قافية الباءِ

وقال إلى أحد أصحابهِ:

إذا أقبلتْ يهديك صبحُ الترائبِ
وإن أدبرتْ يغويك جنح الذوائبِ
رداحٌ لها طرفٌ كحيلٌ إذا رنا
رماك بنبل الغنج عن قوس حاجبِ
تريك نفار الظبيِ وهى أنيسةٌ
وتبدي دنوًّا وهي في خطوِ هاربِ
أدارت كئوسَ الحبِّ من حان حسنها
فملنا ولم يبقَ فتىً غيرَ شاربِ
رعى اللهُ ذيَّاك الجمال فديتهُ
فكم قد أرانا فتنةً في الكواكبِ
تبدَّت وقد أرخت غدائرَ فرعها
فشاهدتُ فجرًا شق سجفَ غياهبِ
يلاعبها ريعُ الصِّبا فتميسُ عن
غصونٍ وترنو عن ظباءٍ رباربِ
تغازلُني وهي الغزال بأعينٍ
لهنَّ بقلب الصبِّ وقعُ قواضبِ
غوازٍ نعاسٍ فاتكاتٍ فواترٍ
صِحَاحٍ مراضٍ ذابلاتٍ سوالبِ
طلبتُ اللقا منها فولَّت وليتني
طلبتُ النوى أحظى بضدِّ مطالبي
ولو يدرك الصبُّ المتيَّم كل ما
تمنَّى لما جاءَ الهوى بمصاعبِ
فحالُ الهوى قربٌ ببعدٍ منغِّصٌ
ووصلٌ محاطٌ بالعيون الرواقبِ
لقد جذبتني قوةُ الحسن للهوى
ولا يمكن المجذوبَ دفعُ الجواذبِ
يقولون: دع ذا الحبَّ فهو مصيبةٌ
فقلتُ لهم: إني قبولُ مصائبي
إذا ما خسرت العقلَ في الحب والقوى
ففي مدح شهم القومِ خيرُ المكاسبِ
هو الفاضلُ المفضالُ ذو الشرف الذي
علا ذروة المجد الرفيعِ الجوانبِ
همامٌ يرى ما آل يومًا لخيرهِ
سدًى، ولخير الغير أوجب واجبِ
أخو همةٍ حرَّاءَ تحسدُها الظُّبَى
إذا ما أجاشَ الدهرُ جيشَ نوائبِ
وذو الهمَّةِ القعساءِ للدهر محنةٌ
وللناس إحسانٌ ومنحةُ واهبِ
فهيمٌ، فريدُ العقلِ، عالي المناقبِ
كريمٌ، حميدُ الفعل، عالي المراتبِ
جميعُ أمور المشكلات مصيرُها
لديهِ؛ فمن آت إليهِ وذاهبِ
فما جاءَه خصمان إلا وأصبحا
شكورين منهُ، باتفاقٍ مناسبِ
لقد شاع ما بين الأنام بجودهِ
فقام لهُ الشكرانُ من كل خاطبِ
وَجُودُ الفتى يُبقي لهُ الذكرَ خالدًا
دليلُ جمال العقل حسن المناقبِ
يروحُ بعقلٍ ينطحُ الشهبَ ثاقبٍ
ويغدو بفكرٍ يخطفُ البرقَ صائبِ
لهُ عن طلابِ الفخر نفسٌ رغيبةٌ
ولكنَّ عنهُ الفخرَ ليس براغبِ
تلوحُ بروقُ البشر من وجههِ ومن
يديهِ يفيضُ البذل فيضَ سحائبِ
ومن خيمهِ أن يرغبَ الخيرَ للورى
ومن دأبهِ ألا يرى كبحَ طالبِ
تفرَّد في حسن التصرُّف شخصهُ
ففاق مقامًا فوق كل الأصاحبِ
فأين المباري فهو يُعقَبُ خجلةً
وأحمقُ من لم يفتكر بالعواقبِ
لكلِّ امرئٍ فعلٌ على قدْر عزمهِ
ومن أين للأوعال وخدُ النجائبِ؟
وهل لجبانٍ أن يكرَّ مغازيًا
كرور شجاعٍ في صفوف الكتائبِ؟
إذا لم يكن فعلُ الفتى سيمةً لهُ
فما هو إلَّا مثلُ ضحكة ناحبِ
ألا يا أولي الأفضال أنى بمدحكم
إذا قلتُ شعرًا أصبحَ الدهرُ صاحبي
مديحكمُ دَينٌ عليَّ وإنني
لأعجزُ عن إيفائهِ وهو واجبي
سقى اللهُ تسكابَ الحيا زمنًا بهِ
عهدتكمُ كم كان لي من أطائبِ
زمانًا على الشهباءِ والقطر كنتمُ
أجلَّ شهابٍ باثق النور ثاقبِ
ألا إنني هُنئتُ حولًا بشملكم
فشتَّتني دهرٌ كثيرُ الملاعبِ
لئن غبتمُ عني رعى الله أنسكم
فطيفكمُ عن أعيني غيرُ غائبِ

وقال إلى أحد أصحابهِ:

نفيرُ الشوق

أخذت بنا نفحاتُ هندَ مع الصَّبا
حين انجلت كالشمس لكن فِي خبا
غيداءُ ما لاحت بأنوار البها
إلا وقلبي بالغرام لها صبا
وربيبةٌ أبدى الجمالُ بوجهها
زهرَ الجمال ففاق أزهارَ الربى
ترنو فيرتعدُ الفؤَادُ وليس ذا
عجبًا؛ فإنَّ الحسنَ مثلُ الكهربا
لا بدع إن دُعيت ضفيرةُ فرعها
«صِلًّا»؛ فبعضُ النجم يُدعى عقربا
بأبي غدائرَ قد رقت قلبي كما
ترقي الأراقمُ طائرًا متقرِّبا
ما أوقعتْ نظري عليها صبوتي
إلا وألعبَ بي الهوى أيدي سبا
واستغرقت قلبي تباريحُ الجوى
واستمطرت دمعي صبابات الصِّبا
ويلاهُ من جور الجمال فإنهُ
يذرُ المحبَّ على اللظا متقلِّبا
غازلتها فبدا شعاع الشوق من
لحظاتها، وأبى الهوى أن يُحجبا
وغدت تطارحنى عبارات الولا
وعلى محيَّاها الحياءُ تلهَّبا
لو لم يكن معنى العبائر باديًا
في وجهها الباهي لكنتُ مكذِّبا
يا قلبُ، حاصرك الجوى فاثبتْ لهُ
ما دمتَ برجًا، لا فقدتَ الكوكبا
هجَّ الهوى في عالم الأشجان بي
وأضاعني بين الأسنَّةِ والظُّبا
وأعادني حيران لا ألوي على
أحدٍ ولا أدري المقامَ الأنسبا
متشرِّد الأفكار، مسلوب القوى
قلقَ السريرة، لا أصادفُ مأْربا
غرقان في بحر الهوادس خائضًا
ليلَ الهواجس هائمًا متعذِّبا
متوحِّدًا ألهو بفكريَ حيث لا
رشدٌ، فلستُ أصيبُ فكرًا صيِّبا
أتوسَّمُ الأوجَ الوسيمَ وشهبهُ
فكأَنَّ لي فوق المجرَّة منصبا
وأرى النجومَ تهمُّ أن تهوي على
رأسي ولكن لا تشا أن تقربا
وإخالُ بدرَ العشر وجهَ غزالتي
عني يميل، فأَنثني متغضِّبا
وكأنما جَلَدُ السماءِ بزُهرهِ
روضٌ بزَهر النَّور أصبحَ مخصبا
والبدرُ ذو الأنوار أمسى والدُّجى
مَلِكًا له، غدت الدراري موكبًا
أنا في الهوى أصبحتُ معتزلًا فلا
أبغي سوى هجسي أخًا لي أو أَبا
والعشق أبعدُ منزلٍ يدع الفتى
عن أهلهِ وصحابهِ متغرِّبا
يا من أذابتْ مهجتي، رفقًا بمن
عن حسنكِ الأسنى عناهُ تسبَّبا
عظمت بيَ الأشواقُ حتى إنني
قد صرتُ أخشى الهجرَ إذ لن يحسبا
كم طرفُكِ الوسنانُ أوهمني الجفا
بفتورهِ، وهو الوفا لي قد حبا
فأعودُ في غضبٍ كأنِّي طالبٌ
سببًا بهِ أجدُ العتابَ الطيِّبا
يا ربَّةَ الدَّلِّ الذي ذلَّتْ لهُ
نفسي، ويا من عشقُها لن يذهبا
إن كان أغضبني عليكِ تحيُّري
حبًّا فوديَ لم يشأ أن أغضبا
ليس المحبةُ كالوداد؛ فتلك في
صَلفٍ تقومُ، وذاك في دعةٍ ربا
كوني بمجد جمالكِ الزاهي على
نعمٍ وإن أكُ في هواهُ مجرَّبا
ما زال وجهكِ يستعيد قطوبهُ
حتى عدا وجهي، فعاد مقطَّبا
لا تبخلي بظهور حسنكِ لي فذا
شرفٌ، ولا تَدَعي السنا متحجِّبا
فإذا الغنيُّ أضاق بخلًا عيشهُ
ما عاشَ إلا كالفقير مخيَّبا
يقضي اللياليَ وهو يجهدُ أن يرى
كاساتِه تُملى وإن لا يشربا
لم يقنع الإنسان قطُّ بمكسبٍ
يومًا، ولو يعطى الكواكبَ مكسبا
والضيمُ يُعذب للفقير إذا رأى
رب الغنى في بخلهِ متعذِّبا
كم يفعل ابنُ الجهل ما هو مكربٌ
ويقول: إنِّيَ قد فعلتُ المطربا
والمرءُ قد يغدو ذميمًا في الورى
يومًا يحاول أن يكون مطوِّبا
عظم الشقا في ذي الحياة فلا نرى
شيئًا بها لذوي النهى مُسْتعذبا
ولربَّ ساعة راحةٍ للمرءِ قد
تركت لديهِ كلَّ شيءٍ متعبا
ما دام جنح الموت فوق الكلِّ ذا
خفقٍ، فكل العمر يذهب مكربا
فإذا بسطنا الجسمَ في تشريحهِ
نلقاهُ للموت الزءوم مركَّبا
كلُّ الوجود محاربٌ أجزاءَهُ
حتى يتيحَ لها الفناءَ المرعبا
فحياةُ كليِّ الطبيعةِ طالما
حلَّت حياةَ الجزءِ كي تتركَّبا
هذا هو المجرى الطبيعيُّ الذي
نهجتهُ حكمةُ قدرةٍ لن تُسلبا
لكنما للناس موتٌ غيرُ ذا
أعني بهِ البينَ المقيمَ تغرُّبا
يا أيها القوم الذين تغرَّبوا
عني، وقد جعلوا الثبوتَ تقلبا
أنتم ركبتم ظهرَ قفرٍ سائلٍ
وأنا جريتُ على القفار مشببا
لو كان يدري البحرُ ندبيَ والبكا
لأَعادكم نحوى وسدَّ المندبا
أوَلو درى أنَّ الذين عليهِ هم
أنتم لصفَّقَ بهجةً واسترحبا
ولكانت الأمواج ترفع هامها
فوق الجبال لكي تنادي: مرحبا
سيروا فربُّ البحر يمحو الموجَ إذ
بمثلَّث الأسنان يحمي المركبا
ودعوا أليفكمُ القديمَ مراقبًا
زبدَ المسير وللقا مترقِّبا
يرنو إلى الشهبا فينظرها غدت
سودا ولو لبست وشاحًا أشهبا
وكأَنَّ قصرَكمُ أخو عقلٍ رأى
مينَ الحياة فرامَ أن يترهَّبَا
وكأَنَّ قلبي بعدكم عصفورةٌ
سقطتْ على شَرَكٍ فرامت مهربا
ولربَّ ليلٍ بتُّ أقرأُ آيَهُ
والقلبُ لم يفهم سوى حاءٍ وبا
أصبو إليكم والحشا مضرومةٌ
بلهيب أشواقٍ أبتْ أن تُحسَبا
ليلٌ تلوحُ من الغمام نجومهُ
كالحرش من أدغالهِ تبدو ظبا
والشرقُ من شفتيهِ يطرح أنجمًا
ولبلعهنَّ اعتاد يدعو المغربا
والشمسُ في لجج المغارب كلَّما
غاصت تعير الأفق ثوبًا مُذهبا
تحكي رداحًا ذات شعرٍ أشقرٍ
سارت فلاح الشعرُ والوجه اختبا
لكنَّ أفاقَ الشمال لحرصها
لا تسمحنَّ لنجمةٍ أن تغربا
فيثُورُ في أقصى الدماغ تعجبي
إذ أنظرُ الكونَ العجيبَ المرهبا
حيثُ الطبيعةُ قد حمت أسرارَها
بقوى السموِّ فلم تغادرْ مذهبا
فمن ابتغى إدراك ذلك لم يكن
إلا كطفلٍ للقراع تطلَّبَا
حتى هرعتُ إلى التفرُّد قاصدًا
ترجيعَ أفكارٍ شردنَ تعجُّبا
فالكتبُ تدعوني بألسنة الهُدَى
لوصال أبكار القرائح في الخبا
وإذا توقَّد خاطري أصبو إلى
سير الحدائق؛ كي أنال ترطُّبا
والأرض لولا سيرُها الدورين ما
طاقت لهيب الشمس، بل كانت هبا
يا ليلةَ البين التي قد أظلمتْ
وبها لقلبيَ ذكرُ صحبيَ عذَّبا
جُنَّ الدجى، والأفقُ عبَّس وجههُ
والجوُّ أزبدَ بالسحاب وضبضبا
حيثُ الصواعقُ كالقنابر، كلما
صاحت تزلزلت الشوامخ والربى
خضنَ الفضاءَ، وغصن في لجج الغما
مِ، وإذ نفذنَ بعثنَ ريحًا قلبا
خوفَ الظلام عرى الطبيعةَ فانبرت
ترمي صواعقها لتفني الغيهبا
ظلمٌ بهنَّ الأرضُ في جوف السما
ضاعت، وأضحى الكونُ هولًا مرعبا
حتى إذا ما البدرُ لاح مبددًا
سُحُبَ الدجى سلَّى القلوب وطيَّبا
كمليحةٍ برزت بثوبٍ أسودٍ
تُجلى وتقصد أن تزيحَ تنقُّبا
فإذا أفاضَ الفجرُ ماءَ نضارهِ
وغدا بهِ كفُّ السماءِ مخضَّبَا
والصبحُ مدَّ على الجبال لُجينَهُ
وبهِ جبينُ الأفق لاح معصَّبا
تستبشرُ الدنيا بسُلمٍ جدَّ ما
بين السما والأرض فليتطيَّبا

وقال:

إذا رأيتَ أديبًا في مجادلةٍ
يحاولُ الشتمَ قل: هذا بلا أدبِ
فما دعاهُ «أديبًا» غيرُ ناصرهِ
وهل يقومُ بنصر الغمر غيرُ غبي؟!

وقال إلى صديقٍ لهُ:

أثر النوى

لي في يدِ البين قلبٌ راح يضطربُ
ومهجةٌ في لهيب الشوق تلتهبُ
بينٌ بهِ مقلتي تُحيي الدُّجى أرقًا
والروح والقلب ذي تهفو وذا يجبُ
ومعشرٍ خلَّفوني في البعاد على
جمر الغضا مذ بهم قد سارت النجبُ
بعدٌ أعاد نهارَ القرب ليل نوًى
واغتال شمسَ الهنا حتى بدا الكربُ
وكم يلوحُ على وجه الطبيعة من
كآبةٍ حينَ شمسُ الكون تحتجبُ
يا أيها الدهرُ، هل عيني تعودُ إلى
رؤيا الأحبةِ؟ قل لي أيها الغضبُ!
صممتَ أذنكَ، لكنْ عن بكاي وقد
أغمضتَ جفنك، لكن تحتهُ اللهبُ
لو كنت تصغى لما قصَّ الحمامُ على
سمعي حديثَ بكا «سلمى» فأنتحبُ
رعبوبةٌ إن تكن عن ناظري اغتربت
فإنها عن فؤادي ليسَ تغتربُ
وظبيةٌ مذ رأت عيسَ النوى ظعنتْ
بها بكت لفراقي والنوى نوَبُ
وجهٌ لها يحملُ الحسنَ البديعَ، ولي
قلبٌ شجٍ تحت حملِ الشوق مضطربُ
ألقت محبَّتُها في القلب كلَّ هنًا
كذاك أبدت لهُ ما فيهِ يكتئبُ
مثلَ الهواءِ الذي منهُ الحياة لنا
تأتي ومنهُ لنا الأمراض والعطبُ
يا طلعةً أطلعتْ فيها الطبيعةُ لي
جواذبًا نحوها الأرواحُ تنجذبُ
كلٌّ من الجوهر الأصليِّ قامَ وما
كلٌّ يُحبُّ فما بين الدِّما نسبُ
إن كان أبعدها عني النوى فعسى
يبدو منَ البعدِ قربٌ كلهُ طربُ
والبعدُ يخلقُ عتبًا في اللقاءِ فكم
يلذُّ من فمها عند اللقا العتبُ
هيهاتَ يحسنُ لي طيبُ الحياة إذا
غابت عن العين فهي السؤل والأربُ
فما الحياة؟ وما هذي الجسومُ؟ وما
هذا القيامُ؟ وما الدنيا؟ وما الحقبُ؟
طبيعةٌ تحتَ لمح الوهمِ تظهرُ في
شكل الوجود ظهورًا كلهُ عجبُ
أو المعادنُ تحتَ الالتئَام تُرى
مقسَّماتٍ إلى ما ليس ينحسبُ
فمن جوامدَ لا تهوى الحياة ومِن
ذوي حياةٍ، ومن نبتٍ لها يحبُ
وللوجود قوًى تدعو عناصرَهُ
إلى اجتماعٍ بهِ الأجسامُ تكتسبُ
وما العناصرُ من حيثُ الكيانُ سوى
روحِ الفراغ، وهذا مذهبي الذهبُ
ليس الفضاءُ بخالٍ فهو منشغلٌ
بما إليه قيامُ الكون ينتسبُ
هناك أصلُ «الهيولى» قامَ منتشرًا
أصلٌ تفرَّع منهُ العالم العذبُ
أين العذوبةُ — يا ذا الحيُّ، قل ليَ — في
هذا الوجودِ؟! ففيهِ البؤس ينسكبُ
تُوحي الحياةُ إلى جسمي فيطلبُ من
يدِ التراب غذاهُ، بئس ذا الطلبُ!
فما رفعتُ يدي بالخبز نحو فمي
إلَّا وأزهقَ روحي ذلك التعبُ
قد أحدق الضيمُ بالدنيا فحيثُ بدت
مسرَّةٌ كان فيها يكمن الحربُ
بئسَ الحياةُ التي أغرت بنا فمشى
كلُّ امرئٍ في ليالٍ ما لها شهبُ
يسعى الفتى في سبيل العمر مندفعًا
إثرَ المنونِ، وتجري خلفهُ النوبُ
مثلتُ صورة ذي الدنيا مجردةً
للذهن فارتسمت في وجهها النكبُ
لوِ الجنينُ درى ماذا يُعَدُّ لهُ
في الأرض، لم يخلِ رحمًا فيه يحتجبُ
وليس يدري الفتى: ماذا يجيء بهِ
حكم القضاءِ؛ فعلمُ الغيب مغتربُ
فلو علمت بأنَّ القرب غايتهُ
هذا النوى كنتُ كل القرب أجتنبُ
وا شوقَ قلبي لأحبابِ نأوا! فأتى
لِدُرِّ دمعي لصُّ البين ينتهبُ
زمُّوا الرحالَ غداة البين وارتفعوا
على قويقٍ، فعاد الغمُّ ينتصبُ
وقد أساروا مطيَّ البعد مثقلةً
فراحَ قلبيَ نحوَ الركب ينجذبُ
يا أيها الصحبُ، قد أودى التبرحُ بي
وقد أضاع احتمالي ذلك الوصبُ
ما حمَّل الله نفسًا فوق طاقتها
فكيف أحمل ما يعفو بهِ العصبُ؟
أنتم خسفتم رشادي بالرحيلِ كذا
حادٍ لكم مسَّني من شدوهِ العطبُ
لا يخسفُ البدرُ في قوس الحضيض ولا
في الأوج، بل للخسوفِ الراس والذنبُ
فها ترون رءوس السرو في حلبٍ
تدعو تقربكم ما الريح تنتشبُ
كذاك قلعتنا العجباء باسطةٌ
لقربكم ساعديها وهي ترتقبُ
حصنٌ أقام بجوفِ الأرض أرجلهُ
إذ قد أحاطت بعالي راسهِ السحبُ
فكم على صدمات الدهر قد صبرت
أسوارهُ حيث لم يصدَع لها جنبُ
ها أنتِ يا قلعةَ الشهباءِ لُحتِ لنا
مثلَ الشهابِ وها فيك ازدهت حلبُ
فكم عليكِ ملوكُ الأرض قد نصبت
راياتِ حربٍ ولم ينجَح لهم نصبُ
كأَنَّ عنوانَ يوَّابٍ وقاكِ لذا
عاد التمورلنكُ فِي الخيباتِ ينتحبُ
كذا لوت بالصليبيين قهقرةٌ
لما أتاكِ صلاحُ الدين والعربُ
لم يبقَ من أثرٍ تزهو بهِ حلبٌ
يومًا سواكِ فلا أرداكِ منقلبُ
على جبينكِ أيدي الدهرِ قد كتبت
حوادثًا لم يخامرْ نصها الكذبُ
كأنها حين تبدو ضمنَ خندقها
بدرٌ على هالةٍ جوفاءَ منتصبُ
أبقى على وجهها صدمُ الوغى أثرًا
يدعو الرثاءَ وتشويها بهِ الكربُ
لولا اختلافُ نواميس الشريعة ما
بين الورى لم يقم ما بينهم شغبُ
يا طالما عضَّدت أيدي الجهالةِ مَن
يهوى الخرابَ وكم فوق الثرى خربُ
ذو الجهلِ يألفُ ذا جهل ويأنفُ ذا
عقلٍ كذا لم يطقْ لمع السنا كلبُ
وكل وحش عن الإنسان يهرب من
خوفٍ وذو الأنس لا يلوي بهِ الهربُ
فكيف عني صار الأنسُ منهزمًا
مذ غاب عنيَ من أمثالهُ الشهبُ
نعم أنا لا أرى أنسًا ولا طربًا
إلا بهِ فهو عندي الأنس والطربُ
بالله قلْ لي أيا نجلَ الكرام: متى
يدور قربك؟ قل لي أيها القطبُ!
وارحم أخًا كاد هذا البين يقتلهُ
حتَّامَ عن مُقَلِ الأصحاب تغتربُ؟

وقال:

أبدت لنا الطلعة الغرا من الحجبِ
فلم تدع قلبَ صبٍّ غير ملتهبِ
هيفاءُ تزري غصونَ البانِ قامتُها
وظبيةٌ إن رأتها الأسدُ تضطرب
ضربٌ من الزنبق العطريِّ نفحتُها
وريقها بفمي أحلى من الضَّرَبِ
رامت مماتي بسيفٍ من محاجرها
والموتُ لي بالهوى إن ترضهُ يطبِ
أزوت غصونَ اصطباري نار وجنتها
لكن بها قد نما غرس الهوى ورَبِي
يا طالما عذبتني بالهوى ظلمًا
وكم صبرتُ على تعذيبها العذبِ
بالله يا لحظها الزنجيَّ كم أُسِرَت
بك القلوبُ بلا بيضٍ ولا يلبِ
أستودعُ الله روحًا بالهوى قتلت
بعد العذابِ بلا ذنبٍ ولا سببِ
لا تحسبوا أنَّ لي بالحبِ مصطبرًا
يا عاشقونَ فليس الصبرُ من أَرَبِ
بوقُ الهوى مذ دعا قلبي أجاب ومذ
دعاهُ بوقُ جميل الصبر لم يجبِ

بلوى الغرام

أَعِدِ الصبرَ إِنْ يَعِدْكَ الحبيبُ
وتجلَّدْ فكلُّ آتٍ قريبُ
لا يلَذُّ الوصالُ للصبِّ إلَّا
بعد هجرٍ تعجُّ فيه الكروبُ
أينَ صبري ولم يعد من وجودي
غير شوق منهُ فناني لهيبُ؟!
أسفحُ الدمعَ كلما هِمْتُ وَجْدًا
آهِ لولا سفحُ الدموع أذوبُ!
عبث الضيمُ والسقامُ بجسمي
فخيالٌ لولا اللظى محجوبُ
أيُّ عضوٍ لم يولهِ الحبُّ سقمًا
فكأني إلى الضنا موهوبُ
بلهيب الهوى فؤَاديَ يفنى
وبروض الجمال عيني تطيبُ
زلزلَ الوجدُ في الهوى طود صبري
يا لطودٍ قد زلزلتهُ الخطوبُ!
منظري بالضنى نذيرٌ لمن ظنـْ
ـنَ الهوى ليس فيهِ شيءٌ عجيبُ
زفرة تتلفُ الحشا بلظاها
وسهادٌ ومدمعٌ مسكوبُ
يا لحا اللهُ عاشقًا يألفُ النو
مَ ورأسًا من الهوى لا يشيبُ!
أيها العاذلُ اجتنب عنك نصحي
فأنا لستُ للعذولِ أُجيبُ
أمرضتني الجفون في بلد الحُبـْ
ـبِ فها إنني المريضُ الغريبُ
كيف أخفي الهوى عن الناس يومًا
والهوى فوق جبهتي مكتوبُ
حلَّلتْ بالجمال قتلي خودٌ
إن تثنَّت لها يخرُّ القضيبُ
من يُقسها بالبدر وجهًا وبالغصـ
ـن قوامًا فذاك ليس يصيبُ
بفمي الريقُ منها راحٌ وشهدٌ
وبقلبي العليل روحٌ وطيبُ
أتلفَ الجسمَ حبها فكأَني
ما خَلَا الصبرَ بالضنا أيوبُ

دهشة الهوى

ماست فأورثتِ الفؤَاد عذابا
ورنت فغادرتِ الجنانَ مصابا
غيداءُ قامَ بها الجمالُ فإن بدت
تسبي البدور وتسلبُ الألبابا
ما قيمةُ الأنوار إن لاحت وما
ثمنُ الغصونِ إذا انثنت إعجابا
رقَّت لطافتها وراق بهاؤُها
فرقت على قمرِ السماءِ جَنابا
طرفي ومبسمها أقاما نسبةً
هذا غدا برقا وذاك سحابا
مذ أقبلت تختالُ تحتَ قراطقٍ
وتديرُ من خمر الهوى أكوابا
عانقتُ غصنًا مائسًا من قدِّها
ونشقتُ من أنفاسها أطيابا
وهممتُ ألثمُ خدَّها وعيونها
فلثمتُ لكن جمرةً وحرابا
تحنو عليَّ فلم تدع حركاتها
في القلب إلَّا صبوةً ولهابا
لما أدارت لي الكئوس وثغرها
يسقي النديمَ عن المُدامِ رضابا
لم أدرِ هل سكري بخمرة كاسها
أم مِن لماها قد شربتُ شرابا؟
تدنوا فيلويها الدلالُ فتنثني
عجبًا فتبقي في العقول عُجابا
ولقد سقتني من شمول وصالها
كأسًا بسلسال العناق مشابا
عطفت عليَّ فصيَّرت مني الحشا
نارًا وكان من الصدود ترابا
وشدت فأغنتنا عن المغنى الذي
قد ضمَّ عودًا مطربًا وربابا
مذ بات عشاق السماع بشدوها
متحيرينَ نوت لهم أغرابا
تمشي وميلاتُ القوام تزينها
وتهزُّ خصرًا حاملًا أتعابا
فإذا اكتست حلَل الحيا عند اللقا
فأنا اكتسيتُ من الغرام ثيابا
حكمت على تلفي فقمت بطوعها
ودعت فؤَادي للفنا فأجابا
إن أنكرت قتلي بسيفِ لحاظها
فدمي بخدَّيها يقرُّ صوابا
وإذا أردتُ عتابها فيصدُّني
خفقانُ قلبٍ في هواها ذابا
يا عاذلي كرِّر بلومي ذكرها
وانعش بهِ الولهان تلقَ ثوابا
فهي التى سلبت بطلعة حسنها
عقلي وذقتُ بحبها الأوصابا
يا من بدت فجلت بداجي فرعها
قمرًا له اتخذَ الجمالَ نقابا
بالذلِّ جئتُ مؤملًا وصلًا فلا
تَدَعي العواذلَ أن يقولوا: خابا!
إن ترتَضي موتي بحبكِ فاحكمي
فالموتُ في سننِ المحبة طابا
لا تحسبي إن شبتُ شاب معي الهوى
إنَّ الهوى نسرٌ يُعيدُ شبابا
لا عادتِ الأبصارُ تبصر حالتي
فقد اتخذتُ من النحول حجابا
شذبَ الهوى جسمي وأوهنَ أعظمي
ومن العيونِ قد امترى تسكابا
يا ليلةً بالوصلِ هل من عودةٍ
فيها أجرُّ من الهنا جلبابا
وصلٌ وهجرٌ للمحبِّ وإنما
هذا أتى عَذِبًا وذاك عَذابا
يا قامةَ الغصن النضير ترفقي
بفؤَاد صبٍّ بالعيونِ انْصَابا
إن غبتِ عن عيني أيا قمري فعن
قلبي خيالُك لا يشاءُ غيابا
أَوَمَا علمتِ أيا مليكة مهجتي
أن المحب عن الهوى ما آبا
إن كنت في ريبٍ بصحة قتلتي
فأنا بسيف اللحظ لن أرتابا
فترفقي يا من حوت حسنَ الورى
بمتيمٍ في ذا الهوى ما حابى

وقال:

ومهاةٍ فتنتني
بسنا الحسن العجيب
وردُ خديها سقتهُ
مقلتي فهو نصيبي

وقال:

وشادنٍ تدهشُ الألبابَ طلعتُهُ
من ثغرهِ يشربُ الندمانُ مشروبا
بدا وَصَلُّ عِذَارَيْهِ الْتَوى فغدا
قلبُ المتيم مسلوبًا ومَلْسُوبَا

وقال:

بدت أسماءُ من خلل الحجابِ
كبدرٍ لاح من ذيل السحابِ
فهمتُ صبابةً وغدا فؤادي
على جمر ودمعي في انصبابِ
علقتُ بها رداحًا قد رماني
فتورُ الجفن منها بالحرابِ
تجلَّت فاللواحظُ في جنانٍ
زهيٍّ والجوانح في التهابِ
وقد نظرت إلىَّ وكلُّ عينٍ
من الرقباءِ تقدحُ كالشهابِ
تُهاديني التحيةَ في خفاءٍ
بألحاظٍ يَجلْنَ على التصابي
فيا لكِ نظرةً وقعت بقلبي
وقوعَ المشرفيِّ على الرقابِ
ومذ حان الفراقُ غدا حسودي
بأفراحٍ وقلبي في اكتئابِ
جمالٌ حارَ فيهِ العقل لما
بدا من تحت ذيَّاكَ النقابِ
على وجهٍ تغارُ الشمس منهُ
إذا كانت على أفق الغيابِ
أذاتَ الدَّلِّ كم تبدين صدًّا
رويدَكِ قد كفى زمنُ العقابِ
بصدِّكِ بازوراركِ بالتجني
بصبري باحتمالي بانتحابي
خذي بيدي ولا تدعي فؤَادي
على ذاك التوجع والعذابِ
فطيبُ النوم عني بابتعادٍ
وخبثُ السهد مني باقترابِ
بدمع لواحظي ولهيب قلبي
رأيتُ سيول آذارٍ بآبِ
هبي نضوَ الهوى لثم الثنايا
عسى يطفي اللظى بردُ الرضابِ
بحبك قد أضعتُ جميلَ صبري
لك البشرى وعدتُ بلا صواب
على جسدي السقامُ بدا فرفقًا
بهِ وارْثِي لشيبي في شبابي
ولما كهرباءُ الحبِّ بثت
بقلبي عاد يخفق باضطرابِ
علامك لا تفينَ حقوق وُدِّي
ولم أكُ في المحبة بالمحابي
وعنك إذا نأيتُ وذا محالٌ
فإنَّ إليكِ يا أملي مآبي
هواك لقد غدا بحرًا كبيرًا
ولستُ أخوضُ إلَّا في العبابِ

مرور النسيم

نبهي يا نسيمُ عينَ الحبيبِ
حيثُ في غفلةٍ عيونُ الرقيبِ
وإذا ما لثمت مسكَ عِذَارَيـْ
ـهِ احملي من شذائهِ في الجيوبِ
واتركي عطفَه الرخيمَ لئلا
تزعجيهِ فهو بلطفٍ عجيبِ
واحذري حيثما تهبي افتضاحًا
ليس يخفى أريجُ مسكٍ وطيبِ
وإذا استنطقوكِ قولي لهم: مِن
روضةِ الوردِ والخزام هبوبي
يا نسيم الصباءِ بالله هل عا
ينتِ آسًا يقومُ حولَ لهيبِ؟!
يا حبيبَ الفؤاد بالله مهلًا
كم وكم أنت قاصدٌ تعذيبي!
بهواكَ اعفُ إن يكن ليَ ذنبٌ
ليس عفوٌ لولا وجودُ الذنوبِ
يا لكَ الله كم فتكتَ بقلبٍ
عن هوى الحسن ليس بالمقلوبِ!
أيها القلبُ كن صبورًا على البلـ
ـوى ولا تَسْأَمَنَّ جورِ الحبيبِ
وإذا الصبرُ كان للذوق مرًّا
فهو يحلو بالضيق عند اللبيبِ
يا حياتي حُجبت عني وإني
أعهدُ البدرَ ليس بالمحجوبِ
أنتَ في مهجتي سكنتَ لك اللهُ
فيا مهجتي احذري أن تذوبي
لستُ أرضى سواك يومًا حبيبًا
لي ولا أنثني إلى مطلوبي
قال لي العاذلونَ: كن ساليًا فهـ
ـو صوابٌ فلم أكن بالمجيبِ
وإذا ما الجهولُ قالَ كلامًا
ظنَّ أقوالهُ كلام مصيبِ
كيف أسلو هواكَ أستغفر اللهَ
ومرآكَ راحةٌ للقلوبِ
أنت روحي وراحتي وعنائي
أنت أمرضتني وأنت طبيبي
خدُّك الروضُ لي ونحرك صبحي
وكذا خمرة اللمى مشروبي
كلُّ من لم يسكر بصرف الهوى فهـ
ـو من الدنيا ما لهُ من نصيبِ
بالنوى يا عشَّاق كم بتُّ شوقا
راصدَ الأوج والصبا في هبوبِ
راح نومي وظلَّ سهدي وما قلـْ
ـلَ من الصبرِ زائدٌ بنحيبي
إن جيشَ الهوى إذا حلَّ قلبًا
رَحَلَ الصبرُ رحلةَ المغلوبِ
يا غزالًا سلبتَ روحي دلالًا
فانعطفْ بالهوى على المسلوبِ
ودع الصدَّ والنفار أيا رِيـ
ـمًا رماني بسهمِ لحظٍ مصيبِ
فتح الوردُ في خدودك لما
أوردتهُ عيني فكان نصيبي
مرْ أخا الوجدِ بالذي أنت ترضى
فتراهُ يعنو بطوعٍ عجيبِ
وإذا ما النفوس مازجها الحُبـْ
ـبُ أتت بالخضوع للمحبوبِ
تِهْ دلالًا ما شئتَ إني قَبُولٌ
يحسنُ التيهُ من غزالٍ ربيب
ليسَ يحوي العشرين عمري ولكن
قد كساني الهوى ثياب المشيبِ
فأنا في الشهباءِ صرتُ شهابًا
ما لهُ عن أفلاكها من غروبِ
حلبٌ جادها الحيا زينة الدنـ
ـيا وأم البلاد مَلْجَا الْغَريبِ
طابَ عيش الأنام فيها فلم يو
جَدْ بها من كوارثٍ وخطوبي
قم بنا بكرةً لروضتها الغنـْ
ـنَاءِ نجلي صدى الأسى والكروبِ
روضةٌ رنحَّت نسيم الصبا أغـ
ـصانها فانثنت كقدِّ الحبيبِ
خطب العندليب في منبر الدَّو
حِ فأضحى للسمعِ خيرَ خطيبِ
نهرُها والغصونُ والطير ما بَيـ
ـنَ غَضوبٍ وراقصِ وطَروب

وقال لحادثة جرت في أنطاكية:

الكفَّارة

قفْ فوق سمعان حيث العُجْبُ والعَجَبُ
وانظر إلى مشهدٍ يجري بهِ الرَّهبُ
ولا تَدَعْ نظراتِ الطرف شاردةً
بين الرسوم فقد يلهو بها الحربُ
فالدهرُ أودع أسرارَ التقلب في
تلك القفارِ التي قامت بها الخربُ
ونقِّلِ الخطو حتى يستقرَّ على
مدينةٍ توجتها بالسنا الحقبُ
هناك عاصمةُ الدنيا قد احتجبت
بين الرُّبى كغزالٍ حطَّهُ التعبُ
فيا سقى اللهُ أنطاكيَّةً ورعى
تلك الربوعَ التى ترعى بها السحبُ
جناتُ أرضٍ بها من كل فاكهةٍ
زوجانِ يجري عليها كوثرٌ عذبُ
مدينةٌ فاخرت كل البلاد وقد
تعظَّمت إذ غدت لله تنتسبُ
يا طالما اهتزتِ الدنيا لسطوتها
قدما وأضحت ملوك الأرض تضطربُ
ما هاجمتها المَلا إلَّا لقدرتها
فالفرسُ والرومُ والأتراكُ والعربُ
كذاك لولا دويُّ الحافلين بها
لما دهاها من الزلزال منقلبُ
وربما أنتج الإقلالَ فرطُ غنًى
وكم خرابٍ لهُ عظم البنا سببُ
فبابلٌ بلبلتها كلُّ حادثةٍ
وتَدْمُرٌ دمَّرت أركانَها النوَبُ
لكنَّ ذي لم يزل نورُ الجلال على
جبينها كضياءِ الشمس يلتهبُ
إن كان منها اسمُ دين الله قام فكم
لها الوقارُ على كل الورى يجبُ
فيها تشيد للإنجيل ركنُ هدًى
قبل الجميع ومنها قد بدا اللقبُ
كذا المدارس قد قامت مراكزها
بها فدار عليها العلمُ والأدبُ
فلا رعى الله قلبًا لا يميل إلى
إكرامها فهو قلب مالهُ نسبُ
هل أنت يا أمُّ سوريَّا أَمَلْتِ لنا
سمعًا لنهديكِ مدحًا كلهُ رطبُ؟
فنحنُ أبناؤك القدمُ الذين لهم
منكِ الفخار وحسن الأصل والحسبُ
ومن ثداك رضعنا كلَّ مكرمةٍ
فتحتَ ظلكِ طولَ الدهر نحتجبُ
وليس للطفلِ إلَّا أمهُ سندٌ
عند الوقوع وعونٌ إن جرى الوصبُ
هيهات ننكر فضلًا منك قد شهدت
بهِ لدينا عصورُ الدهر والكتبُ
لولا وجودكِ لم يظهر لنا وطنٌ
منذ القديم وما كانت نَمَتْ حلبُ
فلا برحت مُنَاخًا للرحالِ ولا
زالت عليك هباتُ الله تنسكبُ
يا حبذا بلدًا طاب المقيلُ بهِ
طولَ الزمان وقام الصفو والطربُ
هناك قد خضع العاصي خضوع أخي
هوًى يرى وجهَ من يهوى فينجذبُ
يجري ومن حولِه زهرُ الربيع زها
مثل المجرَّة تزهو حولها الشهبُ
كذا النسيم الذي يشفي العليلُ بهِ
إذا سرى لاحَ بشرٌ وانمحى الكربُ
وإن تغنت على ألحانها وشدت
ورقُ الحمى رقصت من تحتها القضبُ
فكم هناك ذوو الأسقام قد رحلوا
وهم يعودون لا سقمٌ ولا عطبُ
من زار أرضًا بها عزًّا رأى وشفا
ثم انثنى نابحًا عنها فذا كلبُ
أرضٌ لسكانها لاق المديحُ فهم
قومٌ لهم أوجهٌ بالبشر تنتقبُ
بيضُ الصفات حسانُ الطبع أهلُ تقى
لا يعرفُ الحقدُ منهم لا ولا الغضبُ
يسارعون لإكرامِ الغريب فما
أردتْ بمن في حماهم يحتمي الغربُ
هم أهلُ جودٍ فلا رَدٌّ لزائرهم
وأهل لطفٍ فهم بين الملا نخبُ
وإن يكن عرفهم قد ساءَ ناكرهُ
ولم يوافق هواهم من بهِ جربُ
فالشمسُ يوذي كليلَ الطرف مشرقها
والورد ينفرُ عنهُ الخنفسُ الكربُ
يا معشرًا لأْلأَت آلاؤُهم وسمت
سيماؤُهم ولهم أضحى الثنا يجبُ
إن كان حُقَّ لكم أن تحقدوا فأرى
لا يحمل الحقدَ من تعلو بهِ الرتبُ

وقال:

خاطرتَ بالنفس فأوقعتها
في شرَك الأعداءِ حيث الوصبْ
يخاطر الجاهل في نفسهِ
وما من الأخطار غير النصبْ

الحنوُّ

تبدَّى سنا ذاك الجمال من الحجبِ
فغادرَ سرَّ الحبِّ يُجلى على قلبي
وأومض برقُ الحسنِ من فلك الحمى
فهيج وجدي حيث لم يدرِ بي صحبي
سقى العارضُ الوسميُّ ذاك الحمى فكم
بهِ من بدورٍ قد تجلَّت على قضبِ
ربائبُ ما زالت تديرُ من الهوى
كئوسًا على ربِّ الصبابة والحبِ
يغازلنَ بالألحاظِ وهي صوارمٌ
فيقتلنني عمدًا وما لي من ذنبِ
فمن كلِّ حسناءٍ تميتُ إذا جفتْ
وتحيي إذا جادت بمرشفها العذبِ
دعوني دعوني يا عواذلُ إنني
حليفُ الهوى مضنى الجوى فاقد اللبِّ
محبٌّ إذا ما جاءَ ذكرُ حبيبهِ
يطيرُ شعاعًا قلبهُ الهائم المسبي
أنا هو قطب الحب دارت بساحتي
سرائرهُ والدورُ يُعزَى إلى القطبِ
وصبٌّ إذا هزَّت يدُ الشوق نفسَهُ
شكت مقلتاهُ الضرَّ من ذلك الصبِ
إذا احتاج تلميذٌ لضربٍ فإنني
تعلمتُ أشكال الغرام بلا ضربِ
وخطُّ الهوى إن مسَّ دائرة النهى
يقاطعها خطُّ الدراية والإربِ
بروحي عجباءً هواها أطاعني
وصبري عصاني إن ذا لمن الخطبِ
لها أعينٌ ترمي سهامًا فإن رنت
سمعتُ بأذني رنةَ السهم في قلبي
بأفق محيَّاها زهت زُهرَةُ البها
وليس لها عن أعين الناس من غربِ
يذوبُ فؤَادي حيثُ لاحَ جمالها
وتجمدُ عيني وهي سائلة الغربِ
ويخفق قلبي كلما تذكر الجفا
خفوقَ قلوبِ الجبنِ في حومة الحربِ
رجوتُ نوالَ القربِ منها فلم تجدْ
ولم أدرِ ما نمَّ الوشاة ذوو الكذبِ
وقالت: أيا مغرورُ هل أنتَ ترتجي
لعمرُك من بدر السما صِلةَ القربِ؟!
فلما تمادى الصدُّ والقلبُ ما سلا
وقد شمَتَ الحسَّادُ بي مذ رأَوا شجبي
فجاءَت ترى ما حلَّ بي بعدَ بُعدها
فأبغضت الواشين لما رأَت نحبي
وقالت: حبيبي هل جميعُ ضناك من
صدودي؟ فطب بالوصل يا صادق الحبِ
بكت إذ رأَت عيني يسيلُ عقيقها
فرصعتِ الياقوتَ باللؤلؤِ الرطبِ
وحنَّت وقالت: قرَّ عينًا ولا تكن
كئيبًا فما كان الجفاءُ سوى لعبِ
وقامت إلى التوديع حين انحلى الدجى
وهارَ ووجهُ الفجر لاح من الحجبِ
فقلتُ لها: يا نورَ عيني متى اللقا؟
أجابت: غدًا فاصبر ولا تكُ في كربِ!
ومذ جَعَلت فوقَ الجبينِ يدًا بها
تُودِّعُ صادت طير قلبيَ بالقلبِ
فكم جذبتني مقلتاها عن السوى
بقوة ذاك الاحورارِ الذي يسبي!
إذا مرَّ سيَّارٌ بآخرَ في السما
يميلان عن خطيهما بقوى الجذبِ

وقال:

حبيبي هل لحسنك من نظيرٍ؟
وهل لي غير وصلِكَ مستطابُ؟
نظرتُ إليك فانسكبت دموعي
ولولا الشمسُ ما سحَّ السحابُ

وقال:

خطراتُ ذكرك تستثيرُ مودتي
لكَ يا رشًا للقلبِ كان حبيبا
ولظى خدودك تنجلي لنواظري
فأحسُّ منها في الفؤَادِ دبيبا
لا عضوَ لي إلا وفيهِ صبابةٌ
تهدي وتهدرُ أدمعًا ولهيبا
ناجى الهوى قلبى فهامت أضلعي
فكأَنَّ أعضائي خُلِقْنَ قلوبا

إلى صاحبٍ لهُ:

إذا كان تعذيبُ الهوى لك يعذبُ
فما لي أرى هذي المدامعَ تسكبُ؟!
ترى هل صروفُ الحب أصرفت النهى
فرحتَ ولا تدري الذي بكَ يلعبُ؟
وليس الهوى إلَّا قوًى تجذبُ الفتى
إلى ما يُريحُ القلبَ طورًا ويُتِعبُ
فإن نعمت بالوصل نفسك ساعةً
فكم بالجفا تشقى أسًى وتعَذَّبُ
وما الحسنُ كافٍ للمحبة وحدهُ
إذا لم يكن بينَ القلوب تقرُّبُ
وشرُّ الهوى ما لم يكنْ متبادلًا
وخيرُ الهوى ما للفريقينِ يصحبُ
تطيبُ تباريحُ الغرام لأهلهِ
وكلُّ خبيثٍ عند باغيهِ طيبُ
إذا ما بدا للصبِّ وجهُ حبيبهِ
يصيبُ ارتياحًا قلبُهُ المتعذبُ
فعينٌ بجناتِ المحاسنِ ترتعي
وقلبٌ على نار الهوى يتقلبُ
أمشرقةً بالحسن والبدرُ دونهُ
فديتكِ شمسًا في فؤَادي تغربُ
نسيمُ الصَّبا ذا أم دلال الصِّبا بدا
وفرعكِ هذا أم تفرَّع غيهبُ؟
جلوتِ هلالًا تحت ليل غدائرٍ
سُبلنَ على قدٍّ إلى البانِ ينسبُ
ومن أُفقِ ذاك الجيد شمس الجمال قد
بدت فإليها كوكبُ الطرفِ يجذبُ
جبينكِ ذو النورِ الصباحيِّ كلما
بدا قلتُ: يا ليتَ العواذلَ تحجبُ!
أتحمينَ وردَ الوجنتينِ ببرقعٍ
وعندكِ صلُّ الفرع يحمي وعقربُ؟
ففي خدكِ الوردُ الذي ليس يُجتنى
وفي ثغركِ الدرُّ الذي ليس يُثقبُ
بروحي ليالٍ كان وجهكِ بدرَها
وكانت لذاك البدرِ عيناي ترقبُ
هجرتِ فأغضبت المحبَّ فواصلي
لكِ الأمرُ ما يرضى المحبُّ ويغضبُ
وكم غيهبٍ قد بتُّ أرعى نجومهُ
وأصبو إليكِ كلما لاح كوكبُ
فَظُلْمُكِ يجدي السهدَ والسهدُ مؤلمٌ
وَظَلْمُكِ يُهدي الشهدَ والشهد يَعْذُبُ
يروم سلوِّي حسنَ وجهك عاذلي
وهيهاتَ أسلو ما بهِ العقلُ يسلبُ
فثقل الجوى لم يرتفع عن جوانحي
ولو أَنَّ هذا العذلَ مخلٌ مركَّبٌ
يسيلُ دمي عن مقلتيَّ صبابةً
وقلبي على جمر المحبة يلهبُ
وكل دمائي إن تسل لم أمت فعن
ضلوعيَ أرواحُ الهوى ليس تذهبُ
لقد حارب الحبُّ اصطباريَ فانثنى
فرارًا وصبرُ الصبِّ لا شكَّ يغلبُ
وإن تفتقر نفسي لعون تنل فمن
يؤَمل بمن يرعى الولا لا يخيَّبُ
صديقٌ بهِ نيط الإخاءُ وحازمٌ
تسنمَ متنَ الفضل ندبٌ مهذبُ
كستهُ يدُ الأيام جلبابَ رفعةٍ
فراحَ لأذيال المكارم يسحبُ
زها في الورى خَلقًا وخُلقًا وقد علا
سنًى وسناءً فهو كالنجم يرقبُ
صفيٌّ سليمُ القلب سيماؤُهُ التقى
وفيٌّ كريمُ اللبِّ للخير يرغبُ
به الودُّ مغروسٌ ولم يزوهِ أسًى
ومن خيمهِ ينمو النهى والتأَدُّبُ
تشبُّ لظى أفكارهِ بالذكا وعن
شمائلهِ ريح الصباءِ تشببُ
فمن فكرهِ يبدو شعاع الهُدى لنا
ومن لفظهِ خيرَ الجواهر نكسبُ
أخلَّاي ها غصن الوفا عاد مفرعًا
بقلبي الذي عن ودكم ليس يقلبُ
جلبتُ لكم درَّ القريضِ فرائدًا
وهل لسواكم ذلك الدرُّ يجلبُ
إليكمُ مني غادةً عربيةً
تحييكمُ ما الطير في الدوح تخطبُ
وكم مشرقُ الشهباءِ يطلع أنجمًا
من الغرب لكن ما لها قط مغربُ
كستكم ثيابَ المكرمات طبيعةٌ
لأسرارها عن كل عقل تَحَجُّبُ
يلذُّ بآثار الطبيعة ذو الحجا
ويرهبها فالأم للكل والأَبُ

وقال:

عذولي دع عذلي بحب مليحة
غدا وجهها في ظلمة الفرع كوكبا
فثقلُ الهوى لم يرتفع عن جوارحي
ولو كان منكَ العذلُ مخلًا مركبا

السلوُّ

قل لمن قد حاولت قطع الخطابِ:
إنَّ ذاك الصب قد عاف التصابي
ومن الحبِّ خلت أحشاؤُهُ
وسلا عن ذلك الوجهِ المحابي
غدرت بالعهدِ إذ وافيتها
بالوفا والغدرُ من طبع الذئابِ
أنهج الدهرُ لها سبلَ الجفا
فمشت والدهرُ مخبارُ الصحابِ
فغدا تركُ الهوى مستعذبا
لي ولو جُرِّعْتُ كاسات العذابِ
كيف لا أسلو التي قد جرحت
حرمةَ الودِّ وفرَّت كالعقابِ؟
كان في قلبي هواها كالربى
فغدا لما جفتني كالضبابِ
ربةَ الغدرِ أنا رب الوفا
وسأرعاهُ إلى يوم الحسابِ
لا أباديكِ بما باديتني
فأنا سمحٌ وحسبي تركُ ما بي
كل ما قد كنت أستصوبهُ
منكِ بان اليوم لي ضدَّ الصوابِ

وقال إلى صديق لهُ:

إشارة الوداد

قلبٌ على وَصَب الهوى يتقلَّبُ
وَحَشًى على لهبِ الجوى تتلهبُ
ولظى الصبابةِ للفتى زمن الصبا
أشهى لديهِ من الصِّباءِ وأعذبُ
لا يُطْرِبُ الإنسانَ شيءٌ كالهوى
يوم الوصال فبئس من لا يطربُ
فاشرب كئوس الحب في حان الصبا
يا ابن الحجي فالحب للدنيا أَبُ
وارعَ الغرام على الشبيبةِ قبلما
يردُ المشيبُ ففيهِ حظك يهربُ
لي من دُمى الشهباءِ أحسن دميةٍ
تحكي الشهابَ دمي فداها يسكبُ
خودٌ إذا نظرت فرت كبدي فمن
لحظاتها انصلتَ الصقيل الأشطبُ
صدغٌ لها لذغَ الفؤَادَ ومقلةٌ
فتكت فذي أُسدٌ وذلك عقربُ
وبخدِّها اتحد الحيا فأحالهُ
وردًا ولكن ماؤُهُ لا ينضبُ
يا فتنة الألباب حسبكِ أنني
أودعتُ قلبي في يديك يعذبُ
لِسَنَاكِ بِعْتُ العقلَ في سوق الهوى
بيعًا بهِ رغمَ العواذلِ أكسبُ
لكنني لم ألقَ منكِ سوى الجفا
فجفاكِ أكثر من وفاك وأغلبُ
بالأمس وجهكِ كان يبسم بالرضا
فلِمَ أراهُ اليوم غيظًا يقطبُ؟
هل قد سمعت مقالة الواشين أم
عفتِ الوفا فلأيِّ شيءٍ أنسبُ؟
حاشا لمثلكِ أن تكون قبولةً
دعوى الوشاة فكل واشٍ يكذبُ
ومن المحالِ عليكِ تركُ الودِّ إذ
إنَّ المودَّةَ للمودَّةِ تجذبُ
لولا التجاذبُ في الطبيعة لم يقمْ
كونٌ وأحكامُ الطبيعة تعجبُ
عطفًا أيا ذات النفار على شجٍ
بفؤَادهِ أيدي التصابي تلعبُ
صبٌّ إذا ما جاءَ ذكركِ راح في
وادي الهيام كقيسِ لُبْنى يضربُ
كم بات يرصدُ بالنوى متحيرًا
ركبَ النجومِ وبالصَّبا يتصبَّبُ
إن كان حسنكِ حلَّ في قلبي فلا
عجبٌ فذا برجٌ وذلك كوكبُ
أو كان عندكِ هان سفك دمي فذا
أمرٌ مهولٌ عند غيركِ يصعبُ
لهواكِ أرغبُ في الحياة ولم أكن
ممَّن تلذ لهُ الحياةُ فيرغبُ
حزتِ الجمال بأسرهِ حتى غدا
عندي كفتح اللهِ حبكِ يعذبُ
شهمٌ صفت منهُ الصفات فأوشكت
من وردها كلُّ الموارد تشربُ
هو بحر ودٍّ منهُ يكتسبُ الفتى
دُررَ الولاءِ فنِعْم هذا المكسبُ
حُمِدَتْ مناقبُهُ لذا مُدِحَتْ وقد
كملت فضائلهُ فليست تحسبُ
فطلاقةٌ قصوى ورأيٌ ثاقبٌ
ومكانةٌ عليا وأصلٌ طيبٌ
ووداعةٌ تَدعُ القلوب لحبهِ
مجذوبةً أبدًا ومَنْ لا يجذبُ
هو في سماءِ الفخر بدرُ مَعَزَّةٍ
يزهو بنورِ بشاشةٍ لا تغربُ
لو لم ينلْ شعري لمدح صفاتهِ
شرفًا لكان يخالُ أنيَ أطنبُ
والشعرُ ليس يجلهُ شيءٌ سوى
لفظٍ جميلٍ فيهِ معنًى مطربُ
يا أيها الندبُ الذي لك ينتمي
شرفُ الكمال كذا الذكا لك ينسبُ
شيئان قد نَدَبا لمدحك همتي
خزيُ الحسود وحقُّك المستوجبُ
فمديح لطفك قد غدا دَينًا على
عنقي ومن كلٍّ مديحك يطلبُ
خذ يا أخا النعمى صداقَ الصدق من
رأفٍ أتى لرداحِ ودِّك يخطبُ
واركب أيا نجل الكرام على العلا
إنَّ العلاءَ لمثل شخصك مركبُ
واحمل على الأيام حملة كاسرٍ
واغزُ الخطوب فلا محالة تغلبُ
فمن الثنا والسعدِ عندك جحفلٌ
ومن الذكا والعقلِ عندك موكبُ

وقال:

إني رأيتُ الناس في فصل الشتا
يتبادرون إلى القعود على الركبْ
والصيفُ فيهِ يشطحون فيا شتا
لله درُّك كم تعلمنا الأدبْ!

حوادث الهوى

يا جمال الحبيب أنت عذابي
وبمرآك قد أضعت صوابي
مشهدٌ كلما تأملت فيهِ
عدتُ أرعى الهوى بقلبٍ مذابِ
شبت ممَّا قاسيت فيك غرامًا
يا لشيبٍ يلوحُ فوق الشبابِ
أخذتني خمر الصبابةِ حتى
صار عقلي مبدَّدًا كالضبابِ
وبقلبي الجوى أحاط فأجرى
عبراتِ العيونِ مثل السحابِ
واستقرَّ الحبيب في النفس حتى
صار بُعدي عنهُ نظير اقترابِ
فكأَنَّ الدنيا غدت لي غرامًا
حيث كلُّ الأشياءِ تدعو انتخابي
أرقٌ دايمٌ وشوقٌ مديدٌ
ودموعٌ تهمي بكل انسكابِ
وعيونٌ ترعى بدور ظهورٍ
وفوادٌ يرعى بدورَ حجابِ
واصطبارٌ في الحالتين نفورٌ
كنفار الشحيح عن ذى طلابِ
يا صحابي ما قولكم في فؤَادٍ
ذابَ وَجْدًا ما قولكم يا صحابي؟
هل ظننتم أنَّ التتيم سهلٌ
أو زعمتم كاس الهوى كالشرابِ؟
لا تظنوا أو تزعموا فهو صعبٌ
كالمنايا وعلقمٌ مثل صابِ
فتكت بي يد الهيام وأضنت
جسدًا ضاع في خلال الثيابِ
يا مهاة الحمى وبدر المغاني
وقضيبَ النقا وظبي الروابي
جذبتني منك اللواحظُ جذبًا
أخضعتني قوَّاتهُ للتصابي
كلما أوقع الولوعُ لحاظي
يا حياتي عليكِ حلَّ الفنا بي
فأريحي المحبَّ أو فاقتليهِ!
إن موتي خيرٌ من الأوصابِ
لكِ لفظٌ لم يروِ قلبيَ لو لم
يكُ ريان من زلالِ الرضابِ
ليت قلبي يسلو هواكِ! ولكن
بينهُ والسلوِ رشقُ حرابِ
قد سكنت الفؤَاد يا ربَّةَ السحـ
ـر وأوقدتِ فيهِ كلَّ لهابِ
كلما غنَّى في الخفا لكِ ذكرٌ
رقصَ القلبُ رقص طيرٍ مصابِ
إن أكن قد بكيت فالمرءُ من عا
دتهِ النوحُ في الأمور الصعابِ
لهفةٌ تسكب المدامع واللذْ
ذَة تفترُّ تحت ذا التسكابِ
ربَّ ليلٍ عذبٍ به جمعتنا
هممُ الحبِّ والعدى في غيابِ
فرأَت وجهي البشوش عبوسًا
فأنارتهُ بابتسام العتابِ
لا تخالي هذا القطوب جرى عن
سخَطٍ بل عن حيرةٍ واكتئابِ
وأبيني ما في فؤادك من شَوْ
قٍ وأبدي برق الثنايا العذابِ
لا تصدي ذا القلب عن خفقهِ إذ
نلتقي فهو في الهوى ذو اضطرابِ
ودعيهِ بالخفق يدفع للخدْ
دِ دمَ العشقِ في مجاري الشبابِ
فتنتني منك الحواجب إذ قد
حيرتني بالسلبِ والإيجابِ
لا عدمت الزوال يا دولة العشـْ
ـقِ فكم عثتِ في قلوب الشبابِ
ولكم قد نضيت دمعًا من الما
قِ وأنضبتِ من دمٍ في الوطابِ
لك ذلت كل النفوس كما ذلـْ
ـلَ غزالُ الفلا لليثِ الغابِ
وبك الشامخات دكت إلى القا
عِ ودانت لديكِ كلُّ الرقابِ
كم وكم فيك بات قلبي ينادي
وا عذابي من الهوى وا عذابي!
وا مصابي مما أقاسي من الوجـْ
ـدِ ومما جرى بهِ وا مصابي!
فلتدُسْكِ الأيام يا دولة الظلـ
ـمِ ولا يلهُ عنك وقع الخرابِ
آهِ وا حسرتي ووا حرَّ قلبي!
من ضنائي وحرقتي وانغلابي
ضيعتني الأشجان في كل نادٍ
وأطالت عن الصوابِ اغترابي
وأضلت قوى الصبابةِ عقلي
وأقام الهيامُ كلَّ العِنَا بِي
طالما ساقني الغرام إلى أشـْ
ـياءَ ما كنَّ قط من آدابي
فمتى يلمع الخلاص لعينيـْ
ـيَ وأنجو من لجِّ ذاكَ العذابِ؟
وا بكائي على صبايَ الذي قد
ضاع بين الأكدار والأتعابِ!
حينما لم أنلْ سوى قلقِ البا
لِ وفقدِ اللذاتِ والأطيابِ
قد حسبت الغرام سهلًا ولكن
عندما ذقتهُ أضعتُ حسابي
وكذا خلت أنهُ مستطابٌ
ويحَ قلبي من ذلك المستطابِ!
فمحبٌّ يذيبُهُ الشوق قهرًا
وحبيبٌ لم يرعَ ودَّ المذابِ
ليس عندي لداءِ حبي دواءٌ
غير علمي أنَّ الحبيب محابِ
طالما قد سفحت غيث عيوني
في الدياجي عساه يطفي التهابي
وإذا اشتدت الحرارة تستبـ
ـدي بخارًا تغدو بهِ في احتجابِ

وقال يرثي أحد أصدقائه الشبان:

ألقى الزمان على الدنيا يدا النكبِ
فلم يعدْ في حياة المرء من طربِ
والدهر أمطر فوق الناس كل أَسًى
لذاك لم يبقَ دمعٌ غير منسكبِ
دهر خَئُونٌ يرى فعل الجميل سُدًى
فلا يزال فعولَ الغدر والغضبِ
فما رأى قط وجهًا لاح مبتسمًا
إلَّا وألقى عليهِ برقع الكربِ
ما زال يفعل آياتِ الردى نكدًا
حتى هوى بهلالِ الأوج في التربِ
فاسترجع الناس يبكون الدِّما أسفًا
وصاح كل فتًى بالويل والحربِ
أما ترى الكلَّ في لطمٍ وفي نحبٍ
وظلمة الحزنِ قد مدَّت على حلبِ
نعم فأيُّ مصابٍ كان أعظم من
حلول بدر الصبا في أظلم الحجبِ؟!
بدرٌ هوى من أعاليهِ وكان على
أُفق الشبابِ بديع الحسنِ والأدبِ
فيا لبدرِ جمال عاد منخسفًا
ويا لغصن كمالٍ قد زوى وسُبي!
قد غاب رونق وجهٍ زاهرٍ حسنٍ
وغاض ماءُ قوامٍ ناضرٍ رطبِ
فكم تَفَطَّرَ قلبٌ يوم مصرعهِ
وكم ترقرق دمعٌ فاض كالسحبِ!
وكادتِ الأرض إذ قاموا بمحملهِ
تنشق من كمدٍ والشمس من عجبِ
باللهِ يا قبرُ بل يا بيتَ كل فتى
هل أنتَ تعلمُ مَن في ذا الترابِ خبي؟
حويت من قد حوى خير الشباب فها
قد صرت يا أيها الشيخ القديم صبي
من كان يؤذي رفيع الوشي جانبهُ
قد بات فيك ضجيعًا ناعم الجنبِ
ما للجمود بميخائيلَ مشتغلًا
من كان أجرى من الغدران والصَّبَبِ؟!
ما لي أرى ذلك الوجه الجميل غدا
بصفرةِ الموتِ محجوبًا وبالعطبِ!
ما لي أرى من يجيب الكلَّ في طلبٍ
إذا دعوناه لم ينظر لذي طلبِ!
فيا جميع العذارى في الحداد قفي
وعايني كيف من تدعين لم يُجبِ
ويا جميع الأطبا أين طبُّكم
قولوا لبقراط: إنَّ الطبَّ لم يطبِ
كذاك يا أيها الصحب الذين بكوا
عليهِ ماذا أفادت أدمع الصحبِ
ها قد فقدتم فتًى عزَّ النظير لهُ
أليس تدرون بخل الدهر بالنخبِ؟!
والموت يهجم مثل اللص مندفعًا
وليس يسرق إلَّا من يد السببِ
فما حياة الفتى عند اللبيب سوى
شعورهِ بالضنا والضنكِ والتعبِ

وقال في العرب والإفرنج:

حتامَ تزرون يا إفرنجُ بالعربِ
مهلًا فلا خيرَ بابنٍ قد زرى بأبِ
ما فضل قومٍ من الأوباش لا نسبٌ
لهم على قوم إسماعيلَ ذي النسبِ
إن كان بالعلم جئتم تفخرون فمن
معالم العربِ كلُّ العلمِ والأدبِ
أخذتم الطبَّ عنهم والحساب وما
يتلوهُ والشعر حتى كلَّ منتخبِ
وعنهم صنعة البنيان قد أخذت
مَعَ الزراعةِ والتحصيل والجلبِ
تذكروا ما غنمتم يوم ندوتكم
في أرض أندلسٍ من تلكمُ الكتبِ
فهل فضلتم علينا باختطافكمُ
أرزاقنا آهِ وا حزني ووا عجبي!
وأيُّ فضلٍ للصٍّ دبَّ في غسق
على غِنًى فاكتَسى طوقًا من الذهبِ؟!
فسوف يقبض جاسوس الزمان على
ذا اللصِّ فالدهرُ حكم غير منغلبِ
لا تفخروا يا بني الإفرنج في شططٍ
على بني العربِ أهل الأصل والحسبِ
صعدتم الأوج لكن فوق سلمهم
فكرموا سلمًا تمتدُّ للشهبِ
وطهروا عند ذكر العرب ألسنكم
فالعربُ سادتكم من سالفِ الحقبِ
مهما سما العبدُ واستعلى وزاد غنًى
ما جاءَ سيدهُ إلَّا من الجنبِ
ذي فطرةُ العرب عزَّت أين فطرتكم؟!
لم يلفَ بينهما واللهِ من نسبِ
أنشاهمُ اللهُ من جودٍ ومن كرمٍ
ومن ذكاءٍ ومن صفوٍ ومن طربِ
ومن ذمامٍ أبى إلَّا الثبات ومن
مروءةٍ دأبها تبدو لدى الطلبِ
هم الذين لتاريخ القديم حمَوا
فاغتلتموهُ وشنتم ذمة العربِ
حسن الوفا والولا يُعزَى لهم وكذا
قرى ضيوفٍ وإحسان لمغتربِ
هذي خلائقهم والكل شاهدها
فما خلائقكم يا أمة اللجبِ
دحاكمُ اللهُ من لؤْمٍ ومن عَنَتٍ
ومن عتوٍّ ومن حقدٍ ومن غضبِ
كأنما معهدُ الطاغوت عندكُمُ
فما نطقتم بغير المينِ والكذبِ
فلا صديقٌ لكم غيرُ النضارِ ولا
خلٌّ سوى الفضةِ البيضاء والنشبِ
ولا وفاءٌ ولا عهدٌ ولا ذممٌ
ولا حنوٌّ ولا عونٌ لمنتكبِ
لم تحسنوا غير تعبيس الوجوه فلا
أنسٌ لديكم ولا بشرٌ لمرتقبِ
ولم تمدُّوا يدًا للغوثِ إن قُصِدت
حتى تعودَ لكم بالنهبِ والسلبِ
هيهات ما العربُ تهوى ذي الطباع فلا
تزروا بهم كازدراء الشوك بالرطبِ
تأدبوا كلما للعُربِ عنَّ لكم
تذكرٌ يا بني حمالة الحطبِ
العرب قد ملكوا الدنيا وقد فتحوا
كل المناطقِ من قطبٍ إلى قطبِ
وقد تعالوا وسادوا وارتقوا وسطوا
وأرسلوا فخرهم يعدو على السحبِ
وهاك آثارهم بالفوز شاهدةً
ما بينكم وإذا غابوا فلم تغبِ
فما فضائلكم بالأرض نحسبها
غير الحروبِ ودفعِ الناسِ في الحَربِ
تباركَ اللهُ إنَّ الشرق همَّ إلى
راسِ المدارِ وهمَّ الغربُ للذنبِ

وقال:

نفسٌ وقلبٌ ذي تحبُّ وذا يَجِبْ
من عاشقٍ لم يدعُ غيركِ أو يُجِبْ
يا كوكب الحسن الذي طول المدى
أرعاهُ في أفق الغرامِ وأرتقبْ
حسنٌ عليكِ تغار من أنوارهِ
شمس الضحى والبدر منهُ يعتجبْ
إن كنت أنت من الدُّمى صنم الهوى
فعلى هياكل مهجتي هو منتصبْ
عذبٌ على قلبي السجود لديكِ في
قدس الجوى قسمًا بذاك المحتجبْ
لكِ في الحديثِ تبسمٌ يسطو على
برقِ السماءِ ببرقِ ظَرفٍ لم يغبْ
روحي الفداءُ لذلك الثغر الذي
يفترُّ إذ أروي الشجون وأضطربْ
ثغرٌ إذا ما افترَّ من كلمي فقد
راعى النظير فذي وذا درٌّ رطبْ
أو جنبذٌ في الروض تفتحهُ الصبا
عند الصباح فتسرق العطر العذبْ
أفديك ساحرةَ العقول بأعينٍ
ما كنت لولاهنَّ صدقتُ الكذبْ
مقلٌ عليَّ أغرنَ من جيشِ الهوى
غاراتهنَّ وما أنا ممن غلبْ
حتى افتتحن حصون قلبي غلبةً
وملكن مملكةً أبت أن تنقلبْ
قلبٌ على عهد الصبابةِ ثابتٌ
يرعى الذمام ولا يخونُ ولو سلِبْ
لا والذي جعل الوفاءَ مزية
يعلو ويعظمُ من إليها ينتسبْ
إنَّ الوفيَّ على الكرامة قد ثوى
وكذا الخَئُون إلى الإهانة قد شجبْ
ما أكثرَ الوافين والواقين في
فرحِ الفتى! وأقلَّهم إذ يكتئبْ!
الناس في بلواك إمَّا شامتٌ
لا يجتدى أو راحمٌ لك يجتنبْ
ولرحمةِ المتوجعين حزازةٌ
كالشامتين تزيد نكبةَ من نكبْ
وعلى المصابِ يضجُّ من هو باعدٌ
عنهُ ويسكت فيهِ من هو مقتربْ
فالصارخون الأبعدون عن الأسى
والصامتون الأقربون وذا يجبْ
أَنحو النحيب إذا توعدني الردى
وإذا أتمَّ وعيدهُ لا انتحبْ

الكلام الجامع

أقولُ للخدِّ عندَ اللثم للشنبِ:
كفاك تصلي فؤَادي يا أبا لَهبِ
وقلتُ للقدِّ لمَّا صادني مَيلًا:
أفديكَ غصنَ كثيبٍ صادَ عن كثبِ
ومذ تضاحك ذاك الثغرُ قلتُ لهُ:
لله درُّك يا ضحاكُ بالحَبَبِ
من لي بحبِّ رداحٍ وجهها قمرٌ
يزري الشموسَ بنورٍ غير مكتسبِ!
يدورُ في فلكٍ من جوهرٍ ولهُ
منازلٌ ضمن قلبٍ جلَّ عن ريبِ
يا ليتَ شعريَ هل تدري التي سلبت
عقلي بطلعتها ما قيمةُ السَّلَبِ؟
وهل ترى علمت أن الذي غلَبت
لهُ على الخطب صبرٌ غيرُ منغلبِ؟
مقصورةٌ في حجاب الخدر مشهدُها
يُجلى على القلب رغمَ الخدر والحُجبِ
وغادةٌ عينها ترمي الأسودَ إذا
رَنَتْ فما فوَّقت سهمًا ولم يصبِ
لواحظٌ نفثت سحرَ المحبَّةِ في
قلبي فضجَّ بصدري طالبَ الهربِ
ولقَّنتني معاني الشعرِ رائقةً
فجاء شعري بسحرٍ طيِّبٍ عذبِ
فإن يكن قد سما قدري فلا طمعٌ
لي بالثراءِ ولا أهفو إلى الرُّتَبِ
هيهات يرفعُ قدري في الورى لقبٌ
إن لم أكن مستحقًّا رفعة اللقبِ
مالي وللشرفِ الممنوح من بشرٍ
موتي نظيري فحسبي فخرةُ الحسبِ
لا يفخرنَّ امرؤٌ بالمال والرتبِ
إن لم يكن فاخرًا بالعلم والأدبِ
فالمال يُفنى ويُمحَى ذكرُ صاحبهِ
وذكرُ ذي الفضل لا يُمحى مدى الحقبِ
ولا يجُلُّ الفتى إلا الكمال فَمَنْ
يُخلُّ زلَّ ولو قد غاص في النَّشَبِ
هذا لباسٌ أبى التردادُ يخلقهُ
وحليةٌ بالسنا تزهو على الشُّهُبِ
أما ترى أَنَّ خيرَ الناس من نفعت
أعمالُهُ الناسَ لا من تاهَ بالذهبِ
فكم فقير أتى الدنيا بخير غنى
وكم غنيٍّ عقيمٍ كالسباخِ غبي
والباسل القرمُ من بالعرف غار على
إخوانهِ الناس لا بالسمر والقُضُبِ
إني أرى الحجرَ الفحميَّ أفضلَ من
حجارة الماس والياقوت ذي اللهبِ
فذاك قام لنفع الناسِ كلهم
وتلك للكبرِ والإسرافِ واللعبِ
نعم صدقتُ وربُّ القنع يشهدُ لي
والصدقُ هيهات أن يحمر كالكذبِ
إنَّ القنوعَ نفيسُ النفس راشدُها
وَهْوَ الغنيُّ الذي يحيا بلا نَصَبِ
وذا المطامعِ مغرورٌ ومفتقرٌ
ولو حوى ملكَ سلطان وعلم نَبي
يغدو لِوِرْدِ الغنى دومًا على لغبٍ
ولابتلاع الدُّنا يمسي على سغبِ
ولا يذوق المدى ريًّا ولا شبعًا
كالنار تهضمُ ما تلقى من الحطبِ
والمرءُ لا تنقضي آرابُهُ أبدًا
إذا انقضى أربٌ يصبو إلى أربِ
والنفسُ في مضجع الجثمان راقدةٌ
كالشيخ تحلمُ بالأشياءِ حلمَ صبي
ألَا وحقِّ أبي هذا الملا عجبٌ
هذا الملا عجبٌ أَلَا وحقِّ أبي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤