خاتمة

الأزمة في الكتابة الأفريقية

«تمرُّ صناعة النشر اليوم، في كثير مما كان يُعرف بدول العالَم الثالث، على مدى أربعين عامًا، بحالة من الإحباط واليأس، ومن الصعب أن نجد مَن يهتم بذلك من بين العاملين في هذه الساحة الأوروبية الأمريكية، الاستثمار في النشر في الخارج، يعبُر الأطلنطي في الاتجاهين، ولكنَّه لا يُغامر بالاتجاه صوب الجنوب، كما أنهم ينظرون إلى أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، ومعظم دول آسيا، باعتبارها أسواقًا للتصدير … وصعبة في الوقت نفسه.»

(Gordon Graham, Publishing Weekly, 15 Febrauary 1991)
«أسعار الأعمال الشهيرة، أو ما يُسمَّى بالروائع، كما حدَّدها التضخم، هبطت بشدَّة منذ صدور كتاب «ثروة الأمم» لآدم سميث سنة ١٧٧٦م، بتكلفة ربما تصل إلى ٦١٥٫٣٨ دولارًا بأسعار اليوم. كانت الطبعة الأولى خمسمائة نُسخة، ودفعوا ﻟ «سميث» ٥٠٠ دولار؛ أي ما يعادل ١٧٠٠٠٠ دولار اليوم، وكانت حصَّته ما يعادل ٣٥٠ دولارًا عن النُّسخة Peter Brimelow, 9 March 1998.

الأزمة في الكتابة ليست مع الكُتَّاب أنفسهم، وإنَّما في البيئة المعقَّدة والمربكة التي يعملون فيها، وبالرغم من ذلك، يلاحظ كلُّ مَن يحضر ورش الكتابة في القارَّة أنَّ الكُتَّاب مثابرون في عملهم، ومصممون على النجاح، ويواصلون الكتابة، يحدث ذلك بالرغم من أنَّ كثيرين منهم لم ينشروا بالمرَّة، وكما يظهر من مطبوعات «باوباب» في زيمبابوي، هناك كُتَّاب شبَّان، قادرون على إنتاج أدب قومي، لو وجدوا مَن يشجعهم وينشر لهم، بالإضافة إلى أنَّ هناك مجموعة جيدة من الكُتَّاب الذين استطاعوا التغلب على مشكلات بالغة الصعوبة، على مدى نصف القرن الأخير، لصُنع أدب غير عادي. هذه هي الأخبار السعيدة عن الكتابة الأفريقية، أمَّا الباقي فليس بهذه البساطة.

المشكلات الاقتصادية في كثير من الدول الأفريقية، هي العقبة الرئيسية في سبيل تنمية جمهور قارئ لكُتَّاب القارَّة، ومن المثير للسخرية، أنَّ الكُتب قبل ثلاثين عامًا، كانت في متناول الناس بدرجة أكبر مما هي عليه الآن، أي بعد المرحلة الاستعمارية بوقت قصير (صحيح أن الطلاب الذين كنت أقوم بالتدريس لهم في نيجيريا في أوائل الستينيات، كانوا من أبناء الأغنياء الذين يستطيعون إلحاقهم بالمدارس الثانوية، وأن يشتروا لهم الكتب اللازمة للدراسة)، ولكنَّا نجد اليوم، على سبيل المثال، أنَّ تكلفة الكُتب تحول دون رغبة «جامعة أفريقيا» في زيمبابوي، في خلقِ مؤسسة فريدة ومتميزة، تضم عددًا من أبناء القارَّة؛ فكيف يمكن أن يُكَوِّنَ طُلاب الأدب مثلًا، فكرة عن الرواية (أو عن القصة الطويلة)، إذا كان المتاح للقراءة أجزاء ومختارات من الكتب؟ وكيف سيكون حال الجيل التالي من القُرَّاء في أفريقيا، وليس لديهم كُتب بسبب ارتفاع أسعارها، بالإضافة إلى فقر القارَّة المُدقِع في المكتبات؟

الطلاب في كل أنحاء العالم، خُبراء في الالتفاف على مشكلة أسعار الكُتب، والطلاب الأمريكيون — مثل الأفريقيين — يشكون من ارتفاع أسعارها، ولذلك يقومون بنسخها بواسطة الآلات الكثيرة المتوفِّرة بالمكتبات، ولكن مكتبات المدارس الأفريقية، نادرًا ما يوجد بها ماكينات تصوير ضوئي، هذا إلى جانب أن المبلغ الذي يوفِّره الطالب الأمريكي، نتيجة تصوير كتاب بدلًا من شرائه، هو مصروف جيب إضافي له، وهو ما ليس كذلك بالنسبة لطالب أو قارئ أفريقي بشكل عام.

يقول «بيتر بريملو Peter Brimelow» في عدد حديث من مجلَّة «فوربز Forbes»: إنَّ الكُتب قبل العصر الصناعي، كانت سلعةً ترفيهية، لا يقدر عليها سوى الأغنياء، إمكانيات الطباعة الحديثة، والإنتاج الكبير، هبطت بالأسعار كثيرًا، بالإضافة إلى أنَّ التدفُّق الحُر للأفكار، الناجِم عن توفُّر كُتب ودوريَّات رخيصة، أصبحَ أمرًا مُهمًّا وأساسيًّا بالنسبة للمجتمعات الديمقراطية، أو على الأقل، بالنسبة للمجتمعات المستقرَّة. كثير من الدول الأفريقية اليوم، مُكبَّل اقتصاديًّا، لدرجة أنَّ المجتمع الخالي من الكتب، الذي يخشاه «هانز زيل Hans Zell»، مستمر في إعاقة أي تغيُّر سياسي أو اجتماعي، وكما يقول «جوردون جراهام Gordon Graham» في Publishers Weekly: فإن «النشر لا يزدهر في ظل الأنظمة الدكتاتورية، وحرية التعبير هي اللهب الذي يُعجِّل بسقوطها … والمجتمعات الخالية من الكتب خطِرة على نفسِها وعلى العالَم.»

مجتمعات بلا كُتب، مجتمعات بلا قرار، مجتمعات بلا كتاب، كيف إذَن يمكن أن يكون شكل المستقبل، إذا كانت تحولات ما يُسمى بعصر المعلومات تتجنَّب الكثير من الدول الأفريقية؟ الكل خاسِر! وخاصَّة، أنَّ ذلك يحدث متلازمًا مع النزوح الكبير للمثقفين الأفارقة. كثير من كُتَّاب أفريقيا اليوم، لاجئون، فرُّوا من مجتمعاتهم، بسبب ما فيها من اضطراب سياسي، وآخرون يشعرون بالحاجة لأن يكونوا قريبين من قُرَّائهم، وبات ذلك يعني أن يكونوا في أوروبا وأمريكا وليس أفريقيا، ولذلك، فإن نزف الأدمغة، أو خروج الكُتَّاب الأفارقة، هو أحد الجوانب المثيرة للقلق في الظروف الحالية.

ما الذي يمكن عمله إذَن لتحسين هذا الوضع الفاجع للكُتَّاب الأفارقة بعامَّة، وللجيل القادم منهم بخاصَّة؟

بعض الناس، وخاصَّة في الغرب، مَن يؤرِّقهم هذا الوضع، يحاولون تناول هذه القضية، بالإضافة إلى أنَّ هناك منظَّمات عالمية (من الغرب أيضًا)، تقدِّم مبالغ مالية كبيرة لتحسين أوضاع النشر في القارَّة، ومرَّة أخرى، نتساءل عمَّا يمكن عمله إلى جانب ذلك كله، كم مؤتمرًا إضافيًّا يُمكن عقده لتصحيح أوضاع النشر، وتحسين أحوال الكُتَّاب في أفريقيا؟ يقول «هانز زيل»: إنَّ الوضع لن يتغيَّر كثيرًا، حتى مع المزيد من هذه الوسائل والإجراءات التي لم تحقق شيئًا حتى الآن.

في كل دورة من دورات «معرض زيمبابوي الدولي للكتاب»، يتم اقتراح حلول لتخفيف الخنقة الاقتصادية المطبِقة على مُعظم الناشرين الأفارقة، تتم المطالبة بإلغاء الضرائب على ورق الطباعة، وعلى الكتب المستوردة، ويدعون لطباعة كتب رخيصة (كما كانت تفعل مطبوعات أونيتشا)، وخاصَّة للأطفال في الصفوف الأولى (كما تفعل حكومة الهند)، وذلك لنشر التعليم، وتهيئة المناخ الذي يساعد على ذلك، خاصَّة باللغات المحلية، كما تُرفع شعارات جميلة من قبيل «إنَّ الطفل الذي يحب القراءة، ويقتني الكتب، سوف يشبُّ على ذلك». كل هذه الحلول، والاقتراحات، والدَّعوات، والشِّعارات، بالرغم من معقوليتها، تعتمد على وجود حكومات مُستنيرة، تتبنَّى سياسات وطنية بالنسبة للكُتَّاب، وتقوم بمتابعتها مع المنظمات العالمية، المستعدَّة لتمويل مثل هذه المشروعات.

من الضروري أن تكون هناك رؤية أشمل، لكي يحدث تغيير أساسي؛ ففي كلمة بعنوان «الثقافة والذاكرة والتقدم»، أمام البنك الدولي في أبريل ١٩٩٢م، اقترح «شوينكا» إسقاط ديون أفريقيا كتعويض عن العبودية، وهي فكرة نبيلة، ليتها تتحقق، ثم أنهى كلمته بقوله: إذا كانت كلمة «تعويض» ستمثل مشكلة، فإنني أقترح كلمة إلغاء annulment، فلها جاذبية الصدى، الذي تُحدثه كلمة الإعلان annunciation عندما نتحدَّث عن الإعلان عن نظام عالمي جديد. فليتم «إلغاء» الديون، ولا نقول «العفو» عنها، وهكذا، فنحن أيضًا لا نعفو عن الماضي، وإنما نُسقِطه، وعندما نتذكَّر القرن العشرين في المستقبل، سنقول إنَّه كان قرن «الإلغاء»، وهو أمرٌ جدير بالاعتبار بأن يكون خاتمة للقرن، كما أنه مشروع نبيل.
وفي اقتراح مُشابه لتناول جزء من المشكلة وجَّه «شينوا أشيبي» (في حديث لاحِق بعنوان «أفريقيا هي الناس»، البنك الدولي، يونيو ١٩٨٠م) نداءً مشبوبَ العاطفة، ودعوة للنظر إلى كل الشعوب، نظرة عادلة، وإلى الناس باعتبارهم سواسية:

«أفريقيا تؤمن بالناس، بالتعاون مع الناس، إذا كانت مقولة «ديكارت» الفلسفية: «أنا أفكِّر إذَن أنا موجود» تمثل فكرة فردانية أوروبية، فإن مقولة البانتو «الإنسان إنسان بغيره من بني الإنسان» تمثل طموحًا أفريقيًّا عامًّا، إنسانيتنا تعتمد على إنسانية رفاقنا، لا يستطيع أي شخص أو مجتمع أن يكون إنسانيًّا بمفرده. نحن نرتفع — أو لا نرتفع — عن مستوى الحيوان، معًا، وإذا وعينا هذا الدرس، ولو متأخِّرًا، فسنكون قد قطعنا خطوة ألفية إلى الأمام.»

وعلى المستوى نفسه، هناك مثالٌ مستنير آخر، وهو Tsotso – مجلة الكتابة الجديدة التي تصدر في «هراري» زيمبابوي، التي اشتريت عددًا منها في «معرض زيمبابوي الدولي للكتاب»، مجلة أدبية بسيطة ومفيدة، وثمنها ما يُعادل عشرة سنتات بسعر التحويل آنذاك. هدف المطبوعة — كما تقول هيئة التحرير — «هو قراءة وكتابة أفضل مع كل عدد»، وفي مناقشة عن نتائج «استطلاع رأي»، أُرسِل للمشتركين في المجلَّة، قال المحررون إن ٧٠٪ ممن أجابوا، أكَّدوا أنَّ كُتَّاب زيمبابوي ساعدوا في تغيير توجُّهات المجتمع، عن طريق التركيز على قضايا المرأة، والربط بين التعلُّم والتُّراث، والكشف عن ثراء ثقافة زيمبابوي، وتناول قضايا كانت دائمًا تُعتبر من المُحرَّمات، وفضح المظالم التي يتعرَّض لها الناس … وهز المجتمع لكي يفيق من حالة الاستكانة التي هو عليها.»
كان العدد الذي اشتريته من Tsotso يحمل رقم ٦٢١، وهي مطبوعة مُشجِّعة، بالرغم من عمرها القصير، وإلى جانب ورش الكُتَّاب التي تقوم بتنظيمها، يظل سعرها الزهيد أكثر ما يميِّزها، وهو في متناول معظم القُرَّاء، ولا يزيد على نصف ثمن صحيفة محلية.
وهناك ما يُشير إلى وجود توجُّهات مُشابهة، لمساعدة الكُتَّاب الجُدد في القارَّة، على نشر أعمالهم، وهو أمرٌ لا يقل أهمية، كما توجد اتحادات نشِطة للكُتَّاب في كلٍّ من زيمبابوي، وغانا، ونيجيريا، وأنجولا، وجنوب أفريقيا وليسوتو، وسوازيلاند، وموريشيوس، وغيرها من الدول، وفوق ذلك كله، هناك ذلك الاقتراح المهم، الذي يطرحه «جلبرت دو Gilbert Doho» الكاتب المسرحي والروائي الغاني، الذي يكتب بالفرنسية، وهو إنشاء جمعية تعاونية للكُتَّاب، تكون إطارًا تنظيميًّا أكثر إنتاجية، لضمان نشر الأعمال الجادَّة للكُتَّاب الملتزمين. يتضمَّن هذا الاقتراح أن يشترك عشرة كُتَّاب مثلًا في جمعية، يُسهم كلٌّ منهم فيها بمبلغ خمسين دولارًا في الشهر، لتغطية نفقات الإنتاج والتوزيع، ولكنَّ الظروف الاقتصادية — مرة أخرى — هي المشكلة، فمن أين لكاتب بمثل هذا المبلغ كل شهر؟ ربما كان بالإمكان تخفيض المبلغ، بزيادة العضوية، على ألَّا يكون من حق أحد، أن يُفرِض مادته على الآخرين، ولكنَّها بداية جيدة على أية حال، لما يمكن أن يكون مشروعًا ناجحًا للكُتَّاب في مكانٍ ما.

وأودُّ هنا في هذا السياق أن أقدِّم اقتراحًا، لعلَّه أكثر شمولًا، وهو إنشاء دار نشر على مستوى القارَّة الأفريقية، يموِّلها أفراد ومؤسسات من أفريقيا، ومن الغرب، يكون لها هيئة استشارية، معظم أعضائها من أفريقيا، يعملون دون أجر، من المهم جدًّا أن يكون الأفارقة هم المسيطرون على عملية النشر بالنسبة لأعمالهم، وأن يكونوا هم الذين يقرِّرون درجة الاعتماد على الغرب، ماليًّا وتحريريًّا.

هذه الهيئة الاستشارية لا بد من أن تضم أعضاء من كل مناطق القارَّة، بقدر الإمكان (وخاصَّة المناطق الأنجلوفونية والفرانكفونية)، مع أقلية من أعضاء دوليين، من ذوي الخبرة المباشرة بالعمل والعيش في القارَّة، أو الاهتمام بالأدب الأفريقي ونشره، وهنا ترِد على الذِّهن فورًا، أسماء مثل «دوريس ليسنج Doris Lessing»، و«وليم بويد William Boyd»، و«توني موريسون Toni Morrison»، بالرغم من وجود آخرين لديهم المؤهلات المناسبة، وإن كانوا أقل شهرة. تقوم الهيئة الاستشارية بالإشراف على كل أوجه نشاط المؤسسة، التي يجب أن تُعَرَّف بأنها مؤسسة غير ربحية، وربما يكون من الضروري أن تقوم منظمة عالمية ما، بتمويل اجتماعاتها التحضيرية، كما يمكن أن يقوم بذلك أعضاء الهيئة، ممن يستطيعون تحمل نفقات ذلك.

مثل هذه المؤسسة يحتاج إلى التمويل، وفي الماضي كان الأفارقة يتلقَّون تبرعات ومساعدات مالية للنشر، والإنفاق على الندوات وورش الكُتَّاب، وكان ذلك جزءًا من المشكلة؛ لأنه يتضمَّن وجود شخصيَّات من الخارج، تدفع الفاتورة دائمًا، وهنا أقترح ألَّا يكون المانحون، من الأفراد أو المؤسسات والمنظمات العالمية فقط، لا بد من أن يكون هناك مؤسسات أفريقية، وشخصيات أفريقية (من الكُتَّاب خاصَّة)، إلى جانب الأفارقة في الشتات، كما يمكن قبول أي مبلغ، وتُكتب أسماء المانحين في التقرير السنوي للمؤسسة، مرتَّبة أبجديًّا، وليس حسب قيمة المبلغ، وكلي أمل في أن تكون معظم الأسماء أفريقية، لكي يشعر أبناء أفريقيا بأنها مؤسستهم.

أمَّا بالنسبة لعملية اختيار الكُتب، فينبغي أن تكون في يد الأفارقة بالكامل، وكثيرون منهم لديهم خبرة مباشرة بالنشر، ويمكن أن يكون هناك في السنوات الأولى نوع من المسابقات الأدبية على مستوى القارَّة (للرواية والشعر مثلًا) تختار هيئة التحرير من بين الأعمال المقدَّمة لها ما يُنشر سنويًّا، ولا بدَّ من التأكيد مرَّة أخرى على ضرورة أن تتم كل تلك الأعمال بأسلوب تطوعي، إلى أن يشتد عود المؤسسة، ومن الجدير بالذكر هنا، أن «شينوا أشيبي» هو الذي اختار المائة كتاب الأولى، لسلسلة «هينمان» عن الكُتَّاب الأفارقة، دون أية مكافأة عمَّا قام به.

لا بدَّ من أن يتم نشر الكتب، في أكبر عدد من الدول الأفريقية في الوقت نفسه (وهذا يتوقف على شبكة التوزيع كما سيأتي لاحقًا)، باستخدام ما لدى شركات النشر القائمة من تسهيلات، على أن تحتفظ دُور النشر المحلية لنفسها بجزء من أرباح كل طبعة، ولكن لا بدَّ من تسعير الكتب، بمستوى يجعلها في متناول جمهور واسع، وإهداء عدد من النُّسخ (قبل التوزيع) لوسائل الإعلام، بهدف الدِّعاية المسبقَة، إلى جانب إهداءات المكتبات العامة ومكتبات المدارس، ومن الضروري أن تصدر كل كتب المؤسسة في طبعات بالإنجليزية والفرنسية، ثم باللغات المحلية، بعد اتساع نطاق القراءة.

ليس من الضروري أن تُنشر الكتب في أكثر من ثلاث أو أربع دول، إذا كان بالإمكان إنشاء ما يكفي من شركات التوزيع، وهكذا فإن طبعة جنوب أفريقيا من عمل ما، يمكن أن تُوزَّع في بتسوانا، وناميبيا، وزيمبابوي، وزامبيا، ومالاوي، بأسعار مناسبة بالعملة الوطنية، يجب أن تكون مُثبتة على الغلاف، وغنيٌّ عن القول إنَّ التوزيع على نطاق جغرافي أوسع يفترض إزالة كثير من المعوِّقات الموجودة حاليًّا. بوجود كتبهم في كثير من الدول، يتحقَّق للكُتَّاب قدر كبير من الاعتراف بهم، وهو أحد الأهداف الرئيسية للمؤسسة؛ حيث إنَّ مُعظم النشر في القارَّة في الوقت الراهن محلي، فكاتبةٌ مثل «إيفون فيرا Yvonne Vera» مثلًا، قد تكون مشهورةً في زيمبابوي، ولكن نادرًا ما يُقرأ لها أو يسمع بها أحدٌ في غرب أفريقيا.
الفائدة الرئيسية التي يحصل عليها الكاتب من نظام كهذا، هي ظهوره للعيان، وخاصَّة إذا كانت اتحادات الكُتَّاب، والمنظمات، والمكتبات، والإعلام، والمؤسسات الأكاديمية، مشارِكة في ذلك، فليست «إيفون فيرا» مثلًا، هي وحدها المجهولة في غرب أفريقيا (على سبيل المثال)، بل إننا يمكن أن نقول ما يشبه ذلك، عن كاتب مثل «بن أوكري Ben Okri»، الذي لا يقرأه أحد في مناطق كثيرة من القارَّة، بالرغم من شهرته الواسعة في الغرب، والكُتَّاب الذين تَنشُر المؤسسة أعمالهم سيحصلون على عائدات مشتركة من الناشرين الأفارقة ومن الخارج، والهدف هو أن يستطيع الكاتب الاعتماد على هذه العائدات، بالإضافة إلى أنَّ المقدمة التي تُدفع للكاتب، لا بد من أن تكون مبلغًا مُحترمًا.

هذه المؤسسة لا بدَّ من أن يكون مركزها الرئيسي في أفريقيا، ويمكن أن يتم ذلك بشكل دوري، أو أن يكون لها عدد من المكاتب في المناطق الجغرافية الرئيسية في القارَّة، ولا بد من أن تُعتبر مؤسسة أفريقية، وليست غربية، وبمرور الوقت، يجب أن يزيد عدد الكتب التي تنشرها سنويًّا، مع اتساعها، وضخ دماءٍ جديدة في كيانها، ولا بدَّ من أن يكون من بين الأهداف البعيدة المدى لهذه المؤسسة، أن تكون مستقلَّة، وبمنأًى عن أي تدخُّل غربي، ولذا ينبغي استبدال الأعضاء غير الأفارقة في الهيئة الاستشارية بالتدريج، ومع زيادة الأرباح، يمكن الاستغناء — بالتدريج أيضًا — عن الدَّعم الاقتصادي الغربي، ويمكن أن تفيد المؤسسة من نموذج «جامعة أفريقيا» في زيمبابوي، التي أسستها في البداية إحدى الكنائس الإصلاحية في الولايات المتحدة، واستطاعت بالتدريج أن تقلِّص اعتمادها المالي عليها.

ويجب أن يكون من بين الأهداف الثانوية للمؤسسة إنشاء دُور نشر فردية في الدول الأفريقية، أو تقوية علاقاتها بالدُّور الموجودة، وكذلك إصدار مجلة أدبية مزدوجة اللغة، رخيصة السعر، وجذَّابة، ولكن على مستوى احترافي قدر الإمكان، كما أنَّ علاقاتها وارتباطاتها بعدد من المطبوعات الرئيسية التي تصدر في الغرب (مثل Transition، وBlack Renaissance/Noire وRevue Noir، والصحف ذات التوزيع المحدود)، قد تؤدي إلى قراءة أوسع لتلك المطبوعات في الدول الأفريقية.
على مدى أربعين سنة تقريبًا، كُنت مراقِبًا محظوظًا للمشهد الأدبي الأفريقي، مستفيدًا من امتياز ميلادي أمريكيًّا، ولو لم أمارس التدريس في نيجيريا في أوائل الستينيات، لمَا تمكَّنت من قراءة عمل «آموس تيوتولا»: «شَرِّيب نبيذ النخيل»، ولا رواية «أشيبي»: «الأشياء تتداعى»، ولَما كان بالإمكان معرفة مطبوعات أونيتشا، التي كانت هناك على بُعد أميالٍ قليلة من مكان إقامتي، ولا كنتُ قد استطعتُ أن أشتري الأعداد الأولى من Black Orpheus (أورفيوس الأسود)، أحد أهم المجلات الأدبية الأفريقية، عندما بدأ ظهورها في Mbari Club في أبادان، ولَما كنت قد بدأت في شراء بعض الأعداد من سلسلة «هينمان» للكُتَّاب الأفارقة، التي ظهرت في غرب أفريقيا، ولا اشتريت الطبعة الأولى من رواية «أشيبي»: «سهم الله» من أحد محلات بيع الكتب في «أنوجو»، بعد نشرِها بوقت قصير في إنجلترا.
هذه الميزة (أمريكي – أبيض – ينتمي للطبقة المتوسطة) هي التي جعلت كل ذلك ممكنًا، وعندما عُدتُ إلى الولايات المتحدة، كانت هذه الميزة نفسها هي التي مكَّنتني من البحث في المكتبات الأمريكية، وأن أبدأ القراءة لكُتَّاب من بقية القارَّة الأفريقية، وأن أُكمل دراساتي العليا في جامعتي «هوارد Howard»، و«إنديانا Indiana»، وأن أقوم في الوقت نفسه، بالتدريس والكتابة عمَّن كُنت «أكتشفهم» من الكُتَّاب، (الاكتشاف كان اكتشافي وحدي، أمَّا الأفارقة، فكانوا يعرفون أنهم موجودون بالفعل) ويا لها من اكتشافات رائعة: شُعراء الزنوجة … كُتَّاب جنوب أفريقيا المعارضين للأبارتايد (وكان كثيرون منهم يعملون في Drum)، ثم بعد وقت قصير، كُتَّاب مثل: «كامارا لايي Camara Laye»، و«سيميله م. كوردر Similih M. Cordor»، و«أتيوكوي أوكاي Atukwei Okai»، و«دون ماتيرا Don Mattera»، و«والي سيروت Wally Serote»، و«سيل شيني كوكر Cyl Cheney-Cooker»، و«أوزوالد متسالي Oswald Mtshali»، وغيرهم، ممن عرفتهم أثناء منحة سفرٍ قصيرة من هيئة فولبرايت سنة ١٩٧٣م.
واستمرت الميزة ليكون بمقدوري مراسلة الكُتَّاب الآخرين، ومقابلة الكثير من الكُتَّاب الأفارقة، عندما يزورون «واشنطن دي سي»؛ حيث كنت أقوم بالتدريس في معظم تلك السنوات، وكذلك لكي أتابع إنجازات «شوينكا» غير العادية، ككاتب ومُخرج لمسرحية Death and the King’s Horsemen في «مركز كينيدي» سنة ١٩٧٩م، والمؤكَّد أنها كانت واحدة من أجمل الأمسيات التي أمضيتُها في أحد المسارح، كما تمكنتُ من أن أطير في أفريقيا عدَّة مرَّات، وحضور «معرض زيمبابوي الدولي للكتاب»، وكنت عندما أريد معرفة مكان أية مادَّة مطبوعة في أفريقيا، سواء من الكتب أو الدَّوريَّات، أو الحصول عليها ولو على سبيل الإعارة، كان بإمكاني تحقيق ذلك بسهولة، وفي وقتٍ قصير. أتمنَّى أن يغير الإنترنت الأوضاع بالنسبة لكُتَّاب أفريقيا، عندما يصل مستوى الكهرباء والاتصالات في أفريقيا إلى المستوى الذي هو عليه في الغرب … هناك دائمًا مشكلة «عندما» و«متى»! فما هو متاحٌ بالنسبة لي، ليس في متناول الباحثين والأكاديميين الأفارقة. إنَّ رحلة طيران، من غرب أفريقيا إلى هراري، لحضور «معرض الكتاب الدولي في زيمبابوي»، مكلِّفة، بحيث لا يقدر عليها عددٌ كبير من الأفارقة، كما أنَّ حكوماتهم لا تستطيع مضاعفة الإعانات، أو الامتيازات الممنوحة لهم، والتي يعتبرها الأكاديميون الغربيون حقًّا مشروعًا، وإذا كان عدد محدود من كُتَّاب أفريقيا، هم الذين يستطيعون أن يعيشوا على أعمالهم، فكيف يمكنهم حضور مؤتمر في كمبالا، أو أكرا، أو كيب تاون، على سبيل المثال؟

كُتَّاب أفريقيا يعيشون في عالَم لا ميزات فيه ولا مزايا، قُرَّاؤه قليلون، منافذ النشر فيه غير كافية، دخول مَن يحبون شراء الكُتب هزيلة، كما أنَّ الكُتَّاب الأفارقة يفتقدون النقاد الجيدين، ونادرًا ما يصادفون قادة سياسيين مستنيرين، يكونون على استعداد للاعتراف بقيمة الفنون والآداب. الكُتَّاب لا ينعمون بالاستقرار الاجتماعي والسياسي، حياتهم مهدَّدة بالرقابة، والنفي الاضطراري، والسجن … وبما هو أسوأ، وبالرغم من ذلك كله، فقد ترك كُتَّاب أفريقيا المعاصرون بصمة لا تُمحى على عقل القارة، وعلى المشهد الأدبي العالمي. إنَّ الذين يقولون إنَّ القارَّة لم يخرج منها شيءٌ جيد، لم يقرءوا كُتَّابها، أولئك الكُتَّاب الذين حملوا على عاتقهم عبء النهوض بشعوبهم، ورسموا الطريق التي ستحملهم بعيدًا عن مُستنقع الحاضر، وقد فعلوا ذلك دون أن تكون لهم فُرص أقرانهم في الغرب، أو حتى في أمريكا اللاتينية.

الأزمة في الكتابة الأفريقية أزمةٌ حقيقية، ولكنَّها ليست أكبر من عجزنا عن التعامل معها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤