الفصل الثاني

في الأحداث العسكرية لسنوات الهجرة الخمس الأولى

(١) في السنة الأولى

كان أجلَّ الأحداث: بناءُ الرسول بالسيدة عائشة، وكان تزوَّجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة. زيادة صلاة الحضر ركعتَيْن أخريين، فصارت أربعًا، وبقيت صلاة السفر ركعتين. إرسال أول سرية بقيادة عبيد بن الحارث في ستين راكبًا من المهاجرين، وليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماءً بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي جمعًا عظيمًا من قريش، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص رمى يومئذٍ بسهم؛ فهو أول سهم رُمي به في الإسلام، وكان على المشركين عكرمة بن أبي جهل، وانصرف القوم عن القوم. سرية حمزة بن عبد المطلب بعثها الرسول إلى سيف البحر في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، فلقُوا أبا جهل بذلك الساحل في ٣٠٠ راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهيني، وكان موادعًا للفريقين، فانصرف القوم عن بعضهم.

(٢) وفي السنة الثانية

غزا الرسول ودَّان؛ وهي أول غزوة قام بها، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وكان صاحب لوائه حمزة، وكان لواؤه أبيض، فأقام بها خمس عشرة ليلة، ووادع بني ضمرة على ألا يغزوهم ولا يغزونه ولا يُعِينون عليه، وكتب بذلك كتابًا.١ ثم غزا بواط في مائتين من الصحابة، يعترض عيرًا لقريش فيها أمية بن خلف، ثم رجع ولم يلقَ كيدًا، وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، ثم غزا غزوة العشيرة، قال البخاري: هي أول غزواته ، وقد علم بقدوم عير لقريش متوجِّهة إلى الشام، يُقال إن قريشًا جمعت جميع أموالها في تلك العير، فيقال إن فيها خمسين ألف دينار وألف بعير، وكان قائدها أبا سفيان، وكانت هذه الغزاة سبب غزوة بدر الكبرى، وقد استخلف النبي على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان عمه حمزة يحمل اللواء، وكان أبيض، فلما وصلوا إلى العشيرة وجدوا العير قد مضت، فرجع النبيُّ وأصحابه ووادع بني مدلج.

(٢-١) غزوة بدر الأولى، ويقال لها غزوة سفوان

وسببها أن النبي حين قدِم من العشيرة لم يُقِم بالمدينة إلا لياليَ حتى خرج غازيًا كرز بن جابر الفهري الذي أغار على سرح المدينة، فخرج إليه النبي يطلبه حتى بلغ وادي سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز، وقد استعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء عليٌّ.

(٢-٢) سرية عبد الله بن جحش

ولما رجع الرسول من طلب كرز إلى المدينة بعث عبد الله بن جحش ومعه ثمانية رهط من المهاجرين، ومعه كتابٍ أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ثم يمضي إلى ما أمره، ولا يستكره أحدًا من أصحابه، فلما سار وفتح الكتاب وقرأه قال: سمعًا وطاعة. ثم أخبر أصحابه بما أمره به الرسول من المسير إلى العير، فساروا جميعهم وأسرُوا مَن في العير وقَدِموا بهم إليه .

(٢-٣) غزوة بدر الكبرى

لما رجعت عير قريش التي كان الرسول خرج للقائها في العشيرة ولم يظفر بها، انتظر عودتها من الشام، فلما سمع بقفولها ندب المسلمين وقال: «هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلَّ الله أن ينفلكموها.» ثم خرج إلى بدر، فلما دنا أبو سفيان بالعير بلغه أن رسول الله قد استنفر أصحابه للعير، فبعث إلى أهل مكة يستنفرهم، فخرج منهم جمعٌ عظيم، وغيَّر أبو سفيان طريقه وتوجَّه إلى البحر، وسار بحذائه لئلا يمرَّ بموضع المسلمين، واستطاع أن يصل إلى مكة دون أن تُمسَّ تجارة قريش بسوء، والتقى جمعُ المسلمين بجمع قريش عند بدر، فنصر الله المسلمين وقُتِل من وجوه قريش سبعون رجلًا ومن المسلمين أربعة عشر. وقد كان لهذه الغزاة أثرٌ عميق في تاريخ الإسلام؛ فقد كانت الحرب الحقيقية الأولى بين النبي وخصومه، وكان انتصار النبي وتماسك المسلمين على الرغم من قلتهم وكثرة عدوهم دليلًا على تمسُّكهم بعقيدتهم وتفانيهم في الإخلاص لها. وكان لرجال بدر اسمٌ مخلَّد في تاريخ الإسلام، كما أن قريشًا لما عرفت قوة المسلمين آلت أن ترصد أموال هذه العير كلها لقتال المسلمين. واشتدت المعارك بين المسلمين والكفار منذ ذلك اليوم إلى أن كتب الله للإسلام النصر المؤزَّر، ولم تُنكَّس بعدها راية للإسلام، إذا ما استثنينا غزوة أحد كما سنرى.

(٢-٤) غزوة بني سليم

لم يلبث الرسول بعد عودِهِ من بدر إلا تسعَ ليالٍ حتى غزا بني سليم، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري — وقيل بل ابن أم مكتوم، وقيل بل جعله على الصلاة فقط لأنه كان أعمى — فلما بلغ مياه بني سليم أقام ثلاثة أيام ثم رجع.

(٢-٥) غزوة بني القينقاع

هم أشجع اليهود وأعزُّهم بأسًا، وكأنهم لما رأوا فوز المسلمين ببدر نبذوا العهد الذي عاهدوا المسلمين عليه — لأن النبي كان عاهدهم وبني قريظة وبني النضير على ألا يُظاهروا عليه — وحدث مرة أن جاءت امرأةُ بعض الأنصار إلى صائغ يهودي من بني القينقاع فتعدَّى عليها وأهانها، فصاحت، فقام إليه أنصاريٌّ فقتله، وشدَّ اليهود على الأنصاري فقتلوه. وبلغ ذلك الرسول فدعا إلى غزوهم، وسار إليهم، واستخلف على المدينة أبا لبابة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، ولما اشتد عليهم الحصار سألوا الرسول أن يخلِّيهم على أن يُجلوا من المدينة وله أموالهم وسلاحهم.

(٢-٦) غزوة السويق

لما أصاب قريشًا ما أصابها في بدر، نذر أبو سفيان ألا يَمسَّ رأسه ماءٌ من جنابة حتى يغزو محمدًا، إلى أن خرج في مائتي محارب من قريش، ونزل بمحلٍّ بينه وبين المدينة نحو بريد، ثم أتى بني النضير من يهود خيبر فعاهدهم، ثم عمد هو وقومه إلى نخل المدينة، فخرَّبوا بعضه وقتلوا بعض الأنصار وهربوا، فخرج الرسول في طلبهم، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر، فوجدهم قد غابوا وتركوا سويقهم وأزوادهم، فغنمها المسلمون ورجعوا.

(٣) وفي السنة الثالثة

غزا النبي بني غطفان عند ذي أمرَّ لما بلغه أن زعيمهم دُعثور بن الحارث جمع جموعه يريد الإغارة على المدينة. واستخلف النبي على المدينة عثمان بن عفان، وكان عدد المسلمين ٤٥٠ رجلًا، فلما سمع الغطفانيون بقدومهم تفرَّقوا في جبالهم بنجد، فلحق بهم الرسول، وتغلَّب عليهم، فأسلم زعيمهم دعثور وجماعته.

(٣-١) غزوة بحران

خرج النبي إلى بني سليم للمرة الثانية، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم حتى بلغ بني سليم ببحران، فتفرَّقت بنو سليم ورجع الرسول.

(٣-٢) سرية محمد بن مسلمة الأشهلي

بلغ الرسول أن كعب بن الأشرف الطائي وأمه من بني النضير أخذ يحرِّض الناس على حرب المسلمين، وينشد الأشعار في ذلك، ويأتي مكة فيبكي أصحاب القُليب ويذكر نساء المسلمين بشرٍّ، فقال النبي: «مَن يأتيني برأسه؟» فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله. ثم سار إلى كعب بالسرية التي بعثها الرسول معه، فلما قرب من داره بعث إليه أبا نائلة سلكان بن سلامة، فأتاه وقال له: ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئتك لحاجة، لقد كان قدوم هذا الرجل — يعني محمدًا — بلاءً، عادتْنَا العرب وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس، وأردتُ أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثِّق لك. فقال كعب: ترهنوني أبناءكم. فقال محمد: لقد أردتَ أن تفضحنا، إن معي أصحابًا لي على مثل رأيي، قد أردتُ أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك ونرهنك من الحلقة — السلاح — ما تشاء. ثم إن أبا نائلة أحضر أصحابه فقالوا لكعب: هلمَّ نتماشى إلى شِعب الفجور فنتحدث بقية ليلتنا. وبينما هم في الطريق حمل عليه محمد فقتله وأتى النبي برأسه.

(٣-٣) غزوة أحد

أرادت قريش أن تثأر لنفسها من غزوة بدر، فجمعت الرجال، وأعدَّت الأموال، وكان أبو سفيان يتولى ذلك، حتى اجتمع قريب من الثلاثة آلاف من قريش وكنانة وتهامة والأحابيش — وهم جند مرتزقون من بني الحارث والهوان والمصطلق استأجرتهم قريش لحماية تجارتها — فخرج لهم أبو سفيان واصطحب معه القيان والمزاهر والخمر، وتوجَّه تلقاء المدينة، فلما علم الرسول بخروجهم استشار الصحابة، فأشار عليه الشبان بلقائهم خارج المدينة، وأشار الكبار بالبقاء في المدينة لحصانتها، فقبل الرسول الرأي الأول وسار يجمِّع المسلمين. وبينما هم في الطريق رجع المنافق عبد الله بن أبي بن سلول بمن معه قائلًا: إن محمدًا قد عصانا واتَّبع الولدان. وكادت كلمة المسلمين أن تتفرَّق، وفي آيات سورة آل عمران (١١٨–١٢٢) بيان الوضع الذي كان عليه المسلمون مع المنافقين، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. ثم إن الرسول نزل شِعب جبل أحد وعسكر على سفحه المقابل للمدينة والمتجه إلى بطن الوادي، وجعل الرماة في أعلاه ليحموا مؤخرة الجيش، وأوصاهم ألا يتركوا أمكنتهم سواء أكانت الغلبة للمسلمين أو عليهم، ثم عرض الجيش، ولما التحم القتال أظهر كلٌّ من الجانبين قوة وحزمًا، واتبع المسلمون أوامر الرسول فكان النصر في جانبهم. ولما رأى الرماة من على الجبل فوز إخوانهم المسلمين أهملوا الوصية التي أوصاها الرسول وتركوا منازلهم، وانكفَئُوا يجمعون الغنائم والأسلاب، فانتهز خالد بن الوليد، وكان على خيل المسلمين، فرصة خلو الجبل من الرماة، وأن المسلمين من خلفهم، أعمل الرماح في ظهورهم فشتَّت شملهم وتفرَّق جمعهم وجُرح الرسول، وصاح ابن قميئة: ألا إن محمدًا قد قُتل. فانخذل المسلمون واستولى عليهم اليأس إلا نفرًا أحاطوا بالرسول يحمونه ويتلقَّون السهام عنه، على أن خبر قتْل الرسول وإن كان سببًا في بلبلة جمْع المسلمين، فإنه كان سببًا في نجاته من أيدي المشركين؛ فقد انخدع جمعهم بذلك الخبر الكاذب، وفطن الرسول لذلك، فنهى كعب بن مالك من أن يصيح أن الرسول لم يمت. وقُتل من جمع المسلمين ما يقارب السبعين شخصًا، مثَّلت نساء قريش بقتلى المسلمين؛ ومنهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فإنها بقرت بطن حمزة وأرادت أكل كبده. ورجع المسلمون إلى المدينة، وقد أفادوا من هذا الانكسار فوائد جليلة، كما أنهم عرفوا كثيرًا من المنافقين الذين كانوا يُضمرون الكفر ويتظاهرون بدين الله.

(٤) وفي السنة الرابعة

(٤-١) سرية الرجيع

قدِم على الرسول وفدٌ من بني عضل والقارة، وقالوا له: يا رسول الله، إن فينا إسلامًا وخيرًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقِّهوننا في الدين، ويُقرِئوننا القرآن. فبعث معهم ستةً من أصحابه، فلما أتوا الرجيع — وهو ماء لهذيل بين مكة والطائف — غدروا بهم وأخذوا أسيافهم وقتلوهم.

(٤-٢) سرية بئر معونة

قدِم على الرسول أبو براء عامر بن مالك، فعرض عليه الإسلام فلم يُسلِم، وقال له: لو بعثت رجلًا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام. فقال الرسول: «إني أخشى عليهم أهل نجد.» فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم فابعثهم فليدعوا الناس. فبعث الرسول المنذر بن عمرو في أربعين رجلًا فساروا حتى بئر معونة، وبعثوا أحدهم بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل فلم ينظر فيه وعدا على الرجل فقتله، ثم خرج بجماعة من قومه إلى المسلمين عند بئر معونة فقتلوهم عن آخرهم، وكان فيهم نفر من مشهوري القرَّاء والحُفَّاظ.

(٤-٣) غزوة بني النضير وإجلاؤهم عن المدينة

اشتد تآمر بني النضير على الرسول وأصحابه، فعزم على حربهم، فحاصروا بيوتهم وآطامهم، فأحاط بهم المسلمون وألقى الله في قلوبهم الرعب، فسألوا الرسول أن يجليهم ويكفَّ عن دمائهم على أن يأخذوا معهم ما تحمل الإبل من المال إلا الدروع، فأجابهم إلى ذلك، فخرج بعضهم إلى خيبر وبعضهم إلى الشام.

(٥) وفي السنة الخامسة

(٥-١) غزوة الأحزاب والخندق

لما أجلى الرسولُ اليهود عن المدينة ودخلوا خيبر، عزموا على الانتقام، فأخذوا يؤلِّبون العرب ويحزِّبون الأحزاب ضد النبي، ويبذلون في ذلك المال والنفوذ، وكانت قريش قد خرجت منتصرة من حرب أحد، فلما جاءها اليهود يدعونها لقتال النبي حبَّذت الفكرة، وبلغ ذلك محمدًا وأصحابه فخرج للقائهم، وأمر بحفر خندق حول المدينة فحصَّنها. وأقبلت قريش والأحزاب من أعراب كنانة وتهامة فنزلوا جانب أحد، وخرج الرسول في ثلاثة آلاف وجعلوا ظهرهم إلى جبل سلع، وجعل النساء والأطفال في الآطام والخندق بينهم وبين المشركين، وجاء حييُّ بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي يراوده في نقض ما بينه وبين الرسول من عهد، فنقض العهد، واشتد خوف المسلمين من نقض بني قريظة عهدهم وفشوا أمر المنافقين بينهم، وأقام الرسول والمشركون قريبًا من شهر لا يكون بينهم إلا المراماة بالنبل والحصار، فلما اشتد الأمر على المسلمين بعث الرسول إلى زعيمَي غطفان مسعر بن رخيلة وعيينة بن حصن يفاوضهما في قبول ثلث غلة المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فقَبِلا، وكُتب نص المحالفة خلوًا من أسماء الشهود؛ إذ لم يتم الصلح ولم يكن ذلك إلا للمراوضة. ثم إن الرسول تحدَّث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة سيدَي الأوس والخزرج، وذكر لهما ما وصل إليه مع غطفان، فلم يوافقاه على عقد المحالفة، وعاد الموقف بين المسلمين والمشركين إلى ما كان عليه من قبل، واشتد البلاء على الجانبين، وفتك بهم الجوع والبرد، فلجأ الرسول إلى الخدعة، وأمر نعيم بن مسعود يخذِّل عن المسلمين؛ فإن الحرب خدعة، فذهب مسعود إلى بني قريظة وحذَّرهم إن هُزمت قريش فنجت بنفسها تركتهم تحت رحمة محمد، ثم أشار عليهم ألا يطمئنوا إلى قريش إلا إذا أعطتهم رهائن من أشرافها. ثم ذهب إلى قريش وغطفان وأوهمهم أن بني قريظة قد ندموا على نقض العهد مع محمد، ثم طلبت قريظة الرهائن، فتأكد لقريش وغطفان قول نعيم، فتزعزع أمر المشركين، واضطرت قريش أن ترجع إلى مكة، ثم أحاط الرسول ببني قريظة فخارت قواهم وأيقنوا بالموت بما ارتكبوه من غدر وإجرام، فسألوا الرسول الصفح والعفو فأبى عليهم، وحاصرهم ٢٥ يومًا حتى نزلوا على حكمه، فحكم فيهم سعد بن معاذ، فأمر بقتل الرجال وسبي النساء وتقسيم الأموال، وكانوا قرابة ٧٠٠ يهودي.

(٥-٢) غزوة دومة الجندل

خرج الرسول فيها بألف رجل يريد جمعًا من الأعراب بلغه أنهم يظلمون الناس قرب دومة الجندل على بُعد خمس عشرة ليلة عن المدينة على طريق الشام، فلما دنت منهم جموع المسلمين هربوا، فتركوا ماشيتهم فاستاقها المسلمون ورجعوا سالمين.

(٥-٣) غزوة بني المصطلق

وتُسمَّى غزوة المريسيع. كان بنو المصطلق ينزلون قرب المريسيع، وهو ماء خزاعة، وكانوا قد ساعدوا قريشًا يوم أحد، فقدِم الرسول على حربهم وسار حتى وصل المريسيع، فترامى المسلمون والمشركون بالنبال، وحمل المسلمون على المشركين حملة شتَّتت شملهم، فهربوا وأُسِر عدد من الرجال والنساء، واستولوا على الماشية والمال، وكان في السبايا برَّة بنت الحارث سيد القوم، فتزوجها الرسول وسماها جويرية، وبسببها قال المسلمون: لا ينبغي إسراحها يا رسول الله. فأطلقوا الأسرى، وأسلم جميع بني المصطلق، وكان ذلك من حسن سياسة الرسول.

١  السيرة الحلبية، ٢: ٢٩٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤