الشيخ سلامة حجازي١

يا ثَرى النيلِ في نَواحيك طيرٌ
كان دنيا وكان فرحةَ جِيلِ
لم يزَلْ ينزلُ الخمائلَ حتى
حلَّ في رَبوةٍ على سَلسبيل
أقعدَ الرَّوضَ في الحياة مَلِيًّا
وأقامَ الرُّبا بسِحرِ الهَديل٢
يا لِواءَ الغناءِ في دولةِ الفنِّ
إليكَ اتجهتُ بالإكليل
عبقريًّا كأنه زَنبقُ الخُلـ
ـدِ على فَرعِه السَّرِيِّ الأسيل٣
أين من مِسمعِ الزمانِ أغانيٌّ
عليهنَّ رَوعةُ التمثيل
أين صوتٌ كأنه رَنَّةُ البُلـ
ـبلِ في الناعمِ الوريفِ الظليل
فيه من نغمةِ المزاميرِ معنًى
وعليه قداسةُ الترتيل
كُلَّما رنَّ في المَسارحِ «إن كنـ
ـتُ» انثنى بالهُتافِ والتهليل٤
كعِتابِ الحبيبِ في أُذُنِ الصَّبِّ
وهمسِ النديمِ حولَ الشَّمول٥
كيف إخوانُنا هناك على الكَو
ثرِ بينَ الصَّبا وبينَ القبول٦
كيف في الخُلدِ ضَرْبُ أحمدَ بالعو
دِ ونفخُ الأمينِ في الأرغول٧
فرَحُ كلُّه النعيمُ وعُرْسٌ
كيفَ «عثمانُ» فيه كيف «الحَمُولي»٨
فهنيئًا لكم ونعمةُ بالٍ
استرحتُم من ظلِّ كلِّ ثقيل
إنما منزلٌ رُفاتُك فيه
لَبقايا من كلِّ فنٍّ جميل
ذبُلتْ في ثَراهُ رَيحانةُ الفنِّ
وجفَّت رَيحانةُ التمثيل
قام يجزي «سلامةً» في ثَراه
وطنٌ بالجزاءِ غيرُ بَخيل
قد يُوفِّي البِناءَ والغَرسَ أجرًا
ويُكافِي على الصَّنيعِ الجليل
مُحسِنٌ بالبَنينَ في حاضرِ العَيـ
ـشِ وفي سالفِ الزمانِ الطويل
ويُعِدُّ الضريحَ من مَرمرِ الخُلـ
ـدِ الكريمِ المهذَّبِ المصقول٩
يدفنُ الصالحين في ورقِ المُصـ
ـحفِ أو في صحائفِ الإنجيل
مصرُ في غيبةِ المُشايعِ والحا
سدِ والحاقدِ اللَّئيمِ الذليل
قامتِ اليومَ حولَ ذِكراك تجزي
وطنيًّا من الطِّرازِ القليل
من رجالٍ بنَوا لمصر حديثًا
وأذاعوا مَحاسنًا للنيل
هم سُقاةُ القلوبِ بالودِّ والصَّفـ
ـوِ وهم تارةً سُقاةُ العقول
ليس منهم إلا فتًى عبقريٌّ
ليس في المجدِ بالدَّعِيِّ الدخيل
١  بلغ الشيخ سلامة حجازي أعلى قمم المجد في فن الغناء والتمثيل في عصره، وقد رؤي أن يُعترف له بهذا النبوغ اعترافًا عمليًّا، فتألفت جماعة من أهل الفضل واتَّفقوا على نقل جثمانه إلى ضريح يتناسب وهذا التقدير، ورأوا من أفضل الوسائل لهذه الغاية أن يقيموا حفلة تذكارية تمجيدًا لذكرى الفقيد، وتم لهم ذلك، وأقيمت الحفلة في شهر ديسمبر سنة ١٩٣١م، وأُنشدَت فيها هذه القصيدة العصماء.
٢  الهديل: الصوت الحسن الذي يشبه صوت الحمام.
٣  السري: الجدول.
٤  إن كنت: يشير إلى أن الفقيد قد ذاعت من أغانيه قصيدة مطلعها:
إن كنتُ في الجيش أُدعى صاحب العَلم
فإنني في هواكم صاحب الألم
٥  الشمول: الخمر.
٦  الصَّبا: ريح مهبُّها من جهة المشرق، وهي من ألطف الرياح.
٧  أحمد: اسم أحد المعاصرين، اشتهر بضرب العود. وأمين: معاصر آخر اشتهر بالأرغول.
٨  عثمان: هو محمد عثمان، وكان من المغنِّين الكبار. والحامولي: هو عبده الحامولي.
٩  الضريح: هو البناء الذي اتَّفقت لجنة إحياء ذكرى الفقيد على صنعه من المرمر المصقول ليُدفن فيه جثمان الفقيد تكريمًا له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤