الرواة الوضاعون للشعر

وكان من الرواة قوم انفردوا بعلم قبائل العرب وأشعارها وأخبارها وما إليها. وغلب ذلك عليهم حتى لم تكن إليهم حاجة إلا فيه؛ وهؤلاء هم الذين فتقوا بألسنتهم هذه الفتوق في الأدب؛ وليس يخفى أن الحاجة وسيلة إلى الاختراع، وأن من كثرت إليه الحاجة في أمر من الأمور كان خليقًا أن يكون رأس هذا الأمر والغاية فيه، وهيهات هيهات لذلك إلا إذا استبد بفنه وأحكمه بأسره ووجد الناس عنده منه ما لا يجدون عند غيره. وقد كانت علوم أولئك النفر قاطبة تدور على الخبر والشعر، وليس في ذلك عندهم أكثر من الاستمتاع باللفظ الحسن والمعنى الطريف، مما لا يُبنى عليه دين، ولا يدخل الناس منه في حرج، ولا يكون فيه من بعد إلا إفساد التاريخ العربي، وأهْوِنْ بذلك ما دام هذا التاريخ قائمًا بالتأويلات والمفاخرات والمناشدات، وبكل ما نسخه الإسلام أو أنساه أو جاء بخير منه، وليست الغاية من أكثره إلا ضربًا من السمر ونوعًا من لهو الحديث، وقد تزيد فيه العرب أنفسُهم، وهم مصدر الرواية وقدوة الرواة.١ وهذا هو السبب في أنك لا تكاد تجد للجاهلية تاريخًا صحيحًا، ولا ترى فيما تتصفحه إلا التكاذيب والمبالغات وما يتصل بها؛ لأن مثل هذا العلم قريب أسباب المطمعة لا يكفُّ عنه يأس ولا يدفع دونه عِيّ، ما دام قد تعاطاه أمثال أولئك الرواة من كل بصير بمذاهبه متحقق بمناقبه؛ ومن حَذِقَ شيئًا لم يصبر عن الزيادة منه.

فأما الأخباريون الوضاعون فستعرف أمرهم، وأما أهل الشعر فهم يضعون منه لثلاثة أغراض: للشواهد على العلوم — وقد مر الكلام عليها — والشواهد على الأخبار، والاتساع في الرواية.

الشواهد على الأخبار

وقد نشأ هذا النوع من الاستشهاد بالشعر على التفسير والحديث وعلى كل ما قامت به الرواية في الصدر الأول، حتى قرّ في أوهام الناس أن ما لا شاهد له من كلام العرب لا ثقة به كائنًا ما كان علمًا أو خبرًا؛ وكانت الأمة لا تزال على إرث الفطرة العربية في اعتبار الشعر وتمجيده والاهتزاز له، ثم كان ذلك عامًّا في سواد الناس من الخلفاء فمن دونهم، فلما كثر القصاصون وأهل الأخبار اضطروا من أجل ذلك أن يصنعوا الشعر لما يلفقونه من الأساطير حتى يلائموا بين رقعتي الكلام، وليحدروا تلك الأساطير من أقرب الطرق إلى أفئدة العوام، فوضعوا من الشعر على آدم فمن دونه من الأنبياء وأولادهم وأقوامهم، وأول من أفرط في ذلك محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة المتوفى سنة ١٥٠، وكان من علماء السير والمغازي،٢ فكان الناس يعملون له الأشعار فيحمل منها كل غثاء، ويعقد قوافيها على الهواء، وقد كتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارًا كثيرة، حتى صار فضيحة عند علماء السير ورواة الشعر، وكان في عصره جماعة من القصاصين يأتون بمثل تلك الأشعار على وهنها وتداعيها ويعزونها إلى القدماء، ثم يزعمون أنهم أخذوها من الصحف ويروونها للأمم البائدة وغيرهم، فكان راوية ذاك العصر أبو عمرو بن العلاء يقول: لو كان الشعر مثل ما وُضع لابن إسحاق ومثل ما يروي الصُّحفيون ما كانت إليه حاجة ولا كان فيه دليل على علم.

شعر الجن وأخبارها

والقصاصون إنما قلدوا في ذلك الأعراب أيضًا وذهبوا مذاهبهم، فللأعراب شعر كثير يزعمونه للجن ويعقدون له الأخبار، وقد تناقله عنهم الرواة وتظرفوا به في الأحاديث، وأمثلته كثيرة.

وكان أبو إسحاق المتكلم، من أصحاب الجاحظ، يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجان وتغوُّل الغيلان: «أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في الفلاة والخلاء والبعد من الإنس، استوحش، ولاسيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين؛ والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى وبالتفكير؛ والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة، وقد ابتُلِيَ بذلك غير حاسب … وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه (من الحِمْية) وداووه؛ وقد عرض ذلك لكثير من الهند، وإذا استوحش الإنسان مَثَلَ له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه، وانتفضت أخلاطه، فيرى ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع، ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تَصور لهم من ذلك شعرًا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيمانًا، ونشأ عليه الناشئ، وربي به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس فعند أول وحشة أو فزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدًى، تجده وقد رأى كل باطل وتوهَّم كل زور، وربما كان في الجنس وأصل الطبيعة نفَّاجًا كذابًا وصاحبَ تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان، وكلمت السعلاة؛ ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلتها! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها … ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومدّ لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيًّا مثلهم، وإلا غبيًّا لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب أو التصديق أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط؛ وأما أن يَلْقَوْا راوية شعر أو صاحب خبر، فالرواةُ عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم، وصارت روايته أغلب ومضاحيك حديثه أكثر!»

والأمر قريب مما قاله أبو إسحاق؛ فإن أخبار الجن لا تُعرف إلا عن رجل من الأعراب أو رجل من الرواة الذين يقصُّون للعامة وأشباه العامة، وقد يأتي القليل من ذلك عن الراوية الثقة يريد به الإغراب في حديث إن جاء به، وشعر إن أنشده، ليدير الكلام على روعة تُوَكِّد معناه وتجعله ظريفًا غريبًا؛ فكأنه يستعين على بيان غرضه بضرب من التخييل، كما يستعين الكاتب أو الشاعر بمثل من المجاز.

ولقد أفرط رواة الإسلام من أهل الأخبار في مزاعمهم عن الجن، ونسبوا إليها كل غريب وكل عظيم؛ لأنها مظنة كل ذلك في أوهامهم؛ وقفّى على أثارهم جماعة من المتصوفة، حتى عينوا أول من أسلم من الجن، وهو بزعمهم (هامةُ بن الهام بن لاقيس بن إبليس …) وأول نبي أرسل إلى الجن فيما قالوا (عامر بن عمير بن الجان)، فقتلوه وقتلوا بعده ٨٠٠ نبي!

والغرائب من هذا النمط كثيرة، وما نراها استفاضت في الإسلام إلا بعد ما ذكره جهلة المفسرين وأهلُ القصص ممن تكلموا في تفسير ما ورد في القرآن الكريم من الإشارة إلى الجن، أو ما جاء من ذلك في الحديث الشريف أو ما يشبه ذلك٣ ولا بد لكل كلام عندهم من شعر يستشهد به على ما عرفت، ولا أبلغَ في ذلك ولا أدعى إلى الرضى من شعر الجن أنفسهم؛ وقد سبقهم إلى بعضه الأعراب؛ فلم يبق إلا أن ينفوا عنه تلك اللوثة الأعرابية، ويرققوا حواشيه، ويلائموا بينه وبين ما هم بسبيله من العلوم القديمة التي ادعى غيرهم من أهل الكتاب أن بعضها إلهي نزل من السماء، وادعوا هم أن سائرها شيطاني خرج من الأرض.

على أن نادرة النوادر من ذلك، في التاريخ العربي كله، إنما هو ما جاء به أبو السري سهل بن أبي غالب الخزرجي الشاعر المفلق الذي كان في أواخر القرن الثاني، فإن نشأ بسجستان، ثم ادعى رضاع الجن وأنه صار إليهم، ووضع كتابًا ذكر فيه أمر الجن وحكمتهم وأنسابهم وأشعارهم، وزعم أنه بايعهم للأمين بن هارون الرشيد بالعهد، فقرّبه الرشيد وابنه الأمين وزبيدة أم الأمين، وبلغ معهم وأفاد منهم؛ ثم جعل يتنفَّق عندهم بما يضعه من الشعر الجيد على ألسنة الجن والشياطين والسعالي، وقال له الرشيد: إن كنتَ رأيتَ ما ذكرت فقد رأيت عجبًا، وإن كنت ما رأيته فقد وضعت أدبًا!

ولكل ما أومأنا إليه في هذا الفصل أمثلة كثيرة من الشعر والخبر، أضربنا عنها خوف الإطالة بما لا طائل تحته، ولو كان فيها شيء غير إنسي لجئنا به … أما ما يتعلق بزعمهم في شياطين الشعراء فقد أمسكنا الكلام عنه إلى بابه، فإن له ثمة موضعًا.

الاتساع في الرواية

وهو سبب من أسباب الوضع، يقصد به فحول الرواة أن يتسعوا في روايتهم فيستأثروا بما لا يُحسِن غيرهم من أبوابها؛ ولذا يضعون على فحول الشعراء قصائد لم يقولوها، ويزيدون في قصائدهم التي تعرف لهم، ويدخلون من شعر الرجل في شعر غيره؛ هوى وتعنُّتًا؛ ورأس هذا الأمر حماد الراوية الكوفي المتوفى سنة ١٥٥، وقد لقب بالراوية لهذا الاتساع. قال المفضل الضبي: سُلِّط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا! فقيل له: وكيف ذلك، أيخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان ذلك؛ فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم؛ فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويُحملُ ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد؛ وأين ذلك؟٤

وكان حماد أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، فلا جرم أنه كان رأس الوضاعين لما يُقتضى لصنعة الجمع الذي يراد به الاتساع والاستئثار من الزيادة في شعر المقلِّ حتى يكثر، ونسبة ما يكون للخامل من الشعراء إلى المشهور حتى يُروى شعره، ونحو ذلك.

وكان حماد يضع من الشعر ليقربه إلى بعض الأمراء زُلفى، كالذي حدثوا به عن يونس، قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال: ما أطرفتني شيئًا! فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى فقال: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس!٥ وكان أبو موسى جد بلال! لأن أبا بردة ابنه.

وأخذ في مذهب حماد خلفُ الأحمر المتوفى سنة ١٨٠، وهو أول من أحدث السماعَ بالبصرة فيما سمعه من حماد كما مر؛ وقد سلك في البصريين مذهب حماد في الكوفيين؛ غير أن أكثر ما وضعه من الشعر إنما خص به أهل الكوفة فرووه عنه؛ وكان خلف أفرس الناس ببيت شعر، وأعلمهم بمذهب الشعراء ومعانيها، وأبصرهم بوجوه الاختلاف بين ما يتميز به شاعر وشاعر؛ فإذا عمد إلى المحاكاة فيما يضعه أشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يَصْنَعُ عليه؛ حتى لا يتميز منه، وحتى لا يكون من الفرق بينهما إلا فرق التعدد الطبيعي الذي لا يُدرك في الجوهر الواحد، كالفرق بين الروح والروح. وكان نفاذه في ذلك سريعًا بمقدار ما أوتي من سرعة البديهة ودقة الحسن البياني، حتى ضربوا به المثل؛ وهو في باب معاني الشعر ومذاهب الشعراء معلِّمُ أهل البصرة جميعًا. لا يُصدرون الرأي في شعر دونه، حتى إن مروان بن أبي حفصة لما مدح المهدي بشعره السائر الذي أوله:

طرقتك زائرةً فحيّ خيالها

أراد أن يعرضه على نقاد البصرة، فدخل المسجد الجامع فتصفّح الحِلق، فلم ير حلقة أعظم من حلقة يونس النحوي، فجلس إليه فعرّفه خبره، ثم استأذنه أن يسمعه، فقال يونس: يا ابن أخي، إن هنا خلفًا، ولا يمكن أحدنا أن يسمع شعرًا حتى يحضر؛ فإذا حضر فأسمعه.

وقد وضع خلف قصائد عدة على فحول الشعراء، ذكروا منها قصيدة الشنفرى٦ المشهورة بلامية العرب التي أولها:
أقيموا بني أمي صدور مَطِيِّكُمْ
فإني إلى قومٍ سواكم لأَمْيَلُ

وما أشبه أن تكون القصيدة أو أكثرها كذلك. وقال الأصمعي: سمعت خلفًا يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها:

خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ
تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجُما

وهو من أبيات الشواهد؛ وله قصائد أخرى نص على بعضها العلماء، وبينوا أنها مصنوعة، وقد وضع على شعراء عبد القيس شعرًا كثيرًا. وقال الجاحظ: إنه هو الذي أورد على الناس نسيب الأعراب، وهذا النسيب من أرق الشعر قاطبة وما أحراه أن يكون مصنوعًا!

ثم قالوا: إن خلفًا نسك في آخر أيامه فخرج إلى أهل الكوفة فعرّفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أَوْثَقَ منك الساعة! فبقيت الأشعار على حالها؛ إذ كان الأمر قد مضى لوجهه، وهكذا لا يملك الإنسان من آخرة الكذب ما يملك من أولاه.

وإنما امتاز أهل الكوفة بكثرة الشعر والاتساع في روايته؛ لأن ذلك ميراثٌ فيهم منذ نزلها العرب، حتى إن عليًّا كرم الله وجهه لما رجع بهم من قتال الخوارج على أن يستعدوا لقتال أهل الشام، ثم تخاذلوا عنه — لم ير أبلغ في ذمهم من صفة التشاغل بالشعر، فقال في خطبته حين خطبهم: «إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقًا عزين (جماعات)، تضربون الأمثال، وتَنَاشَدُون الأشعار؛ تَرِبَتْ أيديكم وقد نسيتم الحرب واستعدادها. وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل …»

وكان الشعر عِلْمَ أهل الكوفة حين كانت العربية عِلْمَ أهل البصرة؛ لأن العربية لم تكثر عند أولئك إلا بآخرة كما سنبيته بعد، وللكوفيين رواية قديمة في الشعر، وكان الخثعمي راويتَهم فيه قبل حماد، ومعه أبو البلاد الكوفي، وهما في خلافة عبد الملك بن مروان، ولم يشتهروا برواية الشعر إلا في أيامهما.

بيد أن حمادًا جعل لامتياز الكوفيين بالشعر أصلًا تأريخيًّا؛ فزعم أن النعمان بن المنذر أمر فنُسِخَتْ له أشعار العرب في الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد الثقفي٧ قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار، قال: فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة …

ولما اشتغل هؤلاء الكوفيون بعلم العربية، وكان في طبعهم الشذوذ كما ستعرفه، سَهُل عليهم قبول الشواذ، ولم يتحرجوا من الصنعة للاستشهاد؛ لأن الصنعة من شذوذ الرواية أيضًا، فزاد ذلك في الشعر عندهم، ومن أشهر رواتهم بعد حماد، خالد بن كلثوم الكلبي، وله صنعة في الأشعار المدونة على القبائل، وقد ألف فيها كتابًا، وأبو عمرو الشيباني المتوفى سنة ٢٠٦. وقد جاوز المائة بعقد، وعنه أخذت دواوين أشعار القبائل كلها، وقد جمع نيِّفًا وثمانين قبيلة.

وليس في الرواة جميعًا من يُداني حمادًا وخلفًا في الصنعة وإحكامها، فهما طبقة في التاريخ كله، وإنما يكون لغيرهما البيت الواحد والأبيات القليلة مما لا تفتضح صنعته، يضعونه لتوجيه الحجة وتزيين الخبر ونحو ذلك، ومن هؤلاء أبو عمرو بن العلاء، قال: ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يُرْوَى للأعشى من قوله:

وأنكرتْني، وما كان الذي نَكِرَتْ
من الحوادث إلا الشّيبَ والصلعا٨

وهو من أبيات الشواهد — ومنهم الأصمعي، وأبو عبيدة، واللاحقي، وقطرب، وغيرهم.

وقد يجد الرواة للشاعر الأبيات الحسنة في المعنى الجيد وهي تحتمل الزيادة، فيصنعون عليها ويولِّدون حتى تبلغ قصيدة، كأبيات الطِّيَرَة للحارث بن حلزة، وهي أربعة أبيات، ولكنهم جعلوها قصيدة طويلة. قال أبو عبيدة: أنشدنيها عمرو، وليست إلا هذه الأبيات وسائر القصيدة مصنوع مولّد، وتلك قوله:

يا أيها المُزْمع ثم انثنى
لا يَثْنِكَ الحادي ولا الشاحجُ
ولا قعيدٌ أعضبٌ قَرنُهُ
هاج له من مربع هائجُ
بينا الفتى يَسعى ويُسعى لَهُ
تاح له من أمره خالجُ
يترك ما رقّح من عيشِهِ
(يعيش منه) همجٌ هامجُ٩

وقد يزيدون في القصيدة ويبعدون بآخرها متى وجدوا لذلك باعثًا، كقصيدة أبي طالب التي قالها في النبي ، وهي مشهورة، أولها:

خليليّ ما أذْنِي لأول عاذلٍ
بِصغواءَ في حق ولا عند باطلِ

قال ابن سلام: زاد الناس في قصيدة أبي طالب وطُوِّلت بحيث لا يُدرى أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها فقلت صحيحة، فقال: أتدري أين منتهاها؟ قلت: لا، قلنا: وإنما طُوِّلت هذه القصيدة معارَضةً للطوال المعروفة (بالمعلقات) حتى لا يكون من شعر الجاهلية ما هو خير مما قاله عمُّ النبي ؛ ولكن في أصلها أبياتًا هاشمية تفي بكثير من الطوال.

ولما كان علمُ العرب كله في البصرة والكوفة بعد أن نشأت الرواية لم يكن الناس يأبهون لما يظهر في غيرهما؛ فكانت تسقط أخبار الوضاعين في الأمصار لذلك، إلا قليلًا يأتي عن بعض علماء البلدين، كالذي ذكره الأصمعي، قال: أقمت بالمدينة زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة، إلا مصحَّفة أو مصنوعة؛ وكان بها دأب يضع الشعر وأحاديث السَّمَر وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخبت روايته؛ وهو عيسى بن يزيد، يكنى أبا الوليد، وكان شاعرًا، وعلمه بالأخبار أكثر.

ولما فشا أمر الصنعة في الشعر، جعل المتأخرون يضعون القصيد والرجز وينسبونه لمن اشتهروا بالوضع من المتقدمين، كخلف؛ أو بالاتساع في الرواية، كالأصمعي؛ لأن من أجاز على الناس أجاز الناس عليه.

وما ظالم إلا سَيُبْلَى بأظلمِ

وأخذ القُصاص أيضًا في هذه الناحية، فصنعوا الأخبار الكثيرة، وأسندوها إلى علماء الأنساب والإخباريين، ليعطوها بذلك معنى التاريخ الذي تثبته الرواية.

ضرب من الوضع

وضرب آخرُ من الوضع سنَّه الأدباء فيما يتكلفون له من الشعر والرسائل والخطب١٠ إذا عرضوا ذلك يطلبون فيه رأيَ النقادين وأهل البصر بالكلام، وأن يعرفوا موضعَ ما يأتون به من الاستحسان، ومبلغَ تجردِ الهوى في الحكم عليه. قال الجاحظ يُزَيِّنُ هذه الطريقة: «فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتُنسَب إلى هذا الأدب، فقرضتَ قصيدة أو حبَّرت خطبة أو ألَّفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتلك بنفسك، وعُجبُكَ بثمرة عقلك، إلى أن تتنحله وتدَّعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عُرض رسائل أو أشعار أو خطب، فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله.» قلنا: ولعلهم لا يطلبونه ولا يستحسنونه فيخرج عندهم مخرج المتروك، وينتفي منه قائله ولا ينفيه، فعسى أن يكون فيمن سمعه من يحفظه مدخولًا، أو يرويه منحولًا، ويجريه مع سائر القصيدة أو الخطبة أو الرسالة — إن كان في شيء من ذلك — على أنه بعضه، أو يحفظ نسبته إن كان في كلام متفرق، ويكون ذلك سبب وضعه، ثم يمر في الأفواه فتصقله، ويلقيه الزمن بعد ذلك لمن ينقله؛ ولا شك عندنا أن مثل هذا في تاريخ الوضع قولٌ ومذهب.

التعليق على الكتب

وههنا نوع من الرواية الموضوعة كان يذهب إليه بعض المتأخرين؛ وذلك أن الواحد منهم ربما ألحق الأبيات للشاعر المتأخر ببعض العرب ويعلِّق ذلك على كتاب عنده، أو ينحل الشاعر أبياتًا لغيره ثم يدسها في ديوان شعره، على أن يكون هذا مما يُكاد به لذلك الشاعر، حسدًا له، ونفاسة عليه، أو عبثًا يلهو به من يفعل ذلك، أو لسبب مما يجري هذا المجرى، وقد اختلف العلماء في أشباه من هذا الجنس، قال المعري في كتاب (عبث التوليد)، وحكى بعض الكتاب أنه رأى كتابًا قديمًا قد كُتب على ظهره: أنشدنا أحمد بن يحيى عن ثعلب:

مَنِ الجآذِرُ في زيّ الرعابيبِ

وذَكَرَ خمسة أبيات من أول هذه القصيدة، وهذا كذب قبيح وافتراء بيّن، وإنما فعله مُفْرُط الحسد، قليل الخبرة بمظانّ الصواب، غرضُه أن يلبِّس على الجهال. وقد رويت أبيات أبي عبادة (البحتري) التي في صفة الذئب لبعض العرب، ويجب أن يكون ذلك كذبًا مثل ما تقدم. وقد نسبوا الأبيات التي في صفة الذئب إلى عبد الله بن أنيس صاحب النبي وهو من بني البرك راشد بن وبرة، ولا ريب أن ذلك باطل. والشواهد من هذا النوع غير قليلة.

الشوارد

ومن الشعر نتف قليلة تقع في البيتين والثلاثة، ويسميها الرّواة بالشوارد؛ لأنهم لا يعرفون نسبتها، بل يروونها على أنها مرسلة لا أرباب لها، وهي نادرة في الشعر؛ لأنهم لا يحفلون بما جهلوا نسبته كما مر في موضعه، بيد أنه متى كانت الأبيات لا شاهد فيها وكانت جيدة حسنة السبك رصينة المعنى طليَّة العبارة، عَدُّوها من الشوارد لتجوز من هذا الباب إلى الرواية؛ فمن ذلك ما رواه أبو عبيدة، قال: من الشوارد التي لا أرباب لها قول بعضهم:

إن يغدروا أو يفجُروا
أو يبخلوا لم يحفلوا
يغدوا عليك مُرجليـ
ـن كأنهم لم يفعلوا
كأبي براقش كل يو
مٍ لونه يتبدلُ

اختلاف الروايات في الشعر

وقد كان العرب ينشد بعضُهم شعرَ بعض، ويجري كل منهم في النطق على طبعه ومقتضى فطرته اللغوية، فمن ثم يقع الاختلاف الصَّرْفِيّ واللغوي الذي نراه في بعض الروايات، وقد يغيّر العربي فيما يتمثله من الشعر كلمة بأخرى يراها أليق بموضعها وأثبت في معناها، أو تكون الكلمة قد أصابت هوى في نفسه، لأنهم إنما يتمثلون الشعر لغير الغرض اللغوي الذي قامت به الرواية، وذلك كقول أبي ذؤيب الهذلي:

دعاني إليها القلب، إني لأمرِهِ
مطيع، فما أدري أَرُشْدٌ طِلَابُها

وهي رواية أبي عمرو بن العلاء، ولكن الأصمعي رواه على نقيض هذا المعنى فقال: (عصاني إليها القلب …) البيت. وظاهرٌ أن هذا التناقض في الرواية لا يكون من الشاعر، وإنما هو تفاوت في الاستحسان لا غير.

وكان الرواة ينقلون الشعر على ما يكون فيه من مثل هذا الاختلاف ولا يبالون أمره، لأنهم يريدون لغة الشعر، والشعر متى جاء عن أعرابي كان حجة، لأن لسان العربي لا يطوع بغير الصواب، ولهذا تختلف الروايات في بعض الأبيات وهي في الأصل غير مختلفة.

ومن أسباب الاختلاف، أن الشعراء في الصدر الأول كانوا يعتمدون على الحفظ، ولكنهم لا يُثبتون من شعرهم كل لفظ بعينه، بل ربما أنشد الرجل منهم أبياتًا فتروى عنه، ثم تأتي الأيام فينسى بعض ألفاظها؛ فلا يكون إلا أن يضع غيرها ثم ينشد الأبيات على وجه آخر؛ فتروى أيضًا؛ ثم تجتمع الروايتان في شعره أو الروايات المختلفة؛ ولهذا قال ذو الرمة لعيسى بن عمر الثقفي: اكتب شعري، فالكتاب أحب إليَّ من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهر في طلبها ليلته فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدِّل كلامًا بكلام!

ومن الرواة من كان يغيِّر في ألفاظ بعض الأبيات لتوجيه حجته وإنهاض دليله، فيروى عنه البيت على وجهه المغير؛ وذلك فاشٍ بينهم، وخاصةً في رواة الكوفيين، ومنهم من كان يغير في الدواوين المكتوبة ليُعذر بها عند الخلاف ويقيم منها الحجة على الرواية الصحيحة؛ فيكون ذلك سببًا في الاختلاف.

ولا تنسَ ما ينشأ عن التصحيف في الكلمات المتشابهة؛ فإنه من بعض أسباب الاختلاف أيضًا، وشواهده كثيرة في كتاب التصحيف للعسكري.

وهذا وذاك غير ما يكون من تزيُّد بعض الرواة في الشعر حتى يخرج إلى الوضع والصنعة كما مر محله، ثم يجيء غيره فينقص أو يزيد ويقدم أو يؤخر؛ ويعقبهما ثالث فيصيب أبياتًا حسنة على روي تلك القصيدة فيدسها فيها ويرويها على أنها منها، ثم يأتي رابع فيرى اختلاف النسبتين في القصيدة الواحدة فيسقطهما جميعًا وينحلها شاعرًا آخر، وهكذا؛ ومما استجمع كل ذلك الاختلاف هذه القصيدة التي أولها:

تقول ابنة العبسي: قد شبت بعدنا
وكل امرئ بعد الشباب يشيبُ

ومنها شاهد النحاة المشهور: «لعلَّ أبي المغوارِ منك قريب.» وهي مرثية رواها القالي في أماليه، وقال: قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد هذه القصيدة في شعر كعب الغَنَوي … إلى أن قال: وبعضهم يروي هذه القصيدة لكعب بن سعد الغنوي، وبعضهم يرويها بأسرها لسهم الغنوي، وبعضهم يروي شيئًا منها لسهم، وزاد أحمد بن يحيى عن أبي العالية في أولها بيتين. قال: وهؤلاء كلهم مختلفون في تقديم الأبيات وتأخيرها وزيادة الأبيات ونقصانها، وفي تغيير الحروف في متن البيت وعجزه وصدره، ثم قال: والمرثيُّ بهذه القصيدة يكنى أبا المغوار، واسمه هَرم، وبعضهم يقول: اسمه شبيب، ويحتج ببيت رُوي في هذه القصيدة: «أقام وخلَّى الظاعنين شبيبُ.» وهذا البيت مصنوع، والأول (كأنه أصح).

هذا، وقد بقي الكلام في انتحال الشعر ورواة الشعراء وشياطينهم وعمل أشعارهم وتدوينها وما إلى ذلك، وكلها مما يمكن أن يتصل نسبه بما نحن فيه من أمر الرواية، ولكنه بباب الشعر أقرب مشاكلة وأدنى اتصالًا، فأنزلناه ثمة في مراتبه، وألحقناه بتلك المطالب لفائدة طالبه.

هوامش

(١) في مثل هذا يقول الرواة: إذا كانت الكلمة حسنة استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن!
(٢) ولم يعرف قبل ابن إسحاق أحد وضع الشعر على أمم مختلفة، وإنما كان قبله يزيد بن ربيعة بن مفرغ، وهو في أيام يزيد بن معاوية، وقد وضع أشعار نسبها إلى تبع من ملوك حمير وعمل له سيرة، وسنذكر ذلك في الكلام على التزيد في الأخبار.
(٣) من تفسير مقاتل بن سليمان في غزوة بدر، وهي أفضل غزوات رسول الله ، «أنه لم يجتمع جمع قط منذ كانت الدنيا أكثر من يوم بدر، وذلك أن إبليس جاء بنفسه وحضره الشياطين وحضره كفار الجن كلهم … وتسعون من مؤمني الجن وألف من الملائكة …» إلخ فتأمل.
(٤) من ذلك أن حمادًا قدم على بلال بن أبي بردة بالبصرة وعنده ذو الرمة، فأنشده حماد شعرًا مدحه به فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: جيد وليس له! قال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله، فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه، قال له: إن لي إليك حاجة. قال: هي مقضية! فقال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا، قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم وما يرويه غيري! قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام.
(٥) يريد أبا موسى الأشعري، والقصيدة مثبتة في ديوان الحطيئة، وهي أربعة عشر بيتًا، مطلعها:
هل تعرف الدار مذ عامين أو عامِ
دار لهند بجزع الخرج فالدامِ
والبصير بالشعر ومذاهبه إذا قرأ شعر الحطيئة أخرج هذه القصيدة منه؛ لأنها تقليد ومقاربة، وإن كان المدائني قد صحح أنها للحطيئة في أبي موسى، ونفى أن يكون حماد نحلها الحطيئة تقربًا إلى بلال؛ فإن نفس الشاعر أصدق في نسبة كلامه من ألسنة الرواة.
(٦) الشنفرى: شاعر جاهلي من بني الحرث بن ربيعة، وهو من لصوص العرب، وصاحباه في التلصص: ابن أخته تأبط شرًّا، وعمرو بن براق؛ وكان الثلاثة أعدى العدائين في العرب، لا تلحقهم الخيل إذا عدوا، وقد وضع خلف على تأبط شرًّا أيضًا قصيدة مشهورة زعم أنه رثى بها خاله، والله أعلم.
(٧) وثب المختار بالكوفة سنة ٦٦ في سلطان ابن الزبير وأخرج منها عامله، فوجه إليه ابن الزبير أخاه مصعبًا فقتله سنة ٦٧، وكان يزعم أن جبرائيل عليه السلام يأتيه؛ وهو من رؤوس الفتن التي نجمت في الإسلام. والكوفة قد بنيت بظاهرة الحيرة، وكانت مقرًّا للنعمان بن المنذر.
(٨) هذه رواية أبي الطيب اللغوي، ينسب فيها وضع البيت لأبي عمرو، ولكن صاحب العقد الفريد نقل أن حمادًا كان يقول: ما من شاعر إلا وقد حققت في شعره أبياتًا فجازت عنه، إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت. قيل له: وما البيت؟ فقال:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
… … … إلخ
ورواية أبي الطيب أوثق وأصح.
(٩) الحادي مقلوب الحائد، وهو في الطيرة ما استقبلك من تجاهك من الطير والوحش، والسانح ما ولاك ميامنه، والبارح ما ولاك مياسره، والعقيد الذي يأتيك من خلفك، والشاحج الغراب المسن الذي غلظ صوته، وهو من شر ما يتطيرون به، كالثور الأعضب، وهو المكسور القرن، وترقيح المال: إصلاحه والقيام عليه حتى ينمو.
(١٠) لم تتناول الرواية من المنثور غير الخطب؛ لأن الرسائل لم تكن في الجاهلية، ولا كان ما يصنعه الإسلاميون منها مما له متعلق في غرض من أغراض الرواية إلا عند الإخباريين (المؤرخين)، ولهذا لم يكن الوضع في المنثور إلا على الخطباء خاصةً؛ وأكثر ما يكون الوضع من ذلك في الكلام المغمور أهله الذي لا يدور على الألسنة وإن كان سريًّا شريفًا؛ لأن جميع القائلين لم يرزقوا الحظ في ذلك على السواء، وقد قال الجاحظ: ما علمت أنه كان في الخطباء أحد أجود خطبًا من خالد بن صفوان وشبيب بن شبة الذي يحفظ الناس ويدور على ألسنتهم من كلامهما. وما علمنا أن أحدًا ولد لهما حرفًا واحدًا. ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤