الفصل الخامس

لماذا ندرس النيازك؟

«النيازك: مسبار الرجل الفقير الفضائي.» (إدوارد ج. أولسين)

***

من الطبيعي أن تنال النيازك اهتمام الباحثين؛ ففي ذاتها — كمادة طبيعية — يجب أن تُدرس بعنايةٍ لفَهْم خصائصها الدقيقة، لكن للنيازك وضعًا خاصًّا يجعلها محل اهتمام الباحثين، باعتبارها مادة من خارج الأرض؛ فالنيازك من أولى المواد الخارجية، التي حصل عليها الباحثون ودرسوها، وتبينوا من دراستها طبيعة الأجسام التي توجد خارج نطاق الأرض، والعلاقة بينها وبين مكونات الأرض، قبل أن يحصل الإنسان على عينات من سطح القمر، من خلال الرحلات التي نظمها، بداية من عام ١٩٦٩م، حيث وطئت أول قدم إنسان سطح القمر. وتنبه الباحثون لأهمية النيازك العلمية خلال تلك الفترة، التي بدأت فيها إرهاصات إرسال المركبات الفضائية؛ لسبر أغوار الفضاء، فصار يطلق على النيازك في ذلك الوقت «مسابير الفقراء الفضائية». ففي سلسلة المحاضرات التي كان ينظمها متحف التاريخ الطبيعي بلندن للجمهور، في عام ١٩٦٨م، اختار الباحث «إدوارد ج. أولسين» Edward J. Olsen، رئيس قسم المعادن بالمتحف، عنوان محاضرته عن النيازك: «النيازك: مسبار الرجل الفقير الفضائي» Meteorites: A Poor Man’s Space Probe؛ فلا تكاليف ولا نفقات خيالية ترصد لإرسال مركبة فضائية تجلب عينات من القمر بغية الدراسة. فها هي النيازك تأتي من مصادر مختلفة من الفضاء، ويحصل عليها الباحثون مجانًا، ويدرسونها ليقفوا على طبيعة الأجسام الفضائية التي تأتي منها. وأشار إليها بعض الباحثين من قبل على أنها بمثابة «حجر رشيد» الفضاء. فكما مكن حجر رشيد الباحثين من فك رموز اللغة الهيروغليفية القديمة، تمكن النيازك الباحثين من فهم طبيعة الكون. وستظل القيمة العلمية العالية للنيازك كما هي، على الرغم من حصول الإنسان على عينات من القمر، وعلى الرغم من إمكانية حصوله في المستقبل القريب على عينات من صخور المريخ، عن طريق البعثات الفضائية. ذلك أن بعض النيازك يأتي من مصادر لا يستطيع الإنسان أن يحصل منها على عينات صخرية، ولو لعدة سنوات قادمة على أحسن تقدير.
وتقدم دراسة النيازك معلومات قيمة، تسهم بشكل مباشر في تطور المفاهيم العلمية عن طبيعة الأجسام الفضائية، وأعمارها، وطريقة تكونها، وتأثيرات الأشعة الكونية عليها، وتأثيرات التصادمات التي تتم بينها، ومدى العلاقة والتشابه بين مصادر النيازك وبين الأرض. وتسهم النيازك في اختبار الفروض القائلة بوجود الحياة في أماكن أخرى غير الأرض، وهل قامت في وقت ما حياة، كالحياة الأرضية، على أجرام أخرى غير الأرض؟ أي أن دراسة النيازك تقود إلى فهم أكبر، وأعمق للكون الذي نعيش فيه؛ ومن ثم اعتبرها الباحثون بأنها بمثابة «مسابير كونية» طبيعية، تسجِّل الأحداث التي تتم بين الأجسام السماوية، ثم تفضي بها للباحثين عند دراستها.١ وسبق الإشارة إلى أن حادثة سقوط نيزك «إيجوسبوتامي»، الذي يعود تاريخها إلى ما بين ٤٦٩–٤٦٧ق.م. أثَّرت في فكر اثنين من فلاسفة الإغريق آنذاك، فوضعا تصورًا جديدًا عن الكون، والكواكب؛٢ ومن ثم فإن الاهتمام بالنيازك وتأملها قاد إلى تطور الفكر العلمي عبر العصور، كما أن الأخطار التي يمكن أن تنشأ عن ارتطام النيازك العملاقة بالأرض تجعل دراستها من الأمور الحتمية؛ إذ يراقب الباحثون تحركاتها، من خلال المناظير الضخمة التي أنشِئت خصِّيصَى لهذا الغرض، بغية اكتشاف وسيلةٍ لدفعها بعيدًا عن المدارات الخطرة، التي تهدِّد الأرض، أو تدميرها قبل سقوطها على الأرض، أو محاولة تقليل أخطارها الكبيرة.

(١) النيازك وفهم أعمق للأرض

أسهمت دراسة النيازك إسهامًا كبيرًا في تطور الفكر العلمي عبر العصور. وأسهمت دراسة النيازك في العصر الحديث إسهامًا لا يمكن إغفاله في مجال فهم طبيعة الأرض، خاصة تلك المفاهيم الخاصة بمكونات الأرض الداخلية. وقاد فهم بنية النيازك الداخلية، بعد تطور عمليات دراستها بداية من النصف الثاني في القرن التاسع عشر، إلى فهم طبيعة وبنية التركيب الداخلي للأرض، الذي لا يمكن دراسته بطريقة مباشرة. وقبل دراسة النيازك، كان يُنظر للأرض على أنها كرةٌ هائلة من الجرانيت، تمتد من القشرة الأرضية (سطح الأرض) إلى القلب أو المركز، الذي يوجد على عمق ٦٣٧٠كم. ففي عام ١٨٦٦م وضع الباحث «دوبري» Daubrée نظريته عن مكونات الأرض الداخلية، التي توقع فيها أن الأرض لا بد وأنها تتكون من نطاقات مختلفة التركيب، من بينها وجود لب أو قلب مكونٍ من سبيكةٍ من الحديد والنيكل (مثل النيازك الحديدية)، ووشاح مكون من معادن سيلكات أثقل في مكوناتها من مكونات القشرة الأرضية، بناءً على النتائج التي حصل عليها الباحثون، من خلال الدراسات المعدنية والكيميائية التي أُجْريَت على النيازك،٣ والتي بيَّنت أنها عبارة عن ثلاثة أقسام رئيسية؛ حديدية، وحجرية، وحديدية-حجرية. وبما أن النيازكَ كانَتْ على حسب الفروض السائدة آنذاك (وما زالت قائمةً مع فروضٍ أخرى الآن)، تمثِّل شظايا كوكبٍ كان يدور حول الشمس بين المريخ والمشتري، وانفجر وتشظَّى إلى قطع متفاوتة الأحجام (حزام الكويكبات) فإن الأرض لا بد وأن تكون ذات بنية نطاقية، شأنها شأن الكوكب الذي تشظَّى وصار مصدرًا لهذه القطع، التي تسقط على الأرض على هيئة نيازك. وقد أثبتَت الدراسات الجيولوجية، والجيوفيزيقية، التي أُجرِيَت بعد ذلك على مكونات الأرض الداخلية؛ أثبتت بالفعل دقَّة ما خلص إليه «دوبر»، وأيدت رأيه عن البنية النطاقية للأرض، التي تتكون من ثلاثة نطاقات رئيسية متباينة في المكونات الكيميائية والخصائص الطبيعية، هي: القشرة الأرضية وتمتد من سطح الأرض حتى عمق ٤٠كم، والوشاح الذي يبدأ من ٤٠كم حتى عمق ٢٩٠٠كم، ويقسم إلى وشاح علوي (من ٤٠ إلى ٤١٠كم)، ووشاح انتقالي أو ووسط (من ٤١٠ إلى ١٠٠٠كم)، ووشاح سفلي (من ١٠٠٠ إلى ٢٩٠٠كم)، والقلب Core الذي يبدأ من عمق ٢٩٠٠كم إلى ٦٣٧٠كم، ويقسم قلب علوي (من ٢٩٠٠كم إلى ٤٩٨٠كم)، ونطاق انتقالي (من ٤٩٨ إلى ٥١٢٠كم)، وقلب سفلي (من ٥١٢٠ إلى ٦٣٧٠كم).

(٢) النيازك والحياة خارج الأرض

وفيما يخص قضية احتمال وجود حياة خارج الأرض، يتطلَّع الباحثون للنيازك عَلَّها أن تُسهم في إلقاء الضوء على هذا الموضوع الذي شغل بال الناس منذ قديم الزمن. فبعدما لم تعد الأرض — في نظر العلماء — مركزًا للكون؛ وبالتالي فإنهم ينفون عنها أية خصوصية. فلماذا إذن تختص الأرض بالحياة، دون غيرها من الكواكب الأخرى التي يعجُّ بها الكون؟! وتأتي الكشوف الحديثة عن اتِّساع الكون لتعطي زخمًا لهذا الاتجاه؛ فالأرض كوكبٌ من كواكب الشمس، والشمس نجم من بين بلايين النجوم في مجرة درب اللبانة أو التبانة، والمجرة واحدة من بلايين المجرات في الكون، لكن ربما يكون الأمر على عكس ما يتصور البعض؛ فالأرض رغم أنها ليست مركزًا للكون، إلا أنها ذات خصوصية فريدة؛ من حيث موقعها من الشمس الذي يجعلها تستقبل حرارة مناسبة، وحجمها وكتلتها وكثافتها وجاذبيتها، تجعلها ذات وضعية فريدة بين كواكب المجموعة الشمسية. وكل هذه الخصائص تجعلها مناسبةً للحياة التي نعرفها، ولكن من الممكن أن يوجد ضمن بلايين المجرات في الكون كواكبُ شبيهةٌ بالأرض، يمكنها أن تحتضن الحياة.

وينبغي أن تسهم النيازك بدورٍ مهمٍّ في الإجابة عن ذلك السؤال؛ فالنيازك تأتي من مواقع أخرى غير الأرض، ولو كانت هناك حياة، فإن آثارها لا بد وأن تكون موجودةً داخل النيازك. إذن من الممكن أن تجيب النيازك بالنفي أو الإيجاب عن وجود حياةٍ على المصادر التي تأتي منها. وبالطبع لا يتوقَّع أحدٌ أن توجد حياة على حزام الكويكبات أو المذنبات التي تأتي منها أغلب النيازك. رغم أن بعض الباحثين يزعمون أن الحياة جاءَت الأرض من الفضاء الخارجي عبر المذنبات. ويبقى القمر والمريخ من بين المصادر التي يمكن أن تختبرَ النيازك في الإجابة عن السؤال: هل قامت عليهما حياة في الماضي البعيد؟! من المعروف أن القمر حاليًّا لا يمثل بيئةً صالحةً لقيام الحياة أو استمرارها، لكن لا يمنع ذلك من احتمال قيامها في الماضي البعيد واندثارها. أما المريخ، فربما توجد عليه حياة بدائية الآن، أو ربما قامت عليه حياة في الماضي البعيد ثم اندثرت. لا شك أن الموضوع برمته موضع إثارة؛ فمن حينٍ لآخر تظهر تقارير عن اكتشاف آثار حياة داخل أحد النيازك، ويأخذ الموضوع حيزًا من الدعاية، ثم يخبوا كما لو لم يكن؛ ففي سبعينيات القرن العشرين، ظهر اهتمامٌ كبير بموضوع وجود مركبات عضوية في النيازك الكربونية، فسرت على أنها تمثل ارتباطًا بأشكالٍ معينةٍ من الحياة، لكن ظهرت دراسات مضادة، تعزى وجود مثل هذه المركبات إلى عمليات كيميائية، وليس إلى عمليات حيوية.

ومن أهم الدراسات وأكثرها إثارة، بهذا الخصوص، ما أعلنه فريق من الباحثين من وكالة الفضاء والطيران الأمريكية «ناسا»، في ٦ أغسطس عام ١٩٩٦م، من اكتشاف ما اعتبروه شكلًا من أشكال الحياة البدائية المتحفرة، في نيزك من النيازك المريخية.٤ وأخذ الموضوع حظًّا وفيرًا من الدعاية الإعلامية، حتى إن «بيل كلينتون» — الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت — هنَّأ الباحثين على هذا الكشف، الذي اعتبره حدثًا علميًّا كبيرًا، لكن وجهت انتقادات عنيفة للبحث الذي نُشر في مجلة «الساينس» — أهم المجلات العلمية — باعتبار أن ما شُوهِد من أشكالٍ في هذا النيزك يمثِّل تراكيب معدنية عادية، لا ترتبط بأي حال من الأحوال مع الحياة.٥
figure
تراكيب دقيقة في نيزك مريخي، تشبه أشكال حفريات الحياة الأرضية.

(٣) النيازك والحياة على الأرض

يطرح الباحثون من حين لآخر السؤال: هل للنيازك علاقة بالحياة على الأرض؟ قد يفهم بداية أن السؤال يختص بما يمكن أن يكون للنيازك من علاقة سلبية بالحياة على الأرض، من خلال ما يمكن أن تحدثه من دمار وكوارث قد تقود الحياة إلى الاندثار، لكن السؤال هنا يختص بالجانب الإيجابي للنيازك ودورها في وجود الحياة على الأرض. ذلك أن هناك فريقًا من الباحثين — وإن كانوا قلةً إلا أن حججهم قوية — يرى أن البذور الأولى للحياة الأرضية جاءت أول الأمر من مصادر خارجية، حملتها النيازك أو المذنبات ونثرتها على الأرض. وتعود جذور هذا القول إلى أزمنةٍ موغلة في القدم، ربما مع بداية تطلُّع الإنسان إلى معرفة أصل الحياة على الأرض؛ فالقول بهبوط الحياة من الخارج راسخ في ثقافات مختلف الشعوب، وإن اختلفت الصورة التي يتصوَّرها كل شعب لهذه الكيفية. وعمومًا ما يتوافر الآن من بيانات موثقة يوضِّح أن أولَ من أسهم بشكلٍ مباشر في تجسيد فكرة البذور الكونية للحياة، هو الكيميائي السويدي «أ. س. أرهينيوس» A. S. Arhinuos، [الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء] عندما اقترح في عام ١٨٠٩م أن الإشعاعَ الصادرَ عن النجوم يمكنه حمل الميكروبات الكونية إلى الأرض، والتي كانت بدورها بمثابة البذور الأولى للحياة الأرضية. ومع الاعتراضات الكثيرة التي تواجهها مثل هذه الآراء، والانتقادات العديدة التي توجه إلى هذا التوجه، يخرج من حينٍ لآخر باحثون يُعيدون إليها زخمها وبريقها، بما يسلِّطون الضوء على هذه الآراء، وبما يقدِّمون من أدلةٍ جديدة، على ورود البذور الأولى للحياة عبر المواد الكونية المتساقطة على الأرض. وتمر هذه الآراء بمنعطفات كثيرة ما بين القبول والرفض، لكنها على أي حال لا تحقق ذيوعًا كبيرًا، رغم عجز نظريات الأصل الأرضي للحياة في تقديم دلائل قوية على ما تراه من أن الحياة نشأَتْ وتطورت على الأرض.
ومنذ بداية ستينيات القرن الماضي، بدأ الاهتمام بالموضوع يعود ثانية إلى مسرح الحياة العلمية، وظهرت أبحاث مميزة تؤيد هذه الأفكار، وتقدم من الأدلة والشواهد ما يدعمها. ومن المؤلفات المهمة التي تتبنَّى قضية الأصول الكونية للحياة الأرضية؛ مؤلف العالم الشهير «فريد هويل» «البذور الكونية»، الذي نُشر في عام ١٩٨١م، ونقله للعربية العالم الراحل الدكتور أحمد مستجير.٦ ويناقش فيه المؤلف قضية الأصل الكوني للحياة، مفندًا الآراء التي ترى أن الحياة نشأت أول الأمر على الأرض، ويرى أنها أتت من الفضاء. ومن بين الدراسات الحديثة عن الموضوع دراسةٌ مهمة نشرتها مجلة «ساينتفك أمريكان»، في عدد يوليو عام ١٩٩٩م، ونقلتها مجلة العلوم (الترجمة العربية لمجلة «ساينتفك أمريكان»)، عدد يناير عام ٢٠٠٠، تحت عنوان: «مواد الحياة الأولية المقذوفة من بعيد».٧ فهذه الدراسة ترى أن الحياة الأرضية، نشأت من الجزيئات الغنية بالكربون، التي تسبح في فضاء ما بين النجوم، وسقطت مع النيازك والمذنبات على الأرض الوليدة، حيث تشكَّلت منها الأحماض الأمينية والبروتينات، التي قامت عليها الحياة أول الأمر.
ومع صعوبة قبول القول، بأن النيازك قدمت الحياة للأرض، في ضوء المعطيات الحالية، يرى بعض الباحثين أن النيازك أسهمت بشكلٍ مباشر، في تطور واستمرار الحياة على الأرض، من خلال ما قدمته من عناصر ضرورية للحياة؛ فبعض الباحثين يرى أن النيازك والمواد الكونية المتساقطة على الأرض، قدمت الماء الذي يميز الأرض ككوكب من بين كواكب المجموعة الشمسية. ويختلف هؤلاء الباحثون، مع الباحثين الذين يرون أن الماء نشأ من دفقات المياه التي تخرج من أعماق الأرض، خلال ثورات البراكين، والأنشطة الأرضية الأخرى. وفي هذا الخصوص، ترى دراسة أعدها باحثان٨ من جامعة «أريزونا» بالولايات المتحدة الأمريكية؛ أن النيازك الحديدية قدمت عنصر الفسفور للحياة الأرضية. فالفسفور هو خامس العناصر أهمية وشيوعًا في المواد الحيوية، بعد الأكسجين، والهيدروجين، والكربون والنيتروجين. وتستعرض الدراسة شيوع الفسفور بالنسبة لهذه العناصر في الكون والمحيطات والبكتريا، حيث تسجل النسب التالية:
الفسفور بالنسبة إلى الأكسجين.
الفسفور الأكسجين
في الكون ١ ١٤٠٠
في المحيطات ١ ٢٥ مليونًا
في البكتريا ١ ٢٧
الفسفور بالنسبة إلى الإيدروجين.
الفسفور الإيدروجين
في الكون ١ ٢٫٨ مليون
في المحيطات ١ ٤٩ مليونًا
في البكتريا ١ ٢٠٣
الفسفور بالنسبة إلى الكربون.
الفسفور الكربون
في الكون ١ ٦٨٠
في المحيطات ١ ٩٧٤
في البكتريا ١ ١١٦
الفسفور بالنسبة إلى النيتروجين.
الفسفور النيتروجين
في الكون ١ ٢٣٠
في المحيطات ١ ٦٣٣
في البكتريا ١ ١٥
فما السبب وراء زيادة تركيز الفسفور في المواد الحيوية، مقارنة بنسبته في المواد الطبيعية؟ ترى الدراسة أن النيازك الحديدية، على وجه الخصوص، قدمت الفسفور للحياة الأولى؛ فمعدن اﻟ «شيربيرزيت» (Fe,Ni)3P، الذي تقدمه النيازك الساقطة على الأرض، يتحلَّل في الماء العادي عند درجة حرارة الغرفة، ويتحرَّر عن تحلُّله عدد من مركبات الفسفور، منها المركب المهم للعمليات الحيوية، الذي يتكوَّن من ذرتَيْ فوسفور وسبع ذرات من الأكسجين «فو٢أ٧».

(٤) النيازك وانقراض الديناصورات

تلمس دراسة النيازك موضوع انقراض الديناصورات الذي يشغل الناس؛ فالديناصورات نوع من الزواحف، امتازت بكبر أحجامها، وتنوع أشكالها. وقد ظهرت هذه المخلوقات في نهاية العصر الديفوني من حقب الحياة القديمة، وتطورت على مدًى زمني كبير، امتدَّ حتى نهاية عصر الطباشيري، من حقب الحياة المتوسطة، حيث انتشرت وسادت في كل البيئات تقريبًا (أرضية – مائية – هوائية)، كما تدل على ذلك بقاياها، التي يعثر عليها متحفرة (متحجرة) في صخور تلك الفترة الزمنية من تاريخ الأرض. وحدث انقراض فجائي لهذه المخلوقات، ومعها العديد من أنواع الأحياء في نهاية عصر الطباشيري (حوالي ٦٥ مليون سنة)، من حقب الحياة المتوسطة، أي أنها لم تنتقل إلى حقب الثلاثي الذي بدأ منذ حوالي ٦٥ مليون سنة خَلَتْ من عمر الأرض. وقد ثار السؤال: ما السبب وراء عمليات الانقراض الكبيرة التي تحدث للحياة في تاريخ الأرض، وانقراض الديناصورات على وجه الخصوص؟! من بين الاحتمالات القوية، لأسباب انقراض الديناصورات، وقوع عدد من الصدمات النيزكية الكبيرة بالأرض خلال تلك الفترة، أدَّت إلى نثر التراب والغبار في جو الأرض، مما أدَّى إلى حجب ضوء الشمس، فقلَّل من نمو النباتات التي تتغذَّى عليها الحيوانات. ولما كانت الديناصورات الضخمة تحتاج إلى كمياتٍ كبيرةٍ من الغذاء، فلم تعد تقاوم؛ ومن ثم حدثت عملية انقراضها.

figure
أحد الأشكال التخيلية للديناصورات.
figure
طبقة الطين الغنية بالعناصر النيزكية.
ومن بين السيناريوهات المفترضة، لكيفية انقراض الديناصورات بالصدمات النيزكية، سيناريو اقترحه «لويز ووالتر ألفاريز» من خلال دراسة تركيزات عنصر «الإيريديم»، وعناصر مجموعة البلاتين الأخرى التي عُثر عليها في رسوبيات طين «جوبيو»، وغيرها من المواقع الأخرى، في عام ١٩٨٠م، أن نيزكًا (كويكبًا) قُطره ١٠كم هو المسئول عن تلك العملية. ويتصوَّران ضمن هذا السيناريو أن النيزك انشطر قبل ضربه الأرض إلى جزءين أو قطعتين غير متساويتين، سقطت القطعة الصغيرة منهما على منطقة «إيوه» فأحدثت حفرة «مانسون»، التي يبلغ قطرها ٣٢كم، بينما سقطت القطعة الكبيرة الأخرى، إلى الشمال من منطقة «ياكاتان»، وما جاورها من منطقة خليج المكسيك، وأحدَثَتْ فوهة «شيكسولوب» Chicxulub، التي يبلغ قطرها ٢٠٠كم. وتبخَّرت القطعتان المتصادمتان، مع الصخور التي ارتطمتا بها في الموقعَيْن، واختلطَتْ مكونات النيزك (الكويكب) بمكونات الصخور الأرضية. ونشأ عن هذا الحدث سحبٌ كثيفة من الغبار والغازات (من بينها ثاني أكسيد الكربون من الحجر الجيري الذي حدثت عليه الصدمة التي أحدثها الجزء الكبير من النيزك)، وبخار الماء، حجبت ضوء الشمس فعَمَّت الظلمة الأرض فترةً زمنيةً طويلةً أو قصيرة، على حسب الظروف التي أدَّتْ في النهاية إلى تكاثُف بخار الماء، حول حبيبات التراب العالقة في الجو؛ ومن ثم بداية هطول الأمطار التي أحدثَتْ ما يمكن تسميته عاصفة طينية، رسبت الرسوبيات الطينية الغنية بعنصر الأيريديم في منطقة «جوينو» ومناطق أخرى عديدة من العالم. مما لا شك فيه، أن الأمطار كانت أيضًا حمضية وحارَّة، فأهلكت النباتات والحيوانات. ومن عاش من الحيوانات عانى من نقص الغذاء، الذي ترتب على الظلمة التي أحدثتها السحب الكثيفة التي حجبت ضوء الشمس.
ولعل من أهم الأدلة على ذلك وجودَ طبقةٍ من الرواسب الطينية، غنيةٍ بالعناصر التي تميز النيازك؛٩ كالأيريديم، والأوزميوم، والنيكل، والكوبلت، تمتد مئات الكيلومترات، عند الحد الفاصل بين حقب الحياة المتوسطة وحقب الحياة الحديثة (فترة انقراض الديناصورات)، توجد مكاشفها في عددٍ كبير من البلدان.١٠ وهذا يعضد الرأي القائل بأن انقراض الديناصورات كان وراءه حدوث الصدمات النيزكية، حيث تتسبب هذه العملية في نثر تراب البقعة الصخرية التي يقع عليها الحدث، مختلطًا بمادة النيازك الصادمة، التي تحتوي على هذه العناصر، في الجو ثم ترسبها ثانية. وقد دعم اكتشاف فوهة «شيكسولوب» Chicxulub، في شبه جزيرة «ياكاتان» Yucatan Peninsula، بالمكسيك، التي يبلغ قطرها حوالي ٢٠٠كم، والتي يتزامن تكونها بصدمة نيزكية ضخمة، مع فترة انقراض الديناصورات؛ دعم هذه الفرضية بشكلٍ كبير. هذا ويتوقع العثور على عدد كبير من الفوهات النيزكية، تكونت في تلك الفترة في أماكن مختلفة من العالم.

(٥) النيازك والبيئة

يسبِّب سقوط النيازك الضخمة على الأرض كوارث بيئية كبيرة؛ فالحرارة العالية التي تنشأ من احتكاك الجسم بالغلاف الجوي للأرض، تلعب دورًا مباشرًا في اتحاد النيتروجين والأكسجين؛ ومن ثم تكون أكاسيد النيتروجين، التي تؤدي في النهاية إلى تكوُّن حمض النيترك، الذي يسقط على الأرض، فيما يُعرف بالأمطار الحمضية. وكما هو معروفٌ، فإن الأمطار الحمضية تسبِّب أضرارًا بليغة على البيئة بصفة عامة. كما أن الطاقة العالية المتولدة عن عمليات ارتطام النيازك العملاقة بسطح الأرض تتسبَّب في إحداث سحبٍ من الغبار تنتشر في الجو، وتسبب مشاكل بيئية خطيرة. ولا يزال العلماء يعتقدون أن صدماتٍ نيزكية ضخمة، حدثَتْ في أماكن متفرقة من العالم، كانت وراء الكارثة التي حلَّت بالحياة، خاصة الديناصورات، التي سادت الأرض، منذ حوالي ٦٥ مليون سنة، وانقرضت فجأة،١١ بما أحدَثَت من تلوثٍ عام للبيئة الأرضية، تأثرت به الكائنات الحية من نباتٍ وحيوان.
لكن على الجانب الآخر، يكون للنيازك فوائد بيئية؛ فالغبار النيزكي، الذي ينتثر في الجو عقب احتراق وتذرية مكونات الأسطح الخارجية للنيازك الساقطة في جو الأرض، يُسهم في تكاثف بخار الماء العالق في الجو، على هيئة نقط ماء ثم سحب. ذلك أن الغبار النيزكي يقوم بدور نوى التكاثف، أو المراكز التي يتجمَّع عليها بخار الماء. وقد لوحظ أن السنين التي تمر فيها الأرض، أثناء دورانها حول الشمس، بمدارات يتركز بها الغبار النيزكي، يعقبها هطول مطر غزير على الأرض.١٢

وقياسًا على الدراسات العديدة التي أشارت إلى أن الرماد البركاني، الذي يتشكل من حبيبات دقيقة في نفس أحجام حبيبات الغبار النيزكي والذي تطلقه وتنثره في الجو ثورات البراكين الأرضية، يُسهم بشكل كبير في تخصيب الأراضي الزراعية التي يترسب عليها؛ قياسًا على ذلك يمكن توقُّع أن الغبار النيزكي — الذي يترسَّب بكميات كبيرة يوميًّا، تتراوح بين ١٠٠ إلى ١٠٠٠ طن تترسَّب يوميًّا في البيئات الأرضية، على حسب أكثر الدراسات تحفُّظًا بهذا الخصوص — يُسهم في زيادة خصوبة الأراضي الزراعية، شأنه في ذلك شأن الرماد البركاني، بما يقدم من مركبات تحتوي على عناصر مفيدة تحتاجها التربة، التي من أهمها الحديد، والفسفور، والكبريت، والتي توجد بنسب محسوسة في النيازك.

(٦) الأهمية التقنية للشهب

قد يعجب المرء من كون الشهب لها أهمية تقنية، لكن بعض الباحثين فكروا بالفعل في هذا الموضوع، واستفادوا تقنيًّا من ظاهرة الشهب في تطوير الاتصالات اللاسلكية؛ فالشهب تحترق في طبقات الجو العليا، وتحديدًا في طبقة «الإينوسفير»، التي توجد على ارتفاع كبير من سطح الأرض. وتعتمد هذه الفكرة على حقيقة أن الشهب المحترقة يتخلف عنها إلكترونات وذرات مؤينة، تشكل سحبًا كثيفة في هذا الموضع؛ ومن ثم فقد فكروا في الاستفادة من هذه الظاهرة في تطوير الإشارات اللاسلكية.١٣

(٧) النيازك وأول عينة من خارج النظام الشمسي

أثناء زيارة بعثة متحف التاريخ الطبيعي بميلانو إيطاليا لمنطقة الزجاج الليبي خلال شهري نوفمبر/ديسمير عام ١٩٩٦م، عثر المؤلف على عينة سوداء براقة على الحدود الجنوبية الغربية للمنطقة. ولم يتبين طبيعة هذه العينة في حينها، لكن بالدراسة التي قام بها المؤلف ثبت أن العينة تحتوي على أول دليل مادي على اكتشاف معدن الألماس في الأراضي المصرية. ونظرًا لعدم وجود نشاطٍ بركاني بالمنطقة أو المناطق المجاورة فقد اعتبر المؤلف أن العثور على هذه العينة في هذه المنطقة يرتبط بسقوط جرمٍ سماويٍّ هائلٍ في الماضي.١٤ وتوالَتْ دراسات المؤلف على المكونات المعدنية للمادة المكتشفة. وما خلص إليه كالآتي:١٥،١٦
  • (١)

    الألماس والجرافيت تكوَّنا من الضغط والحرارة الناشئَيْن عن الصدمة على الكربون الموجود في صخور الحجر الرملي للمنطقة.

  • (٢)

    تكوَّنا من ثأثير الضغط والحرارة الناشئَيْن عن الصدمة على الكربون الموجود في الجسم السماوي ذاته.

  • (٣)

    كانا موجودَيْن في الجسم السماوي ذاته.

figure
صخر هيباتيا.
figure
بورتيريه الفيلسوفة «هيباتيا».

وقد خضعت العينة لدراسات لاحقة نُشرت نتائجها تباعًا في عددٍ من الدوريات العلمية ثبت فيها وجود معادن لم يعثر عليها في أي مادةٍ معروفة من قبل لا من الأرض أو النيازك. وخلصت بعض الدراسات لرأيٍ يرى أنها جزء من نواة مذنب تحتوي معادن تكونت قبل تكون النظام الشمسي. وقد أطلق الباحثون على هذا الكشف: «صخر هيباتيا»، في شرف الفيلسوفة اللاتينية التي عاشت في الإسكندرية التي تعرف ﺑ «هيباتيا السكندرية» (٣٥٠ أو ٣٧٠–٤١٥م) والتي لمع اسمها كعالمة رياضيات، إلى جانب كونها كانت تقوم بتدريس الفلسفة وعلم الفلك. ويعد موتها حدًّا فاصلًا بين حياةٍ فكرية عقلية مزدهرة في الإسكندرية وبين تسلُّط أصحاب الفكرة الواحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤