الفصل الخامس

كنت قد بدأتُ أغفو على الأريكة، ومن ثمَّ نهضتُ، غسلتُ زجاجات الجِعة، وألقيتُ ما تبقَّى من شطيرتي، ثم غسلتُ أسناني وارتديتُ منامتي. ثم ذهبتُ إلى رفِّ الكتب الخاص بي ووجدتُ الكتابَ الذي كنت أبحث عنه «المُغْرِق». كان لديَّ الكتابُ الأصلي الورقي الغلاف الصادر عن دارِ النشر «جولد ميدال» طبعة عام ١٩٦٣. كان الكتاب يحمل واحدًا من تلك الأغلفة المصوَّرة الفاضحة التي تزيِّن على الأغلب كلَّ الكتب الورقية؛ كان غلافًا لجون دي ماكدونالد في منتصف القرن. في هذا الغلاف، تظهر امرأةٌ ذات شعر داكن ترتدي بيكيني أبيضَ وهي تُجرُّ عبْر الأعماق الخضراء القاتمة بواسطة يدَين تُمسكان بإحدى ساقَيها الجميلتَين. ترمز مثل تلك الأغلفة إلى شيئَين: الجنس والموت. مرَّرتُ إبهامي على حافة الكتاب، أُقلِّبُ في الصفحات، وانبعثَت تلك الرائحة اللاذعة العطنة لكتابٍ قديم ورقي الغلاف، حتى تخلَّلَت أنفي. لطالما أحببتُ تلك الرائحة، على الرغم من أنني كنت أعلم بحُكم خبرتي في جمْع الكتب أنَّ هذه الرائحة علامةٌ على أن الكتاب لم يُحفظ بطريقةٍ سليمة على مرِّ السنين، وهو كتابٌ ربما ظلَّ راقدًا في صندوق من الورق المقوَّى على أرضية قبو رطب عدةَ فصول. ولكن بالنسبة إليَّ، أعادتني الرائحة على الفور إلى متجر كتب «آنيز بوك سواب» حيث شرَعتُ في شراء الكتب عندما كنت في الصف السادس. لقد نشأتُ في ميدلهام، على بُعد نحو ٤٥ دقيقة غرب بوسطن. كان العام الذي بلغتُ فيه الحادية عشرة هو أيضًا العامَ الذي سُمح لي فيه بركوب دراجتي مسافة ميل ونصف ميل على طريق دارتفورد إلى وسط مدينة ميدلهام. لم يكن هناك سوى ثلاثة متاجر: متجر صغير أَطلق على نفسه اسم «ميدلهام جنرال»، في محاولةٍ منه أن يبدوَ كأنه شيءٌ أروعُ مما كان عليه، ومحل تُحف يقع في مبنى مكتب البريد القديم، ومتجر «آنيز بوك سواب»، وهو متجرٌ لبيع الكتب المُستعملة حاصل على حق الامتياز التِّجاري تحت إدارة رجل إنجليزي يُدعى أنتوني بليك. كان يبيع بالأساس لأسواق الجملة — تلك الكتب ذات الأغلفة الورقية التي يمكن وضعها في الجيب الخلفي — ولقد ابتعتُ منه رواياتِ إيان فليمنج، وبيتر بينشليز، وأجاثا كريستي التي أسرَتْني في سنٍّ مبكرة. ومنه ابتعتُ أيضًا «المُغْرِق»، حيث كنت قد ابتعتُ بالفعل كلَّ كتابٍ متاح لترافيس ماكجي وسلسلة جون دي ماكدونالد الشهيرة. وقلَّما كان يمكن الحصول على كتابات ماكدونالد المستقلة، ولكن لا بد أن قارئ جريمةٍ ما مُتفانٍ في البقعة التي أعيش فيها من ولاية ماساتشوستس قضى نَحبه في الوقت الذي بدأتُ فيه ركوب دراجتي إلى وسط المدينة؛ لأن آنيز اكتظَّت فجأةً بأكوام من روايات الأدب الشعبي، ليست روايات جون دي ماكدونالد فحسب بل كتب ميكي سبيلين، وروايات أليستير ماكلينز، وسلسلة إد ماكبين البوليسية «المنطقة السابعة والثمانون». حدَّدتُ لنفسي شراءَ ثلاثة كتب في كل مرة أتسوَّق فيها، وهو ما استنفدَ مدَّخراتي تقريبًا. في تلك الأيام كنت أستغرقُ أقلَّ من أسبوع لقراءة هذه الكتب الثلاثة — أحيانًا أستغرقُ ثلاثة أيام فقط — لكنني كان يُسعدني دائمًا إعادةُ قراءة الكتب التي اقتنيتُها بالفعل. ربما لم أقرأ «المُغْرِق» منذ ذلك الحين، منذ أن كنت في سنِّ المراهقة، ولكن الحبكة الأساسية ظلَّت عالقةً بذهني.

كانت شخصية الشرير — وهي شخصيةٌ جيدة بحق — سكرتيرةً شديدة التديُّن وجَّهَت كلَّ طاقتها الجنسية المكبوتة إلى ممارسة التمرينات الرياضية. قتلت الأشخاصَ الآثمين حولها، بمَنْ فيهم امرأة متزوجة كانت على علاقةٍ مع رئيسها في العمل. لقد أغرَقَتها بأن تربَّصَت لها، مرتديةً عُدَّة الغوص، في قاع البحيرة حيث كانت تسبح تلك المرأة. ثم أمسكَت بإحدى ساقَيها وجذبتها تحت الماء. هذه الجريمة بالتحديد لم أنسَها قط. وسرعان ما تبادرَت إلى ذهني عندما أعددتُ قائمةَ جرائم القتل الكاملة. لم أُعِد قراءة الكتاب، لكنني على دراية جيدة بأحداثه.

اصطحَبتُ رواية «المُغْرِق» معي إلى الفراش. قرأتُ الفقرة الأولى، كانت كلماتُها مألوفةً على نحوٍ مخيف. ما الكتبُ إلا سَفرٌ عبْر الزمن. كلُّ القُراء الحقيقيين يعرفون ذلك. لكن الكتب لا تُعيدك فقط إلى الوقت الذي كُتبت فيه؛ بل يمكنها إعادتُك إلى نسخٍ مختلفة من نفسك. في المرة الأخيرة التي فتحتُ فيها هذا الكتاب بالتحديد كنتُ على الأرجح في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمري. أعتقدُ أنه كان في فصل الصيف وظللتُ مستيقظًا حتى وقتٍ متأخِّر من الليل، في غرفة نومي الضيقة تحت ملاءةٍ فردية، كانت هناك على الأرجح بعوضةٌ تطِنُّ في أحد أركان الغرفة. كان والدي يُشغِّل أسطواناته في غرفة المعيشة بصوتٍ عالٍ للغاية، وهو أمرٌ يتوقَّف على مدى ثمالته. انتهت معظم الليالي على المنوالِ نفسه، حيث تُخفضُ والدتي صوت موسيقاه — التي كانت الجاز عادةً، على الرغم من أنه كان يستمع أحيانًا إلى أنواعٍ أخرى مثل فرانك زابا أو فرقة «ويذر ريبورت» الموسيقية — ووالدي يوبِّخُها لعدم فهمها إياه. لكن هذا ببساطة كان ضجيجًا في الخلفية. ذلك لأنني لم أكن حقًّا هناك في غرفة النوم تلك. لقد كنت في الواقع في فلوريدا عام ١٩٦٣، أتسكَّعُ مع مُطوِّري العقارات المشبوهين، والمطلَّقات المثيرات، وأحتسي خمر البوربون. والآن ها أنا ذا مجددًا — في الأربعين من عمري تقريبًا — وعيناي تُطالعان سريعًا الكلمات نفسَها، أحمل الكتاب نفسَه الذي حملته قبل ثمانية وعشرين عامًا، الكتاب نفسه الذي حمله رجلُ أعمال أو ربَّة منزل قبل خمسين عامًا. ها أنا ذا أسافرُ عبْر الزمن.

أنهيتُ الكتابَ في نحو الرابعة صباحًا. كدتُ أنهضُ من الفراش لأحصُل على كتابٍ آخر من القائمة لكنني قررتُ أن أنال قسطًا من الراحة ونمتُ عِوَضًا عن ذلك. انقلبتُ لأنام على بطني، ورحتُ أفكِّر في الكتاب، فيما يمكن أن يكون عليه شعور المرء عندما يسبح في بحيرةٍ وإذا بشيءٍ يمسك به من الأسفل، ويسحبه ليلقى حتفه. ولمَّا بدأتُ أشعر بالنعاس، تبادر إلى ذهني وجهُ زوجتي، كما يحدث دائمًا. لكني لم أحلُم بها، ولم أحلُم ﺑ «المُغْرِق». حلمتُ بالركض، وبأناسٍ يُلاحقونني.

إنه الحُلم نفسه الذي طالما كان يُراودني كلَّ ليلة في حياتي.

•••

كان الثلجُ لا يزال يتساقط عندما غادرتُ شقتي في الصباح، لكنه كان ثلجًا خفيفًا منجرفًا، تطاير نصفُه بفِعل الريح التي كانت لا تزال تعصف. كان هناك نحوُ قدمَين بالفعل على الأرض. كانت الطرق قد أُزيلت عنها الثلوج، لكن لم يكن أحدٌ قد خرج بعد إزالة الثلوج عن الأرصفة، ومن ثمَّ سِرتُ في منتصف الشارع، وأنا حَذرٌ في النزول من التل الشديد الانحدار إلى شارع تشارلز. على الرغم من أن السماء كانت مُلبَّدة بالغيوم، كان النهار مشرقًا، ربما بسبب كل هذا الثلج البِكر النقي. حملتُ حقيبتي القديمةَ الأشبهَ بحقيبة ساعي البريد، ووضعتُ حزامها على كتفي.

وصلتُ إلى الفندق مبكرًا. كان فندق «ذا فلات أوف ذا هيل» قد بُنيَ حديثًا في الجزء الذي أقطُن فيه من بوسطن، وهو فندقٌ صغير داخل مستودَع جُدِّد قُبالة شارع تشارلز مباشرةً. كان به مطعمٌ فاخر وبار ظريف اعتدتُ ارتياده من آنٍ إلى آخرَ في ليالي الإثنين حين كان يقدِّم المَحارة الواحدة بدولار.

خاطبتُ الموظَّفة الوحيدة في مكتب الاستقبال، وهي امرأةٌ ذات عينَين حزينتَين، قائلًا: «لديَّ موعد مع أحدهم على الإفطار»، فقادتني خلف البار إلى منطقةٍ صغيرة لتناول الطعام بها نحو ثماني طاولات. لم يوجد أحدٌ ليُجلسني، ومن ثمَّ اتخذتُ لنفسي مقعدًا على طاولة في الركن قُرب نافذة كبيرة مُطلَّة على حائط من القِرميد. كنتُ الشخص الوحيد في المكان، وتساءلتُ عمَّا لو كان هناك مَن يعملون هنا بالفعل، أو إذا كان طاقم العمل برُمَّته لم يتمكَّن من المجيء بسبب العاصفة الثلجية. في اللحظة نفسِها، اندفعَ خلال زوج من الأبواب الدوَّارة رجلٌ يرتدي قميصًا أبيضَ مُجعَّدًا وبنطالًا أسود، بينما ظهرَت العميلة مالفي عند مدخل غرفة الطعام. شاهدتني وجاءت، بمجرد أن كان النادل يضعُ قوائمَ الطعام على الطاولة. طلبَ كلانا القهوة والعصير.

قلت: «إنَّ لمكتب التحقيقات الفيدرالي ميزانيةَ سفرٍ لائقة.»

بدت مرتبكة لحظة، ثم قالت: «أوه. لقد حجزتُ هذا المكان بنفسي؛ لأنه قريبٌ من متجرك. مَن يدري ربما سيردون إليَّ ما دفعتُ.»

سألت: «كيف كان نومك؟» كان لديها ظلالٌ أرجوانية داكنة أسفل عينَيها.

«لم أنَم كثيرًا، كنت أقرأ.»

«وأنا أيضًا. ما الكتاب الذي قرأتِه؟»

«لغز المنزل الأحمر. فكَّرتُ بأن أبدأ من البداية.»

قلت وأنا آخذُ رشفة من قهوتي، لسَعَت طرفَ لساني: «ما رأيُك؟»

«كانت جيدة. حاذقة، على ما أعتقد، ولم أَحزُر النهاية». لمسَت جانب فنجان قهوتها المصنوع من الخزف ثم انحنَت لأسفل، وهي تزمُّ شفتَيها، وارتشفت القليلَ من أعلى الفنجان. جعلتني تلك المناورةُ أفكِّر في طائرٍ ما.

قلت: «بصراحة، أعلمُ أنني أدرجتُه في قائمتي، لكنني لا أتذكَّر التفاصيلَ بالضبط. مضى وقتٌ طويل على قراءتي له.»

«إنَّه إلى حدٍّ كبير كما وصفته. إنَّه لغزُ منزلٍ ريفي مثير للسخرية نوعًا ما. لقد ظلِلتُ أفكِّرُ في لعبة «كلو»، اللُّعبة …»

«الكولونيل ماسترد في المكتبة.»

«بالضبط. لكنها كانت أفضلَ من ذلك.» وصفَت لي الحبكة الأساسية، وبدأتُ أتذكَّر. هناك رجل ثري يُدعى مارك أبليت يعيش في منزلٍ ريفي، من الطراز الإنجليزي الذي يبدو أنه مصمَّم خصوصًا لوقوع جريمة قتل فيه. يتلقَّى رسالةً من أخيه غيرِ الصالح المُغترب، يقول فيها إنَّه قادمٌ للزيارة من أستراليا. عندما يصل الأخ، يُطلب منه انتظار مارك أبليت في المكتب. ثم يُسمَع صوتُ إطلاق عيار ناري. قُتِلَ الشقيقُ القادم من أستراليا ومارك أبليت مفقود. يبدو جليًّا أن مارك قتل شقيقه وفرَّ هاربًا.

المحقِّقُ في القصة لديه في الواقع مجرد معرفة سطحية بأحد نُزلاء المنزل الريفي. اسمُه توني جيلينجهام، وبدأ هو وصديقه بيل يباشران التحقيق. يتضح أنَّ هناك نفَقًا سريًّا يمتد من المكتب أسفل المنزل وعلى طول الطريق المؤدي إلى ملعبٍ للجولف، ويوجد بالطبع العديدُ من المشتبَه فيهم.

قاطعتُها قائلًا: «لم يكن هناك أخٌ، أليس كذلك؟»

«صحيحٌ، بالفعل. ماتَ الأخ الحقيقي منذ سنواتٍ عديدة ولم يكن جزءًا من الأحداث الحاليَّة. هناك مَن أقنعَ مارك أبليت بانتحال شخصيته، ومن ثمَّ قُتل. لكنَّ هذا لم يكن الجانبَ الذي وجدتُه حاذقًا في الجريمة. أليس كذلك؟» كانت تتحدَّث بسرعة ولم أدرك أنها كانت تنتظر إجابةً مني إلا عندما توقَّفَت.

«أعتقدُ أنني أدرجتُها في القائمة؛ لأنَّ القاتل قدَّم بالأساس قاتلًا وجثةً في آنٍ واحد. كانا الشخص نفسَه، لكن القاتل وحدَه مَن كان يعلم ذلك.»

«هل يمكنني قراءة مقطعٍ سطَّرتُه الليلة الماضية؟»

قلت: «بالتأكيد»، ومن ثمَّ جذبت الكتاب الورقي الغلاف من حقيبتها وبدأت تُقلِّب الصفحات. استطعتُ أن أرى من مكاني أنها وضعَت خطًّا تحت عدة فقرات. فكَّرتُ في زوجتي، وكيف كانت دائمًا ما تقرأ وفي يدها قلم، استعدادًا للكتابة في أي كتاب كانت تقرؤه. شعرتُ فجأة بالسعادة؛ لأنني لم أعطِ العميلةَ مالفي النسخةَ الأولى الباهظة الثمن من «غريبان على متن قطار».

قالت وهي تبسُط الكتاب على الطاولة وتميل إلى الأمام كي تقرأ: «حسنًا. وجدتُه.» بدأت بقولها: «وصل المفتِّش إليه، أعتقدُ أنه يتحدَّث هنا عن المنزل، ليجدَ رجلًا ميتًا وآخرَ مفقودًا». «كان من المرجَّح للغاية، دون شك، أن يكون الرجل المفقود قد أطلقَ الرصاص على القتيل. ولكن لم يكن من المرجَّح للغاية، بل من شبه المُؤكَّد أن يبدأ المفتِّش بفكرة أنَّ هذا الحل المرجَّح للغاية هو الحل الحقيقي الوحيد؛ ومن ثمَّ سيكون أقلَّ استعدادًا للتفكير في أي حلٍّ آخرَ دون تحيُّز.» أنهت القراءة وأغلقت الكتاب. ثم تابعت: «جعلني هذا أُفكِّر. إذا كنت تنوي ارتكابَ جريمةٍ بناءً على هذا الكتاب، فكيف ستُنفِّذها؟»

لا بد أنني بدَوتُ حائرًا؛ لأنها أضافت: «هل ستُطلق النارَ على أحدهم في مكتب في منزل ريفي؟»

قلت: «كلَّا. أعتقدُ أنني سأقتل شخصَين، ثم أخفي إحدى الجثتَين، وأجعل الأمرَ يبدو كما لو أن القاتل فرَّ هاربًا.»

قالت: «بالضبط.»

كان النادل يحوم حولنا، ومن ثمَّ طلب كلانا الطعام. طلبت العميلةُ مالفي فلورنتين البيضَ (بيضًا بالسبانخ). لم أكن جائعًا، لكنني طلبتُ بيضتَين مسلوقتَين مع الخبز المحمَّص، وفواكه طازَجة بالإضافة إلى ذلك. وبعد أن طلبنا، قالت: «هذا ما جعلني أفكِّر في القواعد».

«ماذا تعنين بالقواعد؟»

قالت: «حسنًا»، ثم فكَّرت هُنيهة. «لو كنتُ أنا مَن تولَّيتُ إنجازَ هذه المهمة بنفسي … بهدف ارتكاب جرائم القتل الثمانية التي وصفتها في قائمتك، لكان من المفيد وضعُ بعض الإرشادات. بعض القواعد. هل تُقلِّد جرائم القتل بالضبط؟ أم الفكرة من وراء جرائم القتل؟ ما مدى التشابه المرتقَب بينها؟»

«إذن، تعتقدين أن القواعد تُملي على القاتل الالتزامَ قدْر الإمكان بجرائم القتل الفعلية في الكتاب؟»

«كلَّا، ليست تفاصيل جرائم القتل، بل الفلسفة التي وراءها. يبدو الأمر كما لو أن القاتل يختبر هذه الكتبَ على أرض الواقع. إذا كانت الفكرة ببساطةٍ هي مُحاكاةَ الكتب، ففي وُسعك إذن إطلاقُ النار على شخصٍ ما في مكتبة منزل ريفي وينتهي الموضوع. أو، فيما يخصُّ «جرائم الأبجدية»، في وُسعك محاكاتها بالضبط. كما تعلم، سيكون كلُّ ما عليك هو البحث عن امرأةٍ تُدعى آبي آدمز وتعيش في بلدة أكتون وقتلها أولًا، إلى آخِر ذلك. لكن، ليس هذا هو المقصود، بل المقصود هو تنفيذ الجريمة على النحو الصحيح. توجد قواعد.»

«ومن ثمَّ، يتعلق الأمر كلُّه في «لغز المنزل الأحمر» بتوجيه الشرطة نحو مشتبَهٍ به لن يجدوه أبدًا، ولن يستجوِبوه أبدًا.»

قالت العميلة مالفي: «نعم، بالضبط. إنه في الواقع تفكيرٌ حاذق. كنت أُمعِنُ النظر في الأمر برُمَّته البارحة. لنفترض أنني أردتُ قتْلَ شخصٍ ما … صديقي السابق، على سبيل المثال.»

قلت: «حسنًا.»

«إذا قتلتُه فحسب، فسأكون عندئذٍ مشتبهًا به. ولكن لنفترض أنني قتلت شخصَين — مثل صديقي السابق، وصديقته الجديدة، على سبيل المثال — وتأكَّدتُ من عدم العثور على جثةِ صديقته الجديدة. يمكنني بهذه الطريقة أن أجعل الأمرَ يبدو كأنَّ القاتل قد هرب. لن تبحث الشرطة عن هُوية القاتل؛ فسوف يعتقدون أنهم يعرفونه بالفعل.»

قلت: «لن يكون الأمر سهلًا، كما تعلمين.»

قالت: «ها، لم أكن أفكِّر في ذلك حقًّا.»

«لأنَّ القاتل سيتعيَّن عليه أن يقتل شخصَين.»

«صحيح.»

«وإخفاء جثَّة ليس بالأمر السهل.»

قالت: «أنت لا تتحدَّث عن خبرة، أليس كذلك؟»

«لقد قرأتُ الكثيرَ من الروايات البوليسية.»

«أعتقدُ أنني بحاجةٍ إلى البحث عن جريمةٍ اختفى فيها المشتبَه به الرئيسي.»

«هل هذا شائع؟»

«في الواقع، ليس كذلك. فالاختفاءُ هذه الأيام ليس سهلًا. معظم الناس يتركون آثارًا واضحةً للغاية. لكنه يحدُث أحيانًا.»

قلتُ: «أعتقدُ أنك على وشْك اكتشافِ شيءٍ ما. ربما يتعلق الأمر بالبحث عن ضحيتَين تستحقَّان القتل — ربما مجرمَين — أحدهما ماتَ والآخر اختفَى. أي، إذا كانت نظريتُكِ صحيحة … فماذا عسانا أن نُسمي المشتبهَ به؟ ينبغي أن يكون لدينا اسم.»

قالت: «لمَ لا ندعوه …؟» ثم توقَّفت هُنيهة.

«شيءٌ له علاقة بالطيور.»

قالت: «كلَّا، سيكون هذا مُحيِّرًا. دعنا ندعوه تشارلي.»

«ولماذا تشارلي؟»

«لقد خطرَ ببالي فحسب. كلَّا، هذا ليس صحيحًا. كنتُ أحاولُ التفكيرَ في اسمٍ مُحاكٍ (أي كوبي كات)، وذكَّرني ذلك بقِطِّي الأول، عندما كنتُ صغيرة، وكان اسمُه تشارلي.»

«تشارلي المسكين. هل يستحق أن يُستخدَم اسمه بهذه الطريقة؟»

«في الواقع، يستحق. لقد كان سفَّاحًا. كان يجلب لنا فأرًا أو طائرًا كلَّ يوم.»

قلت لها: «رائع.»

«ليكن تشارلي إذن.»

«إذن ماذا كنت أقول؟ صحيح، علينا أن نبحث عن أزواج من الضحايا تستحقُّ القتل. فتشارلي لا يروق له قتلُ الأبرياء.»

قالت وهي تبتعد قليلًا عن الطاولة لكي تسمح بوضع الطعام أمامها: «لسنا متأكِّدَين من ذلك في الحقيقة، لكنه احتمالٌ وارد». قالت للنادل: «شكرًا لك»، ثم تناولت شوكة. «هل تُمانع إذا أكلت ونحن نتحدَّث؟ لقد فاتني عشاءُ البارحة وأنا أتضوَّر جوعًا.»

قلتُ: «كلَّا، لا بأس.» وصلَ البيض المسلوق الخاص بي، وكان منظر حافات بياض البيض الشفافة بعضَ الشيء، قد جعل مَعِدتي تضطرب. وغرَزتُ طرَفَ شوكتي في مكعبٍ من الكانتالوب.

قالت العميلة مالفي عندما انتهت من مضغِ قضمةِ إفطارها الأولى: «وربما أكون مخطئة.» ثم اتسعَت عيناها قليلًا وهي تقول: «قد يكون لهذا علاقة بك، بالطبع. شخصٌ ما يحاول لفْت انتباهك، ربما يحاول أحدُهم توريطَك.» مطَطتُ شفتي السفلى، كما لو كنت أفكِّر في هذا الاحتمال.

قلتُ أخيرًا: «وإذا كان الأمر كذلك، فمن المنطقي الحرصُ على أن تستند جرائم القتل بوضوحٍ إلى الكتب المدْرَجة في القائمة.»

قالت: «صحيح، لهذا السبب أريدُ أن ألقيَ نظرةً فاحصة على ما حدَث لإيلين جونسون، ضحيةَ النوبة القلبية …»

قلتُ: «التي ربما تكون أو لا تكون قد قُتِلَت على يد تشارلي.»

«ولكن إن كانت قد قُتلت، فإنه يتعيَّن عليَّ الذَّهابُ إلى مسرح الجريمة. فقد يكون هناك شيءٌ يربِطها ﺑرواية «المُغْرِق».»

قلت: «لديَّ اعترافٌ»، وشاهدتُ وجْنتَي العميلة مالفي تتحوَّلان إلى الحُمرة في ترقُّب. «في الواقع لم أشاهد المسرحيةَ من قبل، أو حتى قرأتُها. لكنني شاهدتُ الفيلم وأنا متأكِّد من أنه مطابقٌ للغاية. على أي حال، أنا محرَج منكِ.»

قالت: «ينبغي أن تكون كذلك.» ولكنها ضحكت. ولم يَعُد وجهُها أحمر.

قلت: «في الفيلم، كلُّ ما يمكنني التحدُّث فعلًا بشأنه أن الضحيةَ تموت على إثر نوبة قلبية عندما ترى رجلًا تعتقد أنه ميتٌ يلوح في غرفة نومها ويقتل زوجها. هل عُثر على إلين جونسون ميتة في غرفة نومها؟»

قالت: «عليَّ أن أتحقَّق، لا أستطيع أن أتذكَّر ارتجالًا. أتدري، عندما قلت إنَّ لديك اعترافًا، اعتقدتُ أنك ستقول شيئًا آخر.»

قلتُ، فيما كنت آمُلُ أن يكون أسلوبي ساخرًا: «اعتقدتُ أنني سأعترفُ بأنني تشارلي.»

قالت: «لا. اعتقدتُ أنك ستعترف لي بأنك كنت تعرف إلين جونسون.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤