الفصل الخامس والعشرون

بينما الويسكي بيننا، استمعتُ إلى براين يروي قصةَ عطلة نهاية الأسبوع التي أمضاها وهو يشرب حتى الثُّمالة مع تشارلز ويلفورد في ميامي. كان براين يعرف أنني من مُحبي فيلم «بدعة البرتقال المحروق»، ومن ثمَّ أخبرني قصة ويلفورد عدة مرات. وكانت القصة تتغيَّر قليلًا في كلِّ مرة.

أنا لستُ متذوِّقًا خبيرًا للسكوتش، ولكن يمكنني القول بأن تاليسكار هو صنفٌ جيد. ومع ذلك، رفعتُ الكأس إلى شفتي وارتشفتُ أقلَّ كمية فحسب. كنتُ بحاجةٍ إلى التفكير في مدلول تلك الزجاجات من «ديمبل بينش» التي رأيتُها في الخِزانة في الطابَق العلوي. هل يُعقل أن يكون براين موري هو تشارلي؟ وحتمًا كانت إجابتي على الفور هي لا. كان من هؤلاء الرجال الذين يمكنهم التحدُّث ببراعة وبطريقة مقنعة، ولكنهم لا يتمكَّنون في الواقع من إنجاز الكثير من الأشياء. لا يقود سيارته، ولا يستطيع الطهي. وأنا متأكِّد من أنه لا يتَّخذ ترتيبات سفرِه أو يُقدم الضرائب المستحَقة عليه، أو يحسب فواتيره الخاصة. كلُّ ما في مقدوره هو الكتابة ومُعاقَرة الشراب والتحدُّث. سيكون من المستحيل أن يُخطِّط لجرائمِ قتل فعلية، ثم يُنفِّذها.

ولكن ماذا لو كان قد قدَّم المساعدة؟

وبينما كنا نحتسي الشراب، استطعتُ رؤيةَ المطبخ، حيث كانت تيس تقوم بالتنظيف وهي تُدندن لنفسها. بدَت سعيدة، مسترخيةً تقريبًا. ثم كانت هناك فترةُ توقُّف مؤقتة في سرد قصة براين، وقلتُ: «هل سبق لك أنْ قرأتَ منشورات المدوَّنة التي كتبتُها ونشرتُها على الموقع؟»

قال: «أيُّ موقع؟»

«موقعنا الإلكتروني. موقع «ذا أُولد ديفيلز». المدوَّنة المرفَقة به.»

قال متذكِّرًا: «أوه، حسنًا». لطالما أزعجتُه على مَرِّ السنين حتى يكتب شيئًا لها، مجرد ترشيح لكتابٍ من حينٍ لآخَر، أو قائمة بالكتب المُفضَّلة لديه، لكنه لم يفعل قط. «ماذا بشأنها؟»

«هل تتذكَّر قائمةً كنتُ قد كتبتُها، قبل بضع سنواتٍ، قبل حتى أن تُصبح مالكًا، تُدعى «ثماني جرائم كاملة»؟»

راح يحُكُّ عينه من الداخل، وأخذتُ أتفحَّصه. قال أخيرًا: «تلك القائمة، نعم أتذكَّر. أعتقدُ أن المرة الأولى التي عرَفتُ فيها اسمك كانت من قراءة تلك القائمة. أتدري ما فكَّرتُ فيه وقتها؟»

«كلَّا.»

فكَّرتُ: «لا أصدِّقُ أنَّ هذا الوغد لم يُدرِج كتابًا واحدًا من كتبي.»

ضحكتُ. «هل هذا حقًّا ما فكَّرتَ به؟»

«بالتأكيد. إنك تصل إلى مرحلةٍ في حياتك المهنية تكون فيها كلُّ قائمة بأفضلِ عشرة كتب أو كلُّ قائمة بأفضل الكتب في نهاية العام بمنزلة إهانةٍ شخصية إذا لم تكن جزءًا منها. لكن الفكرة أنه … ليست الفكرة، إن لم تَخُنِّي الذاكرة، أنك لم تُدرج أحدَ كتبي، بل أنك لم تُدرج كتاب «موسم الحصاد». أعني، يا إلهي! مال، هيا.» كان يبتسم الآن.

قلتُ: «ساعدني. إنها تلك الرواية حيث كارل …»

«كارل بويد، صحيح.»

تذكَّرتُ ذلك الكتاب. كان من أوائل كتبه. كان الشرير، كارل بويد، مختلًّا عقليًّا يسعى إلى الانتقام من كلِّ مَن قلَّل من شأنه. وقد شمل ذلك العديدَ من الناس. إن لم تخُنِّي الذاكرة، كان كارل صيدلانيًّا. كان يختطف ضحاياه قبل قتلهم، ويحقنهم بمادة الصوديوم بنتوثال، أو شيء مُشابه، لحملهم على قول الحقيقة. ثم يسألهم عن أسوأ مخاوفهم، ويطلب منهم وصْفَ المِيتة التي تُرعبهم أكثرَ من غيرها. فعلى سبيل المثال، قد يعترف شخصٌ بأنه يُعاني رُهابَ الأماكن المغلقة، ومن ثمَّ كان كارل بويد يدفنه حيًّا داخل صندوق.

قلتُ: «كيف نسيتُ هذا الكتاب؟»

«على ما يبدو أنك نسيته.»

«لم يكن ليُناسب تلك القائمةَ التي كنتُ أُعدُّها، على أي حال. كانت تلك القائمة لجرائم القتل الكاملة على وجه التحديد. جرائم قتل لا يمكن حلُّ لغزها.»

«عمَّ تتحدَّثان؟» كانت تيس قادمةً من المطبخ، وهي تمسح يدَيها المبلَّلتَين أسفل فخِذَيها.

قلتُ: «القتل»، في الوقت نفسِه الذي قال فيه براين: «عدم الاحترام.»

قالت تيس: «أوقات سعيدة، كنتُ أفكِّر في تحضير قدرٍ من القهوة، وأردتُ أن أعرف مقدارَ ما يجب أن أصنعَه. براين، نعم، أعلم أنك غيرُ مهتم».

قلتُ: «سأتناول البعض.»

«عادية؟ أم منزوعة الكافيين؟»

قلتُ: «سأتناولُ الصِّنف الحقيقي»، وتساءلتُ عما إذا كنت قد تلعثمت قليلًا في كلمة «صنف».

استدارَت عائدةً إلى المطبخ وقال براين: «لا يوجد شيء من هذا القبيل، حقًّا.»

قلتُ: «ماذا تقصد بالشيء؟»

قال: «إنني أتحدَّثُ عن القائمة التي كتبتها، لا يوجد شيءٌ اسمه جريمة قتل كاملة.»

«في الأدب، أم في الحياة الواقعية؟»

«في كِلَيهما. هناك متغيِّراتٌ كثيرة جدًّا على الدوام. دعني أخمِّن ما كان لديك في تلك القائمة. «غريبان على متن قطار»، أليس كذلك؟»

قلتُ: «صحيح». كان براين قد انتصَب في جِلسته قليلًا الآن، وبدا أنه أقلُّ سُكْرًا.

«بالطبع، أدرجتُها. أتذكَّر حقًّا هذه القائمة الآن، والأمر لا يتعلق فقط بكَوني لم أكن فيها. إنَّ «غريبان على متن قطار»، ولا أقصد الإهانة لبات هايسميث، هي فكرةٌ غبية لجريمة قتل كاملة. ما الذي يجعلها ذكية؟ أن تطلب من شخصٍ غريب أن يقتل بالنيابة عنك؟ وبهذه الطريقة يمكنك الحصول على حُجَّةِ غيابٍ دامغة ومتينة؟ مستحيل. ففي اللحظة التي تستعين فيها بشخصٍ غريب كي يقتل شخصًا ما بالنيابة عنك، فربما تكون أنت أيضًا بصددِ تسليم نفسك إلى الشرطة. إنه أمرٌ لا يمكن التنبؤ به. إذا كنتَ ستقتل شخصًا ما، فاقتُله بنفسك. لا يمكنك الوثوقُ بشخصٍ آخر حين يتعلق الأمر بالقتل.»

«ماذا لو كنتَ تعرف يقينًا أن هذا الشخص لن يُسلمك أبدًا؟»

لوَى براين قسَمات وجهه، خافضًا حاجبَيه وهو يزمُّ فمَه، وقال: «انظر، انا لا أدَّعي بأنني خبيرٌ في علم النفس، لكنني أعرفُ شيئًا واحدًا، وهو الشيءُ الوحيد الذي أُذكِّر نفسي به مِرارًا وتَكرارًا عندما أكتبُ كتابًا. لا أحدَ يعرف ما يدور في ذهن غيره أو في قلبه». ولمس رأسه وصدره. «إنهم فقط لا يفعلون. ولا حتى زوجان مضى على وجودهما معًا خمسون عامًا. هل تعتقد أن أحدهما يعرف ما يفكِّر فيه الآخَر؟ إنهما لا يعرفان. لا أحدَ منا يعرف شيئًا».

«إذن فأنت لا تعرف ما تفكِّر فيه تيس الآن؟»

قال رافعًا حاجبَيه مستهترًا: «حسنًا، أعرفُ بعض ما يجول في خاطرك الليلة، ولكن هذا فقط لأنها قد أخبرتني.»

«لا يهم.»

«لا، لا يهم. حسنًا، فيمَ تفكِّر، إلى جانبِ محاولةِ تذكُّر عدد مَلاعق القهوة اللازمة لتحضير قدر؟ لا أعرفُ حقًّا. حسنًا، هذا ليس صحيحًا بالمرة. أنا أعرفُ بعضًا مما تُفكِّر فيه. على سبيل المثال، من المُحتمل أنها تُحصي مشروباتي وتتساءل عند أي مرحلة ستُقرِّر أن تُخبرني أنني تناولتُ ما يكفي. إنها تفكِّر على الأرجح في بنطالٍ من الجينز قيمته ثلاثمائة دولار تريد شراءه. وهي تُفكِّر فيك يا صديقي.»

«ماذا تقصد؟»

«منذ أن التقينا بك مصادفةً في الحانة تلك الليلة، وهي تتحدَّث دون توقفٍ عن دعوتك هنا على العشاء.»

قلتُ: «إنَّ لديها مخطَّطًا»، متذكِّرًا ما قالته لي عن رغبتها في إقناع براين بالحصول على شخصٍ كي يُساعدها في شئون المنزل.

«لدى تيس دائمًا مخطَّط.»

استطعتُ أن أشمَّ رائحة القهوة الآن قادمة من المطبخ، رائحة مريرة قاتمة جعلَتني أشعر بمزيدٍ من الصحو بمجرد أن شمَمتُها.

أزعجَني التطرُّق في المحادثة إلى تيس. كنت أعرفُ براين منذ مدةٍ طويلة، ولقد رأيتُه مخمورًا مراتٍ عديدة، لكن الطريقة التي كان يتصرَّف بها الآن، كما لو كان لديه سرٌّ يُخفيه، كانت شيئًا جديدًا بالنسبة إليَّ. لطالما كان شخصًا يُخبرني بما يدور في ذهنه.

قلتُ: «ما مخطَّطها الليلة؟»

«لديَّ فكرة، ولكن كما قلتُ سابقًا، فنحن لا نعرف حقًّا ما يدور في رأس أحدهم.»

سمعتُ صلَّال الخزف واستدرتُ لأرى تيس قادمةً نحو الطاولة، وهي تحمل صينية تحتوي على فنجانَي قهوة، بالإضافة إلى السكَّر والقشدة. وضعَت أحدَ الفنجانَين والصحن الخاص به أمامي، ثم جلسَت تتنهَّد بينما هي تفعل ذلك.

قلتُ: «شكرًا لك، شكرًا»، وأنا أضيفُ بعض الكريمة إلى قهوتي وأخذتُ رشفة.

قال براين: «هل تريد إضافةَ بعض الويسكي الأيرلندي إلى تلك القهوة؟ لديَّ البعضُ هنا في مكانٍ ما. فقط لا تُضِف إليها سكوتش.»

قلتُ: «إنها رائعة كما هي.»

قالت تيس: «حقًّا. فيمَ كنتما تتحدَّثان؟» راحت تُضيف الكريمة وتقلِّب قهوتها. وكانت شفتاها ملطَّختَين قليلًا بنبيذ البورت الذي كانت تشربه، وكان شعرها الذي عادةً ما يتدلَّى على جانبَي وجهها، مدفوعًا للوراء خلف أذنَيها.

قال براين: «أخبِرْها أنت. لا بد لي من الذَّهاب لقضاء حاجتي». وضعَ يده السليمة على الطاولة ونهضَ واقفًا. راقبتُه أنا وتيس، في انتظارِ أن نرى مدى ثباته، لكنه بدا بخير وهو يسير إلى خارج الغرفة.

قالت تيس، بعد أن سمِع كِلانا باب الحمَّام يُغلق: «هل ذكرت أيَّ شيء عن استحضارِ مَن يُساعدني في شئون المنزل هنا؟»

قلتُ: «كلَّا، لم أفعل، نسيتُ أننا تحدَّثنا عن ذلك.»

قالت: «لا بأس. أيُّ شيءٍ ستذكره له الليلة لن يتذكَّره في الصباح، على أي حال. ولكني أشعر بالفضول، ما الذي كنتما تُثرثران به هنا. لقد بدا براين متحمسًا تقريبًا.»

«كان يتحدَّث كيف أنَّ أحدًا لا يعرف ما يجول في خاطر غيره، وكيف أننا لا نعرف بالضبط ما يجول في خاطر غيرنا.»

قالت وهي تنفُث في قهوتها: «أتعتقد أن هذا صحيح؟». كانت لديها خطوطٌ صغيرة حول شفتَيها، كما لو كانت مدخِّنة يومًا ما. كانت لديَّ صورةٌ مبهمة لرؤيتها تُدخِّن سيجارة، لكن ليس منذ سنوات.

«نعم، في الواقع. إنني أفكِّر في الأمر كثيرًا، كيف أننا لا نعرف أبدًا حقيقةَ الناس. لكنني لا أعرف دائمًا إن كان الأمر ينطبق عليَّ وحدي، أم إن الجميع هكذا.»

قالت: «ماذا لو أنك وحدَك هكذا؟»

«أعتقدُ أنني أجد صعوبةً في التعرُّف على الناس. ليس ظاهريًّا. فأنا جيدٌ في هذا. لكن عندما أقتربُ من شخصٍ ما، فإنني حينَها أشعر أنه يتلاشى. هذا حين أنظر إليه وأجد فجأةً أنني ليس لديَّ أيُّ فكرة عما هو عليه حقًّا، أو عمَّا يفكِّر فيه حقًّا.»

قالت: «هل كان هذا هو شعورك تجاه زوجتك؟»

قلتُ تلقائيًّا: «كلير؟»

ضحكَت تيس. «ما لم تكن متزوجًا أكثرَ مما أعرف عنك.»

فكَّرتُ لحظةً، محاولًا أن أتذكَّر إن كنتُ قد تناقشتُ بشأن كلير مع تيس في الماضي أم لا. أو حتى لو كنت قد ناقشتُ كلير مع براين. قلتُ أخيرًا: «ماذا كان السؤال؟»

«آه، لقد أزعجتُك بسؤالي. أنا آسفة.»

«لا، لا. أنا فقط ثمِلٌ قليلًا.»

«اشرب قهوتك. سوف يساعد ذلك.»

أخذتُ رشفةً أخرى. ثم، بتلقائيةٍ شديدة حقًّا، تركتُ القهوة تنزلق مرةً أخرى من فمي إلى الفنجان. أصبحتُ مصابًا بهوس الارتياب، أعلم هذا، لكن إذا كان لدى تيس أو براين، أو كِلَيهما نوايا لإلحاق الأذى بي، فإنَّ وضع المخدِّر في طعامي أو شرابي سيكون منطقيًّا للغاية.

«لقد شعرتُ بالقرب من كلير أكثرَ مما شعرتُ به تجاه أيِّ شخص من قبل أو بعد ذلك. لكن في بعض الأحيان لم أكن أعرفها.»

كانت تيس تُومئ برأسها. «هكذا هو شعوري تجاه براين، أعني الشعورَ بالقُرب؛ ثم بين الحينِ والآخَر يقول شيئًا أو أقرأ شيئًا كتَبه، وأتساءل إن كنتُ أعرفُ أيَّ شيءٍ عنه من الأساس. إنه شعورٌ عام. ما الذي جعلكما تخوضان في ذلك؟»

فكَّرتُ مرةً أخرى، وأنا قلِقٌ من أنَّ عقلي كان يعمل ببطءٍ شديد. «كنا نتحدَّثُ عن قائمةٍ كتبتُها مرةً. حول جرائم القتل الكاملة. وكان براين يقول كيف أن المرء لا يمكنه الوثوقُ في أي شخص لارتكاب جريمة قتل بالنيابة عنه، وأن المرء لن يعرف حقًّا ما الذي يُفكر فيه غيره.»

ظلَّت تيس هادئةً لحظةً وهي تُفكِّر. «أعتقدُ أن المرء إن استعان بشخصٍ آخر لارتكاب جريمة قتلٍ بالنيابة عنه، فسيكون أفضلُ شخص هو شريكَ حياته؛ زوجًا كان أو زوجة.»

قلتُ: «أجل. هل تفعلين ذلك لبراين؟»

«أعتقد أن الأمر سيعتمد على كُنْه الشخص الذي يريد مني قتْلَه. لكنني سأفكِّر في الأمر. تلك فحسبُ نوع الزوجة التي أنا عليها. يعتقد الناس أن براين انفصل عن ماري وتزوَّجني لأنني كنتُ أصغرَ سنًّا، لكن لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق. فعلى الرغم من أننا نقضي الكثيرَ من الوقت متباعدَين، أنا وبراين، فنحن قريبون جدًّا كما تعلم. أقربُ مما كان عليه إطلاقًا مع أي شخص. إننا مخلصان. سأفعلُ أيَّ شيءٍ من أجله، وسيفعل أيَّ شيءٍ من أجلي.»

انحنَت نحوي وهي تتحدَّث، وكان بإمكاني شمُّ رائحةِ القهوة في أنفاسها ممزوجةً بالنبيذ.

قلتُ: «بالحديث عن براين …» تراجعَت في جِلستها إلى الوراء، وأمالت رأسها كي تستمع.

قالت: «إنه بخير، على ما أعتقد. من المُحتمل أنه يمنحنا أنا وأنت بعضَ الوقت لنكون بمفردنا معًا.»

«هل أنتِ متأكِّدة؟ ربما يجب علينا تفقُّدُه؟» شعرتُ بالتوتر فجأة. ربما كان كلُّ هذا من تأثير الكحول، لكنني شعرتُ كما لو كنتُ في مسرحية، وأنَّ الأمسية قد خُطِّط لها بحيث تنتهي بي وحيدًا مع تيس نحتسي القهوة.

لمسَت ركبتي بأصابعها ثم نهضَت. «أنت على حق. سأذهب لإحضاره وسأخبره بأن الوقت قد حان للذَّهاب إلى الفراش. لكن عليك أن تبقى يا مال. أعني ذلك. ما زالت الليلة في بدايتها. دعنا نجلس هناك ونتناول مشروبًا آخرَ». وأمالت رأسها للإشارة إلى أريكتَين صغيرتين إحداهما في مواجهةِ الأخرى، بجوار خِزانة كتب طويلة، مما يُشكِّل ركنًا مريحًا بين غرفة الطعام والمطبخ المفتوح.

قلتُ: «حسنًا»، ثم نهضَت وخرجَت من الغرفة. جلستُ لحظةً، محاولًا معرفةَ ما يجب القيامُ به. كانت هناك موسيقى تصدُر من المطبخ، إيلا فيتزجيرالد تُغني «ضوء القمر في فيرمونت». شممتُ قهوتي التي لم أشربها، ثم تناولتُ رشفةً صغيرة أخرى. ثم التقطتُ قهوةَ تيس وجرَّبتُها. إنها مثل قهوتي، كانت تضع فيها الكريمة فقط، ودون سكَّر، لكن طعمها كان مختلفًا اختلافًا ملحوظًا. أخذتُ أتنقَّل بين الاثنتين، وأتساءلُ عمَّا إذا كنتُ سأصابُ بالجنون. إذا أرادت أن تُسمِّمني، كان بإمكانها وضعُ شيءٍ ما في نبيذي، أو حتى في الطعام. ومع ذلك، ربما أرادت الانتظارَ حتى نهاية الوجبة. وقفتُ متجاوزًا الأرائكَ ودخلتُ المطبخ. يمكنني الآن سماعُ صوت تيس، وهي تتحدَّث إلى براين في الرَّدهة بالأسفل، لكن لم أستطِع تبيُّن الكلمات. كان المطبخ نظيفًا. لم أكن أعرف بالضبط ما كنت أبحث عنه، مجرد شيءٍ من شأنه أن يُثبِّت ما كنتُ أشكُّ فيه بالفعل. دُعيتُ إلى هنا لسببٍ ما.

ذهبتُ ونظرتُ إلى الحوض العميق المصنوع من الفولاذ المقاوِم للصدأ. كان فارغًا. في رفِّ الأطباق كان هناك عددٌ قليل من الأواني والمقالي، وكان بإمكاني سَماع صوت الإيقاع المنتظم لغسَّالة الأطباق، وإن كنت لم أستطِع رؤيتها. بجانب وعاء القهوة، الذي كان ضوءُه الأحمر مضاءً، كان هناك لوحُ تقطيعٍ، وفوق لوح التقطيع كانت هناك قطعةُ خشبٍ أسطوانية ثقيلة جدًّا. التقطتُها وبدَت كما لو كانت سلاحًا في يدي. ربما كانت مِرقاقَ عجين، وإن كانت تختلف عن أيِّ مرقاق عجين قد شاهدتُه من قبل.

«عمَّ تبحث، يا مال؟»

وقفَت تيس عند مدخل المطبخ. قلتُ: «أوه، لا شيء. إنني معجبٌ بمطبخك فحسب. كيف حال براين؟»

«إنه نائمٌ في غرفة الضيوف بالطابق السفلي. أو، كما أحبُّ أن أُسمِّيَها، غرفة نوم براين. إنه يقضي هناك لياليَ أكثرَ مما يقضي في الطابق العلوي.»

وضعتُ مرقاق العجين على لوح التقطيع. وقلتُ: «سأذهبُ.»

«أنت متأكِّد؟»

«نعم. فأنا ثمِلٌ قليلًا على ما أعتقد، ولم أنَم جيدًا مؤخرًا. سوف أذهبُ إلى المنزل فحسب.»

قالت: «إنني أتفهَّم، لا يُعجبني ذلك لكنني أتفهَّم. دعني أحضِر معطفك.»

وقفتُ في الرَّدهة وانتظرتُ ما بدا كأنه دهر، ثم أحضرَت لي تيس معطفي الشتوي مطويًّا تحت ذراعها. اقتربَت مني وقالت: «ماذا لو أخبرتُك أنه ليس مسموحًا لك بالمغادرة». كان صوتها مختلفًا. أكثر ملاطفةً، وأكثر هدوءًا.

انتزعتُ معطفي بيدي اليسرى واندفعتُ إلى الخارج بيميني، على أملِ أن أُفقِدَها توازنَها مدةً كافية حتى أخرجَ من الباب. تعثَّرَت للخلف، ثم سقطَت، لترقد في وضعِ الجلوس على الأرضية الخشبية الصُّلبة. قالت: «أوو، ما هذا؟ اللعنة، يا مال؟»

«ابقَيْ مكانكِ.» هزَزتُ المعطف الذي أصبح في حوزتي الآن، متسائلًا عمَّا إذا كانت تُخبِّئ سلاحًا فيه. لربما تُخفي مرقاق العجين.

تدحرجَت تيس قليلًا على جانبها لتضع ساقَيها أسفلها. قالت: «ماذا حلَّ بك؟»

غمرني الشكُّ، لكنني قلتُ: «أعرفُ ما فعَلتِه بنيك برويت»، على أملِ أن يُساعد نطقُ الاسم بصوتٍ عالٍ في تأكيد ذلك.

نظرَت إليَّ، وشعرها الآن ينسدل على جانبَي وجهِها، وقالت: «ليس لديَّ أيُّ فكرة عمن تتحدَّث. مَن هو نيك برويت؟»

«قتَلتِه منذ ليلتَين. رأيتِ كتابه في متجري، وأدركتِ أنني كنتُ أحقِّق في أمره بسبب علاقته بنورمان تشيني. وهكذا وصلتِ إليه أولًا. وجعلتِه يحتسي معك ويسكي «ديمبل بينش». ربما دفعتِه إلى الإفراط في الشراب».

كانت تيس تُحدِّق إليَّ، وعيناها مرتبكتان، وعلى فمِها نصفُ ابتسامة، كما لو كنتُ في أي لحظة سأكشفُ عن الجزء الأخير لمزحةٍ ما. «ألا تُريدينني أن أعرف بالأمر، أن أعرف عن مخطَّطكِ؟ أليس هذا هو سببَ وجودي هنا؟»

بدَت تيس الآن جَزِعة، قالت: «مال، سوف أنهضُ. ليس لديَّ أيُّ فكرة عمَّا تتحدَّث. أتُراه شيئًا بينك وبين براين؟ هل هذه مزحة؟»

قلتُ: «إنكِ تعرفين تلك القائمة التي ذكرتُها.»

«قائمة جرائم القتل؟»

«شخصٌ ما يستخدم تلك القائمةَ لقتل الناس في الواقع. أعلم أنني أبدو مجنونًا. لكنني لستُ كذلك. لقد تواصل معي مكتبُ التحقيقات الفيدرالي وتحدَّثوا إليَّ. اعتقدتُ أن الأمر ربما تكون له علاقةٌ بك. أو ببراين.»

قالت: «لماذا؟»

«لماذا كانت قهوتنا مختلفة؟ لماذا أخبرتِني للتو أنني لا أستطيع المغادرة؟»

خفَضَت رأسها وضحكت قليلًا. «من فضلك، ساعدني على النهوض. أعدُك بأنني لن أقتلك.»

انحنيتُ، وأخذَت يدي وساعدتُها في النهوض. «كان مذاقُ قهوتنا مختلفًا؛ لأن قهوتي منزوعة الكافيين وقهوتك كانت عادية. والسببُ في أنني قلتُ إنك لا تستطيع المغادرةَ هو أنني كنتُ أحاول إغواءك.»

قلتُ: «أوه.»

«عرَف براين، أو باتَ يعرف، أعني، أنني كنت سأحاول سواء هذا أو ذاك. وهو لا يُمانع ذلك. لقد انتهى ذلك الجزءُ من حياتنا، والآن بما أنني هنا في بوسطن مدةً من الوقت … إنه معجبٌ بك.» هزَّت كتفَيها. «وأنا كذلك».

قلتُ: «آسف.»

«لا تتأسَّف. إنها مجرد سخافة، هذا كلُّ شيء. أحاولُ أن أجعلك تقضي الليلة معي، وأنت تعتقد أنني أحاولُ قتلك.»

قلتُ وأنا أشعر بالحرج فجأة: «لم أكن قد حصلتُ على القسط الكافي من النوم».

«هل هذا صحيح؟ ما قلته بشأن القائمة؟»

قلتُ: «إنه كذلك. هناك شخصٌ يستخدمها لقتل الناس. وأنا متأكِّد من أنه شخصٌ يعرفني.»

«يا إلهي! هل أنت على استعدادٍ لتُخبرني بذلك؟ إن الوقت ليس متأخرًا إلى هذه الدرجة حقًّا.»

قلتُ: «ليس الآن، حسنًا؟ أعتقد حقًّا أن عليَّ الذَّهاب. آسفٌ لأنني دفعتك. آسفٌ أنني …»

قالت وعانقَتني وهي تضغط بشدة: «لا بأس»، ظننتُ أنها ستُحاول تقبيلي كذلك، لكني أعتقد أن تلك اللحظة قد ولَّت. ابتعدَت وقالت: «أتمنَّى لك مسيرةً آمنة إلى المنزل. هل تريد مني أن أطلب لك سيارة أجرة، أو أي شيء؟»

قلتُ: «كلَّا، شكرًا. وفي المرة القادمة التي نلتقي فيها، سأخبرك بالمزيد عمَّا يجري.»

«سوف أتمسَّك بذلك الوعد.»

بعد أن انغلق البابُ خلفي، وقفتُ في الخارج على عتبةِ منزلهما الأمامية لحظةً. كان الشارع هادئًا، والثلج ملتصقًا بكل شيءٍ. سمعتُ صوتَ الموسيقى من بعيد، ورأيتُ أشخاصًا يخرجون من حانةٍ في الزاوية. أخذتُ الدرجات الثلاث نزولًا إلى الرصيف واستدرتُ يسارًا، مدركًا أنني كنتُ أسيرُ على الثلج البكر، مخلِّفًا ورائي علاماتٍ جديدة. لم أكن قد اجتزتُ حتى نصف بناية عندما سمعتُ الخطوات ورائي، مسرعة، واستدرتُ لأرى تيس تتحرَّك بسرعة، بلا معطف وهناك شيءٌ في يدها. لا بد أنني أجفلت؛ لأنها توقَّفَت على بُعد ثلاثِ أقدام مني، ومدَّت إليَّ يدَها بكتاب.

قالت وهي تلهث قليلًا: «نسيتُ. يريدك براين حقًّا أن تحصل على هذه. إنها نسخةٌ سبقَ إعدادها قبل النشر تخصُّ روايته الجديدة. لا تقُل له إنني أخبرتُك، لكنه سوف يُهديها إليك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤