يعقوب صرُّوف١

سماؤُكِ يا دنيا خِداعُ سَرابِ
وأرضُكِ عُمرانٌ وشِيكُ خرابِ٢
وما أنتِ إلا جيفةٌ طالَ حولَها
قيامُ ضِباعٍ أو قُعودُ ذئابِ
وكم ألجأ الجوعُ الأُسودَ فأقبلَت
عليك بظُفْرٍ لم يَعِفَّ ونابِ
قعدتِ من الأظعان في مَقطعِ السُّرى
ومرُّوا رِكابًا في غُبارِ رِكابِ
وجُدتِ عليهم في الوداعِ بساخرٍ
من اللحظِ عن ميْتِ الأحِبَّةِ نابي٣
أقاموا فلم يُؤنِسْكِ حاضرُ صحبةٍ
ومالوا فلم تستوحشي لغِيابِ
تسُوقينَ للموتِ البَنينَ كقائدٍ
يرى الجيشَ خلقًا هينًا كذُبابِ
رأى الحربَ سُلطانًا له وسلامةً
وإِن آذنتْ أجنادَه بتبابِ٤
ولولا غرورٌ في لُبانِك لم يجِد
بَنوكِ مَذاقَ الضُّرِّ شهدَ رُضابِ٥
ولا كنتِ للأعمى مَشاهدَ فتنةٍ
وللمُقعَدِ العاني مجالَ وثابِ٦
ولا ضلَّ رأيُ الناشئ الغِرِّ في الصِّبا
ولا كرَّ بعدَ الفرصةِ المُتصابي
ولا حسِبَ الحفَّارُ للموتِ بعدما
بَنى بيدَيه القبرَ ألفَ حِسابِ
يقولون يرثي كلَّ خِلٍّ وصاحبٍ
أجَلْ إنما أقضي حقوقَ صِحابي
جزَيتُهمُ دمعي فلمَّا جرى المَدى
جعلتُ عيونَ الشِّعرِ حُسْنَ ثوابي
كفى بذُرا الأعوادِ مِنبرَ واعظٍ
وبالمُستقلِّيها لسانَ صوابِ٧
دعوتُك يا يعقوبُ من منزلِ البِلى
ولولا المنايا ما تركتَ جوابي
أُذكِّرك الدنيا وكيف ولم يزَل
لها أثرَا شهدٍ بفِيكِ وصابِ٨
حملنا إليك الغارَ بالأمسِ ناضرًا
وسُقنا كتابَ الحمدِ تِلوَ كتابِ٩
وما انفكَّتِ الدنيا وإن قلَّ لُبْثُها
لسانَ ثوابٍ أو لسانَ عِقابِ
ألا في سبيلِ العلمِ خمسون حِجَّةً
مضَت بينَ تعليمٍ وبينَ طِلابِ
قطَعتَ طوالَي ليلِها ونهارِها
بآمالِ نفسٍ في الكمالِ رِغابِ
رأى اللهُ أن تُلقى إليك صحيفةٌ
فنزَّهتَها عن هَوشةٍ وكِذابِ١٠
ولم تتَّخذْها آلةَ الحقدِ والهوى
ولا مُنتدى لغوٍ وسوقَ سِبابِ
مشَينا بنُورَي علمِها وبيانِها
فلم نسرِ إلا في شُعاعِ شِهابِ
وعِشنا بها جيلَين قمتَ عليهما
معلِّمَ نشءٍ أو إمامَ شبابِ
رسائلُ من عفوِ الكلامِ كأنها
حواشي عُيونٍ في الطُّروسِ عِذابِ١١
هي المحضُ لا يَشقى به ابنُ تميمة
غِذاءً ولا يَشقى به ابنُ خِضابِ١٢
سُهولٌ من الفصحى وقفتَ بها الهوى
على ما لديها من رُبًا وهِضابِ
وما ضِعتَ بينَ الشرقِ والغربِ مِشيةً
كما قيل في الأمثال حَجْلُ غُرابِ
فلم أرَ أنقى منك سُمعةَ ناقلٍ
إذا وسَمَ النقلُ الرجالَ بعابِ
وكم أخذ القولَ السَّرِيَّ مُعرِّبٌ
فما ردَّه لِاسمٍ ولا لنِصابِ
وفدتَ على الفصحى بخيراتِ غيرها
فواللهِ ما ضاقت مَناكبَ بابِ
وقِدمًا دنَت «يونانُ» منها و«فارسٌ»
و«روما» فحلُّوا في فسيحِ رِحابِ
تبتَّلتَ للعلمِ الشريفِ كأنه
حقيقةُ توحيدٍ وأنت صَحابي
وجشَّمتَ ميدانَ السياسةِ «فارسًا»
وكلُّ جوادٍ في السياسة كابي١٣
وكنا و«نمرٌ» في شِغابٍ فلم يزَل
بنا الدهرُ حتى فضَّ كلَّ شِغابِ
رأى الثورةَ الكبرى فسلَّ يَراعَهُ
لتحطيمِ أغلالٍ وفكِّ رِقابِ١٤
وما الشرقُ إلا أُسرةٌ أو عشيرةٌ
تلمُّ بَنِيها عندَ كلِّ مُصابِ

•••

سلامٌ على شيخِ الشيوخِ ورحمةٌ
تَحدَّرُ من أعطافِ كلِّ سحابِ
ورفَّافُ رَيحانٍ يروحُ ويغتدي
على طيِّباتٍ في الخِلالِ رِطابِ
وذِكرى وإن لم ننسَ عهدَك ساعةً
وشوقٌ وإن لم نفتكرْ بإيابِ
وويْحَ السَّوافي هل عَرَضنَ على البِلى
جبِينَك أم ستَّرنَه بحِجابِ١٥
وهل صُنَّ ماءً كان فيه كأنه
حياءُ بَتولٍ في الصلاةِ كَعابِ١٦
ويا لحياةٍ لم تدَعْ غيرَ سائلٍ
أكانت حياةً أم خليَّةَ دابِ١٧
وأين يدٌ كانت وكان بنانُها
يَراعةَ وشْيٍ أو يَراعةَ غابِ
ولَهْفي على الأخلاقِ في رُكنِ هيكلٍ
ببطنِ الثرى رثِّ المعالمِ خابي

•••

نعيشُ ونمضي في عذابٍ كلذَّةٍ
من العيش أو في لذَّةٍ كعَذابِ
ذهبنا من الأحلام في كلِّ مذهبٍ
فلمَّا انتهَينا فُسِّرَت بذهابِ
وكلُّ أخي عيشٍ وإن طال عيشُهُ
تُرابٌ لعَمرُ الموتِ وابنُ تُرابِ
١  هو الدكتور يعقوب صرُّوف، أحد صاحبي مجلة المقتطف وجريدة المقطم. كان متبتلًا للعلم، معدودًا في طليعة الكُتاب والعلماء الذين يُشار إليهم بالبنان، توفي سنة ١٩٢٨م.
٢  السراب: هو ما يُرى في وسط النهار كأنه الماء. ووشيك: سريع.
٣  النابي: المتجافي المتباعد.
٤  يقال: آذنته بكذا؛ أي أنذرته. والتباب: الهلاك.
٥  اللُّبان (بتشديد اللام مضمومة): جمع لبانة، وهي الحاجة يطلبها الإنسان من غير احتياج إليها، بل بدافع من علو الهمَّة والرغبة. الرضاب: هو ريق الإنسان ما دام في فمه.
٦  العاني: المقيَّد، وهنا سمِّي الأسير بالعاني؛ لأن من شأنه أن يُقيَّد.
٧  بالمستقلِّيها: أي براكبيها.
٨  الشهد: عسل النحل. والصاب: المُر.
٩  إشارة إلى الاحتفال بالفقيد في اليوبيل الفضي لمجلته المقتطف. والغار: ورق شجر كانت تُتَّخذ منه أكاليل الظافرين.
١٠  هذه الصحيفة هي مجلة المقتطف التي تعدُّ بحقٍّ أمجدَ صحيفة علمية أدبية في الشرق العربي كله، وكان الفقيد مختصًّا بتحريرها.
١١  قوله «كأنها حواشي عيون … إلخ»: العيون هي عيون الماء، ويقصد بحواشيها النباتات والزهور التي تنبت حوالَيها.
١٢  المحض: هو الخالص من كل شيء. وابن تميمة وابن خضاب: يقصد بالأول اليفع الناشئ، وبالثاني الشائب الذي يخضب شعره.
١٣  المقصود بفارس في هذا البيت هو الدكتور فارس نمر، الشريك الثاني للفقيد في مجلتَي المقتطف والمقطم، ولكنه الشريك المختصُّ بالسياسة، كما كان الفقيد مختصًّا بالعلم. وقوله «وكل جواد في السياسة كابي»: إشارةٌ رقيقة إلى المثل القائل: «لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.»
١٤  يريد أن الدكتور «نمر» لم يشاغب حبًّا في المشاغبة، ولكنه كان متأثرًا بفكرة عامة.
١٥  السوافي: الرياح.
١٦  البتول: المُنقطِعة عن الرجال وعن الدنيا إلى الله تعالى.
١٧  الداب: بمعنى الدأب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤