الفصل الأول

برج بابل

يُخطئ كثيرًا من يتصوَّر أن قضية اللغة من القضايا الهامِشيَّة أو الثانوية التي يُواجِهُها المجتمع، أو حتى أنها مُجرَّد قضية هامَّة من بين قضاياه المُتعددة. وقد يرى البعض أن الأجدى التعرُّض للقضايا الاقتصادية أو الاجتماعية، أو غير ذلك من الموضوعات الحيوية التي تمَسُّ الحياة اليومية للإنسان العربي. أما قضية اللغة فهي تَرَفٌ ينبغي أن نتركه للمُتخصِّصين وعلماء الفِقه اللُّغوي.

فالحقيقة أن اللغة قضية حيوية ستُسهِم بشكلٍ حاسم في تحديد الهُوية العربية وتطوُّر ثقافتنا في القرن الحالي. كما أنها مِلك لكلِّ من يَستخدِمُها وليست حِكرًا على علماء اللغة. وسنُحاول في هذا الفصل إثبات أهميَّة اللُّغة في حياة الإنسان منذ بَدء الخليقة، وكيف كانت عُنصرًا مؤثِّرًا في تطوُّر المجتمعات وتشكيل الوجدان الجماعي لها.

وهناك بين اللغة والفِكر عَلاقةٌ جدَليَّة؛ فاللغة وعاء الفكر، والفكر مَضمون اللغة. والإنسان لا يستطيع أن يُفكِّر بطريقةٍ مُجرَّدة وإنما يفكِّر من خلال كلماتٍ وتركيبات لُغوية تتفاعَل في ثنايا عقلِه. فنقل الأفكار يكون دائمًا باللغة سواء عن طريق الكلام أو الكِتابة.

أما وسائل التعبير الأخرى مثل الرسم والموسيقى مثلًا فتنقِل شحناتٍ من الأحاسيس والمشاعر. لكن كل هذه الوسائل التي لا تعتمد على اللغة عاجزة عن إيصال الفكر من إنسانٍ إلى آخر. وقد ظلَّ الإنسان لمئات الآلاف من السنين أقرَبَ إلى الحيوان؛ نظرًا لعدم تبلوُر أداةٍ للتَّفاهُم بينَه وبين الآخَرين من بني جِنسِه.

وعلماء الأنثروبولوجي يؤكِّدون العلاقة المُتوازِية بين تطوُّر اللغة وتقدُّم المجتمعات الإنسانية؛ فكلَّما استطاع الناس أن يتفاهَموا فيما بينهم، كلَّما نجَحوا في تطوير حياتِهم ومستوى معيشتهم. والعكس صحيح، فقد ثبت دائمًا أن التخلف الفكري والإفلاس الحضاري يؤديان بالضرورة إلى اضمحلال اللغة.

والتخلُّف اللغوي يُعيق العقل عن التطوُّر الحضاري ويؤدِّي إلى تحجيمٍ للإدراك والخَيال اللَّازِمين للتقدُّم؛ فالفقر اللُّغوي كثيرًا ما يعكِس فقرًا معنويًّا وحتى ماديًّا للمُجتمع.

والتعريف الشائع للإنسان هو أنه حَيوان ناطِق، فالفارِق الرئيسي بين الإنسان والحيوان هو النُّطق، أي: اللغة. الحيوان لا يَستطيع التَّعبير عن نفسه، ولا يستطيع أن يُورِّث خِبرتَه وتَجارِبه لِمَن بعده، على عكس الإنسان الذي ينقِل كلَّ مَعارِفه وعِلمه عن طريق اللغة.

وهناك نظريَّات عديدة في أصل اللُّغات، ونشأتها وتطوُّرها عند الإنسان البُدائي الذي ظلَّ ملايين السِّنين حتى توصَّل إلى لُغةٍ راقيةٍ تعبِّر عن مشاعره ومُتطلَّباته. لكن علماء الأنثروبولوجي يُرجِّحون أن الإنسان الأول كان يُدرِك الأشياء في البداية، كصُورٍ مُجسَّدة في عقله، فيُفكِّر مثلًا في أسَدٍ أو نهر، فيتمثَّل كلٌّ منهما أمامه، وظلَّ كذلك حتى بدأ يُصدِر أصواتًا للتَّعبير عن تلك الأشياء التي يريد استِحْضارها ونقْلَها لغَيره. ومن هنا بدأت اللغة.

وظلَّ التفكير الإنساني قاصِرًا وأقرب إلى تفكير الحَيوان طالَما لم تتكوَّن لغة التحاوُر؛ فالتفكير في الأشياء الماديَّة المحسوسة والأحاسيس الغَريزيَّة مِثل الخَوف والجُوع يُساعِد على خَلْق لغةٍ بُدائية تتكوَّن من أصوات، ثم كلماتٍ مُقتضَبة للتعبير عنها، لكن التطوُّر الذي عرَفه الإنسان بعد المراحل الأولى من وجوده على الأرض، كان يستلزِم وسيلةً أكثر تعقيدًا للتَّعبير والتفاهُم. وبدأت اللغات تنمو وتتطوَّر وتُجسِّد أفكارًا مُجرَّدة. وبالتوازي مع تطوُّر وسيلة التعبير عمَّا يَجيش في صدره من أحاسيس ومشاعر انفتحَت أمام الإنسان آفاقُ التقدُّم والحضارة.

وكانت الكِتابة من أهمِّ الثَّورات الثقافية التي عرَفَها تاريخ البشريَّة، إن لم تكن أهمَّها على الإطلاق، بل إن التاريخ نفسه يبدأ بِالكِتابة، أي: بتثبيت اللُّغة الشَّفهيَّة وتَخطِّيها لحاجِز الزَّمن. والخطُّ الفاصِل بين ما يُسمَّى بعصور ما قبل التاريخ وعصور التاريخ هو اختراع الكِتابة. وعلى الرَّغم من اختلاف العُلَماء حول الحضارة التي كان لها فضل اختِراع الكتابة أهي المصرية، أم السومرية؟ إلَّا أن الإجماع على أن بَدء التَّدوين كان لحظةً تاريخيَّة فاصلة، جعلت الإنسانيَّة تقفِز قفزةً عِملاقة إلى الأمام.

قبل ذلك كانت المعلومات والخِبرات تنتقِل كلها شَفاهةً من جِيلٍ إلى جيل. وهذا التَّوارُث السَّمعِيُّ من شأنه أن يطمِس الثقافة ولا يَسمَح بوجود دِينٍ أو معرفةٍ حقيقية. فقِوام الأديان السماوية كلِّها هي الكُتُب التي تحمِل رسالةَ كلِّ دِين، وليس المَنقول عن الأنبِياء أنفسهم بالسَّمْع جيلًا بعد جيل. فالتَّوراة والإنجيل والقرآن هي الأُسُس التي شُيِّدت عليها الدِّيانات السماوية الثلاث. وكان القرآن الكريم هو الكِتاب الوَحيد المحفوظ عند العرب بعد انتِقال سيِّدنا محمد إلى الرَّفيق الأعلى.

وإذا سألنا أنفُسنا: ما الذي يَربِطُنا بماضينا وبتُراثِنا الثقافي؟ فإن الإجابة هي ببساطة: اللُّغة؛ فاللُّغة هي الوسيلة الأساسية لمَعرِفة كلِّ ما حدَث قبل وجود جيلِنا في الدُّنيا، فمعلوماتُنا عن الماضي نَستقِيها من الكُتب التي ترَكها السَّلَف، كما أنَّ التُّراث والأدَب والفِكر مَرهونون كلُّهم باللُّغة التي دُوِّنوا بها ونقرَؤها اليوم كما قرأها من عاشوا قبلَنا.

هناك طبعًا الآثار الباقِية مثل: الأهرام وأبي الهول، والمساجد، والقصور، والقطع الأثرية، مثل: التَّماثيل والأواني والحُلِيِّ وغير ذلك، لكن كل مُخلَّفات الماضي البعيد والقريب تفقِد معناها في غِياب الفَهم اللُّغوي؛ فالآثار الفرعونية القديمة مثلًا ظلَّت أحجارًا صمَّاء لم تَعرِف قِيمتَها ومعناها أجيال مُتعاقِبة من المصريين لقرونٍ طويلة بسبب عدَم فَهْم اللُّغة الهيروغليفية المَنقوشة عليها. وكان العرَب يُفتون فَتاوى غريبة حول بناء الأهرام، فصاحِب المُعجم القاموس يقول مثلًا: «إن الهرَمَين بِناءان أزَلِيَّان بمصر، بناهما إدريس عليه السلام، لحِفظ العلوم فيهما من الطوفان، أو بناء سِنان بن الشلشل.»

ووَصَل الأمر إلى أن الخليفة المأمون عندما قدِم إلى مصر عام ٨٣٢م أمر بتفكيك أحجار الأهرام بهدَف استِخدامها في بناء مُنشآتٍ جديدة. ولولا ثقل الأحجار وأحجامها الضَّخمة، التي حالَت دون تنفيذ أوامر المأمون، لفقدَت مصر والعالَم أجمع إحدى عجائب الدُّنيا السَّبع القديمة. بل إن هرَم خوفو هو الوَحيد الباقي إلى يَومِنا هذا من عجائب الدُّنيا السَّبع القديمة.

أما الستُّ الأخر، وهي: فنار الإسكندرية، وحدائق بابل المُعلَّقة، وعِملاق رودس، وتِمثال زيوس، ومعبد أرتميس (حامِية الأرض عند الرُّومان) وضريح هاليكارناس، فقد تهدَّمت جميعًا بفِعل الزلازل، والحرائق، والعوامل الطبيعية الأخرى.

فالهرَم الأكبر إذًا هو البناء الوحيد من عجائب الدُّنيا السَّبْع الأصليَّة الذي تحدَّى الزَّمن وانتصَر على كلِّ عوامل الهدْم، ممَّا جعل الشَّاعر يقول عنه:

خَليلَيَّ ما تحت السماء بنية
يُشابِهُ بُنياها بُنا هَرَمَي مصر
بناءٌ يخاف الدَّهر منه وكلُّ ما
على الأرض يخشى دائمًا سَطوةَ الدَّهر

وهذا الصَّرح العظيم الذي يُعتبَر اليوم أهمَّ بناءٍ على وجه الأرض، ويُوضَع على رأس قائمة التُّراث العالمي الواجِب حِمايته، والذي تحتضِنُه مُنظَّمة اليُونِسكو الدولية، كاد يزول بسبب الجَهل باللُّغة.

وعندما نجَح شامبليون في فكِّ طلاسِم الهيروغليفية في بداية القرن التاسع عشر تكشَّفَت أسرار الحضارة المِصرية القديمة، التي يَعتبرُها العالم أجمع اليوم أُمَّ الحضارات الإنسانية كلها. وقد كانت اللغة هي المِفتاح الوحيد؛ لفَهم قِيمة الأحجار الصَّمَّاء التي ترَكَها أجدادُنا في عصور الفراعِنة.

ولو افترَضْنا جدَلًا أنَّنا فقَدْنا فجأةً مَعرفِتَنا بالعربية، فإنَّنا لن نستطيع قراءة القُرآن الكريم، والأحاديث النبويَّة الشريفة، وسننقطِع بذلك عن دِيننا، كما سنفقِد أيَّ اتِّصالٍ بتُراثِنا الأدَبيِّ والثقافي العظيم. فما الذي يربِطُنا بعُظماء مثل المُتنبِّي أو البُحتُري أو حتى أحمد شوقي وطه حسين؟ إنها اللغة أيضًا.

ولو لم نكن نَعرِف العربية؛ لما استطَعْنا أن نفهَم ما أبدَعه هؤلاء؛ ولصِرنا عاجِزين عن الارتِباط بماضينا. والانقِطاع عن الماضي هو أكبر كارِثةٍ يُمكِن أن تُواجِه شعبًا من الشُّعوب. والوَصْل المطلوب بالتُّراث اليوم يَمرُّ بتطويرٍ سريعٍ وجريء للُّغة؛ وليس بالتَّمسُّك بها كما هي بغباءٍ قد يؤدِّي إلى أخطر النَّتائج على العربية.

•••

وبالإضافة إلى دَورها الأساسي كوسيلةٍ وحيدة لحِفظ التُّراث وانتقالِه عبْر الأجيال، فإن اللُّغة هي أحد أهمِّ العناصر المُكوِّنة للحضارة وللهُوية الإنسانية في كلِّ مكان. وأول اتِّصالٍ بين إنسانٍ وآخَرَ يتمُّ عن طريق اللغة. ويحتاج الزُّعماء ورِجال السياسة والاقتصاد إلى مُترجِمين للتَّفاهُم، ولولا هؤلاء المُترجِمون الذين يُجيدون أكثر من لُغةٍ لكان التَّفاهُم صعبًا للغاية، إن لم يكن مُستحيلًا. فاللُّغة هي الأداة الأساسية للتَّفاهُم، لكنَّها أيضًا الوِعاء الذي يتبلْوَر فيه فِكر الإنسان ورؤيته للحياة؛ وبالتَّالي فإن اللُّغة هي العُنصر المُشكِّل للثقافة وللفِكر والفلسفة والآداب.

وبالإضافة إلى هذا فإنَّ اللُّغة هي أداة التفاهُم الأساسية بين أبناء البشرية. وقد أثبتَ القرآن الكريم الأهميَّة الحيوية للُّغة حين يقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (سورة إبراهيم: ٤)؛ أي أنَّه لو تحدَّث الرُّسلُ بلغةٍ مُختلِفة أو غريبة عن قومِهم ما أوضَحوا لهم وما بيَّنوا لهم ما كُلِّفوا بنقلِه من رسائل سماوية. ويؤكِّد القُرآن الكريم هذا المَعنى عندما يقول: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (الشعراء: ١٩٨ و١٩٩).

ثم هذه الآية التي تُوضِّح هذا المعنى بِجَلاء: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ (فصلت: ٤٤). ومعنى هذا بوضوحٍ أن اختيار الله سُبحانه وتعالى للعربيَّة جاء بناءً على لُغة القوم الذين أُنزِل عليهم الكِتاب.

والواقِعة الوَحيدة المَذكورة في القُرآن عن تَحدُّث الله سُبحانه وتعالى إلى بشَرٍ كان بَطلُها النبيُّ موسى؛ ويقول كتاب الله: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (طه: ١١، ١٢، ١٣). وباقي الآيات معروفة في سُورة طه. ولنا أن نتساءل: بأيِّ لُغةٍ تحدَّث الله إلى عبده موسى؟

فموسى تربَّى في مصر وعاش بها وكان يتحدَّث اللُّغة المِصرية القديمة. أما العربية، فلم يكن لها وجود على الأرض آنذاك؛ فموسى عاش قبل خاتَم الأنبياء بسبعةِ عَشر قرنًا. ويُجمِع عُلَماء اللُّغة على أنَّ لُغةَ الضَّاد لم تَتَّخِذ ثَوبَها الذي نزَل به القرآن إلَّا قبل قَرنٍ أو قرنٍ ونصِف على الأكثر قبل الدَّعوة.

ومن المُسلَّم به أن موسى فَهِم كلَّ كلمةٍ ممَّا قالَه ربُّه؛ فقد سأله: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (طه: ١٧) فأجابَه النبيُّ كما هو وارِد في سورة طه، ثم ألقى الله بأوامر مُحدَّدةً حين قال:أَلْقِهَا يَا مُوسَى (طه: ١٩) ثم: قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (طه: ٢١) ثم: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (طه: ٢٢) ثم: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (طه: ٢٤). وقد أجاب موسى على خالِقِه ونفَّذَ كلَّ هذه الأوامر على الفَور، أي أنه فَهِم تمامًا اللُّغة التي نُودِي بها، بل إنه أجاب على الله بالكلام فقال من بين ما قال: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (طه: ١٨)، كما تَوجَّه إلى ربِّه بالرَّجاء في الآيات من ٢٥ إلى ٣٥.

وإذا أعمَلْنا عقلَنا لوَجدْنا أنَّ هُناك احتِمالَين من الصَّعب أن يكون لهُما ثالِث وهما:
  • إما أن يكون الحِوار مع موسى باللُّغة الوحيدة التي يَفهمَها وهي المِصريَّة القديمة.

  • أو أن يكون الله قد أوحى إليه المَعاني دُون اللُّجوء إلى لُغةٍ مُعيَّنة.

لكن المَنطِق يقول إنَّ موسى حتى في الحالة الثانية قد تحدَّث بِلُغتِه الأمِّ وهي المِصريَّة القديمة.

وفي كلِّ الأحوال فإن العِبرة أنَّ الله تحدَّث إلى موسى بأسلوبٍ يفهمُه ويُدرِك معانيه، ولو تحدَّث إليه بالعربية مثلًا؛ لما فَهِم وما استطاع أن يُطيع الأوامر.

•••

وقد لَعِبتِ اللُّغة منذ فجْر التاريخ دورًا مِحوريًّا في نسْجِ الضَّمير الجماعي للمُجتمعات، لكنَّها ظلَّت أداة استِخدام داخلِيَّةً أي بين أبناء المُجتمع الواحد الذين يتحدَّثون نفس اللغة. فكانت أهميَّة اللغة كبيرةً في تَماسُك المُجتمعات ورَبطِها بهيكلٍ بِنيَوِيٍّ واحدٍ في أسلوب التفكير. ولم تكن المُجتمعات في السابق مُتداخِلةً، ولم يكن السَّفَر والتنقُّل مُتاحَين بسهولةٍ كما هو الحال اليوم؛ فظلَّت لُغَةُ كلِّ مُجتمَع هي التي تَتسيَّد وحدَها الفضاء الجُغرافيَّ الذي يضمُّ كلَّ أفراده. وكان أبناء المجتمع الواحد لا يَعرفون إلا لُغةً واحدة للتَّفاهُم، ولا يدور بخلَدِهم أن يتعلَّموا لُغةً أخرى، إلَّا باستثناءاتٍ نادِرة.

أما اليوم فقد تغيَّرَت الصُّورة جِذريًّا، وأصبَحَت اللُّغة أداة تَفاهُم بين المُجتمعات المُختلفة. ولم يعُد من المُمكِن في بداية القَرن الحادي والعشرين على أيَّة دَولةٍ في العالَم أن تعيش يومًا واحدًا دُون الاتِّصال بدولةٍ أخرى تتحدَّث لُغةً مُختلِفةً عنها.

وكان من نتائج ذلك أن أصبَحَت مِهنة التَّرجَمة والتي كانت موجودة منذ قديم الزَّمان من أهَمِّ وأخطَر المِهَن في العالَم، وقد أصبحَت أيضًا من أكثر المِهَن المُجزِية من الناحية المادية؛ حيث يتقاضى المُترجِم الفَوريُّ في المؤتمَرات الدولية مكافأةً يوميَّة مُرتفِعةً نظرًا لأنَّه من أهمِّ مُقوِّمات نَجاح الاجتماعات، ولولاه لما حدَث تفاهُمٌ بين الحاضِرين.

وقد أدْرَك الإنسان منذُ أقدم العصور أنَّ اللُّغة هي أداة تَوحيدٍ وانسِجامٍ ووِفاق. وتروي التَّوراة قِصةً تؤكد أهميَّة اللُّغة في ترابُط المجتمعات، فتقول إن الناس كانوا في بدايات البشريَّة قومًا واحدًا يتكلَّمون لغةً واحدة. ثُمَّ ظهَر في بابل ملكٌ طاغِية يُدعى نمرود تصوَّر أنه قادِر على مُناطَحة الآلهة.

وشرع هذا المَلِك في بناء بُرجٍ شاهِقٍ يرتفِع به إلى عَنان السماء حتى يصِل إلى الآلِهة ويتحدَّاهم؛ فقد كان هذا المَلِك يعتبِر نفسَه أقوى من الآلِهة التي في السَّماء، وأراد أن يُثبِتَ ذلك لقَومه، فما كان مِن الخالِق إلَّا أن جعَلَ العامِلين في بناء البُرج يتكلَّمون لُغاتٍ مُختلِفة. وعلى الفور اختفى التَّفاهُم فيما بينَهم ودبَّت الخِلافات وأخَذوا يتشاجَرُون بدلًا من العمل في بناء البُرج، ولم يستطيعوا، بالتالي، إكمال البناء. وأخفَق نمرود في وَضع مشروعه المَجنون موضِع التنفيذ.

وخُلاصة هذه القِصَّة هي أنَّ اللغة هي أساس التَّفاهُم بين الناس، وأنَّ وجود لُغاتٍ مُختلِفة جعل الناس عاجِزين عن السَّعي في مشروعٍ مُشترَك وهو بناء بُرج بابل.

وبرَغم هذه القِصَّة الوارِدة في التَّوراة فمِن المُؤكَّد أنَّ وجود لغاتٍ مُختلِفة هي نِعمة من نِعَم الله؛ فكلُّ لغةٍ تُعبِّر عن ثقافةٍ بِذاتها وَرؤيةٍ للحياة تختلِف عن غيرها، كما أنَّها تعكِس مَنظومةً فِكريَّةً تُثري حضارات الإنسانية. وهناك آلاف اللُّغات التي اندَثَرَت تمامًا ولم يَعُد علماء اللُّغات يَعرِفون عنها شيئًا، ولا يَستطيع علماء اللُّغة إحصاء عدَدِ هذه اللُّغات لكنَّها اختفَتْ عادةً لحِساب لُغاتٍ أخرى أكثر تعبيرًا عن احتياجات المُجتمع. فكأن اللُّغات القديمة مثل السَّمك في الماء يَبتلِع الكبير الصغير.

حتى في الجزيرة العربية خِلال الجاهِليَّة كانت هناك عشرات اللَّهَجات المُختلِفة إلى أن جاء القرآن فانزوَتْ كلُّها ولم تبقَ إلَّا لُغةُ قُريش أداةً للتَّفاهُم بين العرَب.

وهناك لُغاتٌ اندَثَرَت لكنَّها لازالت معروفةً للمُتخصِّصين. ولعلَّ أشهَرَها اللَّاتينية التي تُعدُّ اللغةَ الأمَّ لعِدَّة لغاتٍ حيَّة من أهمِّ لُغات عالَم اليوم، مثل: الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية. كما أنَّ هناك اللغة اليونانية القديمة التي أبدَع بها هوميروس وأفلاطون وأرُسْطو وسوفوكليس وغيرهم ممن غَيَّروا نظرة الإنسان للحياة في القرون السابِقة على ظُهور المَسيح.

وكان لكلِّ حضارةٍ من تلك الحضارات واللُّغةِ المُعبِّرة عنها دَور حيوي في تقدُّم الإنسانية ورُقِيِّها ووصولها إلى ما هي عليه الآن بفِعل تراكُم المَعارف. ولولا اللُّغة لما كان ذلك مُتاحًا.

•••

ووعيًا منه بِخُطورة اللُّغة في العَلاقات بين الشُّعوب، طرأت على ذِهن طبيبٍ بُولَنْدي في نِهاية القرن التاسع عشر فِكرة عبقريَّة؛ فقد وَضَع لُغةً جديدةً تمامًا هي مَزيج من أهمِّ لُغات العالَم، أطلَق عليها اسم «إسبيرانتو» ونشَرَها عام ١٨٨٧م باسم اللغة العالَمِيَّة.

لكنَّ الفِكرة سُرعان ما أُهمِلت وسقَطَت في طيِّ النِّسيان، فلم يكن وراءها ثقافةٌ ولا دولةٌ قويَّة تَحميها.

وعندما أفاق النَّاس من صدمة الحرب العالمية الثانية المُروِّعة، رأى البَعض ضرورة البَحث عن وَسائل لنَزْع فَتيل المُواجَهة بين أبناء البشريَّة، وأرادوا مدَّ جُسور التَّفاهُم بين الناس، فعادت الرُّوح بعض الشيء إلى الإسبرانتو على أساس أنه إذا تحدَّثَت كلُّ شُعوب العالَم لُغةً واحِدةً فسوف يؤدِّي ذلك إلى إذابة العَوائق النفسيَّة ونَزَعات الشَّرِّ الكامِنة في نفس الإنسان تِجاه من يَعتبرُهم غُرَباء عنه.

لكن هذه المُحاوَلة باءت بالفَشَل، كما أنَّ فِكرة إقامة حكومةٍ واحِدة للعالَم هي حُلم من الأحلام الوَردِيَّة التي لا يُمكِن تحقيقُها في المُستقبل المنظور، فحتى دُول الاتِّحاد الأوروبي لازالت عاجِزةً حتى الآن — بِرَغم تقدُّمِها في الوِحدة فيما بينها — عن إنشاء نَوعٍ من أنواع الحُكم الفَوقي تَخْضَع له كلُّ الدُّول الأعضاء. وكان الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان يحلُم بأن يكون أوَّلَ رئيسٍ للولايات المُتَّحدة الأوروبية، لكن هناك أفكار مثل الإسبرانتو تَسبِق عصرَها وقد تتحقَّق في المُستقبل البعيد عِندَما تتغيَّر ظُروف المُجتَمعات البشريَّة.

•••

وإذا أخَذْنا مثالًا آخَر من القَرن العِشرين يعكِس إدراك الإنسان لأهميَّة اللُّغة نجِد أنَّ الطاغِية النازي أدولف هتلر (١٨٨٩–١٩٤٥م) كان يحلُم بتوحيد كلِّ النَّاطِقين بالألمانية في أوروبا. وقد قام بغزو النِّمسا وأهلها يتحدَّثون الألمانية، ثم غزا المَناطِق البُولندِية الناطِقة بالألمانية، وبعد ذلك منطقة السوديت جنوب تشيكوسلوفاكيا السَّابِقة، وسكانها أيضًا كانوا من الناطِقين بالألمانية.

ومن يُتابِع تحرُّك الجيش النازي في نهاية الثلاثينيَّات من القرن العشرين يَتَّضِح له مُخطَّط هتلر الذي كان يقوم في أساسه على اللغة التي كان يَعتبِرُها أحد المُكوِّنات الأساسية للجِنس؛ فخريطة التحرُّك كانت مُطابِقة لخريطة المُجتمعات التي تتَّخِذ من الألمانية لغةً للتفاهُم.

وكان لهتلر بطبيعة الحال أطماع تَوسُّعية واستِعماريَّة أدَّت إلى اندِلاع الحَرب العالَمية الثانية، لكن فِكرته الرئيسية كانت قِيام إمبراطورية تضمُّ كلَّ أبناء العُنصر الألماني الناطِقين بالألمانية. وقد فرَض على الحُلَفاء في اتِّفاقِيَّة ميونيخ عام ١٩٣٨م ضمَّ منطقة السوديت بجنوب تشيكوسلوفاكيا السابِقة، على أساس أن أهلَها يتحدَّثون الألمانية.

مثال آخر من العالَم العربي: إذا قُمنا بِتحليل حِقبة الاستعمار من منظورٍ لُغويٍّ يتَّضِح لنا أنَّ اللُّغة لَعِبَت دَورًا هامًّا لازال العرَب واقِعين تحت تأثيره إلى بِداية القَرن الوَاحِد والعِشرين.

وقد تقاسَم الهَيمَنة على العالم العربي مُنذ النِّصف الثاني من القرن التاسِع عشر دَولتان أوروبِيَّتان، لكل مِنهُما مَفهومُها الخاصُّ عن رِسالتها الثقافية واللُّغوية؛ فإنجلترا كانت تهدِف من فَرْض سيطرتِها على المُستعمَرات الاستفادة المادية والانتِفاع بِخيرات الأراضي التي احتلَّتْها إلى أقصى حدٍّ مُمكن، ولم تَسْعَ بريطانيا لفرضِ لُغتِها أو ثقافَتِها على الدُّول التي استعمرتْها في العالَم العربي وعلى رأسِها مصر.

أما فرنسا فكان لها هاجِسٌ آخر بالإضافة إلى الاستِفادة الماديَّة؛ فقد كانت حريصةً على نَشْر ثقافَتِها ولُغَتِها في الدُّول العربية والإفريقية وغَيرِها التي وَقَعَت تحت براثِنِها. وكانت السُّلطة الفرنسية تفرِض لُغَتَها في المدارس وتُحارِب العربية، أو تسعى لتقلِيصِها بِقَدْر المُستطاع، وجَعْلِها لهجةً للتَّفاهُم البِدائي بين أبناء الشُّعوب الخاضِعة لها. وكان أبناء الجزائر وتُونس والمَغرب يتعلَّمون في المدارس أن أجدادَهم هُم الغالِيُّون، وهؤلاء بطبيعة الحال هُم أجداد الفِرنسيِّين وحدَهم.

فرنسا إذًا لم تَكتفِ بالسَّيطرَة على الأرض، لكنَّها أرادَت السَّيطرَة على العقل، واكتشفَت أنَّ الهَيمَنة العقليَّة تمرُّ من خِلال الحالة اللُّغوية. ومن الواضِح، برغم سوء نواياها، أنَّها كانت على صواب.

وكانت نتيجة السياسة اللُّغوية التي انتهَجَتْها فرنسا أنَّ شعوب المَغرِب العربي لازالت إلى الآن مُرتبطة ارتِباطًا ثقافيًّا وثيقًا بفرنسا، ويقترِب مِنهاجُ تفكِيرِها من المِنهاج الفرنسي أكثر منه إلى العربي. صحيح أن أبناء الجيل الحالي يَبذُلُون جُهودًا جبَّارةً للتخلُّص من سيطرة التأثير الفرنسي والتَّوصُّل إلى صِيغةٍ يَلتحِمون بها بِثقافتِهم العربية الأصيلة، لكن الأثر الثقافي الذي تركَتْه سنوات الاستِعمار لازال شديدَ الوَطأة على العقل المَغاربي.

ومع ذلك فإنه من المُؤكَّد أن تأثُّر الشعوب المَغاربية بالفرنسية قد أفادَها كثيرًا بعد مرحلة الاستِعمار، وانعكَس في الانتِعاشة التي تعيشها هذه الدُّول منذ نهاياتِ القرن العشرين.

والغَريب أنَّ المَفهومَين الفرنسي والإنجليزي لقضية الثقافة واللُّغة لا زالا يَنعكِسان إلى يومِنا هذا على مَوقِف الدَّولَتين من الجالِيات الأجنبيَّة المُقيمة فيهما؛ فإنجلترا تتَعامَل مع الجالِيات الأجنبية بها، وكأنَّها وَحَدات مُستقلَّة بثقافَتِها ولُغاتِها طالَما أنَّها تَصُبُّ في نفع الاقتصاد الإنجليزي، ولا تُعكِّر صفوَ الأمن العام؛ فالهنود مثلًا لهم أحياؤهم التي يعيشون فيها بلندن، وكأنهم في بومباي أو نيودلهي.

أما فرنسا فترفُض هذا المَنطِق بشدَّةٍ وتسعى إلى إيجاد مُجتمع مُتجانِسٍ في الثقافة واللغة والمِزاج، وتنظُر بعين القلَق إلى أيِّ مُحاولَةٍ للتَّميُّز الثقافي أو اللُّغوي من قِبَل أيِّ جاليةٍ أجنبية.

وكان هذا المفهوم هو السبب في انفِجار قضيَّة الحِجاب في المَدارِس الفرنسية منذ الثمانينيَّات من القرن العِشرين.

•••

ولعلَّ كلَّ هذه المَواقِف تصبُّ في قالَبٍ واحِدٍ وهو تأكيد الأهمية الحيَويَّة للُّغة، ووعْي المُجتمعات المُتقدِّمة بالدَّور الخطير الذي يُمكِن أن تقوم به سلبًا أو إيجابًا.

ويتزايد إحساس الإنسان بأهميَّة اللُّغة عندما يَزُور بلادًا غريبة لا يُجيد لُغتَها؛ فيُحسُّ وكأنَّه تائِهٌ وضائع تمامًا، ويَشعُر بالعَجز عن الاتِّصال بالمُحيطين به، وقد يتعرَّض لمواقِف صعبةٍ أو لأخطارٍ بسبب جَهله باللُّغة.

ومع تسليم الجميع بأهميَّة اللُّغة على مستوى الإنسانية، فإن المُجتمعات العربية تَضَع لُغةَ الضَّاد في مكانةٍ خاصَّة لا تَطالُها أيُّ لُغةٍ أخرى، بل لا تَقترِب منها. فاللُّغة منذُ العَصر الجاهلي تلعَبُ دَورًا مِحوريًّا في حياة العرَب، كما كانت تُسهِم في تحديد العَلاقات بين الناس، بل وفي تحديد طبَقات المُجتمَع، جنبًا إلى جنبٍ مع شرَف النَّسَب ووَفْرَة المال. ولن أُطيل في وَصف الأهميَّة التي كان يَحظى بها الشُّعراء، أولًا والخُطَباء في المَرتَبة الثانية. ولم يكن الأُمَراء يَستنكِفون رواية الشعر، على عكس كلِّ المُجتَمعات الأخرى التي كانت ترى الفنَّ والأدَب هواية لا تَجوز إلَّا للعامة؛ فامرؤ القيس، وأبو فِراس الحمَداني، والمُعتمِد بن عبَّاد، كانوا من أُمَراء قَومِهم على سبيل المِثال لا الحَصر.

بل إنَّ هناك خليفةً كان يَقرُض الشِّعر بنفسه، وهو يَزيد بن مُعاوية بن أبي سُفيان ثاني خُلفاء بني أُميَّة، ويُنسَب إليه بيتٌ مِن أشهَرِ الأبيات التي يُستدَلُّ بها على البلاغة العربية يقول فيه:

وأمطرَتْ لؤلؤًا من نرجَسٍ وسقَتْ
وردًا وعضَّتْ على العِنَّاب بالبَرَد

ومهما كانت أهميَّة اللُّغة بالنِّسبة لكافَّة شعوب العالم منذ قديم الأزل، فلا يُوجَد شعب يعشَق لغتَه ويبَجِّلُها مثل الشَّعب العربي، فالعَرَبي ينتشي لحُسن اللُّغة بقدْر ما يطرَب لنَغَمات الموسيقى. واللغة تُحكِم سيطرَتَها السِّحريَّة على العقل العربي بِصورَةٍ غير مَسبوقةٍ وغير موجودة في كافَّة ثقافات العالم.

ويُلخِّص فيليب حتِّي افتِتان العرَب بلُغَتِهم في كِتاب «تاريخ العرب» (دار الكشاف للنَّشر والطباعة، بيروت ١٩٦٥م) حيث يقول:

وقَلَّ أن تَجِد بين أُمَم الأرض شعبًا كالعرَب في شدَّة إعجابِهم بالأدَب، وتأثُّرِهم بالكلام الأنيق الذي يُلْقى في مَجالِس المُخاطبة، ولهم شَغَف وهُيام كبيران بِجمال اللُّغة، سواء رأوها مَكتوبة، أو سَمِعوها بآذانِهم حتى تَمتَّعَت اللغة العربية بما لم تَتمتَّع به لُغةٌ أخرى من الاستيلاء على عقول الناس، والسَّيطرَة على أفئدَتِهم، بالرَّغم من أن هذا الأدَب يَرِدُ أحيانًا في لُغةٍ مُنمَّقة مُعقَّدة يفهمون بعضها، ويُغلِق عليهم البعض الآخر …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤