ألقاب الشعراء

كان العرب ربما أخذوا الكلمة يصيبونها في بيت من الشعر فيطلقونها لقبًا على قائله بحيث تغلب على اسمه وكنيته فلا يُعرف إلا بها، كشأس بن نهار العبدي، وفي البيان للجاحظ: سالم؛ لُقب بالممزَّق لقوله:

فإن كنت مأكولًا فكن خير آكل
وإلا فأدركني ولما أمزق

والممزَّق هذا بالفتح، قال الآمدي: وهو جاهلي، وأما الممزِّق الحضرمي فبكسر الزاي متأخر وابنه عباد ولقبه «الممزِّق» وهو القائل:

إني الممزِّق أعراض الكرام كما
كان الممزِّق أعراض اللئام أبي

وقد نقل السيوطي في المزهر عن الوشاح لابن دُريد وغيره، وأورد الجاحظ في الجزء الأول من البيان، وابن رشيق في كتابه العمدة — زهاء ستين لقبًا لشعراء من الجاهلية والإسلام.

قال ابن رشيق في سبب هذه التسمية: وإنما هذا لمكان الشعر من قلوب العرب وسرعة ولوجه في آذانهم وتعلقه بأنفسهم.

وليس ذلك بشيء وإلا لزم أن يطرد ذلك في مشاهير الشعراء، ولم يقل به أحد، والذي عندنا أنه لا يصح كل ما نقلوه من ذلك، وأن بعضه من وضع الرواة والنَّقَلَةِ، وإلا فما وجه تسمية منبه بن سعد بأعصر لقوله:

أعمير إن أباك غيَّر لونه
مرُّ الليالي واختلاف الأعصر

إلا أن تكون الكلمة قد ارتجلها منبه هذا ولم تكن معروفة قبله في لغات العرب بحيث تستغرب منه فيكون السبب في التسمية وجه الغرابة، وهو ما لا سبيل إلى تحقيقه وتصديقه.

والذي تغلب عليه الصحة من ذلك ما يكون سبب التسمية به صفة يحكيها الشاعر عن نفسه ويمكن أن يكون في إطلاقها عليه نوع من الغرابة كالمرقش الذي لُقب بذلك لقوله:

الدار قفر والرسوم كما
رقش١ في ظهر الأديم قلم

فهذه صفة غريبة من شاعر أمي يمكن أن ينبز بها تهكمًا أو مزحًا، كما يمكن أن تطلق عليه تحببًا أو مدحًا أو تكون الصفة المسمى بها من الصفات التي تدل على عمل يصح أن يُنعت به، كالجوَّاب الذي سُمي بذلك لقوله:

لا تسقني بيديك إن لم تأتني
رقص المطية، إنني جوَّاب

أو تكون الكلمة التي تُطلق على الشاعر مما يصح أن تُشق منه صفة ذلك سبيلها، كجابر الكلبي المسمى المرني لقوله:

إذا مشى يُتبعنه عند خطوه
عيونًا مراضًا طرفهن روانيا٢
ولا بد من هذا القياس؛ لأن الألقاب إنما تُشعِر بمدح أو ذم، والأسماء لم توضح إلا للامتياز في التعريف، فأما أن تجيء الكلمة لا هي مما يمتاز بمثله عادةً، وليست موضع مدح أو ذم ولو من طريق العتب، ثم يقال إنها اسم أو لقب — فهذا ما لا يصدق. ولو أجزنا ذلك لاستغرق جميع الشعراء إلى اليوم، وذلك شيء لم يكن، وقد ذكر الجاحظ أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة — وكان خطيبًا من وجوه قريش ورجالهم سمي القَبَاع — قال: وإنما سمي القباع لأنه أتى بمكتل لأهل المدينة فقال: إن هذا المكتل لقباع، فسُمي به. والقباع الواسع الرأس القصير٣ فهذا سبب يدلك على أنهم لم يكونوا يجازفون بالتلقيب والتسمية، ولا بد من معنى لذلك، وهو أمر شائع في كل زمن؛ ومن هذا القبيل — وإن كنا نورده استجمامًا وفكاهة — ما ذكره الجاحظ أيضًا في سبب تسمية علي بن إسحاق بن يحيى المجنون المسمى بمقوِّم الأعضاء، أنه جلس مع بعض متعاقلي فتيان العسكر وجاءهم النخاس بجوارٍ، فقال: ليس نحن في تقويم الأبدان، إنما نحن في تقويم الأعضاء، ثمن أَنْفَ هذه خمسة وعشرون دينارًا، وثمن أذنيها ثمانية عشر، وثمن عينيها ستة وسبعون، وثمن رأسها بلا شيء من حواسها مائة دينار. فقال صاحبه المتعاقل: ها هنا باب هو أدخل في الحكمة من هذا؛ كان ينبغي لقدم هذه أن تكون لساق تلك، وأصابع تلك أن تكون لقدم هذه؛ وكان ينبغي لشفتي تيك أن تكونا لفك تيك، وأن يكون حاجبا تيك لجبين هذه. فسُمِّيَ مقوِّم الأعضاء٤ والشرط في التلقيب بالكلمات أن تسير الكلمة؛ فإذا قرنت بالاسم زادته معنى، وإذا كانت مفردة أغنت عنه؛ وهذا ما لا يتفق إلا بمثل الأسباب التي ذكرنا، فتنبه له.

هوامش

(١) قلت: رقش رَقَشَه (رَقشًا): نقشه وزخرفه وزينه.
(٢) قلت: روانيا: الرواني: حلوى تُتخذ من البيض والدقيق والسكر.
(٣) البيان: ج١.
(٤) البيان: ج٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤