الفصل العاشر

حزن قرعويه وسُقِط في يده وخاب أمله، وعاش أبو فراس مع زوجه نجلاء في أمن وسعادة، يرفّ فوقهما جناح الحب الهنيء! وكانت صوفيا تكثر الزيارة لهما، وتشاركهما في كثير من صنوف البهجة والسرور. وأقبلت أمه من منبج بعد طول الفرقة لتنعم بقرب ابنها البطل. وبعد سنة وضعت نجلاء طفلة بارعة الحسن، سمتها «فوزًا» لأنها كانت تشعر حقًّا بحلاوة الفوز بحبيبها، بعد أن وقفت الحوائل طويلًا بينهما.

وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، زحف الروم إلى مدينة حلب نفسها، فاشتدَّ الذعر والقلق، وقام أبو فراس يدعو إلى الغزو والجهاد ويصيح:

كيف يُرجَّى الصلاح من أمر قومٍ
ضيَّعوا الحق فيه أيَّ ضياعِ؟
فمطاعُ المقال غير سديدٍ
وسديد المقال غير مطاعِ

ونهض مع سيف الدولة على رأس جيش قليل العدد لا يزيد على أربعة آلاف، وكان جيش الروم يبلغ الثمانين ألفًا مجهزًا بالعدد الحربية، وآلات التدمير، والنار اليونانية، والدبابات الهائلة، والتقى الجيشان بالقرب من «منبج». ووثب أبو فراس على أعدائه لا يهاب الموت ولا يرهب العدد العديد. وما زال يضرب باليمين وبالشمال طول يومه، حتى تحطَّم سيفه، وتمزَّقت درعه. ولما نفدت طاقته، وأصابه سهم في فخذه كاد يستنزف دمه، تكاثر عليه الروم فقبضوا عليه، بعد أن أعياهم قتاله. ونجا سيف الدولة بنفسه إلى بالس. وهي مدينة بين حلب والرِّقة على ضفة الفرات.

وقع أبو فراس في الأسر، وخاف الروم أن يفرَّ من أيديهم هذه المرة، فنقلوه إلى القسطنطينية، ووصلت الأخبار إلى حلب فحزن الناس، وأقاموا بكل بيت مأتمًا. وكانت ثلاثة رءوس تجتمع في كل ليلة مطرقة حزينة سامدة،١ تطيل الإطراق ثم ترتفع وقد شخصت عيونها إلى السماء، وانطلقت ألسنتها بالدعاء والتوسُّل، هذه هي: رءوس نجلاء وسخينة وصوفيا.

وابتهج قرعويه لأسر عدوه، وعمل على أن يفسد بينه وبين سيف الدولة، وما زال بالرجل حتى أحفظه على ابن عمه، بعد أن كان له محبًّا وبه كلفًا.

ودخل أبو فراس السجن بالقسطنطينية. وكان حصنًا رحيبًا يشرف على البوسفور. ولم يكن يشغل باله إلا نجلاء وابنته فوز. وأساء إليه الروم أول الأمر، وخشنوا في معاملته، فكان لا يسعده في وحدته إلا الشعر يرسله مع أنات الحنين. وكان يبعث إلى ابن عمه سيف الدولة بطويل القصائد يستحثُّه على افتدائه، ويصف إليه سوء حاله. وهي تلك القصائد الرائعة، التي فاز بها الأدب العربي في هذه الحقبة. فطالما صاح بابن عمه في ظُلمة الليل البهيم وهو يقول:

دَعَوْتُكَ للجفْنِ القَرِيحِ المُسَهَّدِ
لَدَيَّ وَللنَّوْمِ القَلِيلِ المُشَرَّدِ
وَمَا ذَاكَ بُخْلًا بِالحَيَاة وَإنَّهَا
لأَوَّلُ مَبْذُولٍ لأوَّلِ مُجْتَدِي
وَما زَلَّ عَني أنَّ شَخصًا مُعَرَّضًا
لنبلِ العدا إنْ لمْ يصبْ فكأنْ قدِ
وَلَكِنَّني أخْتَارُ مَوْتَ بَني أبي
على صهواتِ الخيلِ غيرَ موسَّدِ
نضوتُ على الأيامِ ثوبَ جلادتي
ولكنني لمْ أنضُ ثوبَ التجلُّدِ
فمِنْ حُسنِ صَبرٍ بالسَّلامَة وَاعِدي
ومنْ ريبِ دهرٍ بالردى متوعِّدي
فمثلكَ منْ يُدعى لكلِّ عظيمةٍ
ومثليَ منْ يُفدى بكلِّ مسوَّدِ
تَشَبَّثْ بها أكرُومَة قَبْلَ فَوْتِهَا
وَقُمْ في خلاصي صَادق الوعد وَاقعُدِ
فإنْ تَفْتَدُوني تَفْتَدُوا شَرَفَ العُلا
وأسرعَ عوَّادٍ إليها معوَّدِ
يطاعنُ عنْ أعراضكم بلسانهِ
وَيَضْرِبُ عَنْكُمْ بِالحُسَامِ المُهَنَّدِ
متى تخلف الأيامُ مثلي لكم فتًى
طويل نِجاد السيف رحب المقلَّدِ
ولا وأبي ما ساعدان كساعدٍ
وَلا وَأبي ما سَيِّدَانِ كَسَيِّدِ
وإنكَ لَلْمولى الذي بكَ أفتدي
وإنك لَلنَّجم الذي بكَ أهتدي
وَأنْتَ الَّذي بَلَّغْتَني كُلَّ رُتْبَةٍ
مشيتُ إليها فوقَ أعناقِ حُسَّدي

وقد يغلبه اليأس فيصيح:

هل تعطفان على العليلِ؟
لا بالأسير ولا القتيلِ
باتت تقلبه الأكفُّ
سحابة الليل الطويلِ
فقد الضيوف مكانَهُ
وبكاه أبناء السبيلِ
وتعطلت سمر الرما
ح، وأغمدت بيض النصولِ
يا فارج الكرب العظيـ
ـم، وكاشف الخطب الجليلِ!
كن يا قوي لذا الضعيـ
ـف، ويا عزيز لذا الذليلِ
قرِّبه من سيف الهدى
في ظل دولته الظليلِ
لم أرو منه ولا شفيـ
ـت بطول خدمته غليلي
ولئن حننتُ إلى ذَرا
ه لقد حننت إلى وصولِ
لا بالقَطوب ولا الغَضو
ب ولا الكَذوب ولا المَلولِ
يا عُدَّتي في النائبا
ت وظُلَّتي عند المقيلِ!
أين المحبة والذِّما
م وما عددت من الجميلِ؟

وطالما ثارت نفسه على الناس فغمغم يقول:

بمن يثق الإنسان فيما ينوبُهُ؟
ومن أين للحر الكريم صحابُ
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم
ذئابًا على أجسادهن ثيابُ
تغابيت عن قوم فظنوا غباوتي
بمفرق أغبانا حصًى وترابُ
ولو عرفوني بعض معرفتي بهم
إذًا علموا إني شهدت وغابوا
إلى الله أشكو أننا بمنازلٍ
تحكَّم في آسادهن كلابُ
تمرُّ الليالي ليس للنفع موضعٌ
لديَّ، ولا للمعتفين جنابُ

وكثيرًا ما استطال مدة أسره دون مُنقذ أو معين فهتف:

أقمت بأرض الروم عامين لا أرى
من الناس محزونًا ولا متصنِّعا
إذا خفتُ من أخوالي الروم خُطَّة
تخوفت من أعمامي العرب أربعا
وإن أوجعتني من أعاديَّ شيمةٌ
لقيت من الأحباب أدهى وأوجعا
ولو قد رجوت الله لا شيء غيرهُ
رجعت إلى أعلى وأمَّلت أوسعا
لقد قنِعوا بعدي من القَّطْر بالندى
ومن لم يجد إلا القُنوع تقنَّعا
وما مرَّ إنسان فأخلف مثلَهُ
ولكن يرجَّى الناس أمرًا موقَّعا
تنكَّر سيف الدين لما عتبتهُ
وعرَّض بي تحت الكلام وقرَّعا
فقولا له من صادق الودِّ إنني
جعلتك مما رابني الدهر مفزَعا
ولو أنني أكننته في جوانحي
لأورق ما بين الضلوع وفرَّعا
فلا تغترر بالناس ما كلُّ من ترى
أخوك إذا أوضعت في الأمر أوضعا
فلله إحسان عليَّ ونعمةٌ
ولله صنع قد كفاني التصنُّعا
أراني طريقَ المكرمات كما أُرِي
عليٌّ وأسماني على كل من سعى
فإن يك بطءٌ مرة فلطالما
تعجل بي نحو الجميل فأسرعا
وإن يجفُ في بعض الأمور فإنني
لَأَشكره النُّعمى التي كان أودعا
وإن يستجدَّ الناس بعدي فلم يزلْ
بذاك البديل المستجدِّ ممتَّعا

وقد يطالعه خيال نجلاء فينشد:

إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعًا من خلائقه الكبرُ
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكرُ

ويحن إلى أمه فيقول:

لولا العجوز بمنبجٍ
ما خفت أسباب المنيهْ
ولكان لي عما سألـ
ـتُ من الفدى نفس أبيهْ
لكن أردت مرادها
ولو انجذبت إلى الدنيهْ
أمست بمنبج حرةً
بالحزن من بعدي حريهْ
لا زال يطرق منبجًا
في كل غادية تحيهْ
فيها التقى والدين مجـ
ـموعان في نفس زكيهْ
يا أمتا لا تحزني
وثقي بفضل الله فيهْ
يا أمتا لا تيأسي
لله ألطاف خفيهْ
أوصيك بالصبر الجميـ
ـل فإنه خير الوصيهْ

وحينما نفد صبره، وضاق صدره بالأسر، حاول الفرار ذات ليلة وكاد يُفلت، لولا أن هبَّت فجأة عاصفة هوجاء، أيقظت الحراس النائمين. وشاع خبر محاولته الهرب في المدينة، وتحدَّث الروم من جديد بشجاعة الفارس العربي وجرأته، وأخبر ملك الروم زوجه «تيوفانو» بالحادثة، وأفاض في إطراء أبي فراس ووصف وسامته وشجاعته، وأنه مثال رائع للبطولة العربية. فتشوقت إلى رؤيته. وكانت تيوفانو آية من آيات الجمال الإغريقي: تزوجت أول أمرها برومانس ملك الروم، وكان فتى جميل الطلعة نضير الشباب، ولكنها لم تنعم بحبه طويلًا حتى طواه الموت. وجلس بعده نيقفور على سرير الملك، واستهواه جمالها، فما زال يتقرب إليها ويتوسل ويستعطف، حتى تزوجته على كره منها.

وما تبلج الصباح حتى خرجت تيوفانو إلى السجن، لتشاهد ذلك الفتى العربي، الذي أثار الناس حوله ضجة من المديح، وكادوا يلحقونه بآلهتهم القدماء. وما كادت تقف أمام أبي فراس حتى رأت تمثالًا أبدع الخالق القدير تنسيقه للقوة والبطولة، ورأت الشهامة العربية والشمم القرشيَّ في وجه لم تستطع الوقائع والأهوال واشتباك السيوف أن تمسَّ شيئًا من وسامته، فخطر بنفسها خاطر يشبه الجنون: لِمَ لا يكون هذا الفارس الجميل قائدًا من قواد الروم؟ ولِمَ تُحرَم القسطنطينية هذه الدرع الحصينة التي هي أصلب من أسوارها، وأقوى من قلاعها، إنه إذا انضم إلى جيش الروم قهر الدنيا وأعاد إلى القسطنطينية المجد القديم. لقد وقع هذا الصقر في أيدينا فلِمَ لا نتخذ منه قوة إلى قوتنا، وبازيًا لصيد أعدائنا؟ خطر بنفسها هذا الخاطر فمالت نحو الأسير وقالت: ما حالك اليوم يا بطل الصحراء؟ وكان أبو فراس تعلَّم من صوفيا ما يستطيع به أن يفهم الرومية، وأن يتحدث بها في شيء من اليسر فابتسم وقال: حال الأسير العاني يا درَّة البحار.

– هل فارقت في حلب حبيبًا؟

فزفز أبو فراس وقال: فارقتها ولم يفارقني خيالها.

– إن في فتيات الروم من الحسن ما يزهد فيك كل ذات جمال، وقد جئت أيها الفارس لأفتح أمامك باب الأمل، ولأبدِّد عنك خواطر اليأس، ولأنقلك من هذه الحجرة المظلمة إلى أعظم قصر بالمدينة.

– كيف يا سيدتي؟

– إن الأمر بيدك وهو عليك جِدُّ يسير.

– لا أفهم ما ترمين إليه.

– سنخلص لك الودَّ ونغمرك بمحبتنا ونعمنا إذا رضيت بالحياة معنا وجرَّدت حسامك في صفوف جيوشنا.

– أنا يا سيدتي؟

– نعم سيجعلك نيقفور قائد جيوش الروم، وستكون مرتبتك تالية لمرتبته.

فضحك أبو فراس وقال: يا سيدتي إن العرب لا يبيعون أنفسهم لأعدائهم ولو لاقوا ما هو شرٌّ من الحِمام. إننا يا سيدتي أبناء الصحراء نبتت أخلاقنا من صخورها، واتَّقدت قلوبنا في قَيظها وهجيرها. نحن لا نحنُّ إلى النعيم إلا في ظل الشرف والكرامة والذَّود عن الحوزة والدفاع عن العقيدة والوطن. لا يا سيدتي إنني أجد في الأسر لذة ونعيمًا كلما ذكرت أنني لم أصل إلى السجن إلا بعد أن سقطت في ميدان الشرف والجهاد.

– عجيب أمرك أيها الفتى، تقبل الدنيا عليك بحذافيرها فتركلها بقدمك لوهْم كاذب وكبرياء معتوهة؟!

– إنها العقيدة الراسخة يا سيدتي، والخُلق العربيُّ الذي ارتضعناه من أَثْدَاء أمهاتنا.

– تصوَّر أنك ستكون القائد الأعظم لجيوش الروم، وتصوَّر أني سأزوجك إحدى وصيفاتي وهي أجمل امرأة فتحت عليها عين إنسان.

– لو كنت جنديًّا في جيش العرب ما قبلت أن أكون ملكًا لكم. أما الزواج يا سيدتي فإني متزوج بمن لا أبيعها بالجنة وملائكتها الأطهار.

– إنك ستظل في الأسر ذليلًا إلى أن تموت دون أن تجرِّد سيفًا لنصرة العرب ودون أن ترى لزوجك ظلًّا.

– السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه.

فظهر الغضب على وجه تيوفانو وغادرت السجن وهي تغمغم بكلمات لم يفهمها. ولم تزره في السجن بعد ذلك، ولكنه لحظ بعد زيارتها تضييقًا من الحراس وعنتًا. واستمر في السجن أكثر من ثلاث سنين دون أن تُقدَّم فدية لإطلاقه.

وقضت نجلاء طوال هذه المدة في هم مقعد مقيم، لا تجد إلى تخليص زوجها سبيلًا، حتى إذا اشتدَّ بها الوجد، فتحت خزائنها لتمتع عينيها برؤية أول هدية أهداها إليها، فأخرجت العلبة الذهبية، وكشفت غطاءها، وأبرزت اللؤلؤة الفريدة ملفوفة بورقتها كما أخذتها من أبي فراس، وجلست تنظر إليها في ألم وحسرة، وقد طافت بها طيوف الماضي البعيد. وبينما هي كذلك إذ دخلت صوفيا، فأرتها اللؤلؤة، وأخبرتها بخبرها، وبأن قائدًا من قواد الروم أهداها إلى الأمير سعيد أبي زوجها، وأن سعيدًا أهداها قبل موته إلى ابنه أبي فراس.

فعجبت صوفيا من عظمها وصفائها، ثم التفتت فإذا ورقة على بساط الغرفة يعبث بها النسيم، فمدت إليها يدها وبسطتها، فإذا عليها كتابة بالرومية، فلما شرعت تقرؤها بدت على وجهها علامات الدهش، ثم صاحت: نجا أبو فراس! نجا أبو فراس! فهزت نجلاء كتفيها في خشونة وصاحت: كيف؟ كيف؟ بالله قولي كيف؟

– اسمعي يا حبيبتي ترجمة ما في هذه الورقة التي بقيت في خزانتك أكثر من ثلاث سنوات، وزوجك يلاقي ذل الأسر وعذاب الهُون، والتي قذفت بها فوق بساط الغرفة تذهب بها الرياح كلّ مذهب.

– ماذا فيها يا صوفيا؟

– فيها ما يأتي: «أنا واسيلوس الأول رأس الأسرة المقدونية وملك الروم، أقرر بخطي أنني بينما كنت في «قيصرية» وقعت أسيرًا في يد أمير من أمراء العرب اسمه أبو العلاء سعيد الحمداني. فأكرمني غاية الإكرام، وفك أسري، فلم أجد وسيلة لشكره إلا أن أهديه علبة من الذهب بها لؤلؤة نفيسة، ليس لها مثيل في الدنيا إلا لؤلؤة محفوظة بقصرنا بالقسطنطينية، وإني آمر كل رومي أن يكرم كل من يحمل هذه الورقة، ويحمل معها اللؤلؤة، وأن يجيب مطالبه.»

وما كادت تتم صوفيا قراءة الرسالة حتى رقصت نجلاء من الفرح، وأقبلت على صوفيا تقبِّلها، وتجتذب شعرها، والدموع تنهمر على عينيها انهمارًا. فلما أفاقت من النوبة، التفتت إليها وقالت: يا صوفيا! أنت نجم أبي فراس الصاعد، وملكه الحارس، هذه هي المرة الثالثة التي تنقذينه فيها. وهنا دخلت سخينة فأخبرتها الخبر، فكادت تجنُّ من الفرح. ثم قامت نجلاء إلى خزانة أبي فراس وأخرجت منها ثلاثة أثواب، وأمرت خادمها أن تأتيها بخيط وإبرة. فدهشت صوفيا وقالت: ماذا تريدين أن تصنعي؟

– أريد أن أقصر هذه الثياب حتى تلائم قدِّي لأرتديها وأذهب إلى القسطنطينية لإنقاذ زوجي.

– وحدك؟

– نعم وحدي، ولن يذهب أحد معي. إنه كان يستهين بالموت في حبي، فلِمَ أهاب الموت في حبه؟ هلمَّ هلمَّ، قصِّرا الثياب فإن الانتظار يكاد يقتلني. وبعد أن تمَّ تقصير الثياب قصَّت نجلاء شعرها، ولبست أحد الأثواب، ووضعت الثوبين الآخرين مع عشرة أكياس من الدنانير في علبة، وتمنطقت بحزام به خنجران، وتقلدت أحد سيوف زوجها، وأمرت أسامة أن يعد لها أسبق جواد في الإصطبل، ثم ودَّعت سخينة وصوفيا، وانطلقت فوق الجواد كأنها البرق الخاطف.

ولو حاولنا وصف الطريق، وما لقيته نجلاء من الجهد والنصب، ومن عصابات اللصوص بين عرب وروم، لامتدت القصة وطال حبل الكلام، ويكفينا أن نقول: إنها بلغت القسطنطينية بعد عشرين يومًا قضتها بين الخوف ولقاء الموت، وبين اليأس والأمل. فأخذت سمتها نحو قصر الملك، فقابلها الحرَّاس لدى الباب، وصاح بها زعيمهم وكان له إلمامة بالعربية: من أنت أيها الفتى؟

– رسول من قبل سيف الدولة برسالة إلى الملك.

– لعله يطلب الهدنة بعد أن دمَّرنا عليه حلب.

– إنكم دمَّرتم بنيانها، ولم تدمروا قلوب رجالها. فظهر الغضب على وجه الزعيم وقال: عجيب شأن هؤلاء العرب فإن اليأس لا يعرف إلى قلوبهم طريقًا.

– إن العرب يحاربونكم بإيمانهم، وأنتم تحاربون بدبَّاباتكم ونيرانكم اليونانية.

– كفى أيها الفتى الشجاع، تسلَّب من سلاحك وادخل.

فنزعت نجلاء سلاحها، ودخلت القصر مع المترجم، حتى وصلت إلى بهو العرش، فرأت نقفور فوكاس جالسًا على سريره وحوله الوزراء والقوَّاد، فأدَّت تحية الملوك، وقدمت إليه الورقة، فقرأها والدهشة تبدو على وجهه. ثم صاح بالمترجم: سل الفتى أين اللؤلؤة؟ فمدت نجلاء يدها بالعلبة، فأخرجت منها اللؤلؤة فقال: حقًّا إنها أخت لؤلؤة القصر. ثم اتجه إلى المترجم وهو يقول: هذه الرسالة من مؤسس دولتنا واسيلوس، وأمره حكم واجب الطاعة، ويظهر أن الأمير العربي الذي أحسن به، ووهب له حياته، كان بطلًا كريمًا، فسل الفتى أيها المترجم عما يشاء. فلما ترجم الكلام لنجلاء قالت: أطلب إطلاق رجل في أسر الملك، هو أبو فراس الحمداني!

– لقد طلبت عظيمًا يا فتى. إن أبا فراس وحده جيش لُهام، ولم يهدأ للروم روع إلا بعد أن ظفروا به. أطلب ما تشاء يا فتي غير هذا.

– لن أطلب سواه.

ففكر نيقفور مليًّا ثم قال لقواده: اذهبوا معه، وأطلقوا سراح أبي فراس. فخرجت نجلاء وهي لا تكاد تصدِّق ما سمعت، حتى إذا وصلت مع القواد إلى السجن، واتجهوا نحو غرفة أبي فراس سبقتهم إليها، فلما رآها صاح: نجلاء؟! نجلاء حبيبتي؟! وانكبَّ عليها كالمجنون يقبلها ويبكي، وقد طوقته بذراعيها، وهي تهتف: وجدت حبيبي، وجدت حبيبي! ودخل القوَّاد فعجبوا مما رأوا، وزاد في دهشتهم أنَّ الفتى العربي انقلب فتاة رائعة فاتنة، وبعد لأْي هدأ الفتى، وهدأت الفتاة، وأخبرته نجلاء بقصَّتها، وبأمر الملك بإطلاقه. فحملها بين ذراعيه كأنه يحمل البازي العصفور، وخرج من السجن والقواد أمامه، وإذا هم لدى الباب رأوا تيوفانو واقفة وهي تبكي، وحينما لمحت أبا فراس مدَّت إليه يدها في حزن وأسى، وهي تتمتم: سحقًا للروم لقد سلَّمت سلاحها لأعدائها!

واشترى أبو فراس جوادًا، وانطلق مع نجلاء نحو حلب، حتى إذا بلغاها هبَّت المدينة للقائهما، وأصبحت قصة نجلاء حديث كل دار، وأنشودة كل شاعر، ولقي أبو فراس أمه فأبكاهما اللقاء، ولقي صوفيا فعانقها طويلًا، وكان شكره لها أطول من عناقه، وملأ السرور كل قلب إلا قلب رجل واحد، هو قرعويه.

١  سامدة: كالغافلة الساهية من الحزن والتفكير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤