الفصل الثاني

هل هناك لُغة عالمية؟

طوال حِقَب التاريخ المُتعاقِبة كانت الأهميَّة التي تحظى بها اللُّغة انعكِاسًا لقوَّة الدولة أو الحضارة التي تَستخدمها، حتى في الجزيرة العربية خِلال العصر الجاهلي كانت لُغة قُريش هي أهمُّ اللُّغات نَظرًا لأهميَّة مَكَّة كمركزٍ للتجارة والحَجيج، ولمَوقِعها من طُرُق التَّبادُل التجاري. وظلَّت كذلك حتى جاء القُرآن الكريم ليُؤكِّد تَفوُّق لغة قُريش ويُحيل إلى طيِّ النِّسيان كلَّ اللُّغات الأخرى التي كانت مُتداوَلة بين القبائل في الجزيرة.

والسؤال الذي يُثير بعض الجدَل في مجال اللُّغات اليوم هو: هل هُناك لُغةٌ عالمية؟ أي هل هناك لُغة يُمكِن للإنسان استِخدامُها في أيِّ مكانٍ في العالَم ويكون مفهومًا من الجميع؟ في بداية التِّسعينيَّات كَتَب رئيس تحرير صحيفة الوول ستريت جورنال الأمريكية مقالًا يقول فيه حرفيًّا: «اللُّغة العالمية هي الإنجليزية.»

ولا شكَّ أنَّ هناك مُغالاة في مَقولة رئيس تحرير هذه الصحيفة، برغم الأهميَّة الكُبرى التي تحظى بها اللُّغة الإنجليزية، أو بمعنًى أدَقَّ اللُّغة الأمريكية، فالمعنى الدَّقيق لكلِمة لُغة عالمية أنها لُغة يفهمُها كلُّ الناس في العالم. وهذا بعيد جِدًّا عن الإنجليزية، وعن أيِّ لُغةٍ أخرى في أي عصرٍ من العصور. وعدد المُتحدِّثين بالإنجليزية اليوم كلُغةٍ أولى لا يتعدَّى ٣٤١ مليونًا كما يتَّضِح من الجدول التالي:

عدد الناطِقين بأهمِّ لُغات العالَم كلُغةٍ أم.
اللغة العدد بالمِليون
الصينيَّة (مندارين) ٨٧٤
هندي ٣٦٦
إنجليزي ٣٤١
إسباني ٣٢٢
عربي ٢٤٠
بِنغالي ٢٠٧
برتغالي ١٧٦
روسي ١٦٧

أما عدد الذين يُجيدون الإنجليزية في العالم فلا يُمكِن مَعرفته بدقَّة، لكن التقدير الجُزافي المُتداول هو مِليار إنسانٍ يعيشون في قارَّات العالَم الخمس.

وفي التاريخ الإنساني كانت هناك في كلِّ العصور لُغة تتفوَّق على اللُّغات الأُخرى في الأهميَّة لأنها لُغة الحضارة المُسيطِرة في العالم. كان هذا هو الحال بالنِّسبة للُّغة اليُونانية قبل المسيح بِعدَّة قرون، ثم اللاتينية عندما كانت رُوما القوَّة العُظمى التي تبسط نُفوذها على مُعظَم بِقاع العالم المَعروف آنذاك، ومنها مصر. وكان العالَم يعيش ما يُسمَّى «باكس رومانا» أي السَّلام الذي تفرِضُه رُوما على الجميع.

وكانت كلُّ المُعامَلات تتِمُّ في تلك العصور باليونانية ثُمَّ باللاتينية. وقد ظهَرَت آنذاك كلِمة «بربري»، وكانت تَعني بِبساطة كل من ليس يُونانيًّا أو رُومانِيًّا، ومن لا يتكلَّم اليونانية القديمة أو اللاتينية. كما كان العرَب يُطلِقون لفظةَ «أعجمي» على كلِّ من لا يُجيد العربية، أيًّا كان أصلُه.

وعندما بزَغ نُور الحضارة الإسلامية أصبَحَت العربيَّة هي لُغة العِلم والمَعرفة والتفوُّق في كلِّ المجالات. وكان عُلَماء العالَم يُضطرُّون إلى الإلمام بالعربيَّة ليكونوا على مَعرفةٍ بآخِر ما وَصَل إليه العِلم الحديث في ذلك العصر؛ نظرًا لأنَّ كلَّ الاكتِشافات والبُحوث العِلميَّة القَيِّمة كانت تُكتَب بالعربية. وتماما كما أنَّ عُلَماء العالم اليوم الذين يَجهلون الإنجليزية يُصبِحون مُتخلِّفين عن رَكْب العِلم والمَعرفة، فإن عُلَماء الماضي كانوا يُضطرُّون اضطرارًا لتعلُّم العربية؛ فكلُّ الاختِراعات والأدوات العِلميَّة التي كانت تُسهِّل حياة الإنسان كانت تَنطلِق من العالَم العربي الإسلامي وتُصاغ بِلُغة الضَّاد.

وبعد عصر النَّهضة كانت الفرنسية هي لُغة المُعاهَدات ولُغة الدُّبلوماسية خاصَّةً في عصر لويس الرابع عشر (١٦٣٨–١٧١٥م) الذي كان يُلقَّب بالمَلِك أشمس. وقد اتَّخذ هذا الملك من قَصر فِرساي مَقرًّا له؛ فأصبَحَت فِرساي عاصمةَ العالَم آنذاك، وصارَت الفرنسيَّة لُغة تَفاهُمٍ رئيسيَّةً وخاصَّةً في بِلاد مُلوك أوروبَّا وفي المَحافِل الدُّبلوماسية حتى بِداية القرن العشرين.

•••

اللُّغة المُسيطِرة إذًا ليست ظاهِرةً جديدة لم يعرِفها العالَم إلَّا مع الإنجليزية الأمريكية. لكن المؤكَّد أنَّ وسائل الإعلام الحديثة وانتشار التليفزيون والإنترنت وسُهولة الانتقال منَحَت الإنجليزية فُرصةً لم تكُن مُتاحةً لأيِّ لُغةٍ أخرى سَيطرَت حضارتها على العالم في الماضي؛ فقد كان العارِفون باللُّغة المُسيطِرة من خارج أصحابها في الماضي، هم شريحة ضئيلة جدًّا من المُتعلِّمين والمُفكِّرين. أما اليوم فإن معرفة الإنجليزية أصبحت شائعةً في الطَّبَقات العُليا لكلِّ المجتمعات شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا. وأصبَح أيُّ مُثقَّفٍ في أيِّ رُكنٍ من أركان العالم مُطالَب بالإلمام بهذه اللغة؛ وإلَّا فإن ثقافته ستكون مَحليَّة ومَحدودة.

وإذا كانت الإنجليزية هي اللُّغة المُهيمِنة على عالمنا اليوم؛ فإن الفضل في ذلك لا يرجِع إلى إنجلترا برَغم كَونِها أمَّ هذه اللُّغة ومَوطِنَها الأصلي، إنما الفضل يعود للولايات المُتَّحدة الأمريكية التي اتَّخذت الإنجليزية لُغةً رسميَّة منذ إنشائها في عام ١٧٧٦م.

ولأنَّ الولايات المُتَّحدة أصبحَت القوَّة العُظمى الأولى في عالم اليوم وصارت رائدة في مجالات العِلم والفنِّ والإعلام والصناعة؛ فإن لُغتها تصدَّرت لُغات العالم، وأصبحَت اللُّغة المُتداوَلة بين الصَّفوة، وفي المُعاملات الدولية، وفي النَّدَوات السياسية والعِلمية والثقافية الدولية. كذلك فإن أهمَّ الأبحاث الطِّبيَّة والعلمية يتمُّ تداوُلها بالإنجليزية، وتُطبَع النَّشرات والمجلَّات المُتخصِّصة في كلِّ المجالات العِلمية بالإنجليزية الأمريكية، دُون غيرها.

وكما نجَح الأمريكيُّون في فرض الدولار كعُملة التَّداول الأساسية في العالَم، نجحوا أيضًا في جَعْل لُغتِهم هي لُغة التَّفاهُم الرئيسية في كلِّ المجالات؛ فالعقود الكبرى والاتِّفاقات الدولية والكِتابات العِلمية صارت تُكتَب بالإنجليزية. وقد أصبح من الصَّعب الآن على أيِّ إنسانٍ يسعى للانفِتاح على عالَم المَعرفة في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة أن يَجهَل الإنجليزية جهلًا تامًّا.

لكن ما لا يُدرِكه الكثيرون هو أن السَّطوة اللُّغوية لا تَعني بالضرورة الانتشار؛ فاللغة الإنجليزية برَغم مكانتها ليست أكثر لُغات العالَم تداولًا كما هو واضِح من الجدول:

نسبة الناطِقين بأهمِّ لُغات العالَم كلُغةٍ أم (النسبة بالمائة).
اللغة العام
١٩٥٨ ١٩٧٠ ١٩٨٠ ١٩٩٢ ٢٠٠٠
الصينية (مندارين) ١٥٫٦ ١٦٫٦ ١٥٫٨ ١٥٫٢ ١٤٫٥
الهندية ٥٫٢ ٥٫٣ ٥٫٣ ٦٫٤ ٦٫١
الإنجليزية ٩٫٨ ٩٫١ ٨٫٧ ٧٫٦ ٥٫٧
الإسبانية ٥ ٥٫٢ ٥٫٥ ٦٫١ ٥٫٤
العربية ٢٫٧ ٢٫٩ ٣٫٣ ٣٫٥ ٤
الروسية ٥٫٥ ٥٫٦ ٦ ٤٫٩ ٢٫٨
  • (١)

    لا تُوجَد إحصائيات مَوثوق بها عن اللُّغات منذ عام ٢٠٠٠.

  • (٢)

    يرجِع الانخِفاض الحادُّ في عدد الناطقين بالرُّوسية في عام ٢٠٠٠ إلى أن العديد من دول الاتحاد السوفيتي السابِق لم تعُد تَعتبِر الروسية لُغَتَها الأم.

•••

ويتَّضِح من الجدول أن اللُّغة الإنجليزية هي الثالثة في العالَم من حيث عدد المُتحدِّثين بها، بعد لُغة الماندارين أكثر لغات الصين انتشارًا، واللُّغة الهِندية.

والأهمُّ من ذلك هو أن عدد الناطِقين بالإنجليزية كلُغةٍ أم قد تضاءل في السَّنوات السَّابِقة نِسبةً إلى سُكَّان الكُرة الأرضية لحِساب لُغاتٍ أخرى من بينها العربية. لكن المُهمَّ أن الإنجليزية أصبحت لُغة الرِّجال والنِّساء المُؤثِّرين في العالَم؛ فرِجال السياسة والدُّبلوماسية، ورِجال المال والاقتصاد والعلوم يَتفاهَمون فيما بينهم بالإنجليزية. وباختصارِ فإنَّه إذا أراد أيُّ شَخصَين مُختلِفين في اللغة والثقافة التفاهُم فيما بينهما، فإنهما غالبًا ما يلجآن إلى الإنجليزية، كلُغةٍ مُشتركة بينهما.

وكان من الطبيعي أن يأتي ردُّ الفعل الرافِض لهَيمنة الإنجليزية من أصحاب اللُّغة الثانية في العالَم من حيث الأهميَّة، وهي الفرنسية. وكانت الفرنسية حتى مُنتصَف القرن العِشرين مُنافِسًا عتيدًا للإنجليزية، ثم تراجَعَت بصورةٍ واضِحة، خاصَّةً بعد العُدوان الثُّلاثي على مصر عندما أصبَحَت إنجلترا وفرنْسا دَولَتَين من الدَّرجة الثانية.

وبهدف مُواجَهة احتِكار الأنجلو-أمريكية أنشأت فرنسا تجَمُّعًا أطلَقَت عليه اسم «الفرانكوفونية» أي الناطِقين بالفرنسية. والهدَف الرَّسمي لهذا التَّجمُّع هو الدِّفاع عن التنوُّع الثقافي ورَفْض سيطرة لُغةٍ واحدة وقوَّة واحدة على العالمَ. وقد انضمَّت لهذا التجمُّع سبعُ دولٍ عربية من بينها مصر. ولأن الناطِقين بالفرنسية في مصر عددُهم محدود للغاية، فمن الواضِح أن قرار انضمامها كان وراءه هدَف سياسي، لكنه يقوم على البُعد اللُّغوي.

ومن يُراقِب تطوُّر اللُّغات في العالَم يتَّضِح له أن الهَيكل العام لاستِخدام اللُّغات الحيَّة، لم يتغيَّر كثيرًا خلال النِّصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم، كما يتَّضِح من الجدول السابق.

هناك لُغات انخفَضت نِسبة مُستخدِميها قليلًا بفِعل النموِّ الدِّيمغرافي لدول الجنوب على حِساب دول الشَّمال الغنيَّة؛ فلُغات مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية واليابانية عانَت من هُبوطٍ نِسبيٍّ في نِسبة الناطِقين بها.

وفي مدينة دافوس السويسرية يَجتمِع سنويًّا في الشِّتاء نحوَ ألفٍ من أهمِّ مُتَّخِذي القرار في العالَم وخاصَّةً في المجال الاقتصادي. ويصِل الوَزن المالي لمُرتادي مُنتدى دافوس إلى رقمٍ فلَكي يزيد على مئات المِليارات من الدُّولارات. وخلال أسبوع تَدور ندَوات وحلقات بحثٍ بين هؤلاء وبعض أبرَز رجال السياسة الدَّوليِّين حول قضايا العالَم الأساسية.

ولأنَّ المُشاركين في المُنتدى يَنتمون لعشرات الدول الناطقة بلُغاتٍ مُختلفة، فإن السؤال هو: كيف يتفاهَم كلُّ هؤلاء؟ خاصَّةً وأنه من مبادئ دافوس ألَّا تُوجَد أيَّة ترجَمةٍ في اللقاءات والنَّدوات.

والإجابة ببساطة هي أنَّ اللُّغة الوحيدة المُستخدَمة في النَّدَوات واللقاءات هي: الإنجليزية. وعلى الرغم من مُحاولات الناطِقين باللُّغة الفرنسية في تنويع لُغات المُنتدى وإدخال الفرنسية ولو كلُغةٍ ثانويَّة للتَّعامُل بها، إلَّا أن الإنجليزية لازالت تُسيطر بلا مُنازِع على المُشاركين في مُنتدى دافوس. وينطبِق ذلك على غالِبيَّة النَّدوات والمُؤتمرات العِلمية والثقافية الدَّوليَّة في العالم.

ومن المشروع أن نتساءل: لماذا نجَحَت الإنجليزية في أن تُهيمِن تمامًا، وتُصبِح لغةَ التَّعامُل الدولي في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين؟

لا نَشكُّ في أنَّ السَّبَبَ الأول كما قُلنا هو أنَّ الولايات المُتَّحِدة صارت بعد انهِيار الاتحاد السوفيتي القوَّةَ الأولى في العالم، بل إنها أصبَحَت القوة المُتحكِّمة في مصائر الشعوب. ولا تكتفي أمريكا ببسْطِ سيطرتها سياسيًّا واقتصاديًّا فقط، ولكنَّها صارت أكبر مُصدِّرٍ للثقافة بالمعنى الواسِع للكلمة؛ فهي أكبر مُصدِّر للأفلام والأغاني والبرامج التليفزيونية والسي دي والإنترنت.

وقبلَها، كانت الإمبراطورية البريطانية التي لا تَغيب عنها الشمس تسعى لنشر ثقافتها ولُغتها، لكن العصر اختلَف حيث أصبَحَت أدوات الاتِّصال والإعلام والمَعرفة غولًا يسمَح اليوم لأمريكا بتحقيق ما فشِلَت فيه بريطانيا في القرن التاسع عشر وبداية العشرين. ويصِل إجمالي الناتج القومي لمجموع الدول الناطقة بالإنجليزية اليوم إلى ٣١٪ من الناتج القومي العالمي. أما الدول الناطِقة بالعربية فلا تُمثِّل سوى ٦٫٦٪ من إجمالي الناتج القومي العالمي.

لكن القوَّة ليست السبب الأوحد في السيطرة اللُّغوية؛ فمن أهمِّ ما يُساعد على هَيمنة الإنجليزية اليوم السُّهولة الشديدة لهذه اللُّغة خاصَّةً بعد أن عبَرَت المُحيط الأطلنطي من موطِنِها الأصلي بريطانيا إلى قارَّة أمريكا الشمالية؛ فقد اجتهد الأمريكيون ليَجعلوا من لُغة شيكسبير لُغةً مُبسَّطة ومُباشرة، أصبحت أداةً طيِّعةً يستطيع أيُّ طفلٍ أن يتعلَّم قواعِدها ويمتلِك ناصِيَتها، دون أن يُعاني الأمرَّين كما هو الحال بالنِّسبة لأطفال الوطن العربي.

وقد طبَّقوا على اللُّغة ما نادى به الدكتور طه حسين للعربيَّة في بداية القرن الماضي؛ فهم يجتِهدون لكِتابتِها حسبما تُنطَق وليس حسب القواعد الكتابية القديمة المَبنيَّة على أصل تَكوين الكلِمات. وكَم لاقى طه حسين من هُجومٍ وسُخرية بسبب اقتراحه الذي تُطبِّقه اليوم القوى العُظمى اللُّغوية الأولى في العالَم.

وسُهولة اللُّغة واستجابَتُها لاحتياجات الإنسان في التعبير عن نفسه جَعلَت الكثيرين يُقبِلون على تعلُّم الإنجليزية؛ فهي لا تَستغرِق وقتًا وجُهدًا كلُغاتٍ أخرى مُهمَّة، مثل الفرنسية والإسبانية، بالإضافة إلى تفوُّقِها في الأهميَّة العِملية على كلِّ لُغات العالَم اليوم.

وقد حاوَلَت شُعوب أخرى لها حضارات قديمة وراسِخة أن تَقوم هي الأخرى بعملية مُواءمةٍ لُغوية. حاوَلَ الفرنسيُّون والألمان والإيطاليون، لكنَّهم لم ينجَحوا نجاح الأمريكيين في تحقيق ذلك، على الرَّغم من جُهودهم الضَّخمة لتطويع لُغاتِهم لمُتطلَّبات العصر الحديث.

ففي الفرنسية مثلًا أكثر من عشر تصريفاتٍ مُختلِفة للأفعال تُعبِّر بِدقَّةٍ شديدة عن زَمن الفعل، فيُمكِن بالفرنسية مثلًا أن تتحدَّث عن حدَثَين مُتتالِيَين وَقَعا في الماضي فتعرِف من مُجرَّد تصريف الفعل أيُّهما السَّابق على الآخر. وأذكُر كم عانَيتُ في فصول الدِّراسة لحِفظ هذه التَّصريفات المُعقَّدة نِسبيًّا، والتي كانت مُستخدَمة وشائِعةً حتى مُنتصَف القرن العشرين.

أما اليوم فقد صارت اللُّغة الفرنسية أكثر سُهولةً واختفت غالبيَّة التَّصريفات المُعقَّدة، ولم يعُد هناك إلا بِضعُ تصريفاتٍ تُعبِّر عن الأزمِنة المطلوبة من ماضٍ ومُضارع ومُستقبل.

ومع كلِّ هذه الجهود لازالت الفرنسية لغةً صعبة مُقارنةً بالأمريكية، فقد نجَح الأمريكيُّون في غربَلَة اللُّغة الإنجليزية وإزالة شَوائبها وقاموا بعمليَّةٍ تُشبِه ما يفعلُه الجزَّار الماهِر عندما «يُشفِّي» اللُّحوم، فيستبعِد ما لا يُفيد ولا يحتفِظ إلا بالضروريِّ والنَّافِع.

والمُهمُّ أن التطوير الضَّخم الذي أدخلَه الأمريكيُّون على الإنجليزية لا يؤدِّي إطلاقًا إلى عجزِها عن التَّعبير الأدبيِّ البليغ؛ فقد أبدَع بها كُتَّاب أمريكيُّون عِظام مثل همنجواي وجون شتاينيك وأرثر ميلر. وقد ارتفَع هؤلاء باللُّغة وبالمعاني إلى مُستوياتٍ راقيةٍ تتناسَب مع العصر وتتوافَق مع مِزاج الإنسان المُعاصر، ممَّا يدلُّ على أنه لا تُوجَد أية علاقة بين البلاغة وتعقيد اللُّغة وكَثْرة مُترادِفاتها.

وقد وَضَعت الجمعية الأمريكية لأساتذة اللُّغة الفرنسية في نشرة بعنوان «أهم اللغات» (نشرة رقم ٣ لعام ١٩٩٩م) ستَّةَ معايير لقِياس أهميَّة كلِّ لُغةٍ وهي الآتية:
  • (أ)

    عدد المُتحدِّثين بها كلُغةٍ أم.

  • (ب)

    عدَد المُتحدِّثين بها كلُغةٍ ثانوية.

  • (جـ)

    عدد الدُّول وعدَدُ سكانِها الذين يتحدَّثون اللُّغة.

  • (د)

    عدد المجالات الأساسيَّة (العلوم، الدُّبلوماسية وغيرها) التي تُستخدَم فيها اللُّغة على الصعيد الدولي.

  • (هـ)

    القوة الاقتصادية للدُّول التي تَستخدِم هذه اللُّغة.

  • (و)

    الإشعاع الثقافي والأدَبي للدُّول التي تَستخدِم هذه اللُّغة.

ومن هذا المُنطلَق فقد وَضعوا لكلِّ لغةٍ عددًا من النِّقاط تعكِس أهميَّتها. وجاء ترتيب أهميَّة اللُّغات كالآتي:

اللغة عدد النقاط
(١) الإنجليزية ٣٧
(٢) الفرنسية ٢٣
(٣) الإسبانية ٢٠
(٤) الرُّوسية ١٦
(٥) العربية ١٤
(٦) الصِّينية ١٣
(٧) الألمانية ١٢
(٨) اليابانية ١٠
(٩) البُرتغاليَّة ١٠
(١٠) الهندو أوردية ٩

وإذا أردْنا أن نعرِف مكانة العربية بين لُغات العالم من خلال بعض المعايير الهامَّة، يتَّضِح لنا ما يلي: أنها الخامسة في العالَم من حيث عدد الناطِقين بها، والثامِنة من حيث إجمالي الناتج القومي.

لكن هناك مجالاتٍ تتراجَع فيها لُغة الضاد بشكلٍ لافتٍ للنظر، ففي مجال النشر يتمُّ سنويًّا طِباعة ما يقرُب من ٧٠٠ ألف كتاب. وتقِف العربية في مَوقعٍ لا تُحسَد عليه؛ حيث إنها رقم ٢٢ من بين لُغاتِ العالَم في هذا المجال.

أما في شبكة الإنترنت التي تُعدُّ من المعايير الهامَّة للتقدُّم، فالإنجليزية هي الوَحش المُسيطِر بنِسبةٍ تزيد على ٨٤٪ من إجمالي ما يتمُّ تداوُله على شاشات الكمبيوتر في العالم. وهناك فَجوةٌ ضَخمة بينها وبين اللُّغة الثانية وهي الألمانية التي لا يزيد حجمُها عن ٤٫٥٪ تليها اليابانية (٣٫١) ثم الفرنسية (١٫٨). أما العربية فلم أجِد لها أثرًا بين الدُّول الخمس عشرةَ الأولى الأكثر استِخدامًا على الإنترنت.

وإذا كان تعبير لُغة عالَمية لا ينطبِق الآن بِدِقَّة على أيٍّ من لُغات العالَم في بداية القرن الحادي والعشرين، فإن أقرَب لُغةٍ إلى هذا المعنى هي بالتأكيد الأنجلو-الأمريكية؛ فقد نجَحَت هذه اللُّغة في أن تكون قاسمًا مُشتركًا أعظمَ بين كلِّ الذين يتطلَّب عملُهم الاتِّصال بآخرين من دُولٍ أو ثقافاتٍ أخرى. وبالتالي فالأنجلو-الأمريكية هي المُرشَّحة لتحقيق حُلم الإسبيرنانتو، أي أن تكون لُغَةَ تَفاهُمٍ عالَمية.

ما نُريد أن نَستخلِصه من الحديث عن لُغةٍ عالمية هو أن سيطرة الأنجلو-أمريكية لا تأتي فقط من كونِها لُغة الدَّولة المُهيمِنة في عالم ما بعد الحرب الباردة، وإنما أيضًا لأنها لُغة سهلة، طيِّعة، يتطلَّب تَعلُّم مبادئها جُهدًا أقلَّ من أيِّ لغةٍ أخرى في العالَم. وبالتالي فإنَّ من يُتقِنها يَصِل إلى المعرفة من أقصر الطرق، على عكس العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤