اللغة العامية

وهذه هي اللغة التي خلفت الفصحى في المنطق الفطري، وكان منشؤها من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة، ثم صارت بالتصرف إلى ما تصير إليه اللغات المستقلة بتكوينها وصفاتها المقومة لها، وعادت لغةً في اللحن بعد أن كانت لحنًا في اللغة.

ولا بد للكلام على تأريخ العامية وشيوعها، من التوطئة ببعض القول في تاريخ اللحن؛ إذ هو أصلها ومادتها، بل هو العامية الأولى، لأنه تنويع في الفصيح غير طبيعي، بخلاف ما قد يشبهه من اللهجات العربية المختلفة كما ستعرفه.

اللحن وأوَّليته

والمراد باللحن الزيغ عن الإعراب، وهو أول ما اختبل من كلام العرب ولم يكن منه قبل الإسلام شيء، وإنما كانت له طيرة على عهد النبي ، حين اجتمعت كلمة المسلمين على تباين قبائلهم واختلاف جهاتهم، فتساوي الأحمر والأسود؛ ووجد فيهم من يرتضخ أنواعًا من اللكنة ومن هؤلاء بلال، كان يرتضخ لكنة حبشية؛ وصهيب لكنة رومية، وسلمان لكنة فارسية؛١ ثم إنه ليس كل العرب سواءً في قوة الفصاحة وجفاء الطبيعة العربية فلا بد أن يكون بدء ظهور اللحن في الألفاف المستضعَفين ممن لم يبلغ به الجفاء ولم تتوقح فصاحته، فربما جذبه طبعه الضعيف وقد دار في سمعه شيء من كلام المتعربين بعد الإسلام فيزيغ ويسترسل إلى ما انجذب إليه. هذا إذا لم نعتبر في أمر أولئك الألفاف ما يكون عادةً من ذهول الطبع. وتبلده إذا فجأه ما ليس في قوته ولا تسمو طبيعته إليه؛ كفصاحة القرآن الكريم، فإنه فضلًا عن نزوله بغير اللغات الضعيفة واللهجات الشاذة، قد انطوى على أسرار من سياسة الكلام لا تتعلق بها إلا الطبيعة الكاملة؛ ولذا كان أكثر اللحن فيه بادئ بدء؛ لأن لسان كل عربي يركب منه قياس لغته، ويدرك من أسراره بحسب ما تؤاتيه قوته؛ فإذا لم يكن صليبًا جافيًا قصَّر به طبعه فاختبل وتبلد، كما ترى فيمن يقرأ الفصيح وليس من أهله؛ ولو لم يكن ذاك لما كان أبو بكر (رضي الله عنه) يستحب أن يُسقِط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها؛ لأن لحن العربي خَورَ في طبعه فهو من هذه الجهة لا يستقيم إلا بمراجعته والتغيير عليه حتى يثبت على الصواب بنوع من التعليم والتلقين، وأنَّى لهم ذلك؟ فلا جرم كان إسقاط الكلمة وهو في حكم السهو، خيرًا من إثبات اللحن الطبيعي فيها وهو في حكم العمْدِ.
وقد رأينا العلماء فريقين في أمر الإعراب وإطباق العرب عليه: فمنهم من يرى أنهم يتساندون في ذلك إلى السليقة ويجرون على مقتضى الطبع فلا يفطنون إلى اختلاف مواقع الكلام باختلاف جهاته؛ وعلى هذا متقدمو العلماء؛ ومنهم من يرى أنهم إنما يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة، وأن ذلك منهم ليس استرسالًا ولا ترجيمًا، وإلا لكثر اختلاف الإعراب في كلامهم وانتشرت جهاته ولم تنفذ مقايسه، فلم يُجمعوا مثلًا على رفع الفاعل ونصب المفعول ونحو ذلك. ومن هؤلاء ابن فارس في كتابه فقه اللغة،٢ وابن جني كما يؤخذ من كلامه في كتاب الخصائص.

والذي عندنا أن ذلك من (خرفشة النحاة) كما يقول ابن خلدون في تحذلقهم وتنطسهم، والصواب رأي الفريق الأول، لأن ما ذكره ابن جني في معنى التعليم والتلقين، فإذا ثبت أنهم يتصفحون وجوه الكلام ويتأملون مواقعه، لم يجز أن ينتقل لسان العربي عن لغة إلى لغة أخرى، ولا أن يُستدرج في بعض الكلام، ولا أن تضعف فصاحة الفصيح منهم، للزومهم طريقًا واضحًا ومَهْيَعًا معروفًا، وما كان بالتعليم لا يكون بالفطرة. وقد جاءت الروايات بكل ذلك عنهم، ولا سبب له غير الاختلاف الفطري الذي تبتدئه الوراثة وتكمله الطبيعة كما أومأنا إليه في محله.

فالصحيح أن الطباع العربية مختلفة قوةً وضعفًا. فمنها المتوقح الجافي، ومنها الرخو المضطرب، وبحسب ذلك تكون اللغة فيهم؛ وقد نقل ابن جني نفسه في موضع من كتابه أن العرب أشد استنكارًا لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة، فقد ينطق بعضهم بالدخيل والمولَّد ولكنه لا ينطق باللحن. ثم قال في موضع آخر: إن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكُرهم زيغَ الإعراب. ولم يأت هذا التفاوت — كما ترى — إلا من اختلاف الطباع الذي أشرنا إليه، فأحْرِ بما اتفقوا عليه أن يكون سببه في الطبع أيضًا؛ لأن الاختلاف في جهات من الشيء إنما يتميز بالاتفاق على جهات أخرى منه.

وبهذا الاعتبار نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية ألبتة، وكل ما كان في بعض القبائل من خَوَر الطباع وانحراف الألسنة فإنما هو لغات لا أكثر؛ وسنزيد هذا الموضع بيانًا في الفصل التالي.

هذه أوَّلية اللحن، كانت كما عرفت على عهد النبي ، وقد رووا أن رجلًا لحن بحضرته فقال: «أرشدوا أخاكم فقد ضل.» — ويروى: فإنه قد ضل — فلو كان اللحن معروفًا في العرب قبل ذلك العهد، مستقِرَّ الأسباب التي يكون عنها، لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه، لأن الضلال خطأ كبير، والإرشاد صواب أكبر منه في معنى التضاد. بل إن عبارة الحديث تكاد تنطق بأن ذلك اللحن كان أول لحن سمعه أفصح العرب .

ثم لما استفاضت الأسباب التي ذكرناها في صدر هذا المقال، وفُتحت الروم وفارس، كثر اللحن بالضرورة. ولكن العرب كانوا يستسمجونه ويعتبرونه هُجنة وزراية، ويتنقصون أهله ويبعدونهم، ومما رووا أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مر بقوم يرمون، فاستقبح رميهم، فقال: ما أسوأ رميكم! فقالوا: نحن قوم (متعلمين). فقال عمر: لحنُكم أشدُّ عليَّ من فساد رميكم.٣ وقد تضافرت الروايات بأن كاتبًا لأبي موسى الأشعري كتب إلى عمر فلحن، فكتب إليه عمر: عزمت عليك لَما ضربتَ كاتبَك سوطًا — وفي رواية كتب إليه أن قَنِّع كاتَبك سوطًا — ولكنهم لم يذكروا موضع اللحن في كتاب أبي موسى حتى وقفنا عليه، فإذا هو لحن قبيح يَشُقُّ على عمر وغير عمر؛ لأن ذلك الكاتب جعل صدر كتابه هكذا: «من أبو موسى …» وهذا على ما نظن أول لحن وقع في الكتابة، ثم شاع بعد ذلك حين نُقلت الدواوين إلى العربية من الرومية والقبطية،٤ وكان أكثر ما يكون ذلك من ألفاف كتاب الخراج والصيارفة، وقد عثروا في بعض قرى مصر على رقاع مكتوبة يرجع تاريخ أقدمها إلى سنة ١٢٧، ومنها رسائل موجزة إلى أصحاب البُرُد، كبريد أشمون وغيره، وهي على إيجازها قبيحة اللحن، ولكن منها رسائل مؤرخة في سنة ١٨٢، و٢٥٠ و٢٧٩ و٢٩٥، وقد كتب الأخيرتين (شمعون بن مينا، ونقله ابن أندونه) ولحنها من أقبح اللحن، يكتبون فيها دنانير هكذا (دنَنِير) على أنها كلها تكتب بصيغة واحدة لا تتجاوز كلمات معدودة، مما يرجح أنها أمثلة موضوعة لهم ينقلونها في تلك الأغراض الثابتة ولا يغيِّرون منها إلا الأسماء والأرقام، وذلك شأن حثالة العامة إلى اليوم. ومن تلك الرسائل التي أصابوها، رُقعة أملاها بعض المتحذلقين إلى بقال ولا تاريخ لها، ونحن ننقل نصها تفكهة، وهو:

رقعة عبد الرازق

بسم الله الرحمن الرحيم. أطال الله بقاك، وأدام عزك وكرامتك، وجعلني فداك، قد وجهنا إليك ربع درهم، فتفضل ادفع إلى الغلام دانق سكبينج، ونصف دانق بزْر كَرَفْس، وادفع إليه كسرين، وسُرَّني بذلك إن شاء الله … وأُملي في غدا القدر.٥

انتشار اللحن

ولما نشأ الجيل الثاني في الإسلام اضطربت السلائق، وذلك بعد أن كثر الدخيل، وعلِقتْه الألسنة لدورانه في المعاملات وتنزُّله من الاجتماع منزلة المعاني الثابتة، فانحرفت به ألسنة الحضر عن نهجها العربي، وخيفَ من تمادي ذلك على لسان العرب من الفساد؛ فوضع أبو الأسود الدُّؤَلي أصولَ النحو؛ ثم كان الناس يختلفون إليه يتعلمونها منه، وهو يفرِّع لهم ما كان أصَّله — وسنأتي على ذلك في موضعه — ومن خشيتهم فساد اللسان، كانوا يأخذون أولادهم بالإعراب أخذًا شديدًا، حتى كان ابن عمر (رضي الله عنهما) يضرب بنيه على اللحن تقويمًا لهم.

ثم فشا النحو بعد ذلك وتناوله الموالي والمتعربون، وصار يُعلَّم في المساجد، فانحصر اللحن القبيح الذي هو مادة العامية في الزعانف من الطبقات الوضيعة، كالمحترفين وأهل الأسواق. وكان الخطيب البليغ خالد بن صفوان — توفي في أوائل الدولة العباسية — يدخل على بلال بن أبي بُردة يحدثه فيلحن، فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدثني أحاديث الخلفاء وتلحن لحن (السقاءات)؟ فكان خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب.

واشتهر النحو وغيره من العلوم التي وضعت لذلك العهد بأنها علوم الموالي؛ فكان يرغب عنها الأشراف لذلك؛ وقد روى المبرد في الكامل أن المنتجع قال لرجل من الأشراف: ما علَّمت وَلدك؟ قال: الفرائض. قال: ذلك (علم الموالي) لا أبا لك! علمهم الرجز فإنه يُهرِّت أشداقهم. ومر الشعبي (سمير عبد الملك بن مروان) بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. وسنقول في الموالي بعد.

قال الجاحظ: وأول لحن سُمع بالبادية: هذه عصاتي، والصواب عصاي؛ وأول لحن سمع بالعراق: حيِّ على الفلاح، وصوابه حيَّ؛ بالفتح.٦

وفي الدولة المرْوانية العربية كان يعتبر اللحن من أقبح الهجْنة؛ لأن العرب يومئذ كانوا لا يزالون على حَميَّتهم الأولى، وكانت جماهيرهم تحضر مجالس الخلفاء والأمراء وتُنادي كل طائفة منهم باسم قبيلتها، فيقال مثلًا: لتقم همدان، ولتقم تميم، ولتقم هوازن، ونحو ذلك؛ وهم يريدون من حضر من هذه القبائل؛ فكان عبد الملك يستسقط من يلحن، قال العُتبي: استأذن رجل من عِلْية أهل الشام عليه وبين يديه قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: يا غلام، غطِّها؛ فلما دخل الرجل فتكلم لحن، فقال عبد الملك: يا غلام، اكشف عنها الغطاء؛ ليس للاحن حُرْمة. ولحن محمد بن سعد بن أبي وقاص لحنة، فقال: حَسَّ! — كلمة تقال عند الألم — إني لأجد حرارتها في حلقي! وقد أحصوا الذين لم يُسمع منهم لحن قط في ذلك العهد، فعدوا منهم عبد الملك بن مروان، والشعبي، والحسن البصري، وأيوب بن القرية، وقال الحسن يومًا لبعض جلسائه: توضيت، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد؟ فقال: إنها لغة هذيل؛ وكان هذا الجواب أبْيَن عن فصاحته من الفصاحة نفسها.

وأحصوا اللحَّانين من البلغاء، فعدوا منهم خالد بن عبد الله القسري٧ وخالد بن صفوان وعيسى بن المدور؛ وكان الحجاج بن يوسف يلحن أحيانًا.
وقد كان بنو مروان يُلزمون أولادهم البادية لينشئوهم هناك على تقويم اللسان وإخلاص المنطق، ومن أجل ذلك قال عبد الملك: أضرَّ بالوليد حبُّنا فلم نوجهه إلى البادية! والوليد هذا ومحمد أخوه كانا لحَّانين، ولم يكن في ولد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة؛ وذكروا أنه قيل للوليد يومًا: إن العرب لا تحب أن يتولى عليها إلا من يحسن كلامها، فجمع أهل النحو ودخل بيتًا ليتعلم فيه، فأقام ستة أشهر ثم خرج أجهل من يوم دخل. ومما نقلوا من لحنه أنه خطب الناس يوم عيد، فقرأ في خطبته: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ٨ بضم التاء، فقال عمر بن العزيز: عليك وأراحنا منك!

وما صار الأمر إلى العباسيين حتى كانت العُجْمة قد فشت في الحضر وغلبت على السليقة، وأصبحت السلامة من اللحن لا تتهيأ إلا بالتصوُّن والتحفظ وتأمل مواقع الكلام، ولذا صاروا يشبِّهون اللسان الفصيح بأنه لسان أعرابي قح، وكانوا يسمون عثمان البتي النحوي (معاصر للأصمعي) عثمان العربي، من فصاحته واستقامة لسانه؛ ولكن أذى اللحن بقي ثابتًا في الغرائز القوية، حتى ذكروا أن الرشيد كان مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم؛ فقال يومًا: قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعرًا فيغنون فيه؛ فقيل له: ليس أحدٌ أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس. قال أبو العتاهية: فوجه إليَّ الرشيد أن قل شعرًا حتى أسمعه منهم؛ ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك؛ فقلت: والله لأقولن شعرًا يحزنه ولا يُسَرُّ به. ثم عمل شعرًا رقيقًا في الموعظة والتذكير بانصراف الدنيا وانصرام لذتها، يقول فيه:

خانك الطرفُ الطموحُ
أيها القلب الجَموحُ
هل لمطلوب بذنب
توبة منه نصوحُ
كيف إصلاحُ قلوبٍ
إنما هُن قروحُ
موتُ بعض الناس في الأر
ض على قوم فتوحُ
نحْ على نفسك يا مِسـ
ـكينُ إن كنتَ تَنوحُ

ودفعه إلى من حفظه من الملاحين، فلما سمعه الرشيد جعل يبكي وينتحب، وكان من أغزر الناس دموعًا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفًا في وقت الغضب والغلظة.

نقول: ولو أن أبا العتاهية لم يطرح ظل نفسه على ذلك الشعر وقتئذ وعمل على أن يصيب حقيقة غرض الرشيد، لكان أوَّل وضع في الإسلام للشعر الذي يسمى أغاني الشعب، ولجاء بعده من يأخذ في طريقه ويفتنُّ فيها حتى توضح أغاني الشعب الاجتماعية والسياسية على حقيقتها، ويكون ذلك من أرقى أبواب الأدب العربي، ولكن ظِلَّ الشاعر كان في ذلك الغضب ثقيلًا باردًا كأنه قطعة من ظلمة حبسه، أو كأنه ظل شيطاني لا ينبسط إلا ليطوي الأشعة المنبعثة من الأفكار الصالحة.

وكان المأمون يقول: أنا أتكلم مع الناس كلهم على سجيتي، إلا علي بن الهيثم، فإني أتحفظ إذا كلمته؛ لأنه يعرف في الإعراب. وعليٌّ هذا كان كاتبًا في ديوانه، وكان كثير الاستعمال لعويص اللغة، وله نوادر عجيبة في التشادق: دخل مرة سوق الدواب، فقال له النَّخَّاس: هل من حاجة؟ قال: نعم؛ أردت فرسًا قد انتهى صدره، وتقلقلت عروقه، يشير بأذنيه، ويتعاهدني بطرف عينيه، ويتشوف برأسه، ويعقد عنقه، ويخط بذنبه، وينقل برجليه، حسن القميص، جيد الفصوص، وثيق القصب، تام العصب، كأنه موج لجة، أو سيل حدور. فقال النخاس: هكذا كان فرسه …!

وكن مثل هذا التقعر خاصًّا بجفاة الأعراب ممن يطرءون من البادية، فلما فشا اللحن ولانت جوانب الكلام، أخذ في طريقهم جماعةٌ من النحويين، فكانوا يبالغون في التقعير والتعقيب والتشديق والتمطيط والجهْورَة والتفخيم، يريدون بذلك أن يتبادَوا في الحضريين ليكونوا أعرابهم، فكانت هذه الأعرابية الكاذبة تمثيلًا مضحكًا عند العامة، وثقيلًا مبغضًا عند العلماء. ومن أشهر أولئك: عيسى بن عمر الثقفي، وهو رأس المتقعرين وفاتحة تاريخهم (توفي سنة ١٤٩)، وأبو علقمة النحوي، وأبو خالد النميري، وأبو محلم الراوية، وغيرهم، ومن أثقل ما رأيناه في التقعير، هذا الكتاب الذي كتبه أبو محلم (في أواخر القرن الثاني) إلى بعض الحذَّائين في نعل كانت له، وهذه عبارته كما رواها القالي في أماليه:
دِنها، فإذا همَّت تأتدن فلا تخلها تُمرَخِد، وقبل أن تقْفعِل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وَكِبة ولا جَشِبة، ثم امعسها معسًا رقيقًا، ثم سُنَّ شَفرتك وأمْهِها، فإذا رأيت عليها مثل الهَوة فسُن رأس الإزميل، ثم سمِّ بالله وصلِّ على محمد ، ثم انْحُها وكوِّف جوانبها كوْفًا رقيقًا، واقبِلْها بقَبالَين أخنسين أفطسين غير خليطين ولا أصمعين، وليكونا وثيقين من أديم صافي البشرة غير نَمِش ولا حلم ولا كدش، واجعل في مقدمه كمنقار النغر.٩

لا جرم عُدَّ أمثال هؤلاء في الثقلاء؛ لأن هذا الفصيح في العامة أقبح من اللحن في مخاطبة الأعراب الفصحاء.

وقد ألَّف أبو الفرج النحوي المتوفى سنة ٤٩٩ كتابًا جمع فيه أخبار المتقعِّرين وساق نوادرهم.

على أن النحويين لم يكونوا كلهم من الفصحاء، بلهَ المتقعرين، ولا الرواة أيضًا، فقد كان حماد الراوية وهو في شباب الدولة العربية لحَّانة، حتى اعتذر عن ذلك في مجلس الوليد بن عبد الملك بأنه رجل يكلم العامة ويتكلم بكلامها.

وقد ألف عمر بن شبة النحوي الراوية المتوفى سنة ٢٦٢ كتابًا فيمن كان يلحن من النحويين إلى عهده. واستمرت العامية فاشية بما كثر من أسبابها وتوفر من وسائلها، ولم يغن الخلفاء ولا الأمراء اتخاذ المؤدِّبين لأولادهم يقوِّمون ألسنتهم ويأخذونهم بالفصيح، واندفع الناس في ذلك، وخاصةً بعد أن فسدت سلائق الأعراب أيضًا في القرن الخامس كما سيجيء؛ وكلما تقدمت البلاد في مذاهب الترف وتقلبت في أعطاف الرقة، بلغت مثل ذلك من العامية، حتى صارت الأندلس — وهي التي انفردت بمشاهير النحاة الذين أعادوا عصر الخليل وسيبويه١٠ — تكاد تكون عامية محضة؛ وقد نقل صاحب نفح الطيب أن الخاص منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو، استثقلوه واستبردوه!

هوامش

(١) من هنا سمي علماء القراء عدم إقامة الحروف وأدائها على وجوهها المتناقلة عن العرب، باللحن الخفي، كما مر في (مناطق العرب). والخفي أصل الظاهر بالضرورة.
(٢) بل غلا ابن فارس غلوًّا قبيحًا لاعتقاده أصالة اللغة واعتبارها اعتبارًا دينيًّا كما بسطناه فيما سلف، فزعم أن العرب (العاربة) كانوا يعرفون النحو والعروض بمصطلحاتهما؛ وذلك بتوقيف من قبلهم حتى ينتهي الأمر إلى الموقف الأول وهو الله عز وجل الذي علم آدم الأسماء كلها — على ما يفسر به بعضهم هذه الأسماء — وأن هذين العلمين (النحو والعروض) كانا قديمًا ثم أتت عليهما الأيام وقلا في أيدي الناس حتى جدد النحو أبو الأسود، وجدد العروض الخليل بن أحمد.
(٣) كذا روى ابن الأنباري في كتاب الأضداد؛ وعندنا أن هذا الخبر موضوع، لأن إلزام المثنى والجمع الياء دائمًا إنما كان ظهوره في لغات الموالي والمتعربين، لسهولة ذلك على ألسنتهم ولصعوبة التمييز بين حال الرفع وحال النصب، وسياق الخبر يدل على أن القوم كانوا من العرب، ويرجح ذلك أنه زاد في الخبر عن عمر قوله: سمعت رسول الله يقول: «رحم الله امرءًا أصلح من لسانه» فكأن ذلك للترغيب والترهيب لا غير.
(٤) نقلت الدواوين من الفارسية والرومية والقبطية إلى العربية في خلافة عبد الملك بن مروان، وأول ديوان نقل إليها ديوان الشام، كان بالرومية فنقل سنة ٨١، وكان الديوان في مصر أول نقله يكتب فيه بالعربية والقبطية معًا، ثم ماتت هذه بحياة تلك. ولهذا البحث موضع من الكتاب نرجو أن نصل إليه إن شاء الله.
(٥) كنا نريد أن نثبت الصور الخطية لتلك الرقاع، ولكنا لم نر في إثباتها فائدة من البحث الذي نحن فيه.
(٦) وقال ابن السكيت: زعم الفراء أن أول لحن سمع بالعراق: هذه عصاتي.
(٧) توفي خالد هذا سنة ١٢٦ وكان من خطباء العرب المشهورين، ونقل صاحب الأغاني عن المدائني أنه كان لخالد مؤدب يقال له الحسين بن رهمة الكلبي، وكان يجلس بإزائه إذا صعد المنبر ليخطب، فإذا شك في شيء أومأ إليه بالصواب.
(٨) سورة الحاقة: ٢٧.
(٩) هذا تفسير غريبه تأندن: تبتل، تمرخد: تسترخي، تقفعل: تنقبض وكبة جشبة: أي وسخة غليظة، المعس: الدلك، إمهاء السكين: تسخينه بالنار ثم إلقاؤها في الماء، أوحدها، الإزميل: من أدوات الحذاء، التكويف: التدوير، القبالان. سيران تشد بهما النعل. ويريد أبو محلم بوصفهما أن يكونا غليظين من أديم واحد لا عيب فيه من عيوب الجلد.
(١٠) سنفصل ذلك في تاريخ الأدب الأندلسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤