الأزهر١

قُمْ في فَمِ الدنيا وحيِّ الأزهرَا
وانثُرْ على سَمعِ الزمانِ الجوهرَا
واجعلْ مكانَ الدرِّ إن فصَّلتَهُ
في مدحِه خَرَزَ السماءِ النيِّرَا
واذكُرْه بعد المَسجدَينِ مُعظِّمًا
لمساجدِ الله الثلاثة مُكبِرَا٢
واخشع مَليًّا واقضِ حقَّ أئمَّةٍ
طلعوا به زُهْرًا وماجوا أبحُرَا
كانوا أجلَّ من الملوكِ جلالةً
وأعزَّ سلطانًا وأفخمَ مَظهرَا
زمنُ المَخاوفِ كان فيه جَنابُهم
حَرَمَ الأمانِ وكان ظِلُّهم الذَّرا٣
من كلِّ بحرٍ في الشريعةِ زاخرٍ
ويُرِيكَهُ الخُلُقُ العظيمُ غضنفرَا
لا تحْذُ حذْوَ عصابةٍ مفتونةٍ
يجدُون كلَّ قديمِ شيءٍ مُنكَرَا
ولو استطاعوا في المَجامع أنكروا
مَن مات من آبائِهم أو عُمِّرَا
من كلِّ ماضٍ في القديمِ وهَدمِهِ
وإذا تقدَّم للبِنايةِ قصَّرَا
وأتى الحضارةَ بالصناعةِ رَثَّةً
والعِلمِ نَزْرًا والبيانِ مُثَرثِرَا٤

•••

يا مَعهدًا أفنى القرونَ جِدارُهُ
وطوَى اللياليَ رُكنُهُ والأعصُرَا
ومشى على يَبَسِ المَشارقِ نُورُهُ
وأضاءَ أبيضَ لُجِّها والأحمرَا
وأتى الزمانُ عليه يحمي سُنَّةً
ويذُودُ عن نُسُكٍ ويمنع مَشعَرَا٥
في الفاطميِّينَ انتمى ينبوعُهُ
عذْبَ الأصولِ كجَدِّهم مُتفجِّرَا٦
عينٌ من الفرقان فاضَ نَميرُها
وحيًا من الفصحى جَرى وتحدَّرَا٧
ما ضرَّني أنْ ليس أُفْقُكَ مَطلعي
وعلى كواكبِه تعلَّمتُ السُّرَى
لا والذي وكَلَ البيانَ إليكَ لم
أكُ دونَ غاياتِ البيانِ مُقصِّرَا
لمَّا جرى الإصلاحُ قُمتُ مُهنِّئًا
باسمِ الحنيفةِ بالمزيدِ مُبشِّرَا٨
نبأٌ سَرى فكَسا المَنارةَ حَبْرةً
وزَها المُصلَّى واستخفَّ المِنبرَا٩
وسَما بأروِقةِ الهُدى فأحلَّها
فرعَ الثُّريَّا وهْي في أصلِ الثَّرَى
ومشى إلى الحلقاتِ فانفرجَت له
حَلَقًا كهالاتِ السماءِ مُنوَّرَا
حتى ظنَنَّا الشافعيَّ ومالكًا
وأبا حنيفةَ وابنَ حنبلَ حُضَّرَا
إنَّ الذي جعل العتيقَ مَثابةً
جعل الكنانيَّ المُبارَكَ كوثرَا١٠
العِلمُ فيه مَناهِلًا ومَجانيًا
يأتي له النُّزَّاعُ يبغون القِرَى١١

•••

يا فِتيةَ المعمورِ سارَ حديثُكم
نَدًّا بأفواهِ الرِّكابِ وعَنبرَا١٢
المعهدُ القدسيُّ كان ندِيُّهُ
قُطبًا لدائرةِ البلادِ ومِحورَا
وُلِدَت قضيَّتُها على مِحرابِهِ
وحبَت به طفلًا وشبَّت مُعصِرَا١٣
وتقدَّمت تُزجِي الصفوفَ كأنها
«جانْدركُ» في يدها اللواءُ مُظفَّرَا

•••

هُزُّوا القُرى من كهفِها ورَقيمِها
أنتم لعَمرُ اللهِ أعصابُ القُرَى
الغافِلُ الأُميُّ ينطقُ عندكم
كالبَبَّغاءِ مُردِّدًا ومُكرِّرَا
يُمسِي ويُصبِحُ في أوامرِ دينِهِ
وأمورِ دنياه بِكُم مُستبصِرَا
لو قُلتمُ اختَرْ للنيابةِ جاهلًا
أو للخطابةِ باقلًا لتخيَّرَا١٤
ذُكِر الرجالُ له فألَّهَ عصبةً
منهم وفسَّق آخرينَ وكفَّرَا١٥
آباؤكم قرءُوا عليه ورتَّلوا
بالأمسِ تاريخَ الرجالِ مُزوَّرَا
حتى تلفَّتَ عن مَحاجرِ رومةٍ
فرَأى «عُرابيَ» في المَواكبِ قَيصَرَا
ودَعا لمخلوقٍ وألَّهَ زائلًا
وارتدَّ في ظُلَمِ العصورِ القَهقرَى
فجَنى على العرشِ البلاءَ وما نوَى
وجَنى على الوطنِ البلاءَ وما درَى
كُونوا سياجَ العرش والتمِسوا له
نصرًا من المَلِكِ العزيزِ مُؤزَّرَا
وتفيَّئوا الدستورَ تحتَ ظِلالِهِ
كنفًا أهَشَّ من الرِّياضِ وأنضَرَا
لا تجعلوه هوًى وخُلْفًا بينكم
ومَجَرَّ دنيا للنفوسِ ومَتْجَرَا
اليومَ صرَّحَت الأمورُ فأظهرَت
ما كان من خُدَعِ السياسةِ مُضمَرَا
قد كانَ وَجهُ الرأي أن نبقى يدًا
ونرى وراءَ جنودِها إنكلترا
فإذا أتَتْنا بالصفوفِ كثيرةً
جئنا بصفٍّ واحدٍ لن يُكسَرَا
غضِبَت فغضَّ الطرْفَ كلُّ مُكابرٍ
يلقاكَ بالخدِّ اللطيمِ مُصعَّرَا
لم تلقَ إصلاحًا يُهابُ ولم تجِدْ
من كُتلةٍ ما كان أعيا مِلنَرَا١٦
حَظٌّ رجَونا الخيرَ من إقبالِهِ
عاثَ المُفرِّقُ فيه حتى أدبرَا
دارُ النيابة هُيِّئَت درجاتُها
فليرْقَ في الدرَجِ الذوائبُ والذُّرا١٧
الصارخون إذا أُسيءَ إلى الحِمَى
والزائرون إذا أُغيرَ على الشَّرَى
لا الجاهلون العاجزون ولا الأُلى
يمشون في ذَهَبِ القيودِ تبختُرَا
١  قِيلَت هذه القصيدة بمناسبة إصلاح الأزهر الشريف والبدء فيه في سنة ١٩٢٤م.
٢  المسجدان: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى.
٣  الذرا: الملجأ.
٤  النزر: القليل. والمثرثر: المخلِّط.
٥  النسك: العبادة. والمشعر: موضع من مناسك الحج.
٦  جدُّ الفاطميين: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد كان مَضربَ المَثل في التبحُّر في العلوم.
٧  الفرقان: القرآن. والحيا: المطر. والفصحى: اللغة العربية.
٨  الحنيفة: الشريعة.
٩  المنارة: المئذنة. والحبرة: السرور.
١٠  العتيق: المسجد الحرام. والمثابة: مجمع الزمر.
١١  النُّزَّاع: القُصَّاد. والقِرى: الضيافة.
١٢  المعمور: الأزهر.
١٣  طفلًا: أي طفلة. والمعصر: الفتاة المُدرِكة.
١٤  باقل: عربي يُضرَب به المثل في العيِّ والفهاهة.
١٥  فسَّقه: رماه بالفسق. وكفَّره: نسبه إلى الكفر.
١٦  المراد بالكتلة: الأُمة مجتمعة. واللورد ملنر: هو أحد الوزراء الإنجليز، وكان قدِم إلى مصر في جماعة من قومه سنة ١٩٢٠م ليتقصَّوا رغائبها وآمالها، فقاطعتهم البلاد وأحالتهم على الوفد المصري الذي كانت وكَّلَته في الدفاع عن حقها إذ ذاك.
١٧  المُراد بالذوائب والذُّرا: علية القوم وأكْفاؤهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤