يبكي والدته١

إلى اللهِ أشكو من عوادي النَّوى سَهْما
أصابَ سُوَيداءَ الفؤادِ وما أصْمَى٢
من الهاتكاتِ القلبَ أوَّلَ وهلةٍ
وما دخلتْ لحمًا ولا لامسَت عَظما
توارَدَ والنَّاعِي فأوجستُ رَنَّةً
كلامًا على سمعي وفي كَبِدي كَلْما٣
فما هتَفا حتى نَزا٤ الجنبُ وانزوى
فيا ويْحَ جَنبي كم يسيلُ؟ وكم يَدمَى؟
طوى الشرقَ نحوَ الغربِ والماءَ للثَّرى
إليَّ ولم يَركبْ بِساطًا ولا يمَّا٥
أبانَ ولم يَنبسْ وأدَّى ولم يَفُهْ
وأدْمَى وما داوى وأوْهَى وما رَمَّا
إذا طُوِيَت بالشُّهْبِ والدُّهمِ شُقَّةٌ
طَوَى الشُّهْبَ أو جابَ الغُدافيَّةَ الدُّهْما٦
ولم أرَ كالأحداثِ سهمًا إذا جرَت
ولا كالليالي راميًا يُبعِدُ المَرمى
ولم أرَ حُكمًا كالمقاديرِ نافذًا
ولا كلِقاءِ الموتِ من بينها حَتْما
إلى حيثُ آباءُ الفتى يذهبُ الفتى
سبيلٌ يَدينُ العالَمونَ بها قِدْما
وما العيشُ إلا الجسمُ في ظلِّ رُوحِهِ
ولا الموتُ إلا الرُّوحُ فارقَتِ الجِسما
ولا خُلْدَ حتى تملأَ الدهرَ حِكمةً
على نُزلاءِ الدهرِ بعدَك أو عِلما

•••

زجَرتُ تَصاريفَ الزمانِ فما يقَعْ
لِيَ اليومَ منها كان بالأمسِ لي وَهْما٧
وقدَّرتُ ﻟ «النعمانِ» يومًا وضِدَّهُ
فما اغترَّتِ البُؤسى ولا غرَّتِ النُّعمى٨
شرِبتُ الأسى مصروفةً لو تعرَّضَت
بأنفاسِها بالفمِّ لم يستفِقْ غَمَّا
فأترِعْ وناوِلْ يا زمانُ فإنما
نديمُكَ «سُقراطُ» الذي ابتدَعَ السُّمَّا٩
قتلتُكَ حتى ما أُبالي أدَرتَ لي
بكأسِكَ نجمًا أم أدَرتَ بها رَجْما
لكِ اللهُ من مطعونةٍ بقَنا النَّوى
شهيدةِ حربٍ لم تُقارِفْ لها إثما
مُدلَّهةٍ أزكى من النارِ زَفرةً
وأنْزَهَ من دمعِ الحيا عَبرةً سَحْما١٠
سقاها بَشيرِي وهْي تبكي صبابةً
فلم يقوَ مَغناها على صَوبِه رَسْما١١
أسَت جُرحَها الأنباءُ غيرَ رَفيقةٍ
وكم نازعٍ سهمًا فكان هو السَّهما
تَغارُ على الحُمَّى الفضائلُ والعُلا
لِما قبَّلَت منها وما ضمَّت الحُمَّى
أكانت تَمنَّاها وتَهوى لِقاءها
إذا هي سمَّاها بذي الأرض مَن سمَّى
ألمَّت عليها واتَّقَت ثمراتِها
فلمَّا وُقُوا الأسواءَ لم ترَها ذمَّا
فيا حَسْرتا ألَّا تراهم أهِلَّةً
إذا أقصَرَ البدرُ التمامُ مضَوا قُدْما
رياحينُ في أنفِ الوليِّ وما لها
عدوٌّ تراهم في مَعاطسِه رَغْما
وألَّا يطوفوا خُشَّعًا حوْلَ نعشِها
ولا يُشبِعوا الركنَ استلامًا ولا لَثْما
حلفتُ بما أسلفتِ في المهدِ مِن يدٍ
وأوليتِ جُثماني من المِنَّةِ العُظمى
وقبرٍ مَنُوطٍ بالجلالِ مُقلَّدٍ
تَليدَ الخلالِ الكُثْرِ والطارفَ الجَمَّا١٢
وبالغادياتِ الساقياتِ نَزيلَهُ
من الصَّلواتِ الخَمسِ والآي والأسْما
لَمَا كان لي في الحربِ رأيٌ ولا هوًى
ولا رُمْتُ هذا الثكلَ للناس واليُتما
ولم يكُ ظلمُ الطيرِ بالرِّقِّ لي رِضًا
فكيف رِضائي أن يرى البَشرُ الظُّلما
ولم آلُ شُبَّانَ البرِيَّةِ رِقَّةً
كأن ثمارَ القلب من وَلَدي ثَمَّا
وكنتُ على نهجٍ من الرأي واضحٍ
أرى الناس صِنفَينِ الذئابَ أو البَهْما١٣
وما الحُكمُ إلا في أُولي البأسِ دولةً
ولا العدلُ إلا حائطٌ يَعصمُ الحُكما

•••

نزلتُ رُبا الدنيا وجنَّاتِ عدنِها
فما وجدَت نفسي لأنهارها طعما
أُريحُ أريجَ المِسكِ في عرَصاتِها
وإن لم أُرِحْ «مَرْوانَ» فيها ولا «لَخْما»١٤
إذا ضحِكَت زهوًا إليَّ سماؤها
بكيتُ النَّدى في الأرضِ والبأسَ والحزما
أُطيفُ برَسمٍ أو أُلِمُّ بدِمنةٍ
أخالُ القصورَ الزُّهْرَ والغُرَفَ الشُّمَّا
فما برِحَت من خاطري «مصرُ» ساعةً
ولا أنتِ في ذي الدارِ زايَلتِ لي وهْما
إذا جنَّني الليلُ اهتزَزتُ إليكما
فجُنحًا إلى سُعْدى وجُنحًا إلى سَلمى١٥
فلمَّا بدا للناس صُبحٌ من المُنى
وأبصرَ فيه ذو البصيرةِ والأعمى
وقرَّت سيوفُ الهندِ وارتكزَ القَنا
وأقلعتِ البَلوى وأقشعتِ الغُمَّى
وحنَّت نواقيسٌ ورنَّت مآذنٌ
ورفَّت وجوهُ الأرضِ تستقبلُ السَّلمى
أتى الدهرُ من دونِ الهناءِ ولم يزَلْ
وَلوعًا ببُنيانِ الرجاءِ إذا تمَّا
إذا جالَ في الأعيادِ حلَّ نظامَها
أو العُرسِ أبْلى في مَعالمِه هَدْما
لئن فاتَ ما أمَّلتِه من مواكبٍ
فدُونَكِ هذا الحشدَ والموكبَ الضَّخما
رثَيتُ به ذاتَ التُّقى ونظمتُهُ
لعنصرِه الأزكى وجوهرِه الأسمى
نمَتكِ مَناجيبُ العُلا ونَمَيتِها
فلم تُلحَقي بِنتًا ولم تُسبَقي أُمَّا
وكنتِ إذا هذي السماءُ تخايلتْ
تواضعتِ لكن بعدما فُتِّها نَجما
أتَيتِ به لم ينظمِ الشِّعرَ مِثلُهُ
وجِئتِ لأخلاقِ الكرامِ به نَظْما
ولو نهضَت عنه السماءُ ومخَّضَت
به الأرضُ كان المُزنَ والتِّبرَ والكَرْما١٦
١  نظم أمير الشعراء هذه المرثية الرائعة على إثر إعلان الهدنة وهو في منفاه في الأندلس سنة ١٩١٨م؛ إذ كان يعلِّل النفس بالعودة إلى الوطن العزيز ولقاء آله، وفي مقدمتهم والدته الحبيبة، ولكنه ما كاد يتحدَّث إلى نفسه بهذا الأمل المرموق، حتى وافاه البرق بنعيها، فأثَّر هذا المصاب الجسيم في نفسه تأثيرًا بالغًا، ولم تمضِ ساعة حتى كتب هذه المرثية، وقد قيل إنه من فرط تأثره بها تحاشى أن ينظر إليها بعد، فبقيت مستورة ضمن أوراقه الخاصة، حتى نُشِرَت في الصحف غداة وفاته رحمه الله.
٢  عوادي النوى: عوائقه. وقوله «أصاب سويداء الفؤاد وما أصمى»: أي أصاب صميم القلب ولم يقتل.
٣  الكَلْم (بفتح الكاف): الجرح.
٤  نزا الجنب: يريد نزا القلب، ويقال نزا الطائر، إذا همَّ بالطيران.
٥  بساطًا ولا يمَّا: أي لم يركب طيارة تسير في الهواء كما سار بساط الريح بسليمان عليه السلام، ولم يركب باخرة تسير على اليمِّ؛ أي البحر.
٦  الشهب: البيض. الدهم: السود. وجاب: قطع. والغدافية: السوداء. ويقصد بالشهب وبالدهم: الخيل البيضاء والسوداء، أو النهار والليل، كأنه يتعجَّب من سرعة هذا النعي في وصوله إليه.
٧  الزجر: العيافة والتكهُّن. يقول: إنه كان متكهنًا بما صنعه الزمن معه، وكان متوقعًا له.
٨  كان للنعمان بن المنذر يوم بؤس لا يفد فيه عليه أحد إلا قتله، ويوم نعمى لا يُسأل فيه إلا أعطى، ولهذَين اليومين حوادث سارت من أجلها أمثال كثيرة للعرب، ويرجع في هذا إلى الكتب الأدبية المطوَّلة من شاء.
٩  سقراط: إمام الفلاسفة المتقشفين، حُكِم عليه بالإعدام فشرب السمَّ بيده، ولم يرضَ أن يفرَّ مع أصحابه الذين عزموا عليه بالفرار.
١٠  العبرة السحما: أي السوداء، ولا يكون هذا إلا من أثر الحزن العميق.
١١  الرسم: هو هنا مصدر رسم المطر الديار، إذا عفاها وأبقى أثرها لاحقًا بالأرض.
١٢  التليد: القديم. الطارف: الجديد.
١٣  البهم (بفتح الباء): صغار الغنم.
١٤  مروان ولخم: قبيلتان عربيتان، وهما من القبائل التي تولَّت السيادة في بلاد الأندلس زمنًا.
١٥  الجنح (بضم الجيم وكسرها): طائفة من الليل.
١٦  يريد أنه يُشبِه المُزن في الكرَم، والتِّبرَ في العرق والنفاسة، والخمر في السُّكْر الذي يسكر الناس به من شعره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤