الفصل الخامس

المَسيحيُّون والعربية

من أخطر السَّخافات التي تَستقي أصولها من فِكرة قُدسيَّة العربية، هي أن المَسيحيِّين لا عَلاقة لهم بلُغة الضاد، وأن المُسلمين وحدَهم هم مُلَّاك العربية والعارِفون بأسرارها وآدابها. ومن الغريب أنَّ الاضطِلاع بتدريس العربية بالمَدارس يقتصِر على المُسلمين وحدَهم دون المَسيحيِّين، بحُجَّة أنَّ الدين يقترِن باللُّغة وأن مُدرِّس اللغة لا بُدَّ أن يقوم بتدريس الدين كذلك. وقد استقرَّت هذه الأفكار في الأذهان على أنَّها واقِع لا يُجادَل، وأصبح حَجْب تدريس العربية عن المَسيحيِّين تكريسًا لفِكرة قُدسيَّة اللغة العربية.

لكن هذا الكلام لا يَثبُت أمام حقائق دَامِغة لا يُمكن إنكارها، فالمَسيحيُّون العرب لعِبوا طوال حِقَب التاريخ دَورًا هامًّا في الحفاظ على اللغة العربية وتطويرها، وفي إبراز كُنوزها جنبًا إلى جنبٍ مع إخوانهم المُسلمين، بل إن المَسيحيين بدءوا هذا الدَّور قبل نُزول القرآن على سيِّدنا محمد.

فالعربية بدأت قبل الإسلام بعدَّة قُرون وتبلْوَرت في صُورتها التي نَعرِفها الآن قبل نحو مائة عامٍ من البعثة النبويَّة الشريفة. ففي العصر الجاهلي كان هناك شُعراء على أرقى مُستوًى يَنظُمون الشعر كسلاسل الذَّهَب، ويُلهِبون المَشاعِر والعقول بأجمل المعاني.

وكان مُعظَم هؤلاء من عَبَدَة الأوثان، لكن بعضهم كانوا من المَسيحيِّين، وحتى من اليهود. ومن أشهر الشُّعراء اليهود السَّمَوأل الذي يُعدُّ من فَطاحِل الشعر العربي القديم.

وكان من أبرز شُعراء ما قبل الإسلام عديُّ بن زيد النَّصراني الذي كان يَحظى بلَقَب «شاعر الحيرة الأوحد»؛ نظرًا لمكانته الشعرية الضخمة وتَفرُّد أسلوبه.

أما في جِيل المُخضرَمين، فإن واحدًا من أعلى الشُّعراء مكانةً كان مَسيحيًّا وهو الأعشى، وقد ولد قبل عام ٥٧٠م، ومات بعد ٦٢٥م بقليل حسب أفضل المَصادر، وكان من أكثر العرَب بلاغةً وفَصاحةً لُغوية.

وفي العصر الأُموي لمَع نجم عدَّة شُعراء مَسيحيين كان أبرزُهم الأخطل والقطامي، وكانا يَدِينان بالمَسيحية. ويحظى الأخطل بمكانةٍ مُتميِّزة في تاريخ الأدب العربي. وفي الماضي كان رُواة وذوَّاقة الأدَب مثل حمَّاد الراوية وأبي عمرو بن العلاء يُقدِّمونه على غالبيَّة الشُّعراء المُسلمين ويَعتبرونه فحلًا ذا نسبٍ عربيٍّ صحيح ولُغة عربية رصينة. وكان الأخطل يقول: «إن العالِم بالشِّعر لا يُبالي، وحق الصليب، إذا مرَّ به البيت السائر الجيِّد، أمُسلِم قاله أم نَصراني.»

وقد قام الأب لويس شيخو بتأليف كِتاب بعنوان «شُعراء النَّصرانية في الجاهلية» يُعدِّد فيه من برزوا في الشعر قبل ظهور الإسلام، لكن يبدو أنه من فرط حماسته جعَل كلَّ من لم يثبُت من شعره مُباشرة أنه وَثنيٌّ، يَدِين بالمسيحية. وهو تَجاوُز غير مَقبول علميًّا بطبيعة الحال، وبالتالي فقد جعل مُعظم شُعراء العرَب قبل الإسلام من المَسيحيين. وكما جاء بمُقدِّمة الكِتاب، فقد تندَّر بذلك مارون عبود عندما قال عن لويس شيخو: «سمِعنا بكتابه شُعراء النَّصرانية فاستقدَمْناه، فإذا كلُّ من عرفناهم من شُعراء جاهليِّين قد خرَجوا من تحتِ سِنِّ قلَمِه نَصارى. كان التَّعميد بالماء فإذا به صار بالحِبر.»

•••

وكما أثبَتُّ في كِتاب «الداء العربي»، فقد هدَم الإسلام الأُسُسَ القبليَّةَ التي قام عليها مُجتمع الجزيرة العربية في الجاهلية، فاستقرَّت بعد ظهوره مُثُل مُختلِفة تجعل لتقييم الإنسان مَعايير جديدة تمامًا، لكنَّه سُرعان ما عاد الفِكر القبَلي يُطلُّ برأسه من جديد، وعادت العصبيَّة القبلية تُسيطر على العقول، وخاصَّةً مع تولِّي الأُمويِّين مقاليد الحُكم. وكانت العصبية العربية تُعطي فرصة للشُّعراء من غير المُسلمين للنُّبوغ في مناخٍ يُقيِّم الناس أساسًا بمِعيار العِرْق والانتماء العَشائري.

ومع العباسيِّين تغيَّرت الأمور وضعُفت شَوكة العصبية العربية شيئًا فشيئًا وخاصَّةً منذ ولاية المُعتصِم (٧٩٥–٨٤٢م) أي بعد نحو قرنَين من وفاة الرسول، وغلبت عندئذٍ الصِّبغة الدِّينية على الخِلافة مع سطوة الأعاجِم الذين كانوا يُزايدون في الدِّين نظرًا لأنهم يَستمدُّون قوَّتَهم وشرعيَّتَهم منه، فهم لا يستطيعون إثبات انتمائهم لقبائل عربية أصيلة، ولا تجري في دمائهم قطرةٌ عربية واحدة.

وفي هذه الظروف ظهر تيَّار الشعوبية الذي يُناصِب العرَب العداء، كردِّ فعلٍ على احتِكارِهم للسُّلطة والثقافة ولكلِّ الأمور العامَّة منذ بداية الدولة الإسلامية. وقد تعامل الأعاجم بحساسيةٍ شديدة مع اللغة العربية واضطُرُّوا لإعلاء شأنِها بل والمُزايَدَة في ذلك؛ نظرًا لأنهم يُريدون التأكيد على صِحَّة إسلامهم وتَمسُّكهم بالدِّين.

هنا أخذت اللُّغة تَصطبِغ بِصبغةٍ دينيَّةٍ مُقدَّسة، وبدأت فِكرة أنَّ العربيَّة هي لُغة القرآن وأنَّها للمسلمين دون غيرهم من أبناء البشر. وظهرَت مقولة أنَّ «العربية لا تَتنَصَّر.» وفكرة أن النَّصرانيَّة والبَيان العربي لا يَجتمِعان.

ويروي بُطرس البُستاني في كتاب «أدباء العرب» (ج٣: الأندلس وعصر الانبِعاث) أنه عندما طلَب داوود باشا صاحِب العِراق من الشاعر الشيخ صالح التَّميمي أن يُعارِض قصيدة للمُعلِّم بُطرس كرامة اعتذَر بقوله:

عَهِدْناك تَعفو عن مُسيءٍ تَعَذَّرا
ألا فاعفِنا من رَدِّ شعرٍ تنَصَّرا

ولفظة «رد» هنا بمعنى مُعارضة. ومن الواضِح أنَّ صاحِب هذا البيت لا يرضى بأن يُقدِم مَسيحيٌّ على كِتابة الشعر؛ فالشعر واللغة في نظره حِكر على المسلمين وحدَهم، وليس من حقِّ المَسيحيين أن يَخوضوا فيهما.

وعندما اكتملَت سَيطرة العناصر غير العربية على الدَّولة في العصر العباسي، كادت دِراسة اللُّغة تقتصِر على المُسلمين وحدَهم؛ نظرًا لأنها تتمُّ في المساجد والمدارس الدينية، وارتبطَت بحِفظ القرآن.

ولجأ المَسيحيُّون إلى العُلوم فَبَرَعوا فيها وظهرَت أجيالٌ مِن الأطباء والفلاسفة وعلماء الرياضيات استَعان بهم الخُلفاء والأمراء. أما المُسلمون فكادوا يَغيبون عن ساحة العِلم ودراسته في مُناخٍ من التردِّي الحضاري.

وقد حاوَل بعض المَسيحيِّين مُحاكاة الكُتَّاب المُسلمين فنَظَموا القصائد والبديعيَّات في مَدْح السيد المَسيح وحوارِيِّيه باللُّغة العربية. وكان أشهَر هؤلاء المُطران جرمانوس فرَحات والخُوري نيقولاوس الصائغ صاحِب أول بديعيَّة مَسيحية باللغة العربية.

•••

ولم يقتصر إسهام المَسيحيِّين في الجاهليَّة على نَظْم الشعر والارتفاع باللُّغة العربية إلى مستوياتٍ أرقى، فقد لعِبوا دورًا في غاية الأهمية في بلْوَرة الكِتابة. وكما هو معروف فإن الأُمِّيَّة كانت غالبةً على العرَب في جاهليَّتِهم، ولم يكن عرَب البادِية يَشعرون بأهميَّة الكتابة. وكان أكثر من اهتمَّ بالكتابة أهل اليَمن وعُرِف خطُّهم باسم المُسنَد الحِمْيَري.

أما أهل الشمال فقد كانت الكِتابة تُستخدَم في أضيَق نطاقٍ ولأسبابٍ تجارية أو ما شابَه ذلك، وخاصَّةً في المُدن الكبيرة مثل مكة والطائف ويَثْرِب. ويتَّفق علماء اللغة على أن المَسيحيين كانوا وراء تطوُّر الكتابة وخاصَّةً في الحيرة وما جاوَرَها. ويُرجِّح المؤرخون أن القرشيين تعلَّموا خطَّ الجَزم من نَصارى الحيرة في رَحَلاتهم التجارية إلى العراق فحملوه إلى مكة فظهرَتْ فيها الكِتابة قبل الإسلام.

وكان من أوائل الذين عُرِف عنهم الكتابة بالعربية زيد بن حماد، وعاش نحو عام ٥٠٠ ميلاديًّا، أي قبل نحو ٧٠ عامًا من مَولد الرَّسول، ثم ابنُه الشاعر عدي بن زيد، المَذكور من قبل، وكلاهما مَسيحيَّان.

•••

وبعد قرونٍ منذ هذا العهد البعيد أسهَم المَسيحيُّون في أحد أهمِّ الأنشطة الثقافية التي كان لها تأثير ضخم على اللُّغة وهي التَّرجمة. وهناك دِراسات عديدة عن أثر حرَكة الترجمة وبَيت الحِكمة في تَوهُّج ازدِهار الحضارة العربية الإسلامية. لكن أثرَها الهامَّ في اللُّغة لم يُدرَس حتى الآن بما فيه الكِفاية.

وقد ظهَرَت بشائر الاتجاه إلى الترجمة عن اللُّغات الأخرى في العصر الأموي، لكنَّها لم تتحوَّل إلى حركةٍ مُنتظِمة إلَّا مع العبَّاسيِّين، حتى بلَغَت عصرَها الذَّهبيَّ في عهد المأمون مع إنشاء بيت الحكمة.

وتكاد حركة التَّرجمة إلى العربية في هذا العصر تقتصِر على المَسيحيين دون غيرهم. وكان مُعظَم المُترجِمين الذين برَعوا في هذا العصر من السُّريان النساطرة. ومن بينهم أبناء بختيشوع، وإسحق بن حُنين بن إسحق، ويوحنَّا بن البطريق، ويوحنَّا بن ماسويه، على سبيل المِثال لا الحصر. وكان يوحنَّا بن ماسَويه، طبيب الخُلفاء، يتولَّى إدارة بيت الحِكمة مما يدلُّ على المكانة التي كان يَحظى بها المَسيحيُّون في الحياة الثقافية في هذا العصر المُتألِّق حضاريًّا.

لكن أوسعَ المُترجِمين صِيتًا وأكثرَهم نشاطًا كان حُنين بن إسحق (٨٠٨–٨٧٣م) وهو من النساطرة، وقد وُلِد بالحيرة وعاش في بغداد وكان نَجم نُجوم بيت الحِكمة. كما كان من ألمَعِ المُترجِمين أيضًا ابن لوقا (٨٣٠–٩١٢م) المولود في بعلبك، وهو ملَكي. كما برَز يحيى بن عدي (٨٩٣–٩٧٤م) المُلقَّب بالمَنطقي.

وكما هو معروف فقد تُرجِمت الكثير من أعمال فطاحِل الفكر الإغريقي من اليونانية إلى السُّريانية قبل ظهور الإسلام وبعد ذلك. لكن عملية الترجمة إلى العربية لِعُيون الكُتُب الفلسفية والعِلميَّة لم تبدأ بطريقةٍ مَنهجيَّة إلَّا في مُنتصَف القرن الثامن الميلادي.

ويورِد كِتاب «العرَب من الرسالة إلى التاريخ» معلوماتٍ قَيِّمةً في هذا المجال مُستنِدًا إلى مراجِع عربية أهمُّها الفِهرست لابن النَّديم وتاريخ الحُكماء لابن القَطفي.

وطِبقًا للمعلومات الوارِدة في هذه المَراجِع فقد اضطلَع بعمليَّة الترجمة إلى العربية ٥٦ مُترجِمًا أفنَوا حياتَهم لأداء هذه المُهمَّة، وكانوا كلُّهم من المَسيحيين. ويقول كِتاب «العرب من الرِّسالة إلى التاريخ»: إنه كان هُناك ١٢ مُترجمًا خلال النِّصف الثاني من القرن الثامن، ثم ٣٠ خلال القَرن التاسِع، وهو العصر الذهبي للتَّرجمة ثم ١٤ في القَرن العاشر. وهو يُصنِّفُهم كالتالي: ٣٥ من النَّساطِرة و١٠ من اليَعاقِبة و١٠ مَلكِيِّين وماروني واحد.

وكان لهؤلاء إسهام ضَخم في إضفاء آفاقٍ جديدة ليس للعَقل العربي فحسب، وإنما للُّغة العربية كذلك، فقد اشتقُّوا كلماتٍ جديدة على لُغة العرَب التقليدية، فأضفَوا بذلك مَزيدًا من الحيويَّة والمُرونة على العربية التي كانت آنذاك أرقى لُغات العالم قاطِبة.

وقد فتح هؤلاء المُترجِمون الباب على مِصراعَيه أمام عُلَماء العرَب الأفذاذ من أمثال الفارابي وابن سينا وغيرهم. فالتراكيب والكلِمات التي استحدَثها المُترجِمون خلال نقلِهم من علماء وفلاسفة الإغريق ساعدَت عُلماء العرَب على صياغة اكتشافاتهم ونظريَّاتهم التي كانت فتحًا في كافة المجالات العِلميَّة آنذاك.

•••

وعاد المَسيحيُّون إلى القيام بدَور إيجابي فعَّال بعد ذلك بِعدَّة قرون أيضًا. وكان دَورهم هذه المرَّة هو استِقدام صناعةٍ جديدة على المنطقة، كان لها أبلَغ الأثَر على اللُّغة العربية، وهي الطباعة. وقد يتصوَّر البعض أنهم جَلَبوا مطابع تَطبع بالحروف اللاتينية، لكن الواقِع أنهم اهتمُّوا بجَلْب مطابِع بالحروف العربية، وهي اللغة التي يحبُّونها ويعتبرونها لُغتَهم الأم. وقد يتصوَّر البعض أيضًا أن جلْب المَسيحيِّين لمطابِع عربية في الشرق كان بِهدَف تجاريٍّ بحت، وليس حُبًّا في اللغة العربية، لكن ذلك أيضًا بعيد عن الحقيقة، حيث لم تكن المَطابِع آنذاك مُدِرَّةً للكسْب كما هو الحال منذ الستينيَّات من القرن الماضي.

والمُلاحظة الجديرة بالذِّكر هنا أن الطِّباعة بالحرُوف العربية نشأت في أوروبا أولًا خلال القرن السادس عشر على يدِ الإيطاليين بِصفةٍ خاصَّة. لكن ما يهمُّنا هنا إسهام المَسيحيِّين العرب في إدخال الطباعة وانتشارها في العالم العربي.

ويُرجِّح مؤرخو الطباعة أن أول نصٍّ طُبِع بالعربية كان «كتاب المزامير» وتمَّت طباعته عام ١٦١٠م في دير القدِّيس أنطون قزحيا، وكان من الرُّهبان المَوارنة، وقد طُبِع باللُّغَتين السُّريانية والعربية.

أما أول مَطبعة عربية صِرفة في الشرق فقد أنشِئت بحَلَب سنة ١٦٩٨م على يد البَطريَرك أثناسيوس الرابع. ويُورِد بُطرس البُستاني في كتاب «أدباء العرب» (ج٣) أنه قد تقلَّب مِرارًا بين الأرثوذوكسية والكاثوليكية الملَكية.

وكانت أول مطبعةٍ عربية في لِبنان مطبعة مار يوحنَّا الصايغ من الرُّوم المَلَكيِّين، وقد أنشِئت عام ١٧٣٢م في بَلدة الشُّوير ثُمَّ مطبعة القدِّيس جاورجيوس، وهو من الرُّوم الأرثوذكس وأنشأها في بيروت عام ١٧٥٣م. ومن الواضِح أنه كانت هناك مُنافسة بين المِلَل المَسيحيَّة المُختلفة للتأكيد على هُويَّتهم العربية.

وفي عام ١٨٧٤م ظهَرَت في بيروت المَطبعة الأمريكية ثُمَّ المَطبعة الكاثوليكيَّة. وبعد ذلك أنشِئت مَطبعة المَعارف سنة ١٨٦٧م للمُعلِّم بُطرس البُستاني وخليل سركيس. وأنشأ هذا الأخير بعد ذلك المَطبعة الأدبيَّة عام ١٨٧٤م.

وفي مصر بدأت الطِّباعة مع الحملة الفرنسية (١٧٩٨–١٨٠١م)، وأنشأ محمد علي مَطبعة بولاق التي سُميِّت المَطبعة الأميرية. لكن أول مطبعةٍ أهليَّة في مصر كانت المطبعة القِبطيَّة التي أنشأها الأنبا كيرلُّس الرابع سنة ١٨٦٠م.

وقد انتشرَت المَطابِع في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨م)، لكن الرِّيادة في هذا المَجال كانت للمَسيحيِّين فساهَموا بذلك في توفير الأداة اللازِمة لنَشر فِكر النَّهضة، ولازدِهار الصحافة، وما واكَب ذلك من تَطوُّرٍ حاسِم في اللُّغة العربية.

ثم جاء عصر النهضة فكان للمَسيحيِّين مرَّةً أخرى دَور في مُنتهى الأهمية في بَعْث اللغة العربية وآدابها، وكانوا ركنًا من أهمِّ أركان الانتِعاشة الفكرية واللغوية في القرنَين التاسِع عشر والعشرين، بل إنَّ بعضهم كانوا من رُوَّاد حركة التطوُّر الشِّعري التي ظهرَت على استِحياء مع بداية القرن التاسِع عشر. وكان من أشهر هؤلاء الروَّاد نيقولا الترك (١٧٦٣–١٨٢٨م) وبُطرس كرامة (١٧٧٤–١٨٥١م) وهما من أبرَز من سَعَوا لإحياء الشِّعر العربي وبعْث تُراثه العظيم.

وعاد المَسيحيُّون إلى الصُّفوف الأولى في الإبداع بأجمَلِ وأرقِّ القصائد بعد طُول انقطاعٍ بسبب التعصُّب اللغوي الذي عانَوا منه طويلًا وحرَمَهم من استِخدام العربية بحُجَّة أنها لُغةُ المُسلمين وحدَهم. فظهر خليل مُطران وبِشارة الخُوري الملقَّب بالأخطَل الصَّغير، وكانوا من أعظم شعراء العرب في القرن العِشرين.

كما تفجَّرت مَوهبة شُعراء المَهجَر الذين اشتعل حَنينُهم لوطَنِهم العربي بعد أن هاجروا منه. وبزَغ نَجْم إيليَّا أبو ماضي وميخائيل نعيمة ورشيد سليم الخُوري المُلقَّب بالشاعر القُرَوي.

وربما كان ألمَعَ من هاجَروا وتركوا بَصمةً على الأدَب العربي جُبران خليل جبران (١٨٨٣–١٩٣١م)، صاحِب كتاب «النَّبِي» الذي يُعدُّ تحفةً أدبيَّة بمعنى الكلِمة. وبرغم أنَّ الجانب الأكبر من إبداعات جُبران باللُّغة الإنجليزية، إلَّا أنه ترَك شِعرًا رقيقًا سيظلُّ محفورًا في التاريخ الأدبي العربي. ومن أشهرِه ما غَنَّتهُ المُطربة اللِّبنانية فَيروز من قصيدة المَواكب:

أعطِني النَّايَ وغنِّ
فالغِنا خَير صَلاة
وأنينُ النَّاي يَبقى
بعد أن تَفنى الحياة
أعطِني النَّايَ وغنِّ
وانسَ داءً وَدواء
إنما الناسُ سُطورٌ
كُتِبَت لكن بِماء

أما دَورُهم في إنشاء وتطوير فنِّ الصحافة فهو مَعروف للجميع. وقد أسهموا جنبًا إلى جنبٍ مع إخوانهم المُسلمين في تطوير اللغة العربية وتَطويعها لمُقتضَيات الأخبار والمقالات التي نشرُوها في صُحُفهم.

ومن أقدَم دُور الصُّحف التي لازالت تلعَب دَورًا مُتميِّزًا في الصَّحافة العربية «الأهرام» و«دار الهلال». وقد أنشأ الأهرام بالإسكندرية في سنة ١٨٧٦م الأَخَوان سليم وبِشارة تَقْلا، وهُما مَسيحيَّان، ثم نقلاه إلى القاهرة عام ١٨٩٢م.

أما مجلَّة الهلال فقد أنشأها عام ١٨٩٢ جُرجي زِيدان، وهو مَسيحي لبناني نزَح مثل الأخَوَين تَقْلا من لبنان إلى مصر بسبب الاضطِهاد العُثماني.

وفي الإسكندرية صدَرَت صحيفة «المحروسة» عام ١٨٨٠م على يد أديب إسحق وسليم النقَّاش. أما المُقطَّم التي انطلَقَت من القاهرة سنة ١٨٨٩م فقد أسَّسَها ثلاثة مَسيحيِّين هم يعقوب صرُّوف وفارِس نِمر وشاهين مكاريوس. وفي القاهرة أيضًا أنشأ نقولا شحادة «الرائد المصري» عام ١٨٩٦م.

وفي عام ١٩١٠م اشترك مُسلِم ومَسيحي هما الشيخ أمين تقي الدين وأنطون الجميل في إصدار مجلَّة سياسية أدبية باسم «الزهور».

وفي لِبنان، كانت مجلَّة «الجِنان» التي أنشأها المُعلِّم بُطرس البُستاني عام ١٨٧٠م من أوائل المجلَّات السياسية الأدبيَّة التاريخية في الوطن العربي. وأنشأ ابنُه سليم البُستاني «الجنينة» التي كانت أول جريدة مُنتظِمة شِبه يوميَّة في لبنان عام ١٨٧١م.

وفي دمشق، أنشأ سليم حنَّا عنجوري سنة ١٨٨٧م مجلَّة «مرآة الأخلاق». وأنشأ جورج متَّى وجورج سمَّان سنة ١٩٠٠م مجلَّة الشمس.

وفي بغداد ظهرَت مجلَّة «زهيرة بغداد» للآباء الكرمليِّين عام ١٩٠٥م. وحتى في المَوصِل أنشِئت مجلَّة «إكليل الورود» للآباء الدُّومِنيكان عام ١٩٠٢م.

ومن الواضِح أنَّني أقتَصِر هنا على الإسهام المَسيحي وحدَه، فهناك دراسات كثيرة عن تاريخ الصحافة من المُمكِن للقارئ أن يَطلِّع عليها؛ للإلمام بهذه الصناعة التي كان لها أبلَغُ الأثَرِ على اللُّغة العربية.

ولم يكتَفِ المَسيحيُّون بالمُشاركة في إصدار الصُّحف والمجلَّات في العالم العربي، فقد كانوا سبَّاقين أيضا في إنشاء الصُّحف العربية في الخارج.

ومن الرواد الأوائل في هذا المجال رِزق الله حسُّون الذي بادَر عام ١٨٥٥م بإصدار جريدة «مرآه الأحوال» في الآستانة عاصِمة الخِلافة الإسلامية.

وأصدر أديب إسحق في باريس مجلَّة «مصر القاهرة» عام ١٨٧٩م، تَلاه خليل غانِم عام ١٨٨١م بإصدار «البصير» في عاصِمة النُّور.

أما في أمريكا فقد أصدَر اللبنانيُّون في المَهْجَر عدَّة صُحف في أواخر القرن التاسِع عشر وبِداية العِشرين لا يتَّسِع المجال لاستِعراض أسمائها هنا.

وعندما انفتَح العالَم العربي على الغَرب في عصر النَّهضة، كان المَسيحيُّون اللبنانيُّون سبَّاقين إلى ترجمة عيون الأدب الفرنسي والإنجليزي خاصَّةً إلى العربية، تمامًا كما حدث في أَوج ازدِهار الدَّولة العبَّاسية. وكان أشهر هؤلاء سليم البُستاني ونَجيب طرَّاد ونِيقولا رزق الله وطانوس عبده.

كما كان لبعض المَسيحيِّين إسهامٌ لا يُستَهان به في مجال اللغة والنَّحو، من أمثال بُطرس البُستاني والخُوري نعمة الله باخوس ونَصيف اليازجي، وله كُتُب في شرْح النَّحو والصَّرْف مثل «نار القِرى في شرْح جَوف الفِرا» و«الجُمانة في شرح الخزانة».

وهناك أدلَّة لا حصر لها على عِشق المَسيحيين للعربية ودِفاعهم عنها في مُواجَهة كلِّ مُحاولات التَّشويه.

ففي بِداية القرن العشرين ظهرَت بالعِراق مجلَّة «لغة العرب» التي نذَرَت نفسها لحِماية العربية من أيَّةِ شوائب، وللإبقاء على نَقاء اللُّغة، وكان صاحبها الأب أنسطاس الكرملي.

كما أصدَر إبراهيم اليازجي (١٨٤٧–١٩٠٦م) كتابًا بعنوان «لُغة الجرائد»، يحمِل فيه بعُنفٍ على لُغة الصحافة حِرصًا منه على لُغة الضَّاد.

ويتَّضِح من هذا الاستِعراض السريع مدى إسهام المَسيحيِّين في دَعم وتطوير اللُّغة العربية في كافَّة العصور وكلِّ المجالات، من نشأة الكِتابة إلى الأدَب إلى التَّرجَمة إلى الطباعة إلى الصحافة، جنبًا إلى جنبٍ مع إخوانِهم المُسلمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤