الحضارة الأندلسية

الأندلس إقليم في جنوب إسبانيا، وقد أطلق اسمه على البلاد كلها مجازًا، ولهذه البلاد إسبانيا في تاريخ الحضارة أربعة أعصر: الأول عصر الفينيقيين الذين اكتشفوها، والثاني عصر الرومانيين، والثالث عصر القوطيين … والرابع العصر الإسلامي. وكانت إسبانيا قبل أن يكتشفها الفينيقيون ما بين القرن الرابع عشر والخامس عشر قبل الميلاد، معمورة بقبائل يسمونهم «الأيبيريين» وقد وقع الخلاف في أصلهم، قالوا: ومن هذا الاسم اشتق اسم «هباريا» الذي كان الاسم الأول لتلك البلاد، ثم صار إسبانيا بعد ذلك.

فلم تكن حضارة العرب في الأندلس ابتداءً، وإنما كانت تتميمًا، ولولا ذلك لتبيَّن النقص الطبيعي في أدب تلك البلاد، ولبلغ الكبر قبل أن يشبَّ شبابه الذي بهر التاريخ؛ لأن الأدب لا يتبع الحضارة لنفسها، ولكن لفلسفتها وحواشيها الرقيقة، فليس الشأن في بناءٍ يُقام وبلد يعمر ونهر يبثق وأرض تفلح، ولكن الشأن في فلسفة ذلك جميعه، من جمال الشكل وإحكام الهندسة وجلاء الطبيعة وحسن التنسيق، وأنت مع استفحال الحضارة الإسلامية واستبحار عمرانها وسموق مبانيها ودقة فنونها، خصوصًا في الأندلس، لا تكاد تجد لأفراد الشعراء المعدودين في وصف المباني إلا ما كان للبحتري في وصف قصور المتوكل كالجعفري وغيره، وللشريف الرضي في وصف ما كان في الحيرة من منازل النعمان، والصابي في وصف قصر روح بالبصرة، وشعراء الدَّاريات، وهم الذين نظموا في وصف دار الصاحب بن عباد كأبي سعيد الرستمي والخوارزمي وغيرهما، وقد ذكرهم صاحب اليتيمة وأورد قصائدهم، وابن حمديس في مباني المعتمد على الله وما شاده المنصور بن أعلى الناس وهو أشهر الشعراء في ذلك، وأبي الصلت أمية الأندلسي في مباني علي بن تميم بن المعز العبيدي بمصر، وأبي محمد المصري في وصف قصر المأمون بن ذي النون بطليطلة، وقطع متفرقة لغير هؤلاء، وهم مع ذلك لا يذكرون مادة البناء ولا يصورون هندسته؛ لأن الشعر ليس مادة جامدة يأتلف مع الجوامد، وإنما هو يتبع زخرف الحضارة وفلسفتها.

وقد وجد العرب في الأندلس حضارة ممهدة وسبيلًا مطروقة إلى الفنون الدقيقة والجمال الطبيعي، وجاءهم بعد ذلك من بني أمية أمراء الحضارة الشرقية ومنافسو العباسيين فيها. فجلوا شبابًا كاد يوفى على الهرم، وكان رأسهم في ذلك عبد الرحمن الداخل الذي بدأ في بناء جامع قرطبة الأعظم والقصر الكبير الذي كان في الأبنية كأنه قصيدة في الشعر، إذ كان من قصوره التي يحتويها: الكامل، والمجدد، والحائر، والروضة، والزاهر، والمعشوق، والمبارك، والرستق، وقصر السرور، والتاج، والبديع، وغيرها، وهي المعاهد التي كانت مذكورة في ألسن الشعراء وفرسان الأدب، وكان عبد الرحمن بن معاوية صاحب قصر الرصافة ينقل لجنانه غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية، وأرسل إلى الشام رسوليه: يزيد وسفر، في جلب النوى المختارة والحبوب الغريبة، ولسنا الآن في شرح مواد هذه الحضارة من أنواع النقش والحيَل الصناعية ووصف القصور والمتنزهات وسرد أسمائها، ومجالس الخلفاء وأنواع زينتهم ولهوهم وما سفهوا فيه من السرف والبذخ ونحوها، فليس في كتابنا موضع يسع مثل هذا، وقد تكفل بذلك الشرح جميعه كتاب نفح الطيب للمقري، فضلًا عن أن فيه أشياء أمسكناها لبحث الصناعة العربية تجيء في موضعها من هذا الكتاب، وإنما غرضنا هنا أن نضع أساس البحث في الحضارة الأدبية لأنها تابعة للحضارة الفنية، تغتذي بمادتها وتشرق بجمالها، وإنما الأدباء أقلام التاريخ التي تخلد حضارة الدول وتصف زينة الملك وتراسل عن الملوك بالثناء وحسن الذكر وطيب الأحدوثة، فيد الدولة التي لا تكون لها هذه الأقلام يد شلاء يبترها التاريخ ولا يصفها إلا بالعجز وسوء التعلق والمغالبة على الوجوه بغير حق.

وأساس الحضارة الأدبية في الأندلس تلك الطبيعة التي كانت ترسل النسمات أنفاسًا موسيقية تؤخذ شعرًا وتلفظ ألحانًا، وبذلك حبَّب إلى أهلها الأدب وطبعوا على هذه الشيمة، حتى كان ذلك ظاهرًا في مثل وادي الأشات من أعمال غرناطة، وهي مدينة خص الله أهلها بالأدب وحب الشعر، لما أحدق بها من المواضع الفرجة والبساتين الغناء، وما زالوا يضربون المثل بأهل إشبيلية بلد المتنزهات في الخلاعة والمجون والتهالك على الشعر والغناء، وإنما كان يعينهم على ذلك واديها البهيج، وبنت إشبيلية هذه مدينة شريش، وواديها ابن واديها، وقد قالوا فيها: ما أشبه سعدي بسعيد! وهي مدينة وصفوها بأنه لا يكاد يُرى فيها إلا عاشق أو معشوق …

ومما خُصت به غرناطة التي تُسمى دمشق الأندلس، نبوغ النساء الشواعر منها، كنزهون القلعية وحفصة الركونية وغيرهما، وناهيك بهما من شاعرتين ظُرفًا وأدبًا، فإذا كانت أنوثة تلك الطبيعة قد أنطقت النساء فكيف بالرجال؟

أدباء ملوك الأندلس

قال الجاحظ في موضع من كتابه البيان: زعم رجال من مشيختنا أنه لم يقم أحد من بني العباس بالملك — أي إلى زمنه — إلا وهو جامع لأسباب الفروسية. فلو زعم أحد أنه لم يقم أحد من أمراء الأندلس وخلفائها إلى آخر القرن الخامس إلا وهو جامع أسباب الأدب لكان حقيقًا في زعمه بالتصديق، ولولا أدبهم لما نفق الأدب عندهم ولا بلغ مبلغه ذلك، فإن نفاق السوق جلَّاب، ولم يعرف فيهم من أهل الركاكة١ والسخف إلى ذلك إلا القليل، كمحمد بن عبد الرحمن المستكفي بالله الذي وزر له حائك يعرف بأحمد بن خالد، وكان صاحب رأيه وتدبيره، وقد رأينا أن نذكر أسماء الشعراء وأهل الأدب من أولئك الأمراء والخلفاء، فمنهم: عبد الرحمن الداخل، وابنه هشام، وعبد الرحمن بن هشام، وعبد الله بن محمد المتوفى سنة ٣٠٠، وله شعر جيد، والمنصور، والمستعين، وعبد الرحمن بن هشام من خلفاء دولة بني أمية الثانية، والمستظهر الشاعر الشاب المجيد، وأولاد الأمير عبد الرحمن الأوسط، وهم المنذر، والمظرف، وهشام، ويعقوب، ومحمد، وأبان، كلهم شعراء، ولمحمد هذا ثلاثة أولاد شعراء أيضًا، وهم: القاسم، والمطرف — المعروف بابن غزلان، وهي أمه، كانت قينة مغنية عوادة أديبة — ومسلم، ومن أولاد الناصر عبد الله بن الناصر، وأخوه أبو الأصبغ عبد العزيز، ومحمد بن الناصر، ومحمد بن عبد الملك بن الناصر، أما أخوهم الحكم المستنصر فهو للعلم والأدب، ولم يكن في ولد الناصر أشعر من محمد بن عبد الملك ومن ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر، وهو في بني أمية شبيه عبد الله بن المعتز في بني العباس، لنفاسة شعره وحُسن تشبيهه، وقد خرج منهم بعد القرن الرابع شعراء كثيرون يتفاوتون في الإحسان، وهي ذرية بعضها من بعض، ومن حسناتهم عبيد الله بن محمد المهدي المعروف بالأقرع، والأصم المرواني الذي مدح أمير المؤمنين عبد المؤمن، وقد ألف القاضي يونس بن عبد الله بن مغيب بطلب الحكم المستنصر كتابًا في أشعار خلفاء بني مروان بالمشرق والأندلس، معارضًا للصولي في تأليفه كتاب أشعار بني العباس بالعراق. وكتاب الصولي محفوظ بالمكتبة الخديوية.

أما ملوك الطوائف فحسبك بالمعتصم بن صمادح ملك المرِّية وأولاده الواثق عز الدولة، ورفيع الدولة أبو زكريا يحيى بن المعتصم، وأبو جعفر، وأم الكرام، وكذلك المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية ملك الشعراء، وأولاده: الرشيد، والراضي، وبثينة، ثم ملوك بني الأفطس أصحاب بطليوس وما إليها، ومنهم المظفر صاحب الكتاب المظفري في التاريخ والأدب — وسيأتي ذكره — وبنو هود أصحاب سرقسطة، وكان منهم القائمون على الرياضيات والفلسفة، وأشهرهم المقتدر بن هود الذي كان آية في علم النجوم والهندسة والفلسفة، فقُل في زمن كان يقوم بأمره أمثال هؤلاء: وإنما الأمر بالأمير.

مبلغ عنايتهم بالعلم والأدب

يخلص مما استوفيناه إلى الآن أن أمراء الأندلس وخلفاءها كانوا فيها كعواطف القلب التي تتحرك إلى المنافسة، فهم من جهة بإزاء العباسيين وأمرائهم في المشرق، ومن جهة أخرى بإزاء الطبيعة التي أنشأت الأندلسيين نشأة عقلية غير النشأة الأولى التي يساهم فيها كل أفراد النوع، وهي النشأة القلبية، فلم يكن بد لأولئك الأمراء من أن يكونوا على الحقيقة رؤوس هذا الشعب الطروب، وهي لا توفق بين اندفاع وكبحه إلا إذا كان منها حيِّز للسياسة الحكيمة والعزمة الرحيمة، وهذا لا يتأتى مع جهل ولا جاهلية، وكذلك، ليس العلم المحض بنافع فيه على الإطلاق، وإنما لا بد من علم منوَّع وافتنان يوافق به الأمير أو الخليفة معظم السواد من حاشيته وقومه، فالأمير الفيلسوف لا يصلح للرعية الفقهاء، وحينئذ لا بد أن يكون الفقه في الكفة الراجحة من ميزان سياسته، فتكون له الفلسفة في خاصة نفسه، والفقه وما يُستعان به على تجميل الملك وسياسته كالكتابة والشعر وغيرهما — فيما ظهر منه للناس.

ولما كانت السيادة لعلم الفقه في أول أمر الأندلس كان الأمراء من بني أمية يعنون بشأن الفقهاء والتودد إليهم والانصياع لمشورتهم، ليتألَّفوا الناس بذلك ويديروا بهم الرحى الطاحنة التي هي الحرب؛ حتى إن الحكم بن هشام بات يتململ على فراشه وبَعُدَ عنه نومه حين مرض قاضيه وسمع النائحة عليه؛ لأن هذا القاضي كان يكفيه أمور رعيته بعدله وورعه وزهده.

ثم أقبل الأمراء على أهل الأدب واشتغلوا بالفلسفة، ولكنهم لم يظهروا في ذلك إلا في القرن الرابع، بعد زمن عبد الرحمن الناصر (٣٠٠–٣٥٠ﻫ) وهو الذي تجرأ على لقب الخلافة فكان أول من انتحله بالأندلس، وذلك عندما التاث٢ أمر الخلافة بالمشرق، واستبد موالي الترك على بني العباس. وقد تعاور الدولة العباسية في زمن هذا الخليفة المقتدر والقاهر بالله والراضي بالله، وهو الخليفة الشاعر، والمتقي لله والمستكفي والمطيع الذي غلب على أمره معزُّ الدولة بن بويه ولم يكن له أمر ولا نهي ولا خلافة تُعرف، فكان هذا الاضطراب في المشرق علة في تحريك المدنية والحضارة إلى المغرب، حتى استفحل أمرهما هناك؛ لأن الخلافة التي تقوم بعد أن بلغت الحضارة العباسية إلى منقطعها لا تكون خلافة بلا شيء، بل لا يكفي فيها أن تضاهي الحضارة العباسية، وقد كان اندفاع هذا التيار سببًا في ظهور الفلسفة من مغاصتها وجريانها على أعين الناس، وقد أرسل الخليفة عبد الرحمن إلى القسطنطينية، وكان عاهلها القيصر رومانوس؛ وإلى العراق والحجاز والشام ومصر وإفريقية — من يشتري له الكتب ويحصل له من ذخائرها وأصولها المهمة، حتى قيل إن عاهل القسطنطينية وجد من أسباب الحظوة لدى هذا الخليفة أن يهدي إليه نسخة بديعة من كتاب الحشائش الذي ألفه ديسفوريدس العالم النباتي المشهور، وقد كانت مكتوبة بالخط الإغريقي مصورة فيها الحشائش كلها بالذهب، وأهداه كتابًا آخر لهرشيوس صاحب القصص، وهو تاريخ للروم في أخبار الدهور وقصص الملوك وطبقات الأطباء في كتب أخرى، وكان ذلك سنة ٣٣٧.

ولكتاب ديسفوريدس هذا شأن عند العرب، وقد نقله عن اليونانية اصطفان بن باسيل أيام المتوكل العباسي وترك أسماء كثير من العقاقير على لفظها اليوناني، إذ لم يحسن تغريبها، ووقعت هذه النسخة العربية إلى الأندلس، فلما أهدى الكتاب إلى الناصر أرسل إلى ملك القسطنطينية في أن يبعث إليه براهب يعرف اليونانية واللاتينية، وكان في الأندلس من يحسن هذه اللغة، فبعث إليه راهبًا اسمه نقولا وصل إلى قرطبة سنة ٣٤٠ فتعاونوا على استخراج ما فات ابن باسيل، ثم جاء ابن جلجل الطبيب الأندلسي في آخر القرن الرابع فألَّف كتابًا فيما فات ديسفوريدس من أسماء العقاقير والأدوية، جعله ذيلًا على ذلك الكتاب.

وبذلك صار من مفاخر الأندلسيين يومئذ اتخاذ المكاتب للمنفعة والزينة معًا، حتى إن الكتاب ربما غُوليَ فيه لجلده ونقشه وحُسن خطه؛ لأنها مظاهر الزينة، وقد كان الناصر أندى الناس كفًّا على الشعراء والكتَّاب وأهل الموسيقى وغيرهم، وتولى حماية من يشتغل بعلوم الفلسفة، حتى طارت شهرة قرطبة في أوربا فأمها الناس أفواجًا في زمنه وزمن ابنه الحكم، واختلطوا بالأندلسيين في حلقات العلم، ولا يتم ذلك إلا في عصر تكون شجرة الفلسفة قد مدَّت عليه ظلُّها الوارف،٣ ومن أشهر أولئك الراهب جوبرت (٩٣٠–١٠٠٤م) الذي ارتقى بعد ذلك إلى العرش البابوي باسم البابا سليفسترس الثاني وقد وفد في زمن الحكم.٤

ولسنا نفيض في وصف زمن الناصر وإقبال الوفود عليه من ملوك أوربا والملوك المتاخمين له ومخاطبته في أمر الهدنة والسلم والتماس رضاه وتقبيل يده، ولا في وصف المجلس التاريخي العظيم الذي أعدَّه لاستقبال تلك الوفود، فإن حواشي التاريخ ليست من شرطنا في هذا الكتاب، وإنما نقول: إن زمن هذا الخليفة كان شباب الأدب، ولغلبة العلوم عليه من اللغة والنحو والحديث والفلسفة لم يكثر شعراؤه كثرتهم في أواخر هذا القرن وفي القرنين الخامس والسادس. وقد كان من تأثير ذلك أن صار أكثر الفقهاء وسائر أصناف العلماء رواة للشعر والأخبار، واستفاض ذلك إلى آخر عصور الأندلس، فنشأ من مشاهيرهم مثل أبي مروان عبد الملك الطبي، وأبي الوليد الباجي، وأبي أمية إبراهيم بن عصام، وابن حزم الظاهري، وأبي بكر الطرطوشي، والحافظ الحميدي، وابن الفرضي، وغيرهم، حتى إن من لم يكن فيه هذا الأدب من العلماء كانوا يعدُّونه غفلًا مستثقلًا. ولم يكن يشتهر بذلك قبلهم إلا القليل من الفقهاء، كعبد الملك بن حبيب المتوفى سنة ٢٣٨، والقاضي منذر بن سعيد المتوفى سنة ٣٣٥ وكانوا يقولون في عبد الملك إنه عالم الأندلس وإنَّ عيسى بن دينار فقيهها، وأشهر شعراء الناصر: ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد المتوفى سنة ٣٢٨، وهو الذي نظم بعض غزواته في أرجوزته المشهورة، وحاجبه أحمد بن عبد الملك بن عمر بن أشهب، ووزيره عبد الملك بن جهور، وآخرون.

ولما ولي بعد الناصر ابنه الحكم المستنصر (٣٥٠–٣٦٦) جرى في طريق أبيه وأربى على الغاية، فكان جمَّاعًا للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد قبله من الملوك، حتى بلغ عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعين، في كل واحدة عشرون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين، وكان يبعث إلى الأقطار في شراء الكتب أناسًا من التجار، وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه بألف دينار ذهبًا، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وله من أمثالها أشياء، وجمع بداره الحُذَّاق في صناعة النسخ والمهرَة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، وقد حققوا أنها بلغت سبعين مكتبة إلا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء. قال ابن خلدون: ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر، ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة، وقد آثر ذلك الحكم على لذات الملوك، فاستوسع علمه، ودق نظره، وجمَّت استفادته، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيًّا نسيج وحده، وكان ثقة فيما ينقله، وقلما يوجد كتاب من خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان، ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته وغرائب أخرى لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن. وإذا كان الحكم قد امتاز بشدة النظر في علم الحدثان: التنجيم٥ وهو من اللهو الشبيه بالباطل، فما ظنك به في غيره من علوم القوم؟ وإن مبلغ العلم لا يكون دائمًا إلا مبدأ العناية بالعلم، فعلى قدر ما يستوفي العالم يكون شرهه إلى الزيادة، وعلى مقدار هذا الشره تكون العناية بمن عنده شيء مما يوفِّي حق الرغيبة ويغني من حاجة الطلب، فإذا كانت خزائن الحكم تحفل بأربعمائة ألف مجلد، كما قيل،٦ حتى إنهم لما نقلوها أقاموا في ذلك ستة أشهر، فهل يكون عصره إلا عصر العلماء والأدباء الذين هم مصانع الكتب على الحقيقة؟
أما الشعر في زمنه فإنا إذا ذهبنا نقلب كتب التاريخ التي بين أيدينا لم نكد نعرف من مشاهير عصره غير حاجبه جعفر بن محمد المصحفي رب القلم والبيان؛ وهو في الطبقة الثانية من شعراء الأندلس، وغير الرمادي الشاعر المتوفى سنة ٤٠٣ ويعدونه في الطبقة الثالثة.٧

وإذا كان التاريخ قد ذهب بكثير من أسمائهم، فقد رأينا في بعض أنبائه أن من الكتب التي أُلفت للحكم المستنصر كتبًا في شعراء الأندلس، منها أخبار شعراء ألبيرة في عشرة أجزاء، وقد وقف عليه الوزير أبو محمد بن حزم؛ وهو الذي ذكره في بعض رسائله ولم يذكر اسم مؤلفه (ص١٢٣ ج٢)، ولكنا وقفنا في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي على اسم هذا الكتاب في ترجمة مطرف بن عيسى الألبيري المتوفى سنة ٣٥٧، وقال: إن له كتابًا آخر في فقهائها، وكتابًا في أنساب العرب النازلين بها وأخبارهم (ص٣٩٢).

ورأينا أيضًا في هذه الطبقات في ترجمة محمد بن عبد الرءوف القرطبي المعروف بابن خنيس المتوفى سنة ٣٤٣ أنه ألّف كتابًا في شعراء الأندلس بلغ فيه الغاية، فيكون من ذكرهم فيه إلى ما قبل انتهاء زمن الناصر، وألبيرة لم تكن إلا مدينة من مدن الأندلس فكيف بسائرها؟ إلا أن الشعر كان كثيرًا في علماء اللغة والنحو وغيرهما — كما سيجيء في موضعه — وفي أيام هذا الأمير نبغ محمد بن هاني الشاعر الشهير بإشبيلية، ولكنه انفصل عنها إلى إفريقية ومدح المعز صاحب مصر وغيره، وتوفي سنة ٣٦٨، وقد توفي الحكم سنة ٣٦٦، وولي بعده ابنه هشام فغلب على أمره ابن أبي عامر المنصور وتولى حجابته، وجرت أحوال علَت قدمه فيها حتى صار صاحب التدبير، فدانت له الأندلس كلها ولم يضطرب عليه شيء من نواحيها، وكان محبًّا للعلوم مؤثرًا للأدب، مفرطًا في إكرام من ينسب إلى شيء من ذلك ويفد عليه متوسلًا به بحسب حظه منه وطلبه له ومشاركته فيه، وقد أفرط في الإحسان على أبي العلاء صاعد اللغوي البغدادي حين قدم عليه سنة ٣٨٠ حتى اتخذ له مرة قميصًا من رقاع الخرائط التي كانت تصل إليه فيها الأموال منه، وجعل ذلك حيلة إلى بلوغ الغاية من كرمه، وقد ألَّف له كُتبًا غريبة، منها كتاب الهجفجف بن غيدقان بن يثربي مع الخنوت بنت مخرمة، وكتابًا آخر في معناه سمَّاه كتاب الجواس بن قطعل المذحجي مع ابنة عمه عفراء. قال صاحب المعجب: وهو كتاب مليح جدًّا انخرم أيام الفتن بالأندلس فنقصت منه أوراق لم توجد بعد، وكان المنصور كثير الشغف بهذا الكتاب — أعني الجواس — حتى رتب له من يخرجه أمامه كل ليلة.٨

ولعل هذه الكتب مما يساق فيه القصص الموضوع على غرض من أغراض السياسة والأدب، ويقول صاحب المعجب: إن كتاب الهجفجف وضعه على نحو كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب، فيا أسفاه على كتب أصبحت أسماؤها تحتاج إلى تفسير … وقد ذكر الفتح بن خاقان في المطمح في ترجمة الوزير حسان بن مالك بن أبي عبدة أنه دخل على المنصور وبين يديه كتاب ابن السري وهو به كلف وعليه معتكف، فخرج وعمل على مثاله كتابًا سماه ربية وعقيل، وأتى به منتسخًا مصوِّرًا في ذلك اليوم من الجمعة الأخرى (ص٣١٤ ج٢) فهذا يفيد أن هذه الكتب جميعها على مثال كليلة ودمنة المشهور.

وكان للمنصور مجلس في كل أسبوع يجتمع فيه أهل العلم والمناظرة بحضرته ما كان مقيمًا بقرطبة؛ لأنه كان مواصلًا لغزو الروم مفرطًا في ذلك لا يشغله عنه شيء، حتى إنه ربما خرج للمصلى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك فلا يرجع إلى قصره، بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولًا فأولً. وقد غزا في أيام ملكه التي دامت إلى سنة ٣٩٣ نيفًا وخمسين غزوة.

ورأس الشعراء في أيامه عبادة بن ماء السماء المتوفى سنة ٤٢٢ وقيل: سنة ٤١٩، وهو أول من أتقن الموشحات بالأندلس حتى كأنها لم تُسمع إلا منه، وللرمادي في ذلك يدٌ أيضًا.

ومن مشاهيرهم الرمادي وابن دراج والقسطلي ومحمد بن مسعود الغساني البجالي٩ وكان يكتب له هو ومحمد بن إسماعيل … وله لطائف في الشعر فكان يخاطب المنصور بلسان النبات الذي يوافق أسماء عقائله ومحاظيه، كاسم بهار ونرجس وغيرهما، والوزير محمد بن حفص بن جابر، وأبو بكر محمد بن نهور، وغيرهم. وكان المنصور معروفًا بالمحاماة عن أهل الشعر والأدب حتى لا يتنقصهم في مجلسه أحد إلا رد عليه وسفَّهه؛ وقد وقع بعضهم في الرمادي عنده فكلَّمه كلامًا كان يغوص دونه في الأرض لو وجد لشدة ما حل به منه، غير أنه لما كان المنصور غَزَّاءً مواليًا للجهاد، فقد كان غبار حروبه يثور بين العلماء تشدُّدًا في الدين، حتى فشا في العامة اتهام كل من يشتغل بالفلسفة أو يُعرف بمذهب من مذاهبها حتى في الشعراء أنفسهم، وكان قليل من ذلك في زمن الحكم وأبيه، فاتهموا ابن هانئ في إشبيلية، وأساءوا المقالة فيه حتى انفصل عنها، ولما وفد الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجالي على المنصور، اتهم كذلك برهق١٠ في دينه، فسجنه المنصور في المطبق زمنًا. وقد بقيت الفلسفة مضطهدة في الأندلس بعد ذلك من عامتها، حتى ظهرت في بر العدوة — كما سيجيء — وفشا الأدب في زمن المنصور حتى صار حلية الشباب وزينة النشأة الأندلسية، ومثل ذلك يكون مبدأ عصر عظيم، وقيل: إن المخانيث بقرطبة يومئذ كانوا يشتغلون به، فكان منهم فتيان أخذوا بنصيب وافر منه، ومن هؤلاء غلام للمنصور اسمه فاتن توفي سنة ٤٠٢، قالوا: كان لا نظير له في علم كلام العرب.١١
وبعد المنصور بزمن قليل ابتدأت الفتن في الأندلس واستجار بعضهم الإفرنج، ولبثوا على ذلك إلى أن انقرضت دولة بني أمية سنة ٤٢٨، فكانت دولة المنصور آخر دول العلم والأدب في القرن الرابع، وقد وضع ابن الفرضي الحافظ المشهور المتوفى سنة ٤٠٣ كتابًا في أخبار شعراء الأندلس إلى ذلك الزمن.١٢
وسار الأدب في وجهته غير مبالٍ بقيام الملوك وسقوطهم؛ لأنه لا يقوم بهم ولا يسقط معهم إلا في أوائل نشأته؛ إذ يحوطونه ويكفلون نموه؛ وإلى أن انفرطت دولة بني أمية وانتثر سلك الخلافة في المغرب كان الأمراء لا ينفكون يتعاهدونه، فكان الناصر علي بن حمود من البربر — وهو الذي ملك مُلك قرطبة بعد الأربعمائة وقيل: سنة ٤٠٨ — على عجمته وبُعده من فضائل اللسان، يُصغي إلى الأمداح ويثيب عليها، مُظهرًا في ذلك آثار النسب العربي والكرم الهاشمي، ومن مشاهير الذين امتدحوه ابن الخياط القرطبي، وعبادة بن ماء السماء.١٣ ولما وفى المستظهر سنة ٤١٤ (من خلفاء الدولة الأموية الثانية) عكف على الأدب، وكان شاعرًا مصنعًا بديع الشعر، فاشتغل عن تدبير المملكة بالمباحثة مع أبي عامر ابن شهيد الشاعر الكبير، وأبي محمد بن حزم العالم الشهير، وعبد الوهاب بن حزم الغزل المترف، فكانوا يتباحثون في الآداب ويتجاذبون أهداب الشعر؛ حتى أحقد بذلك مشايخ الوزراء والكبراء، فأثاروا عليه العامة وهم يومئذ أجهل ما يكون، فقتلوه لأدبه وشعره، وهذا وحده دليل على أن العامة لا يكرهون الفلسفة ولا يضطهدون القائمين عليها لذاتها؛ ولكنهم مع كل ريح، وأتباع كل ناعق، وكما تابعوا في إحراق كتب الفلسفة، تابعوا كذلك في إحراق كتب المذهب المالكي في المغرب — كما سنشير إليه فيما يأتي.

هوامش

(١) قلت: الركاكة: الضعف كما في القاموس.
(٢) قلت: الالتياث: الاختلاط كما في القاموس.
(٣) قلت: ورف الظل: اتسع وطال وامتد، فهو وَارِفٌ كما في الوسيط.
(٤) تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب: ١ / ٩٨.
(٥) نفح الطيب: ٢ / ٩٣.
(٦) نفح الطيب: ١ / ١٨٤.
(٧) المعجب في تلخيص أخبار المغرب: ص١٦.
(٨) المعجب: ص٢٠.
(٩) نفح الطيب: ٢ / ٢٣٨.
(١٠) قلت: رَهِقَ فلانًا (ترهَقًا): سَنِه وحَمُق وجهل، وركب الشر والظلم، وغشي المآثم.
(١١) نفح الطيب: ٢ / ٩٠.
(١٢) نفح الطيب: ١ / ٣٨٣.
(١٣) نفح الطيب: ١ / ٢٢٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤