الفصل الثالث

(١) في سَفْحِ الْبُرْجِ

عادَتْ زَوْجَةُ الْوَزِيرِ — قُبَيْلَ الْفَجْرِ — إلَى سَفْحِ الْبُرْجِ. وَما إِنْ سَمِعَ الْوَزِيرُ نِداءَها الْخافِتَ، وصَوْتَها الْحَنونَ، حَتَّى أَجابَ نِداءَها مِنْ قِمَّةِ الْبُرْجِ. ولَمْ يَسْتَطِعِ الْوَزِيرُ — لِضيقِ الْوَقْتِ — أَنْ يُفَصِّلَ لَها خُطَّتَهُ كامِلَةً، فاكْتَفَى بِتَلْقِينِها إيّاها مُجَزَّأَةً، حتَّى لا يُفاجِئَهُما ضَوْءُ الصَّباحِ.

(٢) أَنْفُ الْخُنْفَساءَةِ

وكانَ أَوَّلُ ما قالهُ لَها: «اُرْبُطِي الْخُنْفَساءَةَ بِطَرَفِ الْخَيْطِ الْحَرِيرِيِّ الدَّقيقِ، الْعَنْكُبوتِيِّ النسْجِ، ثُمَّ ادْهُنِي أَنْفَ الْخُنْفَساءَةِ بِالْعَسَلِ.»

فلمَّا أتَمَّتْ ذلِكَ، قالَ لها الْوَزِيرُ: «ضَعِي الْخُنْفَساءَةَ عَلى حائِطِ الْبُرْجِ، واجْعَلِي رَأْسَها إِلى أَعْلَى وسَتَشمُّ الخُنْفساءَةُ العَسَلَ — دُونَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لاصِقٌ بأَنْفِها — فَتَحْسَبُ أَنَّ في أَعْلَى الْحائِطِ خَلِيَّةَ نَحْلٍ، فتُواصِلُ صُعودَها طَمَعًا في الْوصُولِ إلَى مَوْطِن الْعَسلِ، ولا تزالُ جادَّةً في صُعودِها حتَّى تَبْلُغَ قِمَّةَ الْبُرْجِ.»

(٣) على حائِطِ الْبُرْجِ

فَفَعَلَتْ زَوْجَةُ الْوَزِيرِ ما أَمَرَها بِهِ. وتَحَقَّقَ ظَنُّ «سِيلا»، فَسارَتِ الخُنْفَساءَةُ صاعِدَةً عَلَى حائِطِ الْبُرْجِ، فَقالَ لَها: «أَرْجو أَنْ تَمُدِّي لَها الْخَيْطَ، وتَترَفَّقِي في ذلِكِ، حتَّى يَسْلَسَ (يَسْهُلَ ويَنْقادَ) لَها. فَإِنِّي أخْشَى أنْ يَثْقُلَ عَلَيْها حَملُهُ، فَيُعَوِّقَها (يَمْنَعَها) عنْ مُواصَلَةِ الصُّعُودِ. ولا تَنْسَيْ أنْ تُمسِكي الطَرَفَ الآخَرَ مِنَ الْخَيْطِ، حتَّى لا تَتَعَرَّضَ خُطَّتُنا لِلْإخْفاقِ (لِلخَيْبَةِ)، فَيَضِيع أمَلنا في الْخَلاص.»

(٤) فِي قِمَّة الْبُرْجِ

وما زالَتِ الْخُنْفَساءَةُ صاعِدَةً حتَّى بَلَغَتْ ذِرْوَةَ الْبُرْجِ. ولَمْ تَكَدْ تَصِلُ إلَيْها حتَّى لَمَعَ في السَّماءِ أوَّلُ شُعاعٍ مِنْ أشِعَّةِ الشَّمْس، وبَدَتْ تَباشِيرُ الصَّباحِ.

ولا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ الْوَزيرِ «سِيلا» بِوُصولِ الْخُنْفَساءَةِ إلَى قِمَّةِ الْبُرْجِ، وابْتِهاجِه بِذلِكَ النَّجاحِ. عَلى أَنَّهُ لَمْ يُضِعْ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ عَبَثًا. فالْتَقَطَ الْخُنْفَساءَةَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قال لِامْرَأَتِه: «أَسْرِعي الآن — يا صاحِبَتي — فارْبُطي طَرَفَ الْخَيْطِ الْقُطْنِيِّ بِالْخَيْطِ الْحَريرِيِّ.»

فلَمَّا رَبَطَتْهُ جَذبَ الْوَزيرُ الْخَيْطَ الْحَريرِيَّ — في رِفْقٍ — حتَّى أمْسَكَ بِطَرَفِ الْخَيْطِ الْقُطْنيِّ.

فَقالَ «سِيلا»: «الآن فارْبُطي الْخَيْطَ الْغَلِيظَ بِطَرَفِ الْخَيْطِ الْقُطْنِيِّ.»

فَلمَّا تَمَّ لَهُ ما أَرادَ، جذَبَ إلَيْهِ الْخَيْطَ الْقُطْنِيِّ، حَتَّى أمْسَك بِالْخَيْطِ الْغَليظِ.

وأَدْرَكَتْ زَوْجَتُه ما يَعْنِيهِ زَوْجُها، فَرَبَطَتِ الحَبْلَ فِي آخِر الْخَيْطِ الْغَلِيظِ، دُونَ أَنْ يُأْمُرَها بِذلك. فَجَذَبَهُ «سِيلا» بِسُرْعَةٍ، حَتَّى إذا أَمْسَكَ بطَرَفِ الْحَبْلِ الْمَتِينِ، تَهَلَّلَ وجْهُهُ بِشْرًا وحُبورًا بَعْدَ أَنْ ظَفِرَ بِوَسِيَلةِ النَّجاةِ، وأَصْبَحتْ فِي قَبْضَةِ يَدِهِ. عَلَى أَنَّ فَرَحَهُ لَمْ يُبَدِّلْ مِنْ هُدُوئِهِ وَثَباتِهِ، ورزَانَتِهِ وبَصَرِهِ بِالْعواقِبِ. فَرَبَط الْحَبْلَ بِقِمَّةِ الْبُرْجِ، ثُمَّ هَزَّ الْحَبْلَ بِقُوَّةٍ، لِيَتَعَرَّفَ مِقْدارَ صَلابَتهِ. وَرَمَى ثِقْلَهُ عَلَيْهِ — مَرَّةً أُخْرَى — حَتَّى إذا وَثِق بإحْكامِهِ ومَتانَةِ فَتْلِهِ، واسْتَوْثَقَ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى حَمْلِهِ دُونَ أَنْ يُفَكَّ رِباطُهُ، أَوْ تُحَلَّ عُقْدَتُهُ، أَمْسَك بالحَبْل — هابِطًا عَلَيْهِ — حَتَّى لَمَسَتْ قَدماهُ الْأَرْضَ، واسْتَردَّ حُرِّيَّتَهُ الْأُولَى.

واسْتَوْلَتِ الْبَهْجَةُ والدَّهْشَةُ على زَوْجَتِهِ، فامْتَزَجَتْ فِي صَوْتِها رَنَّاتُ الفَرَحِ بأنَّاتِ الْبُكاءِ، وأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ تُعانِقُه — وَهِيَ ضاحِكَةٌ باكِيَةٌ — مِنْ شِدَّةِ السُّرورِ. وأَسْرعَ الزَّوْجانِ إلى مَغارَةٍ قريبَةٍ في الْجَبَلِ، لِيَقْضِيا فيها نَهارَهُما، حَتَّى إذا أقْبَلَ الَّليْلُ، هَرَبا إلَى بَلَدٍ آخَرَ، حيْثُ يَسْتأنِفانِ حَياةً وادِعَةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤