الفصل الثاني

ما بين التصديق والإنكار

«إنه لَمن الأشياء التي لا يجب أن تغتفر في هذا الوقت أن نصدق مثل تلك المزاعم …» (النمساوي أندرياس كازفييه ستوتز، ١٧٤٧–١٨٠٦م)

***

على الرغم من ملاحظة سقوط الأحجار السماوية قديمًا في التاريخ، فقد مر الاعتراف العلمي الصريح بوجود ظاهرة سقوط المواد الصلبة من السماء، بمنعطفاتٍ كثيرة ما بين التصديق والإنكار. ويعد المفكِّر والمؤرِّخ والفيلسوف اليوناني «أناكساجوراس» Anaxagoras، أول من ترك معلومات مدونة عن الأصل السماوي للنيازك. ولد «أناكساجوراس» في «كلازومينا»، والتي تهجَّى أيضًا كلازوميني Klazomenai أو Clazomenae، التي تقابلها في العصر الحاضر مدينة «كيليزمان» Kilizman بتركيا، في عام ٥٠٠ق.م. وتوفي في عام ٤٢٨ق.م. ويعتبر «أناكساجوراس» من أصحاب التاريخ الثري في تاريخ الفكر العلمي. وله مقولة شهيرة صدر بها «فيلكس إم. كليف» كتابه عن فلسفة «أناكساجوراس»، تقول: «كل شيء يدار بالعقل» All Has Been Arranged by Mind. ويذكر أنه أول من أدخل الفلسفة إلى أثينا، حيث نقلها من «آيونيا» Ionia في آسيا الصغرى. وحاول أن يقدم تفسيرات علمية للظواهر الطبيعية، ككسوف الشمس، وقوس قُزَح، والشهب، والشمس التي اعتبرها جسمًا ناريًّا متقدًا أكبر من «بيلوبونيس» Peloponnese، وهي شبه جزيرة كبيرة في جنوب اليونان. واتهم على إثر ذلك بالتجديف في الدين؛ ومن ثم حكم عليه بالطرد إلى مدينة «لامبساكوس» Lampsacus، التي يقابلها في الوقت الحاضر «لابيسكي» Lapseki، حيث أسس مدرسة للفلسفة كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في نشر العلم والمعرفة، طوال العقدَيْن الأخيرَيْن من حياته التي حفلت بالنشاط العلمي.١
ويعتبر بعض الباحثين أن الفيلسوف الإغريقي «دياجونس» Diogenes٢ الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، أشار إلى أن النيازك ترتبط بالنجوم؛ ومن ثم يعد ذلك اعترافًا بوجود مادة صلبة تسقط من السماء. ولا توجد إشارات أخرى معروفة في كتابات الأقدمين عن الأحجار السماوية، حتى عصر «أرسطو» (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) الذي لمس الموضوع في كتاباته عن الموضوعات الجيولوجية في مؤلفه المعروف ﺑ «الآثار العلوية»؛ حيث تطرق إليها ضمنًا في محاولته تفسير ظاهرة البرق، التي تختلط مع ظاهرة سقوط الأجسام الصلبة من السماء، معتبرها بمثابة دخان أرضي، يصعد عاليًا في الأجواء حيث يتكاثف، ليعود ويسقط ثانية على الأرض بقوة: «… والزفير الجاف عندما يخرج إلى الفضاء، وتحت ظروف خاصة يسبب الرعد والبرق والظواهر الأخرى. وفي أوقات أخرى قد يتجمع كغيمة سوداء تتكاثف لتشكل الحجارة التي تقذف بقوة نحو الأرض؛ لذا فقد سُميت «القذائف الرعدية» Thunder bolts.٣ ويذكر بعض الباحثين أن «أرسطو» أنكر ظاهرة سقوط أجسام صلبة من السماء، وفسر ظاهرة سقوط بعض الأحجار من السماء، كما في حادثة سقوط نيزك «إيجوسبوتامي» التي سبق الإشارة إليها، إلى أنها ناتجة عن اندفاع قطع من الصخور الأرضية بالرياح، ثم ما تلبث أن تسقط ثانية على الأرض، مما كان له أثرٌ في تراجع الاعتقاد بوجود ظاهرة سقوط الأحجار السماوية على الأرض.٤
وتعتبر كتابات ابن سينا (القرن العاشر-الحادي عشر الميلادي) عن الصواعق؛ أهم الإسهامات المباشرة في هذا المجال، والبداية الحقيقية لميلاد علم دراسة النيازك؛ فلقد أشار — في معرض حديثه عن تكوُّن الأحجار في كتابه «الشفاء» — إلى أن النيازك تأتي من مصادر سماوية، باعتبارها ضربًا من تكون الأحجار من تحول نيران الصاعقة إلى مواد صلبة، حديدية أو حجرية. وقد خالف بذلك الآراء التي كانت شائعة آنذاك من أنها نواتج الزفير الأرضي، الذي يندفع في الجو، ثم يتكاثف ليسقط ثانية على الأرض، لكن أهم وأكبر إسهام لابن سينا في مجال تطوُّر علم النيازك، هو ما قام به من دراسة وتحليل ما اعتبره نيازك، وخلص إلى طبيعة مكوناتها المعدنية والكيميائية. ويعتبر ذلك أول محاولة معروفة من نوعها في تاريخ علم النيازك، لتحليلِ الأجسام الساقطة من السماء والوقوفِ على مكوناتها الكيميائية. ثمة إسهام آخر لابن سينا في هذا المجال؛ هو وصفه لحادثة سقوط نيزك كبير على «جوزجانان» (ضمن حدود أفغانستان الآن) في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث سجل صوت الانفجارات الهائلة التي صاحبت عملية السقوط تلك، والرعب والفزع اللذين أصابا الناس، والرجة العنيفة التي أحدثَها الجسمُ لحظة ارتطامه بالأرض. ثم تطرَّق إلى ما يعد وصفًا تفصيليًّا لتراكيب Structures النيزك، ومكوناته المعدنية، ومحاولة نقله من مكانه الذي سقط عليه، ومحاولات اقتطاع أجزاء منه ووزنه. وأشار في وصفه الجسم الساقط إلى أنه يتكوَّن من الحديد وحبيبات مستديرة صغيرة، تشبه حبات «الجاورس» (الذرة الشامية). وقد مكَّن هذا الوصف الدقيق والوافي لطبيعة ومكونات الجسم؛ الباحثين في العصر الحالي من معرفة نوع النيزك الذي سقط آنذاك، والتحقق من كونه أول نيزك يوصف في تاريخ علم النيازك، من طائفة النيازك الحديدية الحجرية (مجموعة البالاسيت).٥
واستمر الحال سجالًا في مجال علم النيازك، ما بين تقدُّم وانحسار. ومن أشد أوقات انحسار هذا العلم النصف الثاني من القرن الثامن عشر، الذي يعد عصر ازدهار العلوم المختلفة؛ فخلال تلك الفترة ساد اعتقاد يكاد يكون عامًّا ينكر ظاهرة سقوط الأحجار السماوية. ومن الأحداث المشهودة في ذلك الوقت إنكار واحدٍ من أشهر الباحثين في علم المعادن (النمساوي أندرياس كازفييه ستوتز ١٧٤٧–١٨٠٦م) لسقوط الأحجار السماوية، وسخريته من التقارير التي تتعامل مع مثل تلك الحوادث؛ إذ انتقد بشدةٍ وسخر من تقرير سجل وصفًا لحادثة سقوط نيزك حديدي في عام ١٧٨٥م على مدينة «هراشينا» التي تقع في كرواتيا الحالية.٦ حيث ذكر صراحة: «إنه لمن الأشياء التي لا يجب أن تغتفر في هذا الوقت، أن نصدق مثل تلك المزاعم.» وفي نفس ذاك الوقت تقريبًا، أنكر عالم المعادن السويسري الأصل «ج. أ. ديلوك» هذه الظاهرة، وأضاف مؤكدًا أنه: «لو رأى هو شخصيًّا حادثة سقوط حجر من السماء، فلن يصدِّق عينيه.» وشاعت في تلك الأثناء الأفكار التي تنكر ظاهرة سقوط الأحجار السماوية، حتى إن أشهر العلماء في ذلك الوقت تورطوا في إنكار هذه الظاهرة. ومن المواقف التي يجب أن يسلط عليها الضوء بهذا الخصوص، موقف الكيميائي الفرنسي المشهور «أنطوان لوران لافوزاييه» Lavoisier الذي وقع في عام ١٧٧٢م مع طائفةٍ من علماء الأكاديمية الفرنسية للعلوم مذكرةً أنكر فيها إمكانية سقوط الأحجار السماوية. وهكذا شكَّك العديد من الباحثين البارزين في ذلك الوقت، في ظاهرة سقوط النيازك، منهم كيميائيون وفيزيائيون. ومن الطريف أنهم فسَّروا ظاهرة العثور على أجسام غريبة (نيازك) مصاحبة للأضواء الشديدة التي تظهر في السماء، وتضرب الأرض؛ فسَّروها على أنها ناتجةٌ من تأثير الصواعق على الأرض.٧ وهذا يعود في الأساس إلى بعض الكتاب العرب القدامى الذين ربطوا بين الصاعقة وتكوُّن المواد الحديدية في الأرض، في محاولةٍ منهم لتفسير ظاهرة وجود الأجسام الحديدية (النيازك) التي يُعثر عليها، عقب الأضواء الخاطفة، التي تسقط من السماء على الأرض.
ومن بين الذين كانوا يرفضون بقوة فكرة سقوط الأحجار الصلبة من السماء، أي يرفضون وجود النيازك من الأساس، الرئيس الأمريكي «توماس جيفرسون» (١٧٤٣–١٨٢٦م) — ثالث رئيس في ترتيب رؤساء الولايات المتحدة، حيث شغل كرسي الرئاسة في الفترة ما بين عام ١٨٠١ إلى ١٨٠٩م — شأنه شأن غالبية علماء القرن الثامن عشر الميلادي، الذين كانوا يُنكرون ظاهرة سقوط الأحجار الصلبة من السماء، ويعتبرون أن ما يلاحظ من سقوط أحجار من السماء ما هي إلا مواد تخلَّقت في جو الأرض، أو شظايا صخور أرضية دفعتها البراكين أو الرياح إلى الجو، ثم ما تلبث أن تعود وتسقط ثانيةً على الأرض، فيراها الناس أثناء سقوطها.٨ وتفيد الروايات التي ذكرها بعض الكتاب بهذا الخصوص، أنه في سبتمبر من عام ١٨٠٣م، تلقى الرئيس الأمريكي «جيفرسون» من صديقه المقرب «أندرو إليكوت» (١٧٥٤–١٨١٣م)، سفير الولايات المتحدة آنذاك في فرنسا، خبرًا يقول إن أحجارًا من السماء سقطَتْ على فرنسا، وإن الفلاسفة الفرنسيين هناك، في حيرة ما بين إذا كانت هذه الأحجار نشأت أصلًا في الغلاف الجوي للأرض، أم أنها أحجار سماوية دفعتها البراكين القمرية للأرض من سطح القمر. وتذكر الرواية الخاصة بهذا الخبر أن «جيفرسون» تلقَّى هذه الأخبار باستخفافٍ قائلًا: إنه لا يستغرب أن يسمع عن سقوط الأحجار أو حتى الطواحين من السماء على فرنسا؛ إذ يوجد في فرنسا عددٌ كبير من الفلاسفة، أكبر من عدد الفلاسفة في أي مكانٍ آخر في العالم، لكنه أيضًا عدد كبير من الفلاسفة الكاذبين. وتلقَّى «إليكوت» بعد عامين عددًا من الدراسات الفرنسية المنشورة، التي تناولت بالدراسة والوصف تلك الأحجار التي تقول التقارير إنها شُوهِدَت وهي ساقطة من السماء. وتؤكد التقارير أنها تختلف عن الصخور الأرضية العادية، لكنها في نفس الوقت لم تحسم موضوع كونها تكوَّنت في الجو، أم أنها ساقطةٌ من السماء. وأرسل «إليكوت» ليخبر «جيفرسون» بهذه الأبحاث، لكنه أخبره أنه لم يرَ كل هذه الأبحاث، وإنما قرأ بحث الفرنسي «إزام» عن طبقات الجو. وأضاف أنه لا ينفي أو يصدق الأخبار الواردة بخصوص ما يقال عن سقوط مواد صلبة من السماء.
وبينما الحال على تلك الشاكلة، ظهرت في سماء نيويورك كرة نارية كبيرة آتية من جنوب كندا، وأمطرت مدينة «وستون كونيتيكت» بنيويورك بعددٍ من الأحجار. ودرست هذه الأحجار من قبل باحثين من «كلية ييل» أحدهما خبير المعادن والجيولوجي والكيميائي «بنيامين سيليمان» (١٧٩٩–١٨٦٤م). وسقط حجر يزن ٣٧ رطلًا من هذه الأحجار، في حقل «دانيل سلمون»، الذي أرسله على الفور إلى تاجر وخبير المعادن المعروف «أرشيبالد بروس» في نيويورك لفحصه وتبيان طبيعته. واقتبس «سلمون» ما جاء في تقرير «بروس» من نتائج وسطر خطابًا للرئيس في عام ١٨٠٨م، يقول فيه: إن هذا الحجر — بدون شك — من أصل سماوي (نيزكي)، وإنه يشبه تلك الأحجار السماوية التي رآها «بروس» (تاجر وخبير المعادن الذي فحص الحجر الساقط) في كلٍّ من لندن وباريس، كما أنه يشبه القطعة التي في حوزته من نيزك «إنستسيم» الفرنسي الشهير، الذي سقط في عام ١٤٩٢م. وسأل «سلمون» «جيفرسون» عما إذا كان ينبغي له أن يرسل هذا الحجر (الذي أشار إليه بالزائر الجديد في الولايات المتحدة) للرئيس والهيئة التشريعية الوطنية للنظر في أمره. وأجاب «جيفرسون» على خطاب «سلمون» في ١٥ فبراير، بخطابٍ يكشف تشككه في رواية أن هذا الحجر من السماء؛ إذ ورد في رده: «لا يمكن للمرء أن يُنكر كل ما لا يعرفه من أشياء؛ إذ إن هناك العديد من الظواهر اليومية التي لا نستطيع أن نفسِّرها.» ويصل لخلاصة رأيه في الموضوع، فيذكر: يصعب فهم كيف جاء هذا الحجر الذي بحوزتك إلى المكان الذي عُثر عليه فيه، لكن من السهل تفسير كيف وُجد هذا الحجر في السحب التي من المفروض أنه سقط منها على الأرض. وفي الحقيقة، الشيء الذي يجب أن يتم الآن، هو أن يتم فحص هذا الحجر من قبل من هم مؤهلون لذلك،٩ إذ إنه لا يرى جدوى من إرسال الحجر، الذي يقال إنه سقط من السماء على مدينة «ستون»، إلى الرئيس أو النواب. وهذا يعبر عن إصرار «جيفرسون» على عدم الاعتراف بوجود ظاهرة سقوط الأحجار من السماء، وأنها تتكوَّن في جو الأرض ثم تسقط على الأرض. وذكر بعض الباحثين أن «جيفرسون» قال: «من السهل عليه قبول أن الأساتذة الذين درسوا هذا الحجر كاذبون، لكن يصعب عليه تصديق كون هذا الحجر ساقطًا من السماء.»١٠

وأثَّرَت تلك المفاهيم، التي سادَتْ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، سلبًا على تقدُّم علم دراسة النيازك، نظرًا لأنها جاءت من قبل علماء بارزين لهم إسهاماتهم العلمية، ومن ثم لهم تأثيرهم في انتشار الآراء العلمية أو انحسارها بين الناس. وتخلَّى عددٌ من الباحثين، على إثر ذلك، عن دراسة الأجسام التي تسقط من السماء، وهجر الكتاب موضوع النيازك ولم يتطرَّقوا إليه، ولم يعد أحدٌ يحفل بالتقارير التي تتحدث عن ملاحظة سقوط أجسام صلبة من السماء، وتخلَّص الباحثون مما كان بحوزتهم من عينات نيزكية كانت في انتظار الدراسة، وتخلَّصت بعض المتاحف والهيئات العلمية من العينات النيزكية المحفوظة بها. فعلي سبيل المثال تخلص متحف المقتنيات الملكية في «فيينا» من مجموعته النيزكية؛ نتيجة للحملة المعادية لظاهرة وجود أجسام صلبة تسقط من السماء، التي تزعمها «بورن»، أحد العلماء البارزين في مجال الدراسات المعدنية في ذلك الوقت. وهكذا ضاع عددٌ كبير من النيازك التي كانت بحوزة الأفراد والهيئات العلمية، ببلدان غرب أوروبا في ذلك الوقت.

ومع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، بدأت «الأوساط العلمية» المهتمَّة بالظواهر الطبيعية تناقش بقوةٍ في محافلها ظاهرةَ النيازك، وظهرَتْ بين أوساط المتعلمين والمثقفين والفلاسفة آراء متباينة غاية التباين حول موضوع سقوط النيازك من السماء؛ فمنهم من يرجع ظاهرة سقوط الأحجار الصلبة من السماء إلى انصهار مواد أرضية، من تأثير البرق الذي يصيب الأرض؛ ومنهم من كان يرى أنها مواد أرضية تنثرها ثورات البراكين في الجو، ثم تعود وتسقط ثانية على الأرض؛ ومنهم من كان يرى أنها تنشأ من تجمعات الأتربة في الغلاف الجوي، ثم تسقط على الأرض على هيئة مواد صلبة؛ ومنهم من يرى أنها مواد غريبة عن كوكب الأرض، أي أنها من أصل سماوي. وممن تبنوا الرأي القائل بالأصل السماوي «لابلاس» Laplace؛ حيث أكد أن الأحجار الصلبة التي تسقط على الأرض تأتي من القمر، من تأثيرات ثورات البراكين القمرية.

ويعتبر الفيزيائي «إرنست فلورانس كلاندي» (١٧٥٦–١٨٢٧م) عضو «أكاديمية علوم سان بطرسبرج» الروسية؛ أهمَّ الباحثين الذين دفعوا علم دراسة النيازك في العصور الحديثة؛ إذ درس مجموعة من الأجسام الصلبة التي ذكرت التقارير أنها سقطت من السماء، على أماكن مختلفة من أوروبا، وأكد أنها ليست من أصل أرضي، وإنما من أصل سماوي. ووردت نتائج دراساته تلك في كتاب صغير صدر في «ريجا» في عام ١٧٩٤م، متحديًا الأفكار السائدة آنذاك، التي كانت تدَّعي أنه لا يسقط شيءٌ من السماء، لكن آراء «كلاندي» لم تلقَ صدًى كبيرًا في حينها، وإن اعترف بها بعضٌ من العلماء البارزين، من أشهرهم «و. أولبيرس».

figure
الفيزيائي «إرنست فلورانس كلاندي» (١٧٥٦–١٨٢٧م).

وفي سابقة هي الأولى من نوعها — في ذلك الوقت — أقدم الكيميائي البريطاني «إدوارد هوارد»، في عام ١٨٠٢م، على القيام بعمل تحاليل كيميائية على معادن الطور الفلزي، الموجودة ضمن المكونات المعدنية لنيزك «والد كوتج»، بالمملكة المتحدة، الذي سقط في ١٣ ديسمبر عام ١٧٩٥م. وخلص «هوارد» من دراسته إلى أن المعادن الفلزية في هذا النيزك الحجري تشبه تلك التي توجد في النيازك الحديدية، والتي قرأ عنها في كتاب «كلاندي». وأسهمت ملاحظات «هوارد» في إذكاء إرهاصات مخاض الروح الجديدة التي تدعم الاعتراف بوجود ظاهرة الأحجار السماوية، والتي بدأ يرسي دعائمها «كلاندي». وتكريمًا له من قبل الباحثين، أطلق اسمه على مجموعةٍ من النيازك تُعرف الآن باسم «هوارديت». ويعد الباحثون في تاريخ تطور علم النيازك «هوارد» أولَ من قام بعمل تحاليل كيميائية على نيزك. وفي الواقع أن من قام بذلك هو ابن سينا، لكن يمكن اعتبار «هوارد» أول من قام بتحليل معادن الطور الفلزي في النيازك الحجرية.

ثم حدث تحول كبير نحو قبول آراء «كلاندي» بسقوط نيزك كبير على شكل وابل من الأحجار، بالقرب من مدينة «لأجيل» التي تقع في شمال فرنسا، في ٢٦ أبريل عام ١٨٠٣م. حيث جعل الحدث العلماء يفكرون جديًّا في أمر الأحجار الساقطة من السماء؛ إذ لا سبيل إلى التسويف إزاء حدث سقوط آلاف الأحجار على مساحة كبيرة من الأراضي، تمكَّن من مشاهدته عددٌ كبير من الناس. ووصف حادثةَ السقوط والأحجار التي جمعت من ذلك الحدث عالمٌ مشهور هو «ج. ب. بويت»، وقدَّم أدلَّة واضحة على أن مصادر هذه الأحجار هي من خارج نطاق الأرض، مما اضطر الأكاديمية الفرنسية للعلوم إلى تغيير موقفها، والاعتراف بأن هناك أجسامًا صلبة تسقط على الأرض، في صورة أحجار أو مواد حديدية، وهي ما يطلق عليها نيازك.

وفي تلك الأثناء، قام باحثون بعمل تحاليل كيميائية على بعض العينات النيزكية المحفوظة في المؤسسات الروسية، ونُشرت نتائج التحاليل في «دورية التكنولوجي» التي تُصدرها أكاديمية علوم سان بطرسبرج» الروسية.١١ وأصدر الفيزيائي «أفاناسي ستويكوفيتش»، أستاذ الفيزياء بجامعة «كاركوف»، في عام ١٨٠٧م كتابًا مهمًّا بعنوان «عن الأحجار الهوائية وأصلها» بوَّبه في جزءين، ناقش في الجزء الأول منه حوادث سقوط النيازك المعروفة، وقدم فيه نتائج الدراسات التي أُجْريَت على النيازك التي تم جمعها من حوادث السقوط التي وصفها، مُتضمِّنة التحاليل الكيميائية، والدراسات المعدنية، ووصفًا لكل النيازك المحفوظة. وفي الجزء الثاني من الكتاب ناقش بالتفصيل كل الآراء المعروفة آنذاك عن أصل النيازك. ومن الطريف أنه فضَّل الرأي الذي يعتبر النيازك شظايا أو قطعًا شبيهة بالكويكبات (وهو الرأي السائد الآن). وكان لهذا الكتاب تأثيرٌ كبير في انتشار مفاهيم علم دراسة النيازك في روسيا، التي كانت تحتفظ بأكبر مجموعةٍ من النيازك آنذاك، محفوظة في «أكاديمية علوم سان بطرسبرج»، والتي كانت تحوي عدد ٧ نيازك مختلفة، على حسب القائمة المنشورة في عام ١٨١١م.

وفي عام ١٨١٩م، صدر كتابان عن النيازك أثريا مفاهيم العلم ولعبا دورًا حاسمًا في انتشاره؛ الأول أصدره «كلاندي» بعنوان: «الكرات النارية وما يسقط معها من أجسام»؛ والثاني أصدره الكيميائي الروسي «إيفين موكين» عن «أكاديمية علوم سان بطرسبرج» الروسية، تحت عنوان: «عن الزخات (الأمطار) غير العادية وعن الأحجار التي تسقط من الجو أو الهوائيات». ويناقش هذا الكتاب ظاهرة الكرات النارية، ويقدم قائمةً طويلةً بأحداث سقوط الأحجار السماوية، التي حدثت في بلدان مختلفة، منذ أقدم العصور وحتى وقت ظهوره. ولم يشاطر المؤلف في هذا الكتاب «كلاندي» رأيه الخاص بالأصل الكوني للنيازك، بل انتقده معتقدًا أن النيازك تتكوَّن في جو الأرض، وإن أشار إلى الحاجة لمعرفة المزيد عن مكونات الغلاف الجوي والنيازك؛ كي يصل الباحثون لرأي قاطعٍ في هذا الخصوص. ويبدو أن مؤلف هذا الكتاب كان ينهج نهج الكتَّاب العرب، في تسجيله للحوادث التي تسقط فيها الأحجار من السماء. كما أن رأيه في أصل النيازك كان متأثرًا بالفروض القديمة التي كانت ترى أن النيازك تتكوَّن في جو الأرض، ثم تسقط ثانيةً على الأرض.

وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تعد دراسة النيازك قاصرةً على وصف ظواهر السقوط، وما يصاحبها من أضواء وأصوات مفزعة، ومحاولات عمل التحاليل الكيميائية المبدئية على العينات التي يتم جمعها من النيازك الساقطة، ومحاولات فَهْم ظاهرية لمكوناتها المعدنية؛ إذ أضاف اختراع المجهر (الميكروسكوب) المستقطب، في ستينيات القرن التاسع عشر (حوالي ١٨٦٠م)، بُعدًا جديدًا لعلم النيازك، حيث أخذ الباحثون يدرسونها كدراسة الأحجار الأرضية العادية؛ ليتعرفوا على تراكيبها الداخلية ومكوناتها المعدنية. وزاد الاهتمام بمثل هذه الدراسات في روسيا، على وجه الخصوص، حيث بدأ الباحثون يهتمون بدراسة ظواهر جديدة في النيازك لم تُؤخذ في الاعتبار في الدراسات السابقة. وقام الكيميائي «أ. ف. جيبيل» بالتطرُّق لأهمية الأشكال الخارجية للنيازك، في دراسةٍ نشرها عام ١٨٦٨م، وقدَّم وصفًا تفصيليًّا للشكل الخارجي لنيزك «كركيل» الذي سقط في عام ١٨٤٠م، على مقاطعة «سيمبالاتبنسك». وأعقب ذلك الاهتمام بالتراكيب الداخلية للنيازك، والوصف التفصيلي للأشكال التي توجد عليها المكونات المعدنية للنيازك. وقد نال معدن الأوليفين الذي يوجد في نيازك البالاسيت اهتمامًا كبيرًا، فنشر الأكاديمي الروسي «ن. ي. كوكتشروف» في عام ١٨٧٠م نتائجَ دراسته على الخصائص البلورية لمعدن أوليفين البالاسيت في دراسة خاصة. ويعكس الكتاب المهم الذي أصدره «جوستاف سكيرماك» Gostav Tschermak، في عام ١٨٨٥م بعنوان «النيازك»، أثر المجهر المستقطب على الدراسات النيزكية؛ إذ جاء كعلامة فارقة في دراسة المكونات المعدنية والتراكيب الداخلية للنيازك، الأمر الذي مكَّنه من عمل تصنيفات علمية لمجموعات النيازك التي كانت معروفةً ومتاحةً آنذاك. ولا يزال هذا الكتاب حتى اليوم من الدراسات المهمة التي يرجع إليها الباحثون.
ثم كانت النقلة الكبيرة في هذا العلم في ثلاثينيات القرن العشرين (حوالي عام ١٩٣٠م) مع تقدم تقنيات التحاليل الكيميائية وتطبيقاتها العامة، حيث أخذ ينظر إلى مكونات النيازك الكيميائية على أنها تمثِّل المكونات الكيميائية للكون، مما دفع الباحثين لعمل تحاليل دقيقة للنيازك أفْضَتْ إلى تحديد محتواها من العناصر الشائعة والعناصر الشحيحة. وكان يتم نشر الأبحاث الخاصة بالنيازك في الدوريات العلمية الخاصة بعلم الفلك والكيمياء والفيزياء والميتالورجي والجيولوجيا. وظهرت في عام ١٩٣٩م أول مجلةٍ متخصصةٍ لنشر نتائج الأبحاث والدراسات التي تجرى على الأجسام النيزكية، أصدرها «الاتحاد السوفيتي السابق» تحت مسمى «ميتيوريتكا» Meteoritika. ومنذ هذا التاريخ أخذ العلم في الصعود حتى وقتنا الحاضر؛ حيث تشعَّبت فروعه وتطوَّرت معارفه، وغدا دعمًا مباشرًا لأبحاث الفضاء التي ارتبط هذا العلم بها في كثير من النواحي. وأصدرت رابطة علم النيازك العالمية بالولايات المتحدة، في الستينيات من القرن العشرين دورية فصلية متخصصة في علم النيازك والعلوم المرتبطة به، أطلق عليها «ميتوريتكس» Meteoritics، كانت تزين غلافها الرموز الهيروغليفية: «بيا آن بيت» bia n pit، والتي تعني «فلز أو معدن السماء». ثم تغيَّر اسمها إلى مجلة: «النيازك وعلوم الفضاء» Meteoritics and Planetary Science، وهي المجلة التي تصدر شهريًّا الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤