مرحلة جديدة في الدين

بنو إسرائيل

ومثل بني إسرائيل — أو العبرانيين — مثل جميع الأمم الغابرة في تطور العقيدة.

فقد دانوا زمنًا بعبادة الأسلاف كما دانوا بعبادة الأوثان والكواكب وظواهر الطبيعة وطواطم الحجارة والأشجار والحيوان.

وبقيت فيهم عبادة الأوثان بعد دعوة إبراهيم عليه السلام وظهور الأنبياء، فعبدوا «عجل الذهب» في سينا، بعد خروجهم من الديار المصرية، وفي الإصحاح الثامن عشر من كتاب الملوك الثاني أن حزقيا ملك يهودا «… أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها …»

وجاء في الإصحاح التاسع عشر من كتاب صموئيل الأول أن إحدى زوجات داود عليه السلام — ميكال — «أخذت الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب.»

والمعروف أن الترافيم أو الطرافين بصيغة الجمع هي تماثيل على صورة البشر تقام في البيوت وتحمل في السفر، ويرمز بها إلى الله.

وقد دعاهم موسى عليه السلام إلى التوحيد ونبذ الأصنام والأوثان، وقيل إنه عليه السلام أول من سمى الإله «يهوا»، وهو اسم لا يعرف اشتقاقه على التحقيق، فيصح أنه من مادة الحياة، ويصح أنه نداء لضمير الغائب؛ لأن بني إسرائيل كانوا يتقون ذكره توقيرًا له ويكتفون بالإشارة إليه، ويصح غير ذلك من الفروض.

وعبدوا الإله باسم «إيل» أي القوي في اللغة الآرامية، ولكن الأسماء العبرية تدل على أنهم قد لبثوا زمانًا يصفون الإيل بالصفات البشرية ويقبلون نسبة القرابة الإنسانية إليه، كما في اسم عمائيل من «العمومة» أو «إيل أب» من الأبوة وغير ذلك من أواصر الأسرة البشرية.

وظلوا إلى ما بعد أيام موسى عليه السلام ينسبون إلى الإله أعمال الإنسان وحركاته، فذكروا أنه كان يتمشى في الجنة، وأنه كان يصارع، ويأكل ويشرب، ويغشي مركبات الجبال، وأنه دفن موسى حينما مات في موآب.

وقد خلت الكتب الإسرائيلية من ذكر البعث واليوم الآخر، فالأرض السفلى أو الحب، أو شيول هي الهاوية التي تأوى إليها الأيتام بعد الموت، ولا نجاة منها لميت، «وإن الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد.»

وأول إشارة ليوم كيوم البعث وردت في الإصحاح الرابع والعشرين من كتاب أشعيا الذي عاش نحو القرن الثالث قبل الميلاد، وفيه نبوءة عن يوم «يطالب فيه الرب جند العلاء في العلاء ويجمعون جمعًا كأسارى في سجن، ويخجل القمر وتخزى الشمس؛ لأن رب الجنود قد ملك في جبل صهيون وفي أورشليم»، وفي الإصحاح السابع والعشرين بعده «أن الرب يعاقب بسيفه القاسي الشديد في ذلك اليوم لوياثان الحية العارية: لوياثان الحية المتحوية ويقتل التنين الذي في البحر»، ومن أعمال ذلك اليوم كما جاء في الإصحاح الخامس والعشرين: «إن رب الجنود يصنع لجميع الشعوب وليمة سمائن: وليمة خمر على دردي سمائن ممخة: دردي مصفى.»

وجاءت إشارة أخرى إلى يوم البعث والدينونة في الإصحاح الثاني عشر من كتاب دانيال، وهي أصرح من الإشارات السابقة حيث يقول فيها النبي: «إن كثيرين من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون: هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي»، ويلاحظ أن كتاب دانيال لا يحسب من كتب العهد القديم في جميع النسخ.

ويرجع تاريخ هذه النبوءة إلى أواخر القرن الثاني قبل الميلاد حوالي سنة مائة وخمس وستين، وإنما كان الثواب والعقاب قبل ذلك نصرًا يُؤتاه الإسرائيليون على الأعداء أو بلاء يصابون به على أيدي الأقوياء، جزاء لهم على خيانة «يهوا» وعبادة غيره من أرباب الشعوب.

وكان معنى الكفر في الإسرائيلية الأولى كمعنى الخيانة الوطنية في هذه الأيام، فكانت للشعوب آلهة يؤمن الإسرائيليون بوجودها، ولكنهم يحرمون عبادتها كتحريم الانتماء إلى دولة أجنبية، فرب الشعب أحق بولائه وعبادته من الأرباب الغرباء.

وظلوا على ذلك إلى أن فهموا «الوحدانية» التي تتعالى على الشبيه والنظير في أيام أشعيا الثاني القائل بلسان الرب: «بمن تشبهونني وتسوونني وتمثلونني لنتشابه؟» وهو الذي شدد النكير عليهم قائلًا: إن الله هو الأول منذ القدم، وهو المخبر منذ البدء بالأخير، ونعى عليهم أن يعبدوا صنمًا «يرفعونه على الكتف ويحملونه ويضعونه في مكانه ليقف في موضع ولا يبرحه، ويناديه الداعي فلا يجيب.»

وكان سقوط الدول الكبيرة في عهد أشعيا الثاني مؤذنًا باقتراب يوم إسرائيل الموعود، فقد تداعت بابل ومصر وآذنت فارس بالتداعي والانقسام، فتجدد رجاء إسرائيل في ملك العالم، وفسروا سقوط الدول الكبرى بغلبة «يهوا» عليها وعقوبته لها على ما أسلفت من الإساءة إلى شعبه، ولاح لهم — لأول مرة — أن ربهم يبسط ظله على الأرض بما رحبت، وأن يوم الخلاص الموعود جد قريب.

والغالب في وصفهم للإله أنه غيور شديد البطش متعطش إلى الدماء، سريع الغضب ينتقم من شعبه كما ينتقم من أعداء شعبه، ولكن موسى عليه السلام وصفه بالرحمة وفريقًا من أنبيائهم وصفوه بالحب واللطف وعلموهم أنه يحب عباده ويطلب من عباده أن يحبوه، أو كما قال هوشع «إنه يريد رحمة لا ذبيحة» وأن خلائق العدل والحق والإحسان والمراحم هي خلائق الأبرار.

•••

وقد شغلت العقائد الإسرائيلية حيزًا كبيرًا من مقارنات الأديان؛ لأنها «أولًا»: نقطة التحول بين العبادات القديمة والعبادات في الديانة الكتابية، ولأنها «ثانيًا»: صحبت التطور في فكرة المسيح المنتظر في مبدئها، فكانت تمهيدًا متواليًا للدعوة المسيحية، وهي أوسع الدعوات الكتابية انتشارًا بين الأمم التي عنيت بالدراسات العلمية الحديثة في مقارنات الأديان.

ولأنها «ثالثًا»: موضوع مقابلة مستفيضة بينها وبين عقائد البابليين والمصريين والفرس والهنود الأقدمين، ولها صلة قريبة بعقائد اليونان قبل عصر الفلسفة وبعدها إلى عصر السيد المسيح.

فكانت العقائد الإسرائيلية نقطة التحول؛ لأنها بدأت بتصور الإله على صورة إنسان يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويغار من منافسيه ويخص قبيلته وحدها بالبركة والتشريع، وقرنت هذه الصورة تارة بعبادة الأصنام وتارة بعبادة الموتى أو ظواهر الطبيعة وتماثيل الطواطم من الحيوان والنبات، ثم تطورت صفات الله في اعتقاد أبنائها من أعلى إلى أعلى حتى عبدوا الإله الأحد المنزه عن التجسد وعن خلائق البشر القادر على كل شيء والعليم بما كان ويكون، والرحيم الذي يحب الرحماء والودعاء والعاملين بالبر والعدل والإحسان.

ثبتت فكرة «المسيح المنتظر» في عقائد بني إسرائيل بعد زوال ملكهم وانتقالهم إلى الأسر في بابل قبل الميلاد بنيف وخمسة قرون، ومعنى كلمة المسيح «الممسوح بزيت البركة»؛ لأنهم كانوا يمسحون به الملوك والأنبياء والكهان والبطاريق، فكان شاؤل الملك يسمى بمسيح الرب كما جاء على لسان داود في كتاب صموئيل الأول: «حاشاني من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي مسيح الرب …» وكانوا يمسحون الأنبياء بالزيت المبارك كما جاء في كتاب الملوك الأول «وامسح أليشع بن شافاط … نبيًّا عوضًا عنك» ويمسحون به الكهان كما جاء في كتاب الخروج: «هذا ما نصنعه لهم لتقديسهم … نأخذ دهن المسحة ونسكبه على رأسه ونمسحه» ويمسحون به البطارقة ويسمونهم بالمسحاء كما جاء في المزمور الخامس بعد المائة: «لا تمسوا مسحائي ولا تسيئوا إلى أنبيائي …» بل كانوا يمسحون به كل ما يريدون تقديسه كما جاء في كتاب اللاويين: «ثم أخذ موسى دهن المسحة ومسح المسكن وكل ما فيه وقدسه، ونضح منه على المذبح سبع مرات، ومسح المذبح وجميع آنيته والمرحضة وقاعدتها لتقديسها، وصب من دهن المسحة على رأس هارون ومسحه لتقديسه.»

وكانوا في مبدأ الأمر ينتظرونه ملكًا فاتحًا مظفرًا من نسل داود، ويسمونه ابنًا لله كما قال ناتان لداود عليه السلام في كتاب صموئيل الثاني: «هو يبني بيتًا لاسمي وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد … أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا.»

ولكنهم أطلقوا اسم المسيح على كل من يعاقِب أعداءهم ويفتح لهم باب الخلاص من أَسْرهم كما فعل كورش بالبابليين، فجاء في كتاب أشعيا: «هكذا يقول الرب لمسيحه: لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس به أممًا …»

وخطر حينًا للنبيين زكريا وحجاي في أواخر القرن السادس قبل الميلاد أن زر بابل — والي يهودا — هو المسيح المنتظر؛ لأنه أعاد بناء البيت في السنة الثانية للملك داريوس.

وتهذبت هذه العقيدة مع الزمن فأصبحوا ينتظرون الخلاص على يد الهداة العادلين بعد طول انتظاره من زمرة الغزاة الفاتحين، فقال زكريا في رؤياه: «ابتهجي جدًّا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم، هو ذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع، راكب على حمار، على جحش ابن أتان.»

وقد طالت المقارنات بين بعض الصلوات الإسرائيلية وبعض الصلوات المصرية، ولكن علماء الأديان عقدوا المقارنة الكبرى بين مأثورات بابل وفارس ومأثورات إسرائيل.

فقصة الخليقة في العقائد الإسرائيلية الأولى تشابه قصة الخليقة في ألواح بابل، وعقيدة «المخلِّص» المنتظر موجودة في الديانة الفارسية وموجودة في الديانة الإسرائيلية، وكان البابليون يؤمنون بأن الإنسان تمرد على قسمة الموت، وطمح إلى خلود كخلود الأرباب، فبحث عن ثمرة البقاء في السماء، وخدعه إله ماكر عن بغيته، فناوله بديلًا منها ثمرة تشبهها في ظاهرها ولكنها ثمرة الفناء، وهي ثمرة الحب التي تعطي الفناء في صورة البقاء، وهذه في جملتها لا في تفصيلها قريبة من المأثورات الإسرائيلية في هذا الموضوع.

وعند البابليين قصة مفصلة عن الطوفان، ولكنها في الواقع قصة متواترة شاملة توجد بقاياها في المأثورات القديمة من أمريكا الجنوبية إلى الهند، فيروي أهل إقليم كنديماركا Cundimarca بأمريكا الجنوبية أن امرأة الرجل المقدس بوشيكا أولعت بالسحر وأصغت إلى وسواس الشيطان فأخرجت نهر فونزا Funzha من مجراه وأغرقت الإقليم كله بإنسانه وحيوانه ونباته، فلم يعتصم منه إلا من تبع بوشيكا إلى الجبال، ثم عاد بوشيكا فجمع قومه وعلمهم عبادة الشمس وأسلم الروح.
وقصة الطوفان عند المكسيكيين المعروفين بالشيشميين Chichimygues أن العصر الأول من عصور الخليقة وهو المسمى عندهم بعصر أتوناتيو — أي عصر شمس الماء — قد انتهى بطوفان جارف نجا منه رجل واحد اسمه تزبي وامرأته ششكتزال، وكانت نجاتهما على زورق مصنوع من خشب الصفصاف، ويروي أهل بيرو قصة شبيهة بقصة المكسيكيين.
وأهل فريجية بآسيا الصغرى يروون قصة الطوفان ويجعلونها في زمن ملك من ملوكهم يسمى ناناشس Nannachus ويسمون البلد الذي لجأ إليه الهاربون من الطوفان باسم «كيبوتوس»، ومعناها السفينة في لغة الفريجيين.

وقد ترجم ماكس موللر قصة عن السنسكريتية خلاصتها أن ناسكًا دعا بماء في الصباح ليغتسل، فوثبت له من الماء سمكة وقالت له: احفظني فإنني سأحفظك، فسألها: ومم تحفظينني؟ قالت: من الطوفان الذي سيغرق كل هذه الخلائق، وسيأتي الطوفان يوم أكبر، فاعلم يومئذ أن الساعة قد أزفت، وابن لك سفينة، واتخذني دليلًا للنجاة.

ويعود الإغريق بقصة الطوفان إلى عهد أوجيج Ogyge ملك أتيكا الأول، ولعل اسمه مأخوذ من كلمة أوجا Augha السنسكريتية بمعنى الطوفان، وعندهم أن الماء علا حتى بلغ السماء فلاذ الملك وخاصة أهله بسفينة صنعها فنجا عليها من الموت، وفي رواية إغريقية أخرى أن زيوس غضب على البشر فأغرقهم، وعلم برجيوس بما انتواه فنصح لابنه دوكاليون أن يصنع السفينة لينجو عليها، فصنعها ونجا عليها مع زوجته بيرها إلى جبل البرناس.

ويقول اللتوانيون في قصتهم عن الطوفان: إن الإله برمزيماس غضب على الدنيا فأرسل عليها ماردين هما «واندو» و«ويجاس» أي الماء والريح، فغرق كل من في الأرض إلا من ألهمه الإله أن يعتصم بالجبل.

وقصة البابليين كما نقلها المؤرخ الإغريقي بيروسس Berosus قديمًا تزيد على قصة الغرق والنجاة بقصة ألواح التشريع، وخلاصتها أن إكزيسترس Xisurus الذي نجا بالفلك أحس قرب الطوفان فدفن في الأرض ألواح الشريعة، وتفقدها أبناؤه بعد هبوط الماء فاستخرجوها من مكانها، فهي أساس النظام في دولة البابليين.

وتستند قصة الطوفان عند البابليين إلى تقدير من تقديرات علم الفلك أو على الأصح علم التنجيم، يزعمون فيه أن العالم تتعاوره في الآباد الطوال أدوار الطوفان وأدوار الحريق، ويختلفون في تقدير هذه الأدوار بالسنين الكونية ولكنهم يحسبون السنة الشمسية كأنها ثانية بالنسبة إلى اليوم العالمي أو كأنها ثانيتان بحسابنا؛ لأنهم كانوا يقسمون النهار والليل إلى اثنتي عشرة ساعة لا إلى أربع وعشرين، ويحسبون السنة العالمية كأنها يوم في السنة الكونية التي تقع أدوار الفناء بحسابها، وقد اختلفوا كما أسلفنا في تقدير مدة هذه الأدوار، ولكنهم يقولون إن الغرق الكوني يحصل كلما اجتمعت الأفلاك السماوية في برج الجدي، وإن الحريق الكوني يحصل كلما اجتمعت في برج السرطان، وهنا يقع الخلط بين حساب الآباد وحساب الفصول الأرضية كما لاحظ العلامة جومبيرز مؤرخ الفلسفة اليونانية الكبير، فإنهم وهموا أن الحريق الكوني من حرارة الصيف، وأن الغرق الكوني من برد الشتاء كما يقعان في تقلبات الفصول.

وعموم قصة الطوفان يثبت وقوع الطوفان وإن تقادم به العهد فتعددت به الروايات.

وقد طالت المقارنات كما أسلفنا بين مصادر العقيدة عند الإسرائيليين ومصادرها عند شعوب بابل ومصر وفارس والهند على التخصيص.

فبعض علماء المقارنات يرى أن البابليين نقلوا قصة الخليقة وقصة الطوفان من قوم إبراهيم عليه السلام لأنه نشأ فيهم قبل الميلاد بألفي سنة على التقريب.

وبعضهم يرى على نقيض ذلك أن هذا النقل جائز في المأثورات التي انقطعت أسنادها وأمكن أن تبدأ عند البابليين والإسرائيليين على السواء، ولكنه غير جائز في المأثورات التي تسلسلت مما قبلها في عقائد بابل وفارس.

ونحن هنا لا تعنينا مقارنات العقائد إلا من جانب واحد، وهو جانب التطور البشري في إدراك صفات الله.

ومتى قصرنا النظر على هذا الجانب فالثابت من تاريخ الديانة الإسرائيلية أنها انقلبت بعد عصر إبراهيم عليه السلام إلى وثنية كالوثنية البابلية، وأن التوحيد الذي بشر به إخناتون في مصر القديمة سابق لشيوع التوحيد في شعوب إسرائيل، ولكن العقيدة الإسرائيلية عاشت بعد اختفاء عقيدة إخناتون وبعد عصر موسى عليه السلام، فكانت هي كما تقدم نقطة التحول في تطور الاعتقاد بالله بين الأمم التي تؤمن اليوم بالأديان الكتابية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤