المنفلوطي١

اخترتَ يومَ الهولِ يومَ وَداعِ
ونعاكَ في عصفِ الرياحِ الناعي٢
هتفَ النُّعاةُ ضُحًى فأوصَدَ دونهم
جُرحُ الرئيسِ مَنافذَ الأسماعِ
من ماتَ في فزعِ القيامةِ لم يَجِد
قَدمًا تُشيِّع أو حفاوةَ ساعي
ما ضرَّ لو صبرَت رِكابُك ساعةً
كيف الوقوفُ إذا أهابَ الداعي
خلِّ الجنائزَ عنك لا تحفِلْ بها
ليس الغرورُ لميِّتٍ بمتاعِ
سِرْ في لواءِ العبقريةِ وانتظِمْ
شتَّى المواكبِ فيه والأتباع
واصعد سماءَ الذِّكر من أسبابها
واظهر بفضلٍ كالنهار مُذاع
فُجِعَ البيانُ وأهلُه بمصوِّرٍ
لَبِقٍ بوشْيِ المُمتِعاتِ صَنَاع
مرموقِ أسبابِ الشبابِ وإن بدَت
للشيبِ في الفَودِ الأحَمِّ رَواعي٣
تتخيلُ المنظومَ في منثوره
فتراهُ تحتَ روائعِ الأسجاع
لم يجحدِ الفصحى ولم يهجمْ على
أُسلوبها أو يُزرِ بالأوضاع
لكنْ جَرى والعصرَ في مِضمارِها
شَوطًا فأحْرَز غايةَ الإبداع
حُرُّ البيانِ قديمُه وجديدُهُ
كالشمسِ جِدَّةَ رُقعةٍ وشُعاع
يونانُ لو بِيعَت ﺑ «هوميرٍ» لمَا
خسرَت لعَمرُك صفقةُ المُبتاع
يا مُرسِلَ «النظراتِ» في الدنيا وما
فيها على ضجرٍ وضِيقِ ذِراع٤
ومُرقرِقَ «العبَراتِ» تجري رِقَّةً
للعالمِ الباكي من الأوجاع٥
من ضاقَ بالدنيا فليس حكيمَها
إنَّ الحكيمَ بها رحيبُ الباع
هي والزمانُ بأرضِه وسمائه
في لُجَّةِ الأقدارِ نِضوُ شِراع٦
من شذَّ ناداه إليه فردَّهُ
قَدرٌ كراعٍ سائقٍ بقطاع٧
ما خلْفَه إلا مَقودٌ طائعٌ
مُتلفِّتٌ عن كبرياءِ مُطاع
جبَّارُ ذهنٍ أو شديدُ شكيمةٍ
يمضي مُضيَّ العاجزِ المُنصاع
من شوَّه الدنيا إليك فلم تَجِد
في المُلكِ غيرَ مُعذَّبين جِياع
أبِكُلِّ عينٍ فيه أو وجهٍ ترى
لمَحاتِ دمعٍ أو رسومَ دِماع٨
ما هكذا الدنيا ولكنْ نُقلةٌ
دمعُ القريرِ وعَبرةُ المُلتاع
لا الفقرُ بالعبَراتِ خُصَّ ولا الغِنى
غِيَرُ الحياةِ لهنَّ حُكمُ مشاع٩
ما زالَ في الكوخِ الوضيعِ بواعثٌ
منها وفي القصرِ الرفيعِ دواعي
في القفرِ حيَّاتٌ يُسيِّبها به
حاوي القضاء وفي الرياضِ أفاعي
ولَرُبَّ بُؤسٍ في الحياةِ مُقنَّعٍ
أرْبَى على بُؤسٍ بغيرِ قِناع
يا «مصطفى» البلغاءِ أيَّ يَراعةٍ
فقدوا وأيَّ مُعلِّمٍ بيَراع
اليومَ أبصرتَ الحياةَ فقُل لنا
ماذا وراءَ سرابها اللمَّاع
وصِفِ المنونَ فكَم قعدتَ ترى لها
شبحًا بكلِّ قرارةٍ ويَفاع١٠
سكن الأحِبَّةُ والعِدا وفرغتَ من
حقدِ الخُصومِ ومن هوى الأشياع
كم غارةٍ شنُّوا عليك دفعتَها
تصِلُ الجهودَ فكُنَّ خيرَ دِفاع
والجهدُ مُؤتٍ في الحياةِ ثِمارَهُ
والجهدُ بعدَ الموتِ غيرُ مُضاع
فإذا مضى الجيلُ المِراضُ صدورُهُ
وأتى السليمُ جوانبَ الأضلاع
فافزعْ إلى الزمنِ الحكيم فعنده
نقدٌ تنزَّهَ عن هوًى ونِزاع
فإذا قضى لك أُبْتَ من شُمِّ العُلا
بثَنيَّةٍ بعُدَت على الطَّلاع١١
وأجلُّ ما فوقَ الترابِ وتحتَهُ
قلمٌ عليه جلالةُ الإجماع
تلك الأناملُ نامَ عنهنَّ البِلى
عُطِّلنَ من قلمٍ أشَمَّ شُجاع
والجبنُ في قلمِ البليغِ نظيرُهُ
في السيف مَنقصةٌ وسوءُ سماع
١  هو الكاتب الذائع الصِّيت مصطفى لطفي المنفلوطي، اشتهر بأسلوبٍ إنشائيٍّ خاص لفتَ إليه أنظار القُرَّاء في عصره، وقد توفي سنة ١٩٢٤م.
٢  يشير بيوم الهول إلى أن وفاة الفقيد كانت في يوم إطلاق الرصاص على الزعيم سعد باشا.
٣  الفود: أحد الفودَين، وهما جانبا الرأس من الأمام. والأحم: الأسود. والرواعي: جمع راعية، ويريد ﺑ «الرواعي» الشعرات البيض اللواتي ظهرت في جانبَي رأسه.
٤  النظرات: اسم كتاب للفقيد.
٥  العبَرات: اسم كتاب له أيضًا.
٦  نضو شراع: أي شراع هزيل متمزِّق لا يكاد يقوى على مصارعة أمواج تلك اللجة، بل لا يكاد يرى في خضمِّها المحيط.
٧  القطاع: طائفة من الغنم.
٨  رسوم دماع: أي آثار تبدو في مجرى الدمع، كأن الدموع لكثرتها تصنع لها طريقًا في موضع مَسيلها.
٩  غِيَرُ الحياة: نوائبها المُغيرة على الناس.
١٠  اليفاع: ما ارتفع من الأرض، كالنِّجاد. والقرار: ما انخفض منها، كالوِهاد.
١١  الثنية: الطريق في أعالي الجبال، ويُجمع على الثنايا، وقد تمثَّل الحجاج في خطبته الشهيرة بقول بعضهم: أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤