أخلاقه من شعره

إذا صح أن كلام الإنسان مرآة تمثِّل دخيلة نفسه وتصور سجاياه، فإن كلام امرئ القيس يمثل لنا صورة واضحة تامة عنه: فهو قبل كل شيء مولع بالنساء والصبوة والخمر وركوب الخيل للصيد ونص العيس في مجاهل الأرض، وما يقتضيه كل واحد من هذه الأشياء من مجانة. وأكثر شعره في صباه لا يخلو من هذه الأمور، وهو لم يفارقها بعد أن فارق صباه، كما يشهد لذلك قوله:

أصبَحتُ ودَّعْتُ الصِّبا غير أنني
أراقب خلات من العيش أربعا١
فمنهن قولي للندامى: ترفقوا
يداجون نشاجًا من الخمر مترعا٢
ومنهن ركض الخيل تَرْجُم بالقنا
يبادرن سربًا آمنًا أن يفزَّعا٣
ومنهن نصُّ العيس والليل شامل
يُيمِّمن مجهولًا من الأرض بلقعا٤
خوارجُ من بريَّة نحو قرية
يُجددن وصلًا أو يُرجِّين مطمعا٥
ومنهن سوف الخود قد بلها الندى
تراقب منظوم التمائم مرضعا٦
يعز عليها ريبتي ويسوءها
بكاه فتثني الجيد أن يتضوعا٧
بعثت إليها والنجوم ضواجع
حذارًا عليها أن تَهُبَّ فتسمعا٨
فجاءت قطوف المشي هيابةَ السرى
يدافع ركناها كواعب أربعا٩
يزجينها مشي النزيف وقد جرى
صُباب الكرى في مخها فتقطعا١٠
تقول وقد جردتها من ثيابها:
كما رعت مكحول المدامع أتلعا

وقد تقدم من قوله ما يدل على مغامراته في سبيل شهوته ومجاوزته في سبيل من يهوى أحراسًا ومعشرًا يحرصون على قتله، وسموه إلى أخرى بعدما نام أهلها، ودنوه إلى ثالثة وتسديها وما كان خلال ذلك.

وتدلنا أقواله في وصف الخيل والإبل والأودية على شجاعته وحبه للصيد.

فيدل قوله:

ولست بخزرافة في القعود
ولست بطياخة أخدبا١١
ولست بذي رثية إمر
إذا قيد مستكرهًا أصحبا١٢

على أنه وقور في مجلسه نزر الكلام غير أهوج ولا ضعيف الرأي.

وقوله:

وخليل قد أفارقه
ثم لا أبكي على أثره
وابن عم قد تركت له
صفو ماء الحوض عن كدره

على أنه جَلِد صبور صفوح يقابل السيئة بالحسنة.

وأقواله السابقة في المدح على أنه لا يجحد نعمة ولا ينكر معروفًا أُسدي إليه.

وأقواله في الهجاء على كرهه الغدر وخذلان الجار وحبه الانتقام.

وأقواله في الفخر على أنه شجاع أَبِيٌّ لا يقيم على أذًى.

وأبياته: «إذا ما لم تكن إبل فمعزى» … إلخ.

وأبياته: «أرانا مُوضِعين لأمرِ غيبٍ» … إلخ.

على أنه يئس من السعادة في الحياة والنجح في الطلب، يقنع من الغنيمة بالإياب، ورضي بالمعزى بدلًا من الخيل العتاق والإبل النجائب.

واستسلم للقدر فتلفع بشملة الزهاد واتخذ من حوادث الكون عبرًا أقام عليها صرح حكمته.

(١) الخلاصة

تدلنا أقوال امرئ القيس على أنه كان تبع نساء وطلب نساء من شُبٍّ١٣ إلى دُبٍّ، وأنه كان خليعًا ماجنًا في غزله وصبوته مغامرًا في سبيل لبانته، محبًّا للخمر آمرًا بالتمتع بها وبالنساء الحسان، مولعًا بركوب الخيل واجتياب المفاوز للاصطياد، كثير الفخر شديد الاعتداد بنفسه، طلوبًا لمعالي الأمور، وقورًا في مجلسه وقوله، بريئًا من الحمق وضعف الرأي، جَلِدًا على النوائب، صفوحًا عن السيئات، شاكرًا للنعمة، كارهًا للغدر، محبًّا للانتقام، شجاعًا أبيًّا قنوعًا، قد اسودت في وجهه الدنيا في أخريات أمره، فياض القريحة غمر البديهة، حكيمًا حنَّكته التجارب ونجذته النوائب.
١  ودع الصبا: فارقه وصار إلى الكبر. والخلات: جمع خلة وهي الخصلة.
٢  الندامى: جمع ندمان، وهو المنادم؛ أي المجالس على الشراب، ثم استعمل في كل مسامر. يداجون: يدارون. والنشاج: الزق، يقال: نشج الزق، إذا غلى ما فيه حتى سُمع له صوت. ومترع: مملوء.
٣  ترجم: ترمي وتطرد. والقنا: الرماح. يبادرن: يعاجلن. والسرب: القطيع من بقر الوحش والظباء.
٤  نصَّ الإبل: استخرج أقصى ما عندها من السير. والعيس: جمع أعيس أو عيساء؛ الإبل البيض يخالط بياضها شقرة. شامل: عام أو مغط، يقال: شمله بالمشملة إذا غطاه بها، أو من قولهم: لون شامل؛ وهو أن يكون أسود يعلوه لون آخر. يُيَمِّمن: يقصدن. المجهول من الأرض: ما لم يسلك فيعلم، أو ما لا يهتدي فيه. البلقع: القفر الخالي.
٥  البرية: الصحراء. القرية: المصر. يجددن: يحدثن ويصيرنه جديدًا، الرجاء: ضد اليأس، رجاه ترجية: أطمعه. المطمع: كمقعد ما يطمع فيه، يريد أن هذه الإبل يخرج عليها من البرية إلى الأمصار لوصل حبيب أو لطلب مرغوب فيه.
٦  ساف الشيء: شمه. الخود: الشابة أو الناعمة. بلها: أصابها ونداها. والندى: شيء يُتطيَّب به كالبخور. تراقب: تحرس. التمائم: جمع تميمة؛ خرزة رقطاء تنظم في السير، ثم بعقد في العنق.
٧  عز عليه أن يفعل كذا: اشتد. الريبة: الظنة والتهمة والحاجة. يسوءها: يحزنها، ساءه: فعل به ما يسوءه. تثني: تلوي. يتضوع: يتضور؛ أي يتلوى من البكاء.
٨  النجم الضاجع: المائل للمغيب. تهب: تنتبه من نومها.
٩  قطوف: ضيقة المشي. هيابة: كثيرة الهيبة والخوف. السرى: السير في الليل. يدافع: يدفع. ركناها: جانباها. الكواعب: ج كاعب؛ التي نهد ثديها.
١٠  يزجينها: يسقنها ويدفعنها فتمشي مشي النزيف؛ وهو السكران. صباب الكرى: بقية النوم. المخ: نقي العظم والدماغ وخالص كل شيء.
١١  الخزرافة: من لا يحسن القعود في المجلس أو الكثير الكلام الخفيف الرخو. الأخدب: الأهوج والطويل والذي يركب رأسه.
١٢  رثية: مرض المفاصل. الإمر: الضعيف الرأي يوافق كل أحد على ما يريد من أمره كله. أصحب: ذل وانقاد بعد صعوبة.
١٣  أي من الشباب إلى أن دب على العصا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤