة برويت، فسيكون لديه دافعٌ حتمي. وكان أستاذًا للُّغة الإنجليزية، مما يعني أنه على الأغلب على دراية برواية «غريبان على متن قطار». شعرتُ كأنني وجدتُه. وجدتُ تشارلي!

قررتُ أنه عندما نجتمع معًا أنا ومارتي من أجل الشراب، سأكون بحاجةٍ إلى أن أخبره بأن يوقف تحرياته عن تشيني. لقد كان محقِّقَ شرطة متقاعدًا. وكان طلبي منه بأن ينظر في جريمةٍ لم تُحلَّ، مثل التلويح بقطعةٍ من اللحم أمام كلب يتضوَّر جوعًا. وكان عليَّ أن أتأكَّد من أنه قد توقف عن البحث.

لم تكن الساعة قد بلغَت الثانيةَ بعد، لكنني لم أعُد أشعر بالرغبة في الجلوس في الحانة. خرجتُ وتجوَّلتُ في شارع روكلاند الرئيسي، حيث المباني المبنيَّة من القِرميد المليئة بمتاجر الهدايا المغلقة والقليل من المطاعم المفتوحة. شددتُ الوشاحَ حول عنقي ورُحتُ أنظر خارجًا باتجاه الميناء، الذي يطوِّقُه مرفأ بطول ميلٍ يبرُز خارجًا على سطح المحيط. كان الجو شديدَ البرودة لدرجةِ أنَّ قِطَع الجليد اللبني طفَت في مياه البحر. وبعيدًا كان الماءُ يتلألأ في ضوء الشمس. كنت أقفُ هناك، وكان نسيم المحيط يخترق طيَّات ملابسي مباشرةً، عندما رنَّ هاتفي مرةً أخرى. هذه المرة كانت رسالةً نصية من جوين تقول إنها عادت إلى الفندق، وعلى استعدادٍ للمغادرة. أخبرتُها أنني سأكون هناك بعد نصف الساعة وبدأتُ أسير عائدًا.

•••

في طريق العودة إلى بوسطن، أخبرتني جوين عن يومها الذي قضَته في الجدل مع قسم الشرطة المحلي، الذي يبدو أنه لا يَعُد وفاةَ إيلين ذاتَ أولوية. ومع ذلك، تمكَّنت من الحصول على فريق من المحقِّقين الشرعيين لتفقُّد المنزل، ولا سيَّما التركيز على الأصفاد والكتب الثمانية في خزانة الكتب في الطابق السفلي.

سألتُها عمَّا إذا كنت سأحصل على فرصة لإلقاء نظرة على الكتب، وربما أعرف مصدرها.

«جمَعوها معهم بوصفها أدلةً، لكنني سأرسل الصورَ إليك. هل تعرف إن كانت قد ابتِيعَت من أُولد ديفيلز أو لا؟»

«ربما، إذا نظرت إليها. جميع الكتب التي ينتهي بها الأمر على الرف يُوضع سعرها في الركن الأيمن العلوي من الصفحة الأولى. من خلالي، أو من خلال أحد الموظفين لديَّ. لكن بعض الكتب لا تصل إلى الرفوف أبدًا، حيث تُباع عبْر الإنترنت مباشرةً، وإذا لم أتذكَّر نسخةً معينة من كتابٍ بعينه، فلن أستطيع التعرُّف إليه.»

«لكن إذا جاء تشارلي إلى متجرك واشترى الكتب، أو بعضها، إذن …»

«هذا يعني أنه زَبون.»

قالت جوين: «صحيح.»

كنا قد عبَرنا للتو من ولاية مين إلى نيو هامبشير، وكان الظلام قد حلَّ. كان وجه جوين يضيء من حينٍ إلى آخرَ بأضواء السيارات المارة.

«نسيتُ أن أسأل، هل كان هناك أي شهود؟»

قالت: «ماذا تعني؟»

«أعني، هل عثرتَ على شاهدٍ قد رأى شخصًا ما، أو سيارةَ شخصٍ ما، خارجَ منزل إيلين جونسون في وقت قريب من وقوع الجريمة؟»

«أوه، هذا ما تعنيه. كلَّا. لقد استجوبتُ الجارة التي تقطن في الجهة المقابلة من الشارع، والتي أفادت بأن بريد إيلين لم يُستلَم، لكنها لم ترَ شيئًا. إنها عجوز، وأشكُّ في أنها تستطيع حتى رؤية أي شخصٍ في الشارع.»

قلتُ: «إذن لم يُحالفك الحظ هناك.»

«لست متفاجئة، إذا كان هناك قاسمٌ مشترك آخرُ بين كل تلك الجرائم — إلى جانب قائمتك — فهو عدم وجود شهود. لا توجد أدلة على الإطلاق، حقًّا. لا وجود لأيِّ أخطاء.»

«لا بد من أن هناك شيئًا ما.»

«كان هناك سلاحُ جريمة تُرك في موقع قتل جاي برادشو.»

«هل كان أحدُ ضحايا جرائم قتل الأبجدية؟»

«نعم، لقد تعرَّض للضرب حتى الموت داخل مرأبه. وبطريقةٍ ما، يُعَد قتله غريبًا بعض الشيء. لقد كان الأمر فوضويًّا؛ فقد قاوم، وكان هناك الكثير من الدماء. كان مرأبه مليئًا بالأدوات، التي كان من الممكن أن يكون أيٌّ منها سلاحَ القتل، ولكن اتضح أنَّ السلاح الذي استخدمه القاتل، على الأقل في البداية، كان مضرب بيسبول.»

«كيف يعرفون أنَّ المضرب لم يكن موجودًا في المرأب، وأنه أُحضِر إلى هناك؟»

«إنهم لا يعرفون، على وجه اليقين، ولكن لم يكن هناك أدواتٌ رياضية أخرى في منزل برادشو. وكل الأدوات في مرأبه كانت أدواتِ نجارة. هذا ما كان عليه — نجَّارًا — على الرغم من أنه اتُّهم قبل عشر سنواتٍ بمحاولة اغتصاب بينما كان يُركِّب أرففَ كتبٍ لامرأة مطلَّقة. منذ ذلك الحين لم يقُم بعمل يُذكر. كان يحتفظ بلافتةٍ أمام منزله في جميع الأوقات، معلِنةً عن «أدواتٍ مُستعمَلة للبيع»، ووفقًا لصديقه الوحيد، فقد كان يُمضي معظمَ اليوم في مرأبه. كان من السهل استهدافُه. كان مضرب البيسبول هو الدليلَ الوحيد الذي عُثِر عليه، والذي بدا كأنه لا ينتمي إلى مرأبه.»

«هل كان مميَّزًا؟»

«ماذا، المضرب؟»

«نعم، هل كان هناك شيءٌ غير عاديٍّ حيال المضرب؟ هل كان من حِقبة الخمسينيَّات أو شيءٍ من هذا القبيل؟ هل يحمل توقيع ميكي مانتل؟»

«لا، كان جديدًا، وكان يحمل علامةً تجارية تُباع في كل متجر للمُعدَّات الرياضية تقريبًا. لم يذهب إلى أي مكان. كما أنه لم يوجِّه الضربةَ القاضية في واقع الأمر. ضُرب برادشو بمضرب البيسبول، لكنه قُتل بمطرقةٍ ثقيلة على رأسه مباشرةً. آسفة على الصورة.»

عندما توقَّفَت جوين أمام متجر الكتب، قالت: «ها أنت ذا»، ثم أضافت بسرعة: «أوه، ربما أردت الذَّهابَ إلى منزلك. أنا لم أسألك حتى.»

قلتُ: «هذا جيد. ربما ينبغي لي تفقُّد الأمر هنا على أي حال، كما أنني أقطن على بُعد بضعةِ مبانٍ فقط.»

«شكرًا لمجيئك. حالما أحصلُ على صور تلك الكتب، هل يمكنني إرسالها إليك؟»

قلتُ: «بالتأكيد.»

كان المتجر مفتوحًا مدة خمس عشرة دقيقة أخرى، وكان بإمكاني رؤية براندون خلف مكتب الاستقبال، وأمامه كتابٌ قد ألقي مفتوحًا. دخلتُ عبْر الباب الأمامي ورفع عينيه ناظرًا إليَّ.

قال: «يا زعيم.»

«مرحبًا، براندون.»

أمال الكتابَ الذي كان يقرؤه حتى أتمكَّن من رؤية الغلاف. لقد كانت رواية «نداء الوقواق» بقلم روبرت جالبريث، الذي كُشِف منذ وقتٍ ليس ببعيد عن أنها في الواقع جيه كيه رولينج. قال: «جيد»، وعاد إلى القراءة.

«لقد وصلتُ للتو. هل حدث أيُّ شيءٍ في أثناء غيابي؟»

أخبرني كيف جاءت امرأةٌ ترتدي معطفًا من الفرو بعد ظهر أمس واشترت مجلداتٍ جديدةً بقيمة مائتي دولار، واتفقت على شحنها إلى عنوانها في ماليبو. وأخبرني أنه يظن بأنه قد أصلح الصنبور أخيرًا في حمَّام الموظفين الذي كان يُسرِّب دائمًا.

قلتُ: «شكرًا.»

سمعتُ مواء نيرو الحزين، وانحنيت لأحيِّيه.

قال براندون: «أظن أنه يفتقدك عندما لا تكون هنا»، وشيء ما في هذه الكلمات جعلني أشعر بإحدى نوبات الحزن العميق التي تعتريني فجأةً من حينٍ إلى آخر. وقفتُ فجأة وسبح الضوءُ أمام عينيَّ. أدركتُ أنني كنت جائعًا. كان الوقت متأخرًا، ولم أكن قد تناولتُ الطعام منذ الغداء في روكلاند.

عُدتُ إلى المنزل سيرًا على الأقدام وركبتُ سيارتي، ثم قُدتُها بمحاذاة النهرِ إلى سومرفيل؛ المدينة التي عشتُ فيها مع كلير. جلستُ في حانة «آر إف أوسوليفان» — وهو مكانٌ لم أذهب إليه منذ سنوات — أحتسي الجينيس، وآكلُ شطيرة برجر في حجم كرة البيسبول، وكلاهما من الأصناف التي تشتهر «آر إف أوسوليفان» بتقديمها. بعد ذلك، توجَّهتُ بالسيارة إلى مكتبة سومرفيل العامة، وسررتُ عندما رأيتُها لا تزال مفتوحة. ذهبتُ إلى الطابَق الثاني ووجدتُ كمبيوترًا يوجد به متصفِّح للإنترنت، أدخلتُ الاسم الذي أعطاني إياه مارتي سابقًا، «نيكولاس برويت».

لم يكن أستاذًا للغة الإنجليزية في جامعة نيو إسيكس فحسب، بل كان قد نشَر مجموعةَ قصص قصيرة بعنوان «سمكة صغيرة». كانت هناك صورتان له استطعتُ أن أجدهما على الإنترنت، صُورته بوصفه مؤلِّفًا للكتاب، بالإضافة إلى صورةٍ عفوية له من حفل عشاء لأعضاء هيئة التدريس. كانت تنطبق عليه تقريبًا السماتُ التي عليها أستاذٌ للغة الإنجليزية في الجامعة، طويل القامة ومُنحني الأكتاف، مع بطنٍ ناتئٍ قليلًا وشَعر عالق في المقدمة كما لو كان يُمرِّر أصابعه من خلاله باستمرار. كان شعره أسودَ مائلًا إلى البُني، لكن لحيته المُشذَّبة بعناية كان يتخلَّلها اللونُ الرمادي. في صُورته مؤلِّفًا، وهو منظر جانبي التفَّ فيه بمقدار ثلاثة أرباع درجة، وكان يُحدِّق في اتجاه الكاميرا وعلى وجهه تعبيرٌ بدا وكأنه ينشدُ أن أصدِّقه. بدا وكأنه يقول: «خُذني على محمل الجِد، قد أكون عبقريًّا فحسب». ربما أكونُ قاسيًا، لكن هذا ما رأيتُه. لطالما كنت متشكِّكًا في كُتَّاب الأدب، بالنظر إلى محاولاتهم للخلود. هذا هو السبب في أنني أفضِّل كُتَّاب الإثارة والشعراء. أحبُّ الكُتَّاب الذين يعرفون أنهم يخوضون معركةً خاسرة.

على الرغم من وجودِ الكثير من المعلومات عبر الإنترنت حول نيكولاس برويت، المعروفِ بين المقرَّبين منه بنيك، بدا أنَّ هناك القليل جدًّا من المعلومات حول حياته الشخصية. لم أستطِع التأكُّد مما إذا كان متزوجًا أو لديه أطفال. وأدلُّ شيءٍ قرأتُه عنه كان على موقع إلكتروني يتيح للطلاب تصنيف أساتذتهم دون الكشف عن هُويتهم. أشار الجزءُ الأكبر من التعقيبات إلى أنه أستاذٌ جدير بالاحترام، وأحيانًا لا يمنح درجاتٍ بسهولة، ولكن كتب أحدُ المستخدمين: «لأكُن صادقًا، كان الأستاذ برويت يُصيبني بالفزع. لقد كان مُولعًا جدًّا بشخصية «ليدي ماكبث». لا أعرفُ لماذا أصرَّ على تمثيل كل أجزاء المسرحية التي ظهرَت فيها.»

لم يكن هذا بالشيء الكثير، لكنه كان يعني شيئًا ما. كنت قد وضعتُ بالفعل تصوُّرًا كاملًا لِما قد تسبَّب في تحوُّل نيكولاس برويت إلى تشارلي. أتصوَّر أن مارجريت — شقيقة برويت — تزوَّجَت من نورمان تشيني، الذي تبيَّن أنه ليس مجردَ شخص بغيض فقط، بل أيضًا مجرم، رجل قتل أخت برويت وأفلت من العِقاب. يُقرِّر برويت قتل نورمان تشيني، لكنه يعلم أنه إذا فعل ذلك، فسيكون المشتبَه به الرئيسي. ومن ثمَّ، يفكِّر أنه ربما يمكنه استئجار شخصٍ ما لقتل تشيني، فينتقل إلى موقع «دوكبرج» ويجد رسالتي عن «غريبان على متن قطار». إنه أستاذٌ في اللغة الإنجليزية ويعرف هذا الكتاب جيدًا؛ إنه يعرف ما أقترحه، ومن ثمَّ نتبادل الأسماء والعناوين. يقتل إريك أتويل. وتسير الأمور على ما يرام؛ ليس فقط لأنه يُفلت من العقاب، ولكن لأنه يستمتع بهذا حقًّا. إنه يمنحه القوة التي طالما كان يتوقُ إليها. وعندما يموتُ نورمان تشيني، بينما يكون برويت بعيدًا في مكانٍ ما، لاختلاق حُجَّةِ غياب، يشعر بمزيدٍ من السلطة. يمنحه القتل شعورًا جيدًا. فيقرِّر أنَّ عليه معرفةَ مَن أبرم الاتفاقَ معه، ومَن قتل تشيني عنه بالوكالة. لن يكون الأمرُ عسيرًا. وبشيءٍ من التطفُّل، يكتشف أن إريك أتويل قد جرى استجوابه من قِبل الشرطة فيما يتعلَّق بحادث السيارة الذي أودى بحياة زوجة مالكوم كيرشو. وليس هذا فحسب، بل أيضًا أن مالكوم كيرشو يعمل في متجر لبيع كتب الغموض والألغاز. حتى إنه نشر مرةً قائمةً بثماني رواياتٍ أدبية عن جرائم قتل كاملة. وكان من بينها «غريبان على متن قطار».

تمضي السنوات، ولا يستطيع برويت أن ينسى كيف شعر بأنه على قيد الحياة عندما أزهق روحًا. وفي كلِّ فصلٍ دراسي عندما يُدرِّس «ماكبث»، يشعر بأن شهوته لسفك الدماء تنمو أكثرَ فأكثر. ويُقرِّر أنه بحاجةٍ إلى فِعل ذلك مرةً أخرى؛ ارتكاب جريمة قتل مجددًا. ومن ثمَّ، مسترشدًا بقائمة جرائم القتل الكاملة الثماني، يبدأ في البحث عن الضحايا. وربما حتى سيجعل هذه الصلة واضحة؛ حيث إنه بهذه الطريقة قد يلتقي مالكوم كيرشو أخيرًا.

كان الأمر منطقيًّا تمامًا، وشعرتُ بمزيج من الإثارة والرهبة. كنت بحاجةٍ إلى مقابلة نيك برويت ومشاهدة ردِّ فِعله. لكنني أردتُ أولًا قراءة مجموعته القصصية. سجَّلتُ الدخول إلى شبكة «مكتبة منيوت مان» لمعرفةِ مكان توفُّر الكتاب، على أملِ أن يكون هنا في سومرفيل، لكنه لم يكن موجودًا. ومع ذلك، كانت هناك نسخة مُدرجة على أنها متاحة في مكتبة نيوتن العامة. لم تكن المكتبة مفتوحة الآن ولكنها ستفتح أبوابها في تمام العاشرة من صباح اليوم التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤