علوم الأدب وكُتبه

كان الأدب — كما أسلفنا — مجموع علوم المؤدِّبين، فلا جرم حَدُّوه كما رأيت فيما نقلناه عن ابن خلدون، وهو حدٌّ يطابق أمرهم كل المطابقة، فلما أرادوا تعيين هذه العلوم، نظروا في غرض الأدب فجعلوا له غرضين: أحدهما يقال له الغرض الأدنى، والثاني الغرض الأعلى، فالأول أن يحصل للمتأدب بالنظر في الأدب والتمهر فيه قوةٌ يقدر بها على النظم والنثر، والغرض الأعلى أن يحصل للمتأدِّب قوةٌ على فهم كتاب الله تعالى وكلام رسوله وصحابته، ويعلم كيف تُبنى الألفاظ الواردة في القرآن والحديث بعضها على بعض حتى تُستنبط منها الأحكام وتُفرَّع الفروع وتنتج النتائج وتُقرن القرائن على ما تقتضيه معاني كلام العرب ومجازاتها.

قال البَطَليْوسي — وهو الذي ننقل عنه هذه الكلمات من شرح أدب الكاتب: والشعر عند العلماء أدنى مراتب الأدب. ثم نظروا في تعيين العلوم التي تُقضى إلى هذه المقاصد، فاختلفوا فيها، ولكنها في الجملة كانت علوم العربية، ولم يعيِّنها أحدٌ إلى أواخر القرن الخامس. فلما أُنشئت المدرسة النظامية ببغداد، أنشأها نظام الملك — وزير ملك شاه السلجوقي — المتوفى سنة ٤٨٥، اختير لتدريس الأدب فيها أبو زكرياء الخطيب التبريزي المتوفى سنة ٥٠٢ وهو من أئمة اللغة والنحو، ثم درَّسه بعده عليُّ بن أبي زيد الفصيحي، وكان نحويًّا، ثم عُزل «لتهمة التشيُّع» بأبي منصور الجوَاليقي. وتعاقب هؤلاء المدرسين جعل للأدب موضعًا معينًا كان ولا يزال مقررًا عند العلماء إلى آخر القرن السادس، على ما ذكره ابن الأنباري المتوفى سنة ٥٧٧ في «طبقاته»، فإنه لما ترجَم هشامَ بن محمد بن السائب الكلبي قال: «إنه كان عالمًا بالنسب، وهو أحد علوم الأدب؛ فلذلك ذكرناه في جملة الأدباء، فإن علوم الأدب ثمانية: النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر وأخبار العرب، وأنسابهم … «ثم قال»: وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما: علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو.»١

إلا أن الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ أراد أن يجعل للأدب حدًّا علميًّا من الحدود — الجامعة المانعة — على طريقة المتكلمين، فعرَّف علوم الأدب بأنها علوم يُحترز بها عن الخلل في كلام العرب لفظًا وكتابةً، وجعلها اثني عشر، منها أصول لأنها العمدة في ذلك الاحتراز، وهي: اللغة، والصرف، والاشتقاق، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع «وجعلوه ذيلًا لعلميِّ المعاني والبيان داخلًا تحتهما» والعروض، والقوافي.

ومنها فروع، وهي: الخط — أي الإملاء — وقرض الشعر، والإنشاء والمحاضرات، ومنه التواريخ.

وهذا التقسيم هو المعروف عند العلماء إلى اليوم.

وقال صاحب نفح الطيب: «إن علم الأدب في الأندلس كان مقصورًا على ما يُحفظ من التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات، قال: وهو أنبل علم عندهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غُفْل مستثقل.».

أما كتب الأدب فهي على الحقيقة كتب العلوم التي مرت، بيد أن أهل اللغة كانوا ينتحلون لفظة الأدب في تسمية كتبهم الخاصة بأوضاع اللغة وشواهدها؛ لأن اللغة أصل المادة، فمن ذلك: ديوان الأدب، وكتاب ديوان العرب وميدان الأدب، وروض الآداب، ومفتاح الأدب، وسر الأدب، ومقدمة الأدب، وعنوان الأدب، وكلها في اللغة ذكَرَ صاحب «كشف الظنون» وغيره، وبعضها موجود، كديوان الأدب للفارابي، ومقدمة الأدب للزمخشري، ومن هذا القبيل «أدب الكاتب» لابن قتيبة ولابن دُريد ولابن النحاس وغيرهم.

أما الكتب التي هي من شرط الأدب فكثيرة، وأصولها كما قال ابن خلدون: أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي٢ وما سوى هذه الأربعة فتبعٌ لها وفرع عنها.

هوامش

(١) لذلك تفصيل سيأتي في موضعه عند الكلام على النحو.
(٢) كل هذه الكتب مطبوع مشهور، وقد شُرحت كلها شروحًا مختلفة، ما عدا البيان والتبيين؛ ولولا التفادي من الملل لأتينا على تاريخ كل كتاب منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤