مقدمة

بقلم  مصطفى صادق الرافعي

باسمك اللهم أقدم بين يدي فاتحة الكتاب، وبحمدك أتقدم بين يديك إلى ما تفتح من الصواب، وبالصلاة والسلام على نبيك الحكيم أستفتح من حكمة الألباب هذا الباب؛ اللهم فاجعل لكتابي من اسمك فائدة الذكر والبقاء، واكتب له من حمدك معنى القبول والثناء، وألق عليه من أثر الحكمة بركة المنفعة والنماء.

أما بعد: فإن هذا التاريخ علم قد كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام، واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام، وقد أخصب في الأوهام، حتى نفشت١ في واديه كل جرباء؛ وامتزج أمره بالأحلام، فلم يمس كتابه علماء حتى أصبح قراؤه أدباء؛ على أنهم تجاذبوه انتهابًا فجاء واهيًا في وثيقته٢ وتناكروه اهتيابًا٣ فخرج ضعيف الشبه بين ظاهره وحقيقته؛ وما منهم إلا من يحسب أنه أمال بالقلم يده فمضى مُرخي العنان، مخلى له عن طريق السبق إلى الرهان؛ وإن للقلم لو أطلقوه لنفرةً أيسر خطبها الجماح، ولكنه مذلل والطائر أهون ما يطرد إذا كان مهيض الجناح.٤
كثرت الكتب، وهي إما أعجمي الوضع والنسب، وإما هجين في نسبته إلى أدب العرب٥ يلتفت فيها الكلام التفاتة السارق إلى كل ناحية؛٦ ويسرع في مره إسراع السابق على كل ناجية٧ فلا يحققون ولكن يخلدون إلى سانح الخاطر كيفما خطر٨ ولا ينقبون ولكنهم يجدون في كل حجر أصابوه معنى الأثر؛ وإذا كتبوا تاريخ الرجال فكأنهم يكتبونه على ألواح القبور٩ ثم ينطلق الكتاب وفي صدره اسم (المؤلف) يسعُل به كما يسعل المصدور، وهم لو عُلِّمُوا منطق المعاني لرأوا كلامًا كثيرًا يَدْعوهم أن يَدَعُوه، وكان يرفعهم، لو أنصفوه ولم يضعوه؛ ولكنهم يأخذون في كل جانب، ويضم ما ضم حبل الحاطب١٠ وإنما كان العلم كالروض: يقصر بعض أغصانه فيسهل على كل متناول، ويطول بعض فروعه فيكد يد الفارع المتطاول؛ وهذا التاريخ قد طُوي في رؤوس أهله فكانت جماجمهم غِلَاف كتابه، وغابت حقائقه في القبور كما يغيب أثر الميت في ترابه؛ فلم يبق إلا إنفاق الأعمار وسيلةً لاستدراك ما فات؛ وليكون ما يموت من عمر الأحياء فداءً لآثار الحياة بعد الموت؛ وفي ذلك هم من الكد يلحَف القلوب والأكباد١١ وحرية تتلذع حتى في القلم والصحيفة والمداد، وضيق يخيل للباحث أن بين الأوراق، بحارًا ذات أعماق؛ وأن رأسه يصطدم من أحرف السطور، بحروف الصخور؛ وضجر يتوهم به الكاتب أن روحه تثب من جسده، إلى يده؛ فيجد للقلم حزًّا كالحزِّ في الوريد، ومسًّا من نفسه كمس المبرد للحديد؛ بل يرى كأن المعاني لا تنضج إلا إذا جعل رأسه قِدرَها، وأوقد من فكره جمرها؛ فيتنسم وكأنه يتنسم بعض دخانها١٢ ويزفر وكأنما يزفر من حر نيرانها!
وأنا أصور للقارئ هذا الجحيم الذي خُلق للكتاب، ولا ذكرت ما أعد لهم فيه من أنواع العذاب، لأدعي أني الكاتب الذي لا يصرِّف غيره الأقوال، ولا أن كتابي يعد شيئًا إذا الأشياء حصلت الرجال١٣ ولا أن لي محابر الأقلام ومدادها، وبياض الصحف وسوادها؛ فإني لست في هذا «العصر» ممن تخدعه الشمس بطول ظله١٤ أو تغره النفس بكثره وقله١٥ ولكني رأيت من كتب في هذا التاريخ يريد أن يستولي على الأمد وادعًا في مكانه، ويلحق الطريدة ثانيًا من عنانه، ويستبد بالسبق من قبل أن يجري في رهانه، ومن ألف فقد استهدف أيما استهداف، والرأي — كما قيل — ميزان لا يزن الوافي لناقص ولا الناقص لواف؛ ولا أكْذِبُ الله؛ فإن كتب القوم في الأيدي كالثياب المتداعية: كلما حيصت من ناحية تهتكت من ناحية؛١٦ اقتصروا فيها على تمزيق الأسفار، فجعلوا القلم كالمقراض١٧ واختصروا من التاريخ أقبح الاختصار، فكأنه لم يكن للعرب أمر ماض؛ وهذا العلم إن لم يزاول بقوة النية خرج ضعيفًا، والقلم غصن روحي فإن لم تروه النفس أصبح قصيفًا.
لا جرم أن هذا التأليف ليس إلا مدرجة التلف، بعد أن أغفله من سلف، وعفا الله عما سلف، وقد يقتحمه رجل الهمم، فلا يلبث من فرقه، أن تراه كالصبي في مشيته يتخلع١٨ ويركبه فارس القلم، فلا يلبث من نزوه وقلقه، أن تراه كالجبان في سرجه يتقلع؛ فإنما هي حقائق بعضها متمني فات، وبعضها لا يزال حملًا في بطون المؤلفات؛ فليس الصبر على نفض تراب المناجم، حتى يخرج معدن الذهب، بأشد من الصبر على فض الكتب والمعاجم، حتى يخلص تاريخ الأدب.

بيد أني وإن طاولت التعب فيما استطعت من الإتقان والتجويد، وحسبت زمني في إغفال حسابه كأنه عمر قديم ليس فيه يوم جديد — لا أقول إني أتيت منه على آخر الإرادة، ولا أزعم أني أوفيت على الغاية من الإفادة، فلذلك أمر تنصرم دونه أعمار، وللكمال عمر لا يحسب بالسنين ولكن بالأعصار، وجهد ما بلغت من همة النفس أن أكون بنجوة من التقصير، وأن أدل بما جمعته من حوادث التاريخ على أن عمر التاريخ غير قصير، ولقد رميت في ذلك المرمى القصيِّ، وعالجت منه الطيِّع والعصيِّ؛ ولو أن لي قلمًا ينفض مداده شبابًا على الأفهام، ويكون في جنة هذا التاريخ آدم الأقلام، لخرج منها وليس عليه حلته، إلا مثل ما هبط به آدم من «ورق» الجنة في قلته.

بيد أن الورقة من أحدهما تعد في بركتها بأشجار، ومن الآخر تعدل في منفعتها بأسفار، وحسبي ذلك عذرًا إذا جريت على العادة في تقديم الأعذار.

هوامش

(١) يقال في الكناية عن الخصب: نفشت العنز لأختها؛ لأنها تنفش شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها، وإنما ذلك من الأشر. ويقولون في أوصافهم: خلفت أرضًا تظالم معزاها: أي تتظالم.
(٢) ضعيف العقدة: كناية عن تراخي التأليف واضطرابه.
(٣) الاهتياب، والهيبة: بمعنى، وتناكر الشيء: تجاهله.
(٤) الاطراد: جري الشيء. والمهيض: المكسور.
(٥) الهجين: عربي ولد من أمة؛ المراد استعجام نسق التأليف، كما ستعرفه في الفصل التالي.
(٦) كناية عن الاضطراب والأخذ من كل جهة.
(٧) الناجية: السريعة، وهي من صفات النوق.
(٨) سانح الخاطر: ما يعرض لأول وهلة وأكثر ما يكون خطأ؛ وأخلد: مال إليه، أو لزمه.
(٩) لا يكتب على هذه الألواح إلا الاسم والتاريخ وشيء من النسب وبعض الأشعار …
(١٠) من المجاز: هو حاطب ليل، للمخلط في كلامه؛ وحبل الحاطب إنما يضم التخليط.
(١١) أي يلحسها فيشتد عليها.
(١٢) التنسم: التنفس.
(١٣) إذا ميزت الأشياء الرجال وأظهرت صفاتهم؛ والجملة شطر بيت لذي الرمة.
(١٤) وقت (العصر) يبلغ ظل كل شيء مثليه، والتورية في هذه اللفظة.
(١٥) بكثيره وقليله.
(١٦) الحوص، والحياصة: الخياطة؛ ومنه المثل: إن دواء الشق أن تحوصه.
(١٧) يسمي ظرفاء (الصحافيين) هذا النوع من النقل: (التحرير بالمقص).
(١٨) تخلُّع الصبي: تفككه في مشيه حين يدرج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤