الفصل الثامن

في تلك الليلة طهوتُ لنفسي قطعةَ لحم الخنزير التي كانت في الثلاجة، على الرغم من أنني كنتُ لا أزال أرتجف، ولقد أفرطتُ في طهيها. التفَّت جوانبها، وأصبحت قاسيةً كلحمٍ مقدَّد.

منذ وقتٍ متأخِّر بعد الظهيرة، وحتى موعد الإغلاق في السابعة. لم أستطِع التوقُّف عن التفكير في التعليق الثالث على منشور المدوَّنة «ثماني جرائم كاملة». لا بد أنني قرأتُه ثلاثين مرةً حتى الآن، مُحلِّلًا كلَّ كلمة. كان الاسم الذي استخدمه مَن كَتَبَ المنشور — «دكتور شيبارد» — قد أثار انزعاجي حتى إنني بحثتُ عنه في «جوجل» في نهاية المطاف. لقد كان اسم الراوي في رواية أجاثا كريستي الشهيرة «مقتل روجر أكرويد». كانت هذه هي الرواية التي وضعت كريستي على الخريطة، إذا جاز التعبير. كُتِب عام ١٩٢٦، وهو مشهورٌ بحبكةٍ متطورة في منتهى البراعة. يُسرَد الكتابُ بصيغةِ المتكلم، من وجهة نظر شيبارد، وهو طبيبُ قرية ريفية، وجارٌ لهيركيول بوارو. صراحةً، لا أذكر شيئًا عن الجريمة نفسِها، باستثناء اسم الضحية، فيما يبدو واضحًا. أذكر أنه يتبيَّن في نهاية الرواية أن الراويَ هو القاتل الفعلي.

عندما وصلتُ إلى المنزل، ذهبتُ على الفور إلى رفِّ الكتب الخاص بي ووجدتُ نسختي من رواية كريستي. كانت لديَّ طبعة بنجوين الورقية، وهي طبعةٌ من الخمسينيَّات، ذات غلاف أخضرَ بسيط ودون صورة. رُحتُ أتصفَّحها لأرى ما إذا كان ذلك سيُنعش ذاكرتي بطريقةٍ ما فيما يتعلَّق بالحبكة الفعلية، لكنه لم يفعل، وقرَّرتُ أنني سأقرؤها في تلك الليلة.

هل كان من الممكن أن يكون مَن نشرَ التعليقَ مجردَ قارئ حقًّا، يستغل قائمتي؟ اعتقدتُ أنه كان احتمالًا واردًا، احتمالًا ضئيلًا للغاية، باستثناء حقيقةِ الكتب المذكورة على أنه أتمَّ قراءتها. كانت تلك الكتب التي ارتُكبت عن طريقها جريمةٌ بالفعل. «جرائم الأبجدية»، و«تعويض مزدوج»، و«مصيدة الموت»، و«غريبان على متن قطار» أيضًا، على الرغم من أن جوين مالفي لا تعرف كلَّ شيء عن تلك بعد. كنت أنا مَن أعرفُ بشأنها. ومعي شخصٌ آخرُ كذلك.

إن كانت هذه الكلمات قد قُرئت بأي حال، فأنا متأكِّد من أن القارئ ربما خمَّن أن لي علاقةً بهذه الجرائم أكثرَ مما أفصحت عنه بالفعل. وثمة أدلةٌ تؤيِّد ذلك. فعلى سبيل المثال، لماذا تسارع خفَقانُ قلبي عندما بدأت جوين مالفي في استجوابي لأول مرة؟

لماذا لم أخبِرها على الفور بأنني أعرف مَن هي إلين جونسون؟

لماذا تناولتُ قضمتَين فقط من شطيرتي في الليلة التي أعقبَت زيارةَ العميلة الفيدرالية لي؟

لماذا أحلُم بأنَّ هناك مَن يطاردني؟

لماذا لم أخبِر جوين على الفور بتعليق الدكتور شيبارد؟

وأما القارئ الداهية حقًّا، فربما لاحظ أن اختصار اسمي هو «مال» … الذي يعني، بالفرنسية طبعًا، «سيئًا». ومع ذلك، فالأمور تُؤخَذ أبعدَ من اللازم؛ لأن هذا هو اسمي حقًّا. لقد غيَّرتُ بعضَ الأسماء لأجل هذه النُّبذة الوصفية، ولكن ليس اسمي.

•••

حانَ الوقتُ لقول الحقيقة.

حانَ الوقتُ للحديث عن كلير.

كان هذا هو اسمَها الحقيقي أيضًا. كلير مالوري، التي نشأت في بلدة ثرية في مقاطعة فيرفيلد بكونيتيكت، وهي واحدة من ثلاث شقيقات. لم يكن والداها خيِّرَين للغاية، لكنهما لم يكونا شرِّرَين للدرجة التي تجعلهما جزءًا من هذه القصة في واقع الأمر. كانا ميسورَي الحال وسطحيَّين؛ كانت والدتُها، على وجه التحديد، مهووسةً بجاذبية بناتها الثلاث ووزنهن، ولأنها كانت مهووسة بذلك، فإن والدها — الذي لا ينفرد بأي شخصية مستقلة — يتفقُ معها. ولقد أرسلا أطفالهما إلى المعسكرات الصيفية في ولاية مين وإلى المدارس الخاصة الفاخرة، واختارت كلير، كُبراهنَّ سنًّا، الذهابَ إلى جامعة بوسطن؛ لأنها أرادت أن تكون في مدينة، وقد بدَت كلٌّ من مدينة نيويورك وهارتفورد قريبةً للغاية من مكان نشأتها.

في جامعة بوسطن، تخصَّصَت في السينما والتلفزيون، كانت ترغب في أن تصبح مخرجةَ أفلام وثائقية. كان عامُها الأول على ما يُرام، لكن في عامها الثاني وبدافع من صديقها المتخصِّص في فنون المسرح، انخرطَت بشدةٍ في المخدرات، خصوصًا الكوكايين. ومع تفاقم حالتها، بدأت تُعاني نوبات هلع، مما جعلها تُفرط في الشراب. توقَّفت عن دراستها، ووُضعت تحت المراقبة الأكاديمية، تعافت مدةً وجيزة ثم رسَبَت في عامها الأول. وقد حاول والداها جاهدَين إعادتها إلى المنزل، لكنها بقيت في بوسطن بدلًا من ذلك، واستأجرَت شقةً في ألستون وحصلَت على وظيفة في متجر «ريدلاين» للكتب، حيث كنتُ قد رُقِّيتُ وقتَها إلى منصب مدير.

لقد كان حُبًّا من النظرةِ الأولى حقًّا. على الأقل بالنسبة إليَّ. عندما جاءت لإجراء مقابلة، كان من الواضح أنها متوترة وكانت يداها ترتجفان قليلًا، وظلَّت تتثاءب، الأمر الذي بدا غريبًا، لكنني أدركتُ أنه كان علامةً على فرط قلقها وشدة توتُّرها. جلست على كرسي دوَّار في مكتب مورت، ووضعَت يدَيها على فخذَيها. كانت ترتدي تنورة قصيرة وجواربَ طويلة ضيقة داكنة، بالإضافة إلى سترة ذات ياقة عالية. كانت نحيفة على نحوٍ ملحوظ، ولها عنقٌ طويل. بدا رأسُها كبيرًا جدًّا بالنسبة إلى جسدها، ووجهُها مستديرًا على نحوٍ مثالي تقريبًا. كانت ذات عينين بُنيتين داكنتين، وأنفٍ رفيع، وشفاهٍ تبدو غليظةً ومثيرة. وكان شعرها داكنًا جدًّا، ومقصوصًا بطريقةٍ تشبه قصةَ البوب. بدت لي كأنها صيحةٌ قديمة، شيء قد يعتمره محقِّق هاوٍ مقدام في فيلم من ثلاثينيات القرن العشرين. كانت جميلة جدًّا لدرجةِ أن خفقانًا ثقيلًا قد احتلَّ صدري.

سألتُها عن خبراتها العملية. كانت خبرتها قليلةً للغاية، لكن خلال الصيف الماضي كانت تعمل في سلسلةِ متاجر «وولدنبوكس» للكتب في مركزها التجاري المحلي بولاية كونيتيكت.

سألتُها: «مَن هم كُتَّابك المُفضَّلون؟» وبدَت متفاجئةً من السؤال.

قالت: «جانيت فريم. فرجينيا وولف. جانيت وينترسون». ثم فكَّرت هُنيهة. «أقرأُ الشعر أيضًا. إدريان ريتش. روبرت لويل. آن سيكستون.»

سألتُها على استحياءٍ: «سيلفيا بلاث؟» بدا الأمر أحمقَ؛ إذ أشير إلى أشهر شاعرات الشعر الاعترافي، كما لو كنت أذكِّرُها بطريقةٍ ما بالاسم.

قالت: «بالتأكيد»، ثم سألتني عن كُتَّابي المُفضَّلين.

أخبرتُها. ظلِلنا نتحدَّث على هذا المنوال، بشأن الكُتَّاب على مدى ساعة كاملة، وأدركتُ أنني لم أطرح عليها إلا سؤالًا واحدًا فقط حول الوظيفة الفعلية.

قلتُ: «ما الساعات التي ستكونين متاحة فيها؟»

لمست وجنتَها وراحت تفكِّر، ثم قالت: «أوه». لاحظتُ ذلك على الفور، غيرَ مدركٍ في تلك اللحظة كم مرةً سوف أرى هذه الإيماءةَ منها، وكيف سأراها في النهاية ليس فقط كشيءٍ محبَّب وفريد، ولكن كشيءٍ ينِمُّ عن القلق. قالت ضاحكةً: «لا أدري لماذا أفكِّر في الأمر. أيُّ ساعاتٍ.»

مرَّت ستةُ أسابيع قبل أن أستجمِع شجاعتي لأطلب منها الخروج معي.

حتى في ذلك الوقت، كنت أصوغُها في إطار لقاء عمل. كانت روث ريندل تنظِّم حدثًا في مكتبة بوسطن العامة، وسألتُ كلير عما إذا كانت تريد مرافقتي. أجابت بنعم، ثم أضافت: «لم أقرأ كُتُبها، ولكن إذا كانت تحوز إعجابك، فلا بد أن أقرأها»، وهي جملةٌ حلَّلتُها في الأيام التي أعقبت ذاك اللقاء كما قد يحلِّل طالبُ دراسات عليا قصيدةً لشكسبير. قلتُ، وبدا صوتي في رأسي هادئًا نسبيًّا: «ربما يمكننا تناولُ مشروب بعد ذلك؟»

قالت: «بالتأكيد.»

كان ذلك في ليلةٍ من ليالي نوفمبر، وكان الليل قد بدأ يُسدِل أستاره في الوقت الذي كنا نعبُر فيه ميدان كوبلي بشكل قُطري للوصول إلى المكتبة، وكانت الحديقة قد تناثرَت فيها أوراقُ الشجر الهشَّة. جلسنا باتجاه الجزء الخلفي من القاعة الصغيرة. وكان مَن يُحاور روث ريندل مذيعًا في الإذاعة المحلية، وكان مهتمًّا بنفسه إلى حدٍّ بعيد. ومع ذلك، كان حديثًا شائقًا، وبعدها سرتُ أنا وكلير إلى «ذا بورهاوس» لتناول مشروب، حيث جلسنا إلى طاولةٍ في الزاوية حتى وقت إغلاق المكان.

تحدَّثنا عن الكتب، بالطبع، وعن الموظفين الآخرين في متجر الكتب. لا شيءَ شخصي. لكن عندما كنا واقفين أمام مبنى شقَّتها في ألستون في الثانية صباحًا، حيث أصابت الرياحُ كلًّا منها برجفة، قالت حتى قبل أن يُقبِّل أحدُنا الآخر: «أنا فكرة سيئة.»

ضحكتُ: «ماذا تعنين؟»

«أعني، أيًّا كانت الأفكار التي تُراودك عني، فهي أفكار سيئة. فأنا لديَّ مشكلات.»

قلتُ: «لا يُهمُّني.»

قالت: «حسنًا»، وتبِعتُها إلى الداخل.

كان لديَّ صديقتان في الكلية؛ إحداهما كانت طالبة تبادُل ألمانية تدرُس مدة عام في أمهيرست، والأخرى طالبة بالسنة الأولى عندما كنتُ أنا بالسنة الأخيرة، وهي فتاة من هولتن بولاية مين، انضمَّت إلى المجلة الأدبية التي كنت أحرِّرُها آنذاك. كانت مشاعري تجاههما واحدة تقريبًا. ما جذبني إليهما هو حقيقةُ أنهما انجذبتا إليَّ. كانتا متحدثتَين حادَّتَي المِزاج، وبما أنني كنت أميلُ إلى الجانب الهادئ، فقد نجح الأمر. عندما عادت بترا إلى ألمانيا، أخبرتُها أنني سأزورها في أقربِ وقتٍ ممكن. وكان ردُّها، بأنها لم تتوقَّع قط أن تستمر علاقتنا إلى ما بعدِ مدةِ وجودها في أمريكا، وهو ما كان أمرًا محيِّرًا ومريحًا إلى حدٍّ ما؛ إذ بدا لي أنها كانت تحبُّني. بعد مرور عامَين، عندما تخرَّجتُ، أخبرتُ روث بورتر — صديقتي بالسنة الأولى — أنه بما أنني سأنتقل الآن إلى بوسطن، وهي ستبقى في أمهيرست، فينبغي لنا أن نُنهيَ العلاقة. كنت أتوقَّعُ عدمَ اهتمام مُفرح من جانبها، لكنها بدَت كما لو أنني أطلقتُ النار عليها. وبعد سلسلة من المحادثات المُؤلِمة، تمكَّنتُ أخيرًا من الانفصال عنها مُدركًا أنني قد كسرتُ قلبها أيضًا. قررتُ حينئذٍ أنني لا أجيدُ قراءة النساء، أو ربما الناس بوجهٍ عام.

ومن ثمَّ، عندما دخلتُ شقةَ كلير مالوري، وراح كلٌّ منا يقبِّل الآخر وقبل حتى أن نخلعَ عنا ستراتنا، قلتُ لها: «لمعلوماتكِ فقط، أعتقدُ أنني فظيعٌ في التلميحات غير اللفظية. أريدكِ أن تخبريني بكلِّ شيءٍ.»

ضحكت قائلة: «هل أنت متأكِّد؟»

قلتُ لها: «أجل، رجاءً»، كان هذا كلُّ ما يمكنني فِعله حتى لا أخبرها أنني أحبُّها بالفعل.

«حسنًا. سأخبرك بكل شيءٍ.»

بدأت هي تلك الليلة. وفي الفراش، بينما كان ضوءُ الفجر يملأ نافذتَي غرفة نومها المغبرَّة، أخبرتني كيف تحرَّش بها مدرسُ العلوم في المدرسة الإعدادية على مدار عامَين.

قلتُ: «ألم تُخبري أحدًا؟»

قالت: «كلَّا. إنه أمرٌ مبتذَل، لكنني شعرتُ بالخجل. اعتقدتُ أنه كان خطئي، ولم أنفكَّ أخبر نفسي أنه على الأقل لم يكن يمارس الجنس معي. لم نتبادل حتى القُبل مطلقًا. في الواقع، كان لطيفًا معي بطريقةٍ ما، هو وزوجته. لكن عندما كان ينفرد بي، كان دائمًا ما يتمكَّن من الوقوف خلفي بطريقةٍ ما، ويجذبني من أجل معانقتي واضعًا إحدى يديه في قميصي والأخرى أسفل بنطالي الجينز. أعتقدُ أنه اعتادَ أن يصل إلى النشوة بهذه الطريقة. لكنه لم يخلع ملابسي أو ملابسه قط، ودائمًا ما كان يعتريه الخجلُ بعضَ الشيء، ويقول شيئًا من قبيل «كان ذلك لطيفًا»، ثم يُغيِّر الموضوع.»

قلتُ: «يا إلهي!»

قالت: «لم يكن أمرًا جللًا، لقد حدثَت لي أمورٌ سيئة أخرى وكان هذا أحدَها فحسب. أعتقدُ أحيانًا أنَّ أمي كانت مصدرَ إيذاءٍ نفسي لي أكثرَ من ذلك المتحرِّش.»

كان لدى كلير وشمٌ على باطن ذراعَيها، وعلى طول جانبَي قفصها الصدري. مجرد خطوطٍ مستقيمة، داكنة ورقيقة. سألتُها عنها، فأخبرتني أنها شعرت بحبٍّ لرسمِ الوشم، ولكنها لم تستطِع قط اختيارَ صورة قد ترغب في أن تبقى على جسدها إلى الأبد. ومن ثمَّ، حصلت على خطوط فحسب، واحدًا تلو الآخر. اعتقدتُ أنها كانت جميلة، مثلما كان جسدها النحيف على نحوٍ غير صحي جميلًا أيضًا في نظري. أظنُّ أن علاقتنا نجحت مدةً من الوقت؛ لأنني لم أُسئ الظن بها قط، ولم أشكِّك مطلقًا فيما قالته لي. كنت أعلم أنَّ لديها مشكلات، وأنها تحتسي الشرابَ كثيرًا (وإن كانت لم تتعاطَ المخدِّرات منذ قُرابة العام)، وأنها تأكل القليل جدًّا، وكنت في بعض الأحيان، عندما نمارس الجنس، أشعرُ بأنها تريدني أن أعاملها كأداةٍ لإشباع رغبتي الجنسية، كما لو أنه لم يكن يكفيها دائمًا أن نمارس الجنس الطبيعي النابع من الحُبِّ، وأنها تريد المزيد. عندما كانت تثمَل، كانت تدير ظهرها لي، وتسحَب يدي إلى مقدِّمتها، وتضغط نفسَها في مقابلتي، وكان من المستحيل ألا أفكِّر في مُدرِّسها في المدرسة الإعدادية، وأتساءل عمَّا إذا كانت تفكِّر به كذلك.

لكنْ كلُّ هذه الظُّلمة، إنْ جاز حتى أن نُسمِّيها كذلك، لم تكن إلا مجردَ جزءٍ مما كان لدينا في السنوات الثلاث الأولى التي كنا فيها معًا. فمعظم ما كان لدينا كان تقارُبًا مُذهلًا، السعادة التي تأتي مع العثور على شخصٍ يبدو أنه يُلائمُك مثل مفتاحٍ في قُفل. هذا أفضلُ تعبير مجازي يمكنني التوصُّل إليه. أعلمُ أنه مُبتذل، لكنه صحيحٌ أيضًا. وكانت تلك هي المرةَ الوحيدة التي حدَث معي فيها هذا النوعُ من التآلف، حينذاك أو منذ ذلك الحين.

تزوَّجنا في لاس فيجاس، وكان الشاهد على زواجنا موزِّعَ ورق (بلاك جاك) كنا قد التقينا به قبل خمس دقائق. كان السببُ الرئيسي وراء هروبنا هو أنَّ كلير لم تستطِع تقبُّل احتماليةِ أن تتولَّى والدتُها مسئولية حفل زفافها. وكنت لا أرى بأسًا في ذلك. فلقد تُوفِّيَت والدتي قبل ثلاثة أعوام بسرطان الرئة. هي لم تدخِّن يومًا في حياتها قط، لكن والدي، المُدخِّن الشَّرِه كان بالطبع لا يزال على قيد الحياة، إنه يعيش الآن في فورت مايرز بفلوريدا، وما زال على حدِّ علمي مدمنًا للكحول ويشرب ثلاث عُلب من سجائر «ونستون مان» في اليوم. بعد أن تزوَّجنا أنا وكلير، انتقلنا إلى سومرفيل معًا، واستأجَرنا الطابق الأوسط في مبنًى من ثلاثة طوابق بالقرب من ميدان يونيون. وبحلول هذه المرحلة، كانت كلير قد غادرت متجر «ريدلاين» للكتب، وحصلت على وظيفةٍ إدارية في محطة سومرفيل التلفزيونية، حيث بدأت في صناعة أفلام وثائقية قصيرة. وبعد عام من إغلاق «ريدلاين» أبوابه، حصلتُ على الوظيفة في «أُولد ديفيلز». كنتُ في التاسعة والعشرين من عمري، وشعرتُ كما لو أنني وجدتُ وظيفةَ العُمر كلِّه.

لم يكنِ الأمر سهلًا بالنسبة إلى كلير. فقد استاءت من وظيفتها في المحطة التلفزيونية، لكنها لم تكن حاصلةً على شهادة جامعية، وما من وظيفةٍ تجذِب اهتمامها إلا وتشترط حصولَها على ذلك. فقررَت معاودةَ الدراسة بدوامٍ جزئي في كلية إيمرسون وإنهاء دراستها الجامعية؛ وعمِلت نادلةً في حانةٍ متواضعة في ميدان سنترال سكوير. اعتدتُ زيارتَها هناك، حيث كنت أجلسُ ساعاتٍ طويلةً في الحانة، أعاني صخبَ فِرَق البانك، وأحتسي شراب الشعير الأيرلندي الجاف، وأراقبُ زوجتي وهي تتلقَّى نظراتٍ غراميةً من قِبل الهيبز الذين يرتدون نظاراتٍ ذاتَ إطاراتٍ داكنة، وبناطيل الجينز الضيقة. استطعتُ أن أُنمِّي لديَّ القدرةَ على قراءة رواياتٍ كاملة، بينما أتجاهل هديرَ الهواةِ الصاخبين على خشبة المسرح. ومع أنني لم أكن أكبرَ سنًّا من روَّاد الحانة الآخرين، فقد شعرتُ بأنني أكبرُ سنًّا مع كتابي، وشيب شعري. لقد اعتاد السقاة الآخرون أن يشيروا إليَّ بأنني رجلُ كلير العجوز، وراحت كلير تناديني هي الأخرى بالعجوز. أظنُّ أن زوجتي ظلَّت فترةً من الوقت تحبُّ وجودي معها في الحانة. وكانت تنضمُّ إليَّ في نهاية مناوبتها لتناول الجِعَة، وبعدها نعود إلى المنزل معًا، متشابكَي الأيدي، عبْر شوارع كامبريدج وسومرفيل المزدحِمة المظلمة. لكنَّ شيئًا ما قد تغيَّر عام ٢٠٠٧. كانت جولي شقيقةُ كلير ستتزوَّج، وفجأةً عادت كلير لتنخرط مع عائلتها، فقد استُدعيَت لتكون بمنزلة حائلٍ بين أختها الصغرى ووالدتها. كانت قد فقدَت الوزن الذي اكتسبَته خلال السنوات القليلة الماضية، وأضافت عددًا من خطوط الوشم الجديدة في باطن فخذها اليسرى.

كما وقعَت في حُبِّ نادلٍ جديد يُدعى باتريك يتس!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤