خلاصة حياته وما نستنتج منها

إذا أمعنا النظر في كل ما أسلفنا يتضح لنا أمور:
  • (١)

    أن امرأ القيس من بيت عريق في الشرف والملك، وأنه كريم الطرفين: معم مخول.

  • (٢)

    أنه يمني الأصل والمحتد، ولكنه نزاري النشأة واللحن؛ فقد ولد في ديار بني أسد، وتكلم بلغتهم منذ نعومة أظفاره، فجاء شعره نزاري اللهجة واللغة.

  • (٣)

    أنه استهل حياته بالصبوة واللهو والنعيم والترف، ثم تدرج إلى سلسلة من المصائب ابتدأت بطرد أبيه إياه، وعيشته عيشة أصحابه من شذاذ العرب وذؤبانهم في الفلوات، ثم تفاقم الخطب بقتل أبيه وما تبعه من استنصار القبائل وقعودهم عن مظاهرته، ثم مطاردة المنذر إياه وتراميه على القبائل والمجيرين ليحموه ويحموا ابنته وما معه من المال والسلاح، وإغارة فريق على ابنته، ثم شخوصه إلى قيصر وإخفاقه في رحلته التي انتهت بموته في دار غربة بين أنياب الفاقة والقروح بعيدًا عن أهله وقومه، وقد كان في خلال ذلك يكابد من الآلام الموجعة، والصغار الممض، ما كان له أسوأ وقع في نفسه.

    فهو في غزله يمثل لنا ناحية من حياته التي قضاها في مغازلة الحِسان ومعاقرة الخمر، وفي وصفه يمثل لنا ناحية أخرى قضاها في ركوب الخيل والصيد، واجتياب الأودية والفيافي وما شاكل ذلك.

    وفي فخره وشكواه يبين لنا عن نفسٍ ألحَّت عليها المصائب حتى بدلت أنفتها خنوعًا، وعزَّتها ذلًّا، وقوتها ضعفًا، وجعلتها تقنع بالمعزى بعد الصافنات الجياد والإبل الهِجان، وتعُدُّ الشبع والري غاية الغنى، بعد أن كانت تعقر للعذارى مطية فيرتمين بلحمها وشحمها.

  • (٤)

    قد يسبق إلى الظن أن في شيء مما أسلفنا ذكره ما يدعو إلى الشك والريبة مثل موته مسمومًا بالحُلة، وقوله الأشعار والرجز في الغربة في ديار قوم لا يعرفون العربية، ولا يحسنون رواية الأشعار وحفظها.

    وقد ذكرنا للأول وجهًا لا يبعده من الحقيقة.

أما الثاني فقد تضافرت الروايات على نسبة الرجز الذي قاله في أنقرة، وإن ورد فيها اختلاف في تأليفه وصورته، وعلى نسبة الأبيات التي قالها حين رأى امرأة مدفونة عند عسيب.

ولا مجال للشك بعد هذا، على أنهم ذكروا١ أن امرأ القيس صحب في رحلته هذه جابر بن حُنَي التغلبي إلى بلاد الروم، فلما اشتدت علته، صنع له جابر من الخشب شيئًا كالفرِّ فكان يحمله فيه.

وقد أشار امرؤ القيس إلى ذلك بقوله من قصيدة:

فإما تَرَيْني في رِحالة جابر
على حَرَج كالقرِّ تخفق أكفاني٢
فيا رُب مكروب كَرَرْت وراءه
وعانٍ فككت الغُل منه ففدَّاني
إذا المرء لم يخزُن عليه لسانه
فليس على شيء سواه بخزَّانِ

وهذا يدل على أن هذه القصيدة قالها في بلاد الروم قبيل وفاته.

وذكر في الخزانة أن امرأ القيس قال قصيدته:

ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي
وهل يَعِمَنْ من كان في العصر الخالي

في طريق الشام عند مسيره إلى قيصر بعد قتل أبيه. وذكر ابن الكلبي أن قول امرئ القيس: وطعنة مسحنفره … إلخ آخر شيء تكلم به ثم مات.

ولم يذكر الذين كتبوا في امرئ القيس أنه صحب في رحلته إلى قيصر أحدًا إلا عمرو بن قميئة (وقد مات في الطريق) وجابر بن حني (وقد بقي معه إلى أن مات)، فلعل جابرًا روى هذه الأبيات والرجز، كما روى غيرهما من شعره الذي قاله في رحلته هذه، كقصيدته التي يقول فيها:

تقطع أسباب اللبانات والهوى
عشية جاوزنا حماة وشيزرا

•••

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنا لاحقانِ بقيصرا

فإنها تشهد لنفسها أنها مما قيل في هذه الرحلة.

ويجوز أن يكون صَحِبَ آخرين ممن لم نقف على أسمائهم، وهم رووا أقواله من رجز وقصيد.

وهذا يبطل ما زعمه بعض الأدباء من أن غزل امرئ القيس كان كله في صبوته، وسيتضح هذا بعد.

١  ممن ذكر ذلك صاحبا اللسان والخزانة.
٢  الرحالة: السرج من جلود لا خشب فيه يتخذ للركض الشديد، وأراد بها الخشب الذي يحمل عليه في مرضه. والحرج: سرير يحمل عليه المريض أو الميت، أو خشب يشد بعضه إلى بعض. وأراد بالأكفان: ثيابه التي عليه؛ لأنه قدر أنها ثيابه التي يدفن فيها، وخفقها ضرب الريح لها. والقر: مركب من مراكب الرجال بين الرحل والسرج، وقد قال البغدادي: «الحرج: الضيق»، وهو لا يناسب هنا، وإن كان من جملة معانيه، فالصواب ما ذكرناه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤