الله ذات

الله ذات واعية.

فلا يجوز في العقل ولا في الدين أن تكون له حقيقة غير هذه الحقيقة، وأن يوصف بأنه معنى لا ذات له أو قوة لا وعي لها كما وصف في بعض المذاهب النسكية — كالمذهب البوذي — الذي تفرع على البرهمية، ولا يخرج الباحث من مراجعته على وصف مستقر للمعنى الذي أرادوه.

والكلمة العربية التي تعبر عن هذه الحقيقة — وهي كلمة الذات — أصح الكلمات التي تقابلها في لغات الحضارة الغربية أو الشرقية المعروفة؛ لأنها تمنع كثيرًا من اللبس الذي يتطرق إلى الذهن من نظائر هذه الكلمة في اللاتينية ومشتقاتها.

فكلمة برسون تدل على «الشخص» وهو يوحي إلى الذهن صورة شاخصة للعيان، وأصله من برسونا Persona أو النقاب الذي كان الممثلون يلبسونه ويستعيرون به على المسرح وجوه أبطال الرواية أو وجوه بعض الأحياء العجماء التي لها دور في الرواية، ثم أطلقوا الكلمة على الأشخاص الممثلين في عقد من عقود الاتفاق، فيقال إن الاتفاق معقود بين شخصين أي بين طرفين، ويقال إن هذا «شخص» في الموضوع أي طرف له صفة في الموضوع، ومن هنا أصبحت كلمة الأغراض الشخصية مرادفة للأغراض المتحيزة أو التي تنحرف عن النزاهة والاستواء.

ومن العسير أن يطلق الفيلسوف هذه الكلمة على الذات الإلهية إلا وهو يشعر بشائبة فيها تتنزه عنها فكرة الكمال المطلق والإله المتعالي على صفات «الشخوص» والأشباه.

وكلمة «سبستانس» Substance مأخوذة من كلمة Substare وهي مركب مزجي من كلمة Sub بمعنى تحت وكلمة Stare بمعنى يقف، والمراد بها الراسب الذي يستقر تحت السائل ويبقى هناك، كأنهم عبروا بها عن الجوهر لأنه يبقى بعد زوال الأعراض؛ ولأن العرض يذهب جفاء ويمكث الجوهر في مكانه، ثم استعاروها للماهية وهي حقيقة الشيء الباقية، ثم استعاروها «للذات»؛ لأنها جوهر لا يتجزأ بتجزؤ الأعراض.

فإذا أطلقت هذه الكلمة فالذهن ينصرف لا محالة إلى الماهية والجوهر والذات ويجعل لها حكمًا واحدًا في التصور والتقدير، فيستدق عليه الفارق بين المقصود بالذات والمقصود بالجواهر والماهيات.

أما كلمة الذات باللغة العربية فلا تستلزم التشخيص في الحقيقة ولا في المجاز، ولا تقتضي نزاهتها عن التشخيص أنها معنى بغير كيان مشتمل على الوعي والصفات الواعية، فهي تدل على الجوهر الذي تضاف إليه الأوصاف وتدل على الكائن الذي يملك صفاته فهو «ذو» تلك الصفات، ولا تعارض صفة الوعي والإرادة والاستقلال بالكيان.

وإذا قلنا: إن «الكمال المطلق» ذات لم نشعر بما يومئ إلى التناقض بين صفة الكمال الذي لا حدود له وصفة «الشخص» أو المادة المستقرة بعد رسوب.

وعلى خلاف ذلك نعدد صفات الكامل المطلق الكمال، فلا نستطيع أن نفهم بداهة أن هذه الصفات الموجودة تكون لغير ذات، فإن كان الكمال المطلق يشتمل على الحكمة المطلقة والجمال المطلق والخير المطلق والإرادة المطلقة فهل يكون ذلك إلا لحكيم جميل خير مريد؟ وهل يكون الحكيم الجميل الخير المريد معنى عامًا بغير ذات؟

قال شكسبير في روميو وجولييت: ماذا في اسم؟ ثم قال إن الوردة تفوح عطرًا ولو سميت بغير ذلك من الأسماء.

ولكن الواقع أن في الاسم كثيرًا من الإيحاء حتى في عقول الفلاسفة، ومن إيحاء كلمة «الشخص» أنها حملت بعض الفلاسفة على التفرقة بين صفات الكمال المطلق وصفات «الذات» الإلهية؛ لأنهم أخطروا في بالهم الشخوص وأخطروا معها الحدود، ففرقوا بين الكائن المطلق الكمال وبين الكائن الذي له حدود.

ومن هنا وهم بعض الفلاسفة الأوروبيين أن الكمال المطلق Absolute معنى من المعاني يتعارض مع «الذاتية»؛ لأن الذاتية عندهم لا تكون بغير حدود.

أما كلمة «الذات» العربية فلا توحي إلى الذهن بتة معنى له حدود، بل يستوجب الكمال المطلق أن يكون مالكًا لكل شيء، وأن يكون «ذاتًا» في لفظه وفي معناه.

والكمال المطلق يحتوي كل موجود، و«الذات» الإلهية تعبر عن هذا المعنى أصح تعبير.

فالعقل يستلزم أن يكون الكمال المطلق «ذاتًا» وتتطلب كائنًا «كاملًا» يوصف بالكمال، وينكر أن يجعله معنى خلوًا من الوعي؛ لأن نقص الوعي نقص من الكمال ونقص من صفات الكامل الذي لا يعاب! وأعجب الصور العقلية حقًّا وجود يتصف بكل كمال ولا يعلم أنه كامل، والعلم بالذات فضلًا عن العلم بالغير أول صفات الكمال!

أما الدين فلا يستقيم بغير إله تتصل به المخلوقات ويتقبل منها الحب والرجاء ويستمع لها استماع العالم المريد.

ولا نعتقد أن دينًا من الأديان قط دان به الإنسان وهو في قرارة نفسه مجرد من فكرة «الذات الإلهية» كل التجريد.

فالبرهمية، وقد ذاع عنها أنها دين بغير إله، مملوءة بأسماء الأرباب والشياطين والملائكة والأرواح، وعقيدتها الكبرى قائمة على الثالوث المؤلف من برهما وفشنو وسيفا، وفيها للآلهة صفات الذكورة والأنوثة فضلًا عن صفات الشخوص.

ولما انشقت البوذية عن البرهمية قالت إن القضاء على الآلام لا يكون إلا بالقضاء على الوعي والتجرد من لباس الجسد للدخول في «النرفانا»، وهي السعادة العليا التي تتاح للمخلوقات.

ولزم من أجل ذلك أن تنكر الواعية في الإنسان وفي الإله، فالنرفانا هي الإله الذي لا يعي نفسه ولا يعي غيره، والروح الإنسانية ليست «ذاتًا» مستقلة منفصلة عن سائر الموجودات، ولكنها سلسلة من الأعراض والأحاسيس تتمثل في صورة «الذات» للعقل المخدوع بالمظاهر والأوهام.

إلا أنها تنكر الروح المستقلة من ناحية وتقول من ناحية أخرى إن الإنسان يولد مرات بعد مرات، وإنه يلبس أجسادًا بعد أجساد، وإن القضاء الكوني يجزيه من طريق هذا التطهير بالدخول في «النرفانا»، حيث يفنى آخر الأمر فلا يولد ولا يحمل الجسد في صورة من صور الأحياء.

فهذا الإنسان الذي يتجدد مرة بعد مرة — بأي شيء يتجدد في الأجسام إن لم يتجدد بذات باقية وروح واعية؟

وهذا القضاء الكوني الذي يتتبع المخلوق يتطهر بالولادات المتعاقبة ماذا عسى أن يكون وكيف يتتبع المخلوقات ويحسبها ويحاسبها إن لم تكن له صفات التقدير والوعي والقضاء؟

فلا انفصال بين طبيعة الدين وطبيعة الذات الإنسانية والذات الإلهية، ولا يتأتَّى أن يتدين الإنسان وهو ينكر ذاته وينكر ذات الإله، ويؤمن في قرارة الضمير بالقوى الكونية التي لا تعقل ولا تعي ولا تريد.

والعقل والدين في ذلك متفقان.

فلا يفهم العقل إلهًا بغير ذات، ولا يفهم أن الكمال المطلق يتأتَّى لغير كائن كامل أو يتأتَّى له ناقصًا منه الوعي، ثم يوصف بغاية الكمال.

وإنما عرض هذا الوهم من التناقض بين كلمة اﻟ Person وكلمة Absolute أو كلمة «الشخص» وكلمة الكمال بغير حدود.
وحاول بعضهم كما حاول الفيلسوف الإنجليزي برادلي Bradley أن يقرب الفكرة إلى الفهم فطبق عليها مذهبه المعروف عن الحقائق والظواهر، وهو أن الظواهر تدل على الحقائق ولكنها ليست هي إياها في الجملة والتفصيل، فالكمال المطلق هو الله، ولكن الكمال المطلق هو الحقيقة، والله هو الظاهرة التي يحيط بها وعي الإنسان، فهي «ذات» كما تظهر له، ومعنى مطلق من وراء هذه الظواهر، وهي حقيقة في معناها أو معنى في حقيقتها بلا اختلاف.

ولم تكن بالفيلسوف حاجة إلى هذا التقريب لو أحضر في خلده أن الذات التي لا حدود لكمالها معقولة، بل واجبة، فإما أن نفهم أن الكمال المطلق ذات واعية وإما أن ننفي عنه الوعي وننفي عنه الوجود؛ لأنه لا كمال بغير علم بالنفس كما أسلفنا — فضلًا عن العلم بالموجودات.

فمن فكر في الله فكر في ذات.

ومن آمن بالله آمن بذات.

ومن قال إن الكمال المطلق شيء وإن الله شيء آخر كما قال بعض الفلاسفة لم يكن هناك معنى لتخصيصه قوة من قوى الكون باسم الله، من غير فارق بينها وبين تلك القوى، يجعلها ذاتًا لها كيان.

ولم نر أحدًا من المفكرين يقول بأن الله «معنى» إلا ليجعله أكبر من ذات لا ليجعله أقل من ذات، ولكنه لا يكون أكبر من ذات بالتجرد من صفات الذاتية بل بالزيادة عليها، فينتهون بالتنزيه إلى ذات أكبر من جميع الذوات.

•••

والقول بالذات الإلهية يبطل القول «بوحدة الوجود»، كما يبطل القول بأن الله معنى لا ذات له أو قوة غير واعية.

فإن القائلين بوحدة الوجود يرون أن الكون هو الله وأن الله هو الكون، وأنه لا فرق بين الخلق والخالق ولا بين المظاهر المادية والحقائق الإلهية، وقد صدق الفيلسوف الألماني شوبنهور حين قال إن أصحاب هذا المذهب لم يصنعوا شيئًا سوى أنهم أضافوا مرادفًا آخر لاسم الكون! فزادوا اللغة كلمة ولم يزيدوا العقل تفسيرًا ولا الفلسفة مذهبًا ولا الدين عقيدة. فالكون إذن و«الوجود الواحد» مترادفان لا يفسر أحدهما الآخر ولا يزيد عليه، وليس هذا هو المقصود بالبحث في الحقائق الإلهية؛ لأنك لا تفسر الكلمة بكلمة تؤدي معناها بعينه ولا تفسر الشيء بالشيء نفسه، أو لا تفسر الماء بالماء كما يقول بعض الأدباء.

فما الله؟ هو الكون كله!

وما الكون كله؟ هو الله!

وهذا قصارى ما يؤخذ من «وحدة الوجود» وليس هو البحث المقصود، وكأنما التفسير النهائي لجملة الأشياء يلجئنا إلى «ذات» لا محالة تقصد وتريد، فلا تفسر القوى بالقوى ولا المعاني بالمعاني ولا الأكوان بالأكوان، ولكنك تفسرها جميعًا «بذات» مريدة فيسمى ذلك تفسيرًا تستريح إليه العقول، وشوبنهور نفسه يقرر أن الوجود فكرة وإرادة، وأن الفكرة هي القداسة الإلهية والإرادة هي مظاهرها الدنيوية، وأن الفكرة تدخل في حيز الإرادة لتعود إلى حالة لا سعي فيها ولا عنت ولا مجاهدة؛ لأن العنت كله من الإرادة في محاولاتها الكثيرة، فلا تفسير لشيء لا فكرة له ولا إرادة إلا بكيان يفكر ويريد، وليس تصور «الذات الإلهية» عادة إنسانية تعودها الإنسان بغير تفكير — كما يرى بعض النفسانيين — لأنه تعود أن يخلع صورته على الأشياء ويحسبها ظلالًا له تحكيه في ملامحه وخوافيه، ولكنها نهاية ما يدركه العقل واعيًا صاحيًا مع التفكير ومتابعة التفكير إلى أقصى مداه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤