الفصل الثاني

في البدء كان الكلام مع الورق

«هذا هو موضوع الكتاب الخاص بسياسات اللغة في الأدب الأفريقي: التحرر الوطني والديمقراطي والإنساني. إنَّ الدعوة لإعادة اكتشاف لغتنا، والعودة إليها، هي دعوة لإعادة الصِّلة بملايين الأصوات الثورية، المُطالِبة بالتحرر في أفريقيا والعالم. هي دعوةٌ لإعادة اكتشاف اللغة الحقيقية للجنس البشري: لغة النضال. هي اللغة العالمية، الكامنة وراء كل الكلمات في تاريخنا، النضال … النضال وحده هو الذي يصنع التاريخ. النضال يصنعُنا. تاريخنا في النضال، ولغتنا ووجودنا أيضًا. هذا النضال يبدأ أينما كُنَّا، وفي كُلِّ ما نفعل. عندما نُصبح جُزءًا من هذه الملايين، الذين رآهم «مارتن كارفر» ذات مرَّة نائمين، لا لكي يحلموا، وإنما رآهم يحلمون بتغيير العالَم.»

نجوجي وا ثيونجو Ngugi wa Thiong’o
(Decolonising the Mind: the Politics of Language in African Literature, 1986)

«السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان الأفارقة يستطيعون الكتابة بالإنجليزية، وإنَّما ما إذا كان ينبغي عليهم ذلك، هل من الصواب أن يهجر المرءُ لغته الأم، ويتجه إلى لغةٍ أخرى؟ الأمر أقرب إلى الخيانة العُظمى، كما أنه يُولِّد شعورًا بالذنب.

بالنسبة لي ليس أمامي خيار آخَر، فقد أُعطِيتُ هذه اللغة، وسوف أستخدمها، إلَّا أنني أتمنى أن يكون هناك دائمًا أمثال الراحل الشيخ «فاجونوا»، ممَّن يختارون الكتابة بلغتهم، ويؤكدون أنَّ أدبنا العِرقي سوف يزدهر، جنبًا إلى جنب الآداب الوطنية، وبالنسبة لمَن اختاروا الإنجليزية منَّا، فأمامهم عملٌ كثير، وعالَم من الدهشة.

إنَّني أشعر بأنَّ اللغة الإنجليزية، ستكون قادرةً على حمل ثقل تجربتي الأفريقية، إلَّا أنها لا بدَّ من أن تكون إنجليزية جديدة، تبقى على صِلة ببيتها … بيت الأسلاف، ولكن يتم تطويعها لكي تناسب محيطها الأفريقي الجديد …»

«شينوا أشيبي Chinua Achebe»
(Morning Yet on Creation Day, 1965)

يحدث كثيرًا في الولايات المتحدة (وفي معظم الدول الغربية في الواقع) أن يقوم مَن يريدون أن يُصبحوا كُتَّابًا، بإرسال أشعارهم، وقصصهم القصيرة، إلى الصحف والمجلات، وهي عملية في غاية السهولة، ويساعد عليها وجود عددٍ كبير من المطبوعات، وعندما يواصلون ذلك، ويجوِّدون حِرفتهم بإصرار تكون أمامهم الفرصة لكي يجدوا في نهاية المطاف ناشرًا لأعمالهم. الشيء نفسه — مع قلَّة الفرصة إلى حدٍّ ما — ينطبق على الروايات والمخطوطات الطويلة الأخرى، والصحف حافلةٌ بنماذج من هؤلاء الكُتَّاب، الذين نجحوا ووجدوا طريقهم إلى الشُّهرة. صحيح أن مَن يشتهر هذا العام، قد يطويه النسيان في العام التالي … ولكن قافلة النجاح تسير في طريقها.

القليل من جوانب النشر هذه هو الذي ينطبق على كُتَّاب أفريقيا؛ إذ عندما انتهى «تيوتولا» من روايتَيه الأُوليَين لم يكُن واثقًا من وجود ناشر في نيجيريا يهمه أن ينشر أعماله، فأرسل المخطوطة الأولى إلى «فوكال برس» التي كان يعرف كتب التصوير الفوتوغرافي التي يصدرونها، وربما لم يخطر بباله أن تلك الدار، كانت معنية بنشر الكتب الفنية. كتابه الثاني «شَرِّيب نبيذ النخيل»، أرسله إلى الجمعية المتحدة للأدب المسيحي، بعد أن قرأ إعلانًا في «نيجيريا ماجازين»، وربما يكون السبب الأهم هو أنه كان يدرس في إحدى مدارس الإرساليَّات ذات يوم.

كان من حُسن حظِّه، أن يجد ناشرًا مثل «فيبر آند فيبر»، وبالرغم من أنَّ الكتاب تأخَّر طويلًا، فإنه نُشر في النهاية. في تلك السنوات، عندما كان «تيوتولا» يكتب، كان البريد مضمونًا ويُعتمَد عليه، وإنْ كان الأمرُ لم يكُن يخلو أحيانًا من سوء حظٍّ. في ١٩٥٧م، بعد أن انتهى «أشيبي Achebe» من «الأشياء تتداعى Things Fall Apart»، أرسل النسخة الوحيدة من المخطوطة، مع إذن بريدي بمبلغ ٣٢ جنيهًا، إلى أحد مكاتب السكرتارية في لندن؛ لكي تُطبَع على الآلة الكاتبة. لاحِظ المبلغ نفسه؛ إذ إنَّه أكبر من إمكانيات مواطن أفريقي في ذلك الوقت إذا عرفنا أنَّ متوسط دَخْل الفرد في نيجيريا آنذاك، كان حوالي ٣٠ جنيهًا.
من الصعب تأكيد ما إذا كان المكتب الذي أرسل إليه «أشيبي» مخطوطته، كان وكالةً قانونية أو لا، ولكن بعد عدَّة أشهر (وكثير من خطابات الاستفسار)، لم تصِل النسخة المطبوعة على الآلة الكاتبة، وحدث أنْ كان ﻟ «أشيبي» صديق مسافر إلى لندن، فذهب لكي يستطلع الأمر، وكما يقول «إيزنوا أوهايتو Ezenwa-Ohaeto»، كانت المخطوطة مُلقاة في رُكن من المكتب يعلوها التراب، وبعد أن طُبعَت — أخيرًا — كان لدى «أشيبي» خدمة نادرة من وكيل أدبي، استطاع في النهاية أن يبيع روايته ﻟ «وليم هينمان William Heinmann»، وقد روى «أشيبي» لمحرِّر أعماله «آلان هيل Alan Hill» أنَّ المخطوطة لو كانت قد سُرقَت أو فُقدَت «لَكان من الممكن أن يُصيبَني الإحباط فأترك الأمرَ برُمَّته، ولو كنتُ قد أجبرت نفسي على كتابة العمل مرَّة أخرى، لَجاء مُختلفًا تمامًا» (p. 63). ولعل المرء يتساءل عن عدد المخطوطات التي ضاعت لكُتَّاب أفارقة، في البريد، أو فُقدَت في دور النشر.

بالنسبة لكثير من كُتَّاب أفريقيا اليوم ما زال تسليم المخطوطات عمليةً محفوفة بالمخاطر، كما أنَّ عدد الناشرين قليل جدًّا للوفاء باحتياجات كُتَّاب القارة. الصحف والمجلات الأدبية، والمطبوعات المستعدة لنشر القصص القصيرة والأشعار، ما زالت قليلةً حتى في البلاد ذات الكثافة السكانية الكبيرة، مثل نيجيريا، وجنوب أفريقيا، والقليل منها هو الذي يَدفع للكُتَّاب، بالرغم من ظهور عدد من المطبوعات المتميزة في العقود الأخيرة، فإن معظمها — بما فيها تلك المدعومة من الجامعات — كان عمرها قصيرًا، كما أنَّ الكُتَّاب الأفارقة لم يكونوا أكثر توفيقًا في تسليم قصصهم وأشعارهم للمطبوعات الأمريكية والأوروبية أكثر مما كانوا في الخمسينيات. مرَّة أخرى، الأعمال تتأخر طويلًا، والبريد لا يُعتمَد عليه، ومُعظم الكُتَّاب معلوماتهم قليلة أو غير دقيقة، بالنسبة للمطبوعات المناسبة لتلقِّي أعمالهم.

وبالنسبة لدور النشر الأفريقية — كما سنرى لاحقًا — فالوضع ليس أفضل بكثير، والحقيقة أنَّ مئات الناشرين في أفريقيا، جنوب الصحراء، لا يُحبِّذ مُعظمهم نشر الأعمال الإبداعية، وإنَّما تركيزهم على الأعمال الفنية غير الروائية، أو الكتب التعليمية، أمَّا الذين يَنشرون الروايات والأشعار، فإلى جانب قلَّة عددهم، لا يشجعون الكُتَّاب غالبًا، وغير قادرين على رعاية الكُتَّاب المبدعين، وغير أمناء في محاسبتهم، وهامشيون لدرجة أنَّ كثيرًا من الكُتَّاب ما زالوا ينظرون إلى الخارج بحثًا عن ناشر، وبخاصة في المملكة المتحدة وفرنسا، هناك طبعًا استثناءات، ولكن عدد الناشرين الأفارقة — الداعمين للمغامرات الإبداعية للكُتَّاب الأفارقة السُّود — قليل جدًّا، إلَّا أنَّ الكُتَّاب يحاولون — على مدى سنوات عدَّة — بَحْث هذه القضايا في محاولةٍ لتحسين الأوضاع.

سوق الأدب في «أونيتشا»

في أوائل الستينيات، عندما كنت أقوم بتدريس اللغة الإنجليزية، في إحدى المدارس الثانوية للبنين، التي لا تبعد كثيرًا عن «أونيتشا»، في المنطقة الشرقية من نيجيريا، كنت أواجه صعوبات في تحضير تلاميذي لامتحانات شهادة إتمام المرحلة. لم تكُن تلك الصعوبات خاصة بمشكلات التعلُّم؛ فتلاميذي كانوا من أكثر التلاميذ اجتهادًا على مدى عملي بالتدريس لمدة أربعين سنة، كانت المشكلة، بالأحرى، ذات طبيعة ثقافية. في تلك الأيام لم يكُن قد تمَّ «أفْرَقة» المواد الدراسية، وعليه: فقد كانت المختارات الأدبية كلها من أعمال كُتَّاب إنجليز، وكانت روايات العصر الفيكتوري مكروهة من قِبَل التلاميذ بسبب طولها، وأذكر منها على نحو خاص، رواية «بعيدًا عن الزحام المجنون» ﻟ «توماس هاردي: Thomas Hardy»، التي كانت تضم مئات الصفحات، ولا بد من أن تكون مُربكة لتلاميذ لغتهم الأولى هي «الإيجبو»، ولكن مع العزم والإصرار، لم يكُن طول الرواية مزعجًا أكثر من مضمونها: مسرح الأحداث غريب، والشخصيات مختلفة تمامًا عن الناس الذين يعرفونهم ويعيشون من حولهم، والمواقف مُحيِّرة، إن لم تكُن عَصية على الفهم. لماذا — مثلًا — كل تلك الضجَّة عن رجال ونساء في علاقات جنسية؟ كان من الصعب على التلاميذ أن يفهموا الحب الرومانسي بالأسلوب الغربي، أما الممارسات الجنسية الغربية فكانت أكثر إرباكًا. بعد انتهاء دروس أحد الأيام، جاءني تلميذ ليسألني: «عفوًا يا أستاذ، ما معني يُقبِّل؟»
تصوَّرت في ذلك الوقت أنه تلميذ ساذج، ولكنني اكتشفت جهلي بعد ذلك؛ حيث لم أكُن أعرف أنَّ التقبيل (والمداعبات الجنسية)، ليست ممارسات عامة يشترك فيها الجميع، بدافع من عوامل بيولوجية، فلا عجب، إذَن، أن تكون كل تلك اللقاءات المهتاجة بين «جابرييل أوك Gabriel Oak» و«باتشيبا إيفردين Bathsheba Everdene»، غير مفهومة لتلاميذي، وخاصة تلك القبلات (أو بالأحرى القبلات التي لم تكتمل)، ولذلك ليس من الغريب أن يكون الكثير من الأدب الذي يدرسونه، ليس له معنى بالنسبة لهم.

بذكائهم المعروف، كان النيجيريون — والإيبو بخاصة — قد بدءوا يكتبون قصصهم، أو «يتكلمون مع الورق» (إن كان لنا أن نستعير عبارة شوينكا)، وهو ما كان يُلبِّي رغبة القارئ النيجيري ثقافيًّا وتعليميًّا واقتصاديًّا. بدأت سوق الأدب في «أونيتشا»، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما كانت معرفة القراءة والكتابة بالإنجليزية، أكثر منها في أيِّ وقت مضى، وكانت النقود متوفِّرة، وتكفي لما هو أكثر من الاحتياجات الضرورية، والمطابع مُستعدة لتبدأ إنتاج مواد محلية، من أجل طبقة ناشئة، تعرف القراءة والكتابة.

أهداني أحد تلاميذي في المدرسة الثانوية (واسمه جي (جوزيف) يو تاجبو نزياكو J. (Joseph) U. Tagbo Nzeako) نُسخةً من روايته «روز دارلنج في حديقة الحب» التي أصدرتها له إحدى مطابع «أونيتشا»، وأنا أتفحَّص هذه النسخة بعد ثلاثين عامًا أو أكثر، أتذكَّرها باعتبارها هي التي قدَّمَتني لظاهرة ثقافية، كانت تطرح نفسها أمام العالَم الحقيقي، وليس للخطاب الأكاديمي في قاعة الدرس.
«روز دارلنج في حديقة الحب» Rose Darling in the Garden of Love عبارة عن نصٍّ من ٢٩ صفحة، يسبقه أجزاء عديدة على هيئة مُقدِّمات مطبوعة على ورق جرائد، أصبح الآن في حالة سيئة، ورق الغلاف أسمَك قليلًا، كان أخضر اللون في الأصل، والآن باهِت. إلى جانب عنوان الرواية واسم المؤلف، هناك تعريف بالكاتب، وهو أنه طالب سابق بمدرسة الدكتور أكونجو التذكارية (وذلك لكي يعرف مشتري الرواية المحتمَل أنَّ المؤلِّف وصل إلى المرحلة الثانوية، ولم يكُن ذلك بالإنجاز البسيط في تلك الأيام)، كما يعرِّف الطابع/الناشر، بأنه محلَّات «تابانسي» للكتب Tabansi Bookshops وعنوانه: 55 New Market Road في «أونيتشا»، وثمن النسخة (1s. 6d.) والغلاف مُزيَّن بزهور متشابكة ونبات مُعترش، وهذه المعلومات نفسها، نجدها مُكرَّرة على الصفحة الأولى، دون ذِكر ثمن النسخة. بعد ذلك يوجد فهرست المحتويات (ويذكر عناوين الفصول الاثني عشر)، ثم صفحة شكر وتقدير، وتصدير، ومُقدِّمتان افتتاحيتان: أمَّا الشكر فمعظمه لمدرِّسي المؤلِّف ولأصدقائه في المدرسة الثانوية، ثم تأتي بعد ذلك ملاحظة موقَّعة: «جميع المدُن والشخصيَّات والمدارس المذكورة في هذه القصة، من وحي الخيال، ولا تُشير إلى أي شخص أو مؤسسة، والقصة نفسها خيالية، وبالتالي ليس لها علاقة بأية شخصية حقيقية.» ثم بعد ذلك نجد اسم المؤلِّف.
تبدأ المقدمة على النحو التالي: «الناس في هذا القرن يُحبون دون قيود، يُعجَبون بالأشياء الجميلة، ويتزوَّجون المرأة الجميلة، ولا يفكرون كثيرًا في الشخصية.» ثم تنتقل بعد ذلك إلى رسالة المؤلف: «ينبغي على الناس أن يختاروا شركاءهم في الحياة، على أساس أنهم سوف يشاركونهم فيها، وليس لأن البنات جميلات، أو لأن الرجال يشغلون مراكز مُهمة، ويركبون السيارات» (p. 2). ثم تنتهي هذه «المواعظ» بالإشارة إلى مصير «روز»: «هنا قصة أجمل فتاة مغوية، لم تُحسن جَدَّتُها العجوز تربيتها، حيث كانت (يقصد الجدَّة) في الخامسة والستين، وتحب شابًّا في العشرين. هذه التربية السيئة، كانت سببًا في كثير من خيبات الأمل بالنسبة لها (يقصد الفتاة)، كما كانت سببًا في نهايتها» (p. 3). وبعد هذا الجزء أيضًا، نجد اسم المؤلِّف وعنوانه البريدي.
المقدِّمة الأولى كتبها «صني أوكلو Sunny Okolo»، وتتضمَّن جزءًا عن أهمية «نزياكو Nzeako»، بوصفه كاتبًا: «لا شك عندي في أنه سيكون كاتبًا عظيمًا في المستقبل القريب، إلَّا أنك إذا قرأتَ قصصه الأكثر إثارة مطبوعة، فسوف تكتشف أن نيجيريا أصبح لديها «بيكون».» ويُنهي المقدِّمة بقوله: «لن أتردَّد في القول إن هذا الكتاب يستحق مكانًا في مكتبة، وأنه سيجد تذوُّقًا يساعد الكُتَّاب الروائيين» (p. 4). المقدِّمة الثانية كتبها «تومي أ. أسيجبو: Tommy A. Asiegbu»، وتواصل تأكيد الجوانب الإيجابية والنموذجية في كتابة «نزياكو»: إنَّ «روز دارلنج في حديقة الحب» محاولة للتربية الأخلاقية للناشئة والكبار الذين ذاقوا فاكهة المرارة والحسرة، والذين يريدون التجربة. ولنقُل بصراحة … إنَّ هذه محاولة يقوم بها تلميذ، وهي لن تفشل في إلهام كثير من تلاميذ الأدب، كما أنَّني أرشِّح هذا الكتاب لكل «توم» و«ديك» و«هاري» (p. 5). والمقدِّمة الثانية بتاريخ ٢٢ يوليو ١٩٦١م، وهو التاريخ الوحيد في الكتاب كله، ولا ذِكر لحقوق النشر؛ مما يجعلنا نُخمِّن أن يكون «نزياكو» قد كتب هذا الكتاب، بعد أن أنهى المرحلة الابتدائية مباشرةً.

بداية الفصل الأول: «روز» فازت بحب «أُولا»:

في كوخٍ صغير من حجرتَين في أدوري — قرية في تقسيم أوكوم — كانت تعيش عجوزٌ درداء، تحب البهرجة، وكانت مجنونةً بممارسة الجنس، وكانت في الستين، وتحب شابًّا في مثل عُمر أحفادها. هذه المرأة كانت لها ابنةٌ اسمها «روز»، وكانت ابنة زنا، وعندما كبرت كانت هي الأخرى مشهورة بممارسة الجنس.

كانت «روز» تُحب شابًّا ضعيف البِنْيَة، اسمه «أُولا». عندما تقابلا لأول مرَّة في الاستاد الرياضي، سحَرَها بشخصيته وبجسده الذي يغطِّيه الشَّعر، وبجاذبيته غير العادية. كان عندما يعود إلى منزله يسلك شارع «برايت» عمدًا، وكان هو أيضًا شارع الفتاة، التي كانت جالسةً أمام منزلهم، تأكل البيض. كان «أُولا» قد اشترى درَّاجة جديدة، وكان يريد أن يستعرض أمامها، وعندما رآها، نظر إليها باهتمام. زاد من سرعته ولكن لسوء حظه اصطدم بكتلة من الخشب ووقَع. أسرعَتْ «روز» إليه وأحضرَت له ماءً ليغسل يدَيه. «أُولا» شكرها بكلماتٍ جميلة، وبصوته الناعم، أمَّا هي فنظرَت إليه تلك النظرة الغريزية مثل كل النساء، وبعدها افترقا. (p. 3)

هل يمكن أن يقاوم أي تلميذ يتصفَّح هذه البداية، في محل «تابانس لبيع الكتب» شراء نسخة من هذا الكتاب؟ «روز»، كما يكتشف القارئ الذكي، سوف تعيش كما كانت تعيش أمها، أي في حالة انفلات جنسي.

القصة تتحرَّك بسرعة، بعد حادث دراجته بيوم واحد، يكتب «أُولا» رسالةً طويلة إلى «روز»، يعترف فيها بحبه لها، ويقول إنَّه مُتيَّم لدرجة أنه يحلم بها في يقظته. «روز» تُقبِّل الرسالة أثناء قراءتها، وسُرعان ما يتزوجان، وبسرعة أيضًا تتدهور صحَّة «أُولا» الجسدية والنفسية؛ بسبب مرضٍ مجهول «كان يشرب الماء، ولكن بِوَلَه الذي كان يحتوي على ديدان صغيرة كان له لون الشوفان» (p. 13). ولو كان الكتاب مُعاصرًا، فلربما كان «الإيدز» هو سبب موت «أُولا»، وهو الموضوع الذي أصبح مسيطرًا على الأدب الروائي في القارة. بعد موت «أُولا»، تُقرِّر «روز» التي يطحنها الفقر أن تنتقل إلى مدينة أخرى لتبدأ حياتها من جديد.
تعيش «روز» قصة حبٍّ قصيرة مع «موسي Mossy» (تلميذ آخَر) ولكنه يتنكَّر بعد العودة إلى المدرسة، ثم تتزوَّج «إيدي Eddy» الذي يكبرها بسنوات، ويبدو أنها فعلت ذلك لكي تشعر بالأمان، وليس لأنها كانت تحبه. مرَّة أخرى تُصبح اللذة هي هدفها في الحياة، فتترك طفلها لتتزوج شابًّا آخَر، يتخلَّى عنها بعد أن يكتشف خياناتها الجنسية، وعند هذه النقطة، يبدو أن «روز» قرَّرَت أن تُنهي حياتها (كما يُقرِّر المؤلِّف أن يُنهي القصة)، فتشرب «كوبًا من الدِّي دي دي.» (دي دي تي؟) و«بجوار جُثتها كانت هناك نُسور وطيور، ربما كانت تتفجَّع عليها، وربما كانت تبحث عن وجبة إفطار.» وباللغة نفسها، «الوعظ والإرشاد»، تنتهي القصة كما يلي:

«روز» التي رَقص عشرات ومئات العُشَّاق في ساحة قلبها العاطفي الجائع، ماتت وحيدةً وفي بؤسٍ تام. لم يكُن هناك أحد ليُقبِّل شفتَيها الذابلتَين أو يضمُّها للمرَّة الأخيرة، أمَّا الأسوأ من ذلك كُلُّه، أنه لم يكُن هناك أحد ليقوم بإجراءات الدَّفن النهائية.

أمَّا نهايتها المحتومة، فكانت نموذجًا لعقاب السَّماء لمَن يتَّبعون طريق «روز دارلنج»؛ لأنَّ مَن يخدع الناس ينبغي ألَّا يمضي دون عقابٍ. (p. 29)
مثل هذه المواعظ الثقيلة، يمكن أن نجده في عدد من الكلاسيكيات الغربية: (Manon Lescaut, Thérèse Raquin, Sister Carrie). والتصدير والمُقدِّمات، تكرار لمحاولات إضفاء الصدق، وهذا أيضًا موجودٌ في الروايات الغربية الباكرة، نذكر مثلًا Moll Flanders أو Les Liaisons dangereuses، ومَزاعم المؤلِّفين بأنَّ القُرَّاء، الشُّبَّان على نحو خاص، لن يضلُّوا بقراءة مثل هذه الكتب، التي يمكن أن تكون مادةً جيدة للتوجيه والإرشاد، وكان مثل هذه العبارات، يُستخدَم بالطبع للتغطية على المضامين الداعرة لبعض الروايات الغربية الأولى، كما كان الهدف منها في المقام الأول، هو الترويج للكتب، أكثر ممَّا هو الدعوة إلى الفضيلة.

ربما يبدو من النظرة الأولى أنَّ رواية «روز دارلنج في حديقة الحُب» للكاتب «ج. يو تاجبو نزياكو»، لا تستحقُّ مثل هذا التحليل الطويل؛ حيث لا أهمية كبيرة لها في ظهور أدب في هذه الدولة، أو في القارة، إلَّا أنَّ عشرات الروايات المشابهة، قد تدفَّقَت من أقلام كُتَّاب «أونيتشا»، ثم بعد فترة وجيزة من أقلام آخَرين في دول أخرى. (غانا – كينيا – جنوب أفريقيا – زيمبابوي)، أمَّا أهمية هذه الكتابات، فهي أنها قدَّمَت منبرًا، كانت هناك حاجةٌ ماسَّة له بالنسبة للكُتَّاب «الجُدد»، الذين كان تعليمهم لا يزيد كثيرًا على تعليم قُرَّائهم.

مؤلِّفو كُتيِّبات أونيتشا The Onitsha Pamphleteers، كما يُطلَق عليهم، كانوا يكتبون أعمالًا يتم إنتاجها بتكلفة زهيدة، وبالتالي كان بالإمكان الحصول عليها في مُعظم الأحيان بملغٍ لا يُذكَر، مُقارنةً بثمن كتاب مُستورَد، وعلى خلاف الأعمال الأجنبية المستوردة، كانت نُصوصُهم تدور في بيئات قُرَّائهم نفسها، كما يُمكن التعرُّف على المواقف والأماكن والشخصيات. ومرَّة أخرى فإن أوجُه الشَّبَه بين هذا الأدب ونشأة الرواية في أوروبا — وبخاصَّة في إنجلترا وفرنسا — لا يُمكن المغالاة في التأكيد عليها، كما هو صحيح أيضًا أنَّ مُعظم ما نُشر في «أونيتشا» — كما حدث قبل ذلك في الغرب — لم يكُن أعمالًا روائية، وإنَّما كانت كُتيِّبات شعبية وتعليمية.
كانت الكتب التعليمية في الأساس تُلبِّي رغبات الناشئة والأشخاص الذين يريدون أن يُحسِّنوا حظوظهم في الحياة؛ فعلى مدى قرون، كانت كُتب «الإيتيكيت» تروق لمَن يريدون صُعود السُّلَّم الاجتماعي، ويخشون الوقوع في هنات اجتماعية مُحرِجة، وبظهور كتب «أونيتشا»، سُرعان ما ظهرت كتب لتعليم الناس كيفية تحسين أوضاعهم، ولذلك تجد عناوين كثيرة مثل: «الأقوال المأثورة لجميع المناسبات» و«حِكَم وأمثال» و«الإنجليزية والإنشاء الجيد» من تأليف «تشيدي م. أوهايسي Chidi M. Ohaejesi»، الذي يُعرِّف نفسه بأنه «صحفيٌّ وكاتبٌ حُر»، أو كتب مثل: «كيف تُنظم الاجتماعات وتُجيد عمل الرئيس والسكرتير والصرَّاف والمُحاسب … إلخ؟» من تأليف «ولفرد أنووكا Wilfred Onwuka» «مؤلِّف وشاعر وممثِّل روائي وكاتب مسرحي.» أو ذاك الذي كُنت أعتبره كتابي المفضَّل لفترة طويلة … بسبب الأخطاء الطباعية في عنوانه: «كيف تتجنَّب الخطأ وتعيش حياةً جيِّدة» تأليف: كي سي إيزه K. C. Ezeh، وكانت الكُتب التعليمية مرتبطةً دائمًا بما هو شخصي (البحث عن شَريكِ حياة مثلًا)، كما في عناوين مثل: «كيف تُصاحِب البنات؟» تأليف: «جي أبياكام J. Abiakam»، و«كيف تتكلم مع البنات وتكسب قلوبهن؟» للمؤلِّف نفسه، و«احذر بنات الهوى وكثرة الأصدقاء … الحياة صعبة» تأليف: «جي أُو مندوزي H. O. Mandozie»، و«كيف تتزوج فتاة جيدة وتعيش معها في سلام؟» (المؤلف مجهول)، ثم عنوان من وحي العنوان السابق، «دليل الشاب النيجيري الأعزب» تأليف: «أ. أُو أودي A. O. Ude»، ويحتوي على أسئلة وأجوبة، ونقرأ فيه (في فصل أسئلة البنات مثلًا): «إذا أراد زوجُك أن يجلدك أو إذا جلدك بالفعل، ماذا يكون ردُّ فعلك؟» «سأبذل كل ما في وسعي لمقاومة الجلد، ولكنني لن أتقاتل معه» (p. 49).
كانت القضايا السياسية من الموضوعات التي فرَضَت نفسها أيضًا على كُتَّاب «أونيتشا»؛ حيث نجد عناوين مثل «المحاكمة الكاملة لأدولف هتلر» تأليف: جي سي أنورس J. C. Anorue، و«كيف قاسى لومومبا في الحياة وكيف مات في كاتنجا؟» تأليف: أوكينوا أوليسا Okenwa Olisa، و«قصة حياة وموت جون كينيدي» تأليف: ولفرد أونونكا Wilfred Onwnka، وهي كُتب تجتمع فيها الحقيقة والخيال، وكانت غالبًا ما تصدُر بعد أسابيع من وقوع حدث تاريخي (مثل اغتيال كينيدي). في هذا الكتاب الأخير، الذي يروي فيه جانب كبير من الأحداث، في قالبٍ درامي، يقف كينيدي في السيارة، بعد إطلاق النار عليه مباشرةً ويُلقي كلمة طويلة منها:
فليرحم اللهُ روحي وروح قاتلي لأنه لا يعرف ما فعل،
بوركت أرض أمريكا،
بوركت شعوب وحُكَّام العالَم،
بوركت روح إبراهام لينكولن، الذي مات بسبب تحريم العبودية وتجارة العبيد سنة ١٨٦٤،
بورك أبي وأمي العزيزان،
بورك إخواني وأخواتي،
بوركَت زوجتي وأطفالي،
بورك زنوج أمريكا، الذين أضحِّي بدمي من أجل سلامتهم،
بوركَت روحي، ووداعًا لأصدقائي (p. 22-23).
كما يوجد شَبَه لافِت بين الكتابات السردية الباكِرة الأخرى، ونظيرتها الغربية مثل: الحياة في السجن «إنَّها حياة صعبة» تأليف: أوكينوا أوليسا Okenwa Olisah والرواية الإنجليزية المعروفة The Black Dog of Newgate الصادرة عام ١٦٠٠م.
إلَّا أنَّ أشهر عناوين «أونيتشا» كانت روايات مُتخفِّية في سرديات جنسية، من ثلاثين إلى سبعين صفحة، مثل الرواية الشهيرة «روزماري وسائق التاكسي» تأليف: ميللر أُو ألبرت Miller O. Albert، و«أحزان الحب»، و«آجنس ولعبة الحب» تأليف: توماس إيجو Thomas Iguh، وقد طُبعَت هذه الأعمال الشهيرة أكثر من مرَّة، ووصل إجمالي المُباع من بعضها مائة ألف نُسخة، وربما أكثر، بالإضافة إلى أنَّ مُعظم مطبوعات «أونيتشا»، كان يتم تداوُلها بين قُرَّاء كثيرين، وهو ما ينطبق على مُعظم الأعمال الأدبية الجماهيرية في القارة.
أحد أشهر هذه العناوين «ميبل، أو الجميلة التي ذَوَت» تأليف: «سبيدي إيريك Speedy Eric» (A. Onwudiwe)، التي نجِد على غُلافها صورة لفتاة قوقازية مُنحنية، في رداء شديد القِصَر، وتحتها الفقرة التالية: «بشرتُها تجعل دمَك ينساب في الاتجاه الخطأ، كانت جميلة ومثيرة وتعرف كيف تُمارس الحُب، تزوَّجَت في السادسة عشرة من عُمرها، ولكنَّها كانت تريد المزيد من الاستمتاع، إلَّا أنها قضَت في السابعة عشرة، ويا لها من نهاية! رواية مُثيرة.»
«ميبل أو الجميلة التي ذَوَت» تُشبه إلى حدٍّ كبير روايات البورنو الغربية، ذات النكهة الخاصَّة «البنت التي كانت في حالة اهتياج شديد، طوَّقَت بذراعَيها رقبته، وراحت تلعق شفتَيه، وفي الوقت نفسه، كان «جيل» قد ترك أصابعه في شَعرِها، وراح يُدغدغها بشهوانية» (p. 47). ومثل كُل كتابات «أونيتشا»، كان النصُّ حافلًا بالأخطاء الطباعية؛ فعُمَّال الطباعة أيضًا كانوا قليلي الإلمام بالقراءة والكتابة.
في مقال في مجلَّة Transition (التي كانت تصدُر في شرق أفريقيا آنذاك)، يقدر «دوناتوس آي نووجا Donatus I Nwoga» (من الإيبو)، أنه بحلول سنة ١٩٦٣م كان قد صدر في «أونيتشا» ما يقرُب من مائتَي كُتيِّب، وفي تقديري الشخصي، أن هناك قرابة مائة عنوان أخرى ظهرت سنة ١٩٦٧م، عندما بدأت حرب «بيافرا» — الحرب الأهلية النيجيرية — دمَّرَت بالفعل سوق «أونيتشا»، التي كانت تُعتبر رمزًا للسيطرة المالية للإيبو في البلاد، وبعد انتهاء الحرب بفترة قصيرة دارت المطابع مرَّة أخرى، لكي تنشر قصص ما حدث أثناء الصراع نفسه، أمَّا أشهر عمل دراسي عن هذا الأدب، فهو كتاب: An African Popular Literature: A Study of Onitsha Market Pamphlets. من تأليف «إيمانويل أوبيتشينا Emmanuel Obiechina»، الصادر عن قسم النشر بجامعة كمبريدج في ١٩٧٣م، ويتضمَّن تحليلًا مُسهبًا للأدب نفسه (وبأفكار نافذة عن العلاقات الرومانسية، والدين والأخلاق، وتأثير السينما والصحف واللغة الشيكسبيرية، بالإضافة إلى القصص الرومانسي لماري كوريللي، وبيرتا كلاي عن الكتاب)، كما يضم ببليوجرافيا طويلة، وينتهي التحليل للعلاقات الرومانسية الغربية، التي صوَّرَتها روايات أونيتشا — على سبيل المثال — كما يلي:
«الحُب الرومانسي، الذي نُقل من تربته الغربية الأصلية، إلى التُّربة الأفريقية التقليدية، التي كانت تبدو مُعادية، استطاع أن يعيش بالرغم من كل شيء، وأصبح أحد الحقائق المُعاشة في أفريقيا الحديثة، كما أنه لا بد من أن يكون في اعتبار كلِّ مَن يريد أن ينظر إلى القارة بكاملها. وجوده لم يغفله أحد من المُعلِّقين على أحوال المجتمع، وخاصة أولئك الفنانين والكُتَّاب، الذين يُعبِّرون عن هذه اللحظة المُعيَّنة، وكُتَّاب سوق أونيتشا ليسوا استثناءً» (p. 41).

الجمهور

من الصعب أن تقرأ عملًا مثل «روز دارلنج في حديقة الحب» أو «ميبل: الجميلة التي ذَوَت»، دون أن تدهشك المواقف الطريفة والحوارات المرِحة … والأخطاء الطباعية. هنا جزء اخترناه — على نحوٍ اعتباطي — من «ميبل»:

«جاء رجل مرِح في الحادية عشرة صباحًا، وصفع «ميبل» على ردفَيها وقال: «هه! لو أعطوني هذا فلن أطلب طعامًا أكثر من ذلك!» حملقَت مُغضَبة في الرجل الذي كان يبدو أنه لا يقِلُّ عن الثلاثين من العمر، كان له وجه مربعاتي وذراعان مفتولان، وكان شديد السواد، لكنَّ بشرته كانت نظيفة لامعة، وكأنها مدهونة بمادة مُلمِّعة.»

قالت له بصرامة: «كُف عن ذلك»، قال: «حسنٌ يا حلوة، ولكنك مثل العسل لدرجة أن أي رجل لديه شهية جيدة، لن يملك إلَّا أن يدفع إصبعه فيه بقوة … ويلعق ويلعق!» (p. 35)
يُمكن أن نجد أشياء مُشابهة لذلك في الأدب الغربي، كما كُنت ألاحظ بين تلاميذي، حالات مُشابهة من الضَّحك، وأنا أقرأ لهم نماذج من بعض الروايات الأمريكية، التي كانت تُكتَب في مطلع القرن. كانت ردود أفعالهم مثلها، عند قراءة بعض المقاطع من روايات «هوراشيو آلجر الابن Horatio Alger Jr.»، التي تُشبه كثيرًا روايات «أونيتشا». الزمن والثقافة تُصبحان بمثابة أحجار عثرة، وتؤديان إلى كل أشكال الأفكار المُسبَقة عن مضامين الأعمال، كما أنَّ السذاجة الثقافية، هي التي تُسهِم دائمًا في قبول أو رفض الأعمال الأدبية الأفريقية من قِبل المحررين الغربيين. وهناك مثال — ربما يكون مشكوكًا في صحَّته — يذكره كثير من الباحثين والدارسين الأفارقة على مدى السنوات؛ إذ يُقال إنَّ عملًا لأحد الروائيين الأفارقة تم رفضه، لأنه لم يكُن «أفريقيًّا بما يكفي». مثل هذا التوجُّه من قِبل المحرِّرين الأوربيين — سواء كان توجُّهًا حقيقيًّا أو متوهَّمًا — لا بُد من أن يكون له تأثير سلبي على الكاتب، الذي يُحاول أن يحدد جُمهوره. لمَن يكتُب الكاتب الأفريقي إذَن؟
مُجرَّد فِعل الكتابة والنشر في أفريقيا، كان يعني أن كُتَّاب «أونيتشا» يُقدِّمون بيانًا واضحًا عن جمهورهم: إنَّهُم يكتبون للقرَّاء الأفارقة. كان ذلك صحيحًا، إلى حدٍّ ما، بالنسبة للكُتَّاب الأوائل، الذين بدأت أعمالهم في الظهور بعد الحرب العالمية الثانية، بالرغم من أنَّ «آموس تيوتولا» سيظل وحده حالةً خاصَّة. يبدو لي أنه كان يكتب من أجل شعبه، ولكن القُرَّاء الأوربيين والأمريكيين، أعجبتهم قصصه، وهذا شيء جيد، إلَّا أنه لم يكُن على استعداد لأن يُغيِّر نَفْسه من أجلهم، على أي نحو. رواية «شنوا أشيبي Chinua Achebe»: «الأشياء تتداعى» شيء مُختلف، كما يُمكن أن يُستدَل على ذلك بأي عدد من الأجزاء في النصِّ نَفْسه. في الفصل الأول مثلًا: «أُكوي Okoye قال الجُمل الست التالية على هيئة حِكم وأمثال، فن الحديث بين الأيبو له احترام كبير، والحِكم والأمثال، هي الرسم الذي يجعل الكلام طيِّب الطعم والمذاق» (p. 7). التفسير الأنثروبولوجي لأهمية الحِكم والأمثال، ليس ضروريًّا بالنسبة للقُرَّاء الإيبو، أو لمعظم الأفارقة دون شكٍّ، ولكن «أشيبي» لا بد من أن يكون قد لاحظ درجة معيَّنة من الارتباك بين القُرَّاء الغربيين، ومن هنا كانت التفسيرات والشروحات التي يستخدمها أشيبي في روايته، مثلك «كان له «تشي Chi» سيئ، أو إله شخصي». (p. 18)

عندما أرسل روايته «الأشياء تتداعى»، إلى وكيل أدبي إنجليزي (لكي يُقدِّم العمل إلى ناشر بريطاني)، كان «أشيبي» يضع في اعتباره القارئ الغربي، الذي سيكون في حاجة إلى مساعدةٍ لفَهم المادة الثقافية الخاصة، ولكن «أشيبي» قدَّم، كذلك، تفسيرًا آخَر، وهو أنَّ ثقافته الخاصة، كانت هي الأخرى تتغيَّر بسرعة، بعد الحرب العالمية الثانية، لدرجة أنَّ مُعظم مادة خلفية روايته (وغيرها مما سيجيء بعد ذلك)، كانت مُتضمِّنة لكي يكون لدى شعبه سجِلٌّ لحياته، قبل أن تختفي ويطويها النسيان، وكما كتب في مقال شهير له بعنوان «الكاتِب مُعلِّمًا»:

إنَّ الكاتب الأفريقي لا يمكن أن يعفيه أحدٌ من مهمَّة إعادة التعليم وإعادة التجديد التي يجب أن تتم، أمَّا من جانبي … لا أريد أن يعفيني أحد من ذلك، ولسوف أشعر بالرضا لو أنَّ رواياتي (وخاصةً تلك التي تتناول الماضي)، لم تفعل شيئًا سوى أن تُعلِّم القُرَّاء أنَّ ماضيهم — بكل ما فيه من عيوب — لم يكُن ليلًا طويلًا من الوحشية، خلَّصَهم منه الأوربيون الأوائل، الذين جاءوا للعمل باسم الرب. ربما يكون ما أكتبه فنًّا تطبيقيًّا بعيدًا عن الفنِّ الخالِص، ولكن مَن ذا الذي يهتم بذلك؟ الفن مُهم … ولكن ذلك النوع من التعليم الذي في ذِهني مُهم أيضًا.

(Morning Yet on Creation Day, p. 45)
كانت «أمانة» و«أصالة» الكُتَّاب الأفارقة دائمًا مادَّة نقاش حي في المؤتمرات والدراسات الأكاديمية، ومثل هذه الخلافات والنزاعات ليست خاصةً بكُتَّاب من القارة الأفريقية فقط، وإنما هي جزءٌ لا يتجزَّأ من الضغائن الأكاديمية في التفكيكية، بما في ذلك الخلاف المُحتدِم حول تعريف النص. الكاتب الأمريكي الأصل «هيميوستس ستورم Hyemeyohsts Storm» مؤلِّف الرواية الرائعة Seven Arrows (سبعة سهام) (١٩٧٢م) على سبيل المثال، كان يتساءل على نحوٍ مُتكرر عن «هنديته»، بالرغم من تعلُّمه على أيدي كبار رجال القبائل.
وهكذا فإن الجدل الدائر حول الجمهور، ولمَن يكتُب الكاتب الأفريقي، سيظلُّ مُسيطرًا على الخطاب في المستقبل، مثلما كان في الماضي؛ فهل كان شعراء الزنوجة (الذين كانوا يدرسون في فرنسا في الثلاثينيات) يوجِّهون أعمالهم إلى أقرانهم في الوطن — في القارة — وفي جزر الهند الغربية أم إلى الأوربيين، آملين أن يُسرع خطابهم بعملية الاستقلال؟ هل كان الكُتَّاب السُّود في جنوب أفريقيا إبَّان بؤس التفرِقة العنصرية يقصدون أن تكون قصائدهم وقصصهم ورواياتهم لتضميد جراح المظلومين، أو كسب احترامٍ أو حتى غضب ظالميهم ومُضطهِديهم؟ وهل يمكن — حتَّى — الكتابة لجمهورَين متناقضَين؟ هل كانت تلك الأجزاء الكثيرة، عن الغائط ووظائف الجسد في رواية «الحلوين لم يُولَدوا بعدُ» (١٩٦٨م) للكاتب «آي كوي آرمه Ayi Kwei Armah»، هل كان المقصود بها أن تصدم القارئ الغربي، أم كانت لمجرَّد أن تصف واقع الحياة في مجتمع غير قادر على توفير مستوًى صحي مثل ذلك في الغرب؟ وهل قصائد ومسرحيات «وولي شوينكا Wole Soyinka» «نخبوية جدًّا» لدرجة أن الأفريقي العادي لا يستطيع أن يفهمها؟ ماذا كان يقصد «يامبو أولوجيم Yambo Ouologuem» بذلك الجزء في روايته «Le devoir de violence العنف المحتوم» (١٩٦٨م)، الذي يصف فيه داعِرة تنزف لأنَّ أحد زبائنها خبَّأ شفرة حادَّة في قطعة صابون تستخدمها لغسل مهبلها؟ بذكر «قصد» الكاتب، أعلم أنَّني أسير على الأشواك بالنسبة للنُّقَّاد، ولكن مُعظم القُرَّاء الآخَرين، لا يُعيرون مثل هذه الأمور الْتِفاتًا عندما يجدون شفرةً في قطعة صابون. مُعظم الكُتَّاب، أينما كانوا، يكتبون لأنهم يريدون أن يقرأهم الآخَرون، ومعظمهم لا يهمه مَن يكون أولئك القُرَّاء.

من حُسن الحظ أن قضية الجمهور أصبحت اليوم مختلفةً تمامًا؛ فقد زادت منذ السبعينيات معدلات تعلُّم القراءة والكتابة، وهناك الآن، في كثير من الدول، جمهور شَغوف بالقراءة لكُتَّاب أفريقيا، كما يمكن أن يُفاخر ناشرو «الأشياء تتداعى» بأنَّ الرواية قد باعت ملايين النُّسَخ في القارة نفسها (وملايين أخرى كثيرة في أماكن مختلفة من العالَم)؛ فتُحفة «أشيبي» لا تُقرَأ في الدول الأفريقية الناطقة بالإنجليزية فحسب، بل إنها مُترجَمة في المناطق الفرانكفونية كذلك، وهو ما يحملنا إلى قضية اللغة ذاتها.

اللغة

هناك حاجةٌ مُلِحَّة إلى الأدب الأفريقي المكتوب باللغات المحلية الأصلية في كل دولة من دول القارة بالفعل، وكانت محاولات الوفاء بهذه الحاجة مقصورةً على النصوص المدرسية، وخاصةً في المرحلة الابتدائية، حيث كان التعليم باللغات الأصلية، وليس باللغات الأوروبية، وهكذا، فإن الحكومات، ووزارات التعليم، كانت تدعم، وربما تُكَلِّف، بكتابة نصوص وأعمال إبداعية للصفوف الأولى. ولأن التعليم بعد المرحلة الابتدائية في معظم الدول كان بالإنجليزية، أو الفرنسية، أو البرتغالية، كانت الأعمال الأدبية اللازمة لهذه الأسواق تُكتب باللغات المستوردة، ولذا كان من الصعب أن يجد القُرَّاء مادةً مكتوبة باللغات الأفريقية، في دول كثيرة.

وبعد أربعين عامًا من الاستقلال، ما زلنا نجد الكثير من الصِّعاب نفسها، التي تعوق تطوُّر الآداب المحلية، فإذا كان نُظم التعليم تعتمد على الكُتب الدراسية المستوردة، فإن هذه الكُتب ستكون دائمًا باللغات الأوروبية؛ لأنَّ دور النشر الأجنبية لا يوجد بها محرِّرون، أو منتجون، للنصوص الأفريقية، كما أنَّ بعضَ اللغات الأفريقية لم تتحوَّل إلى لغات مكتوبة إلَّا حديثًا، مما يعني نُدرة الكُتَّاب والقُرَّاء الفعليين، وقد اكتشف عدد من الناشرين الأفارقة الذين يحاولون إنتاج أعمال محلية، أنَّ القُرَّاء (ومُشتري الكُتب) غير مُهتمين بذلك، وهذا بصرف النظر عن أنَّ الإنتاج دائمًا رديء وعشوائي ولا يُقدِّم كُتبًا جذَّابة، وبذلك لا يستطيع أن ينافس المواد المُنتَجة في الغرب.

ومن المهم بالنسبة لتحليلنا هنا، أن نضع في اعتبارنا ذلك المفهوم الخاطئ لدى عدد من الكُتَّاب والنقاد، على مدى خمسين عامًا تقريبًا، وهو أنَّ النصَّ الأفريقي والعمل الأدبي الأفريقي لا يُعتبر كذلك (أي أفريقيًّا)، إلَّا إذا كان مكتوبًا بإحدى اللغات الأفريقية، ولذا يرى البعض أن «شرِّيب نبيذ النخيل» ليست أدبًا أفريقيًّا حقيقيًّا؛ لأنها مكتوبةٌ بالإنجليزية، بينما روايات الشيخ «فاجونوا» المكتوبة عن الثقافة نفسها، وبلغة اليوروبا «أفريقية حقًّا». وأحيانًا كان هذا الزَّعم يتصاعد، ليرى أنَّ مفهوم «رواية أفريقية» ذاته، مفهوم خطأ؛ حيث إنَّ الرواية شكل أدبي مستورد، ولم يكُن له وجود في التراث الأفريقي، ونحن إذا مضينا مع هذا الزعم إلى نهايته، فسنجد أنَّ بعضَ المتزمِّتين يرون أنَّ الأدبَ الأفريقي الحقيقي هو الأدب الشفاهي.

من حُسن الحظ أنَّ بعضَ هذه الدَّعاوى يحتمل وجهات نظرٍ مُتعددة، بسبب وضوح الرؤية لدى كثير من الكُتَّاب (وولي شوينكا – بن أوكري – نور الدين فرح)، الذين حصلوا على جوائز أدبية رفيعة في الغرب، ولدى كثيرين من كُتَّاب الجنوب، الذين حققوا شهرةً في الغرب (أيضًا) على مدى العقدَين الأخيرَين (سلمان رشدي – ماركيز – فيكرام سيث، مثلًا)، وإذا كان مَن يقولون إنَّ الأدبَ الأفريقي الحقيقي، هو الأدب التقليدي السابق على الأعمال المكتوبة، أفلا يحِقُّ القول نفسه بالنسبة للأدب الغربي؟ هل يمكن أن يقول المتزمِّتون: إنَّ كل ما جاء بعد الإنجليزية القديمة ليس أدبًا أصليًّا؟

يبدو لي أنَّ القضية الحقيقية الوحيدة هي قضية اللغة، أي اللغة الأوروبية في مواجهة اللغة الأفريقية، هذا الخلاف في الواقع كان قائمًا على مدى سنوات عِدَّة، بين «شينوا أشيبي» والكاتب الكيني «نجوجي وا ثيونجو»، صحيح أنَّ آخَرين دخلوا إلى ساحة الخلاف، ولكن «أشيبي» و«نجوجي» كانا في القلب منه.

في منتصف الطريق من رحلته الأدبية، وعندما كان «نجوجي» قد نشر خمس روايات بالإنجليزية، وكان على وشك أن يُصبح أكثر كُتَّاب شرق أفريقيا قراءةً واحترامًا، في هذه الفترة بدأ يكتب بلغة الجيكويو Gikuyu، لغته الأولى، وكان لديه منطق حقيقي بما يكفي. لم يكُن هناك كثيرون من شعبه يستطيعون القراءة بالإنجليزية، وبالتالي، لم تكُن الأعمال التي نشرها متوفِّرة لهم، وكان تفكير «نجوجي» يمرُّ عبر وجهة نظر ماركسية، كما كان لديه أفكار ومشاعر قوية، تجاه ما جلبته الليبرالية الجديدة على شعبه، في كتابه «تحرير العقل: سياسات اللغة في الأدب الأفريقي».
(Decolonizing the Mind: The Politics of Language in African Literature, 1986.)

كتب «نجوجي»:

«كان الهدف الرئيسي للاستعمار هو السيطرة على ثروات الشعب: ما يُنتجه، وكيف يوزِّعه، بمعنًى آخَر، كان هدفُه أن يسيطر على عالَم لغة الحياة الحقيقية بكامله … خُذ مثلًا، اللغة، باعتبارها وسيلة للاتصال، المستعمر فرضَ لغة أجنبية، وقمعَ اللغات المحلية التي يتحدَّث بها الناس ويكتبون، كان يكسر الوئام الذي كان موجودًا من قبل، والجوانب الثلاثة للغة، وحيث إنَّ اللغة الجديدة، باعتبارها وسيلة للاتصال، كانت نتاجًا للغة الحياة الحقيقية في مكانٍ آخَر، ومُعبِّرًا عنها، فإنها كلغة للكلام والكتابة، لن تعكس أو تُحاكي حياة هذا المجتمع الحقيقية، وهو ما يُفسِّر لنا إلى حدٍّ ما، لماذا تبدو التكنولوجيا دائمًا بعيدةً عنَّا، وغريبةً عنَّا، وكأنها إنتاجهم وليس إنتاجنا.» (p. 16)

كان «نجوجي» يريد أن يكون مفهومًا للجماهير؛ فبدأ يكتب مسرحيَّات بلغة «الجيكويو»؛ لأنها يمكن أن تُقَدَّم للناس في أي مكانٍ:

«أعتقد أنَّ كتابتي بلغة الجيكويو، أو بلغة كينية، أو بلغة أفريقية، جزء لا يتجزأ من النضال الكيني، ونضال الشعوب الأفريقية ضد الاستعمار؛ ففي المدارس والجامعات كانت لغاتنا الكينية لغات القوميات المختلفة التي تتكون منها كينيا مُقترنة بصفات سلبية عن التخلُّف والرَّجعية والامتهان والعِقاب، ونحن الذين تعلَّمنا في هذا النظام المدرسي، كان المقصود أن نخرج كارهين للشعب والثقافة وقِيَم اللغة بسبب ما نتعرَّض له من امتهان وعِقاب كل يوم. إنَّني لا أريدُ أن ينشأ أطفال كينيا في ظلِّ التقاليد الاستعمارية المفروضة علينا، والتي تدعو إلى الاحتقار … احتقار أدوات الاتصال التي صنعتها مجتمعاتهم وتاريخهم. أريدهم أن يتغلَّبوا على حالة الاغتراب التي فرضها الاستعمار.» (p. 28)
هذه الرغبة المشابهة لدى الروائي السنغالي «سمبيني عثمان Sembene Ousmane»، في الوصول إلى جمهور أوسع، بدلًا من أن يكون عمله محدودًا بمَن يُتقنون الفرنسية، هذه الرغبة ذاتها، هي التي جعلته يتحوَّل من كتابة الروايات والقصص القصيرة بالفرنسية، إلى العمل بالسينما، وفي عملية انتقاله من وسيط إلى آخَر، أصبح «سمبيني» واحدًا من أهم مُخرجي السينما في بلاده من ناحية الانتشار، وربَّما لأنَّ الكثير من أفلامه كان بلغة الولوف Wolof، فكيف يمكن إذَن، التقليل من شأن مثل هذه الخطوات، أو تشويهها، وخاصةً إذا كان الهدف منها هو احتضان الأُميِّين؟

على أية حالٍ، لم يكُن «نجوجي» سعيدًا؛ لأنَّ الكُتَّاب الآخَرين الذين كانت لديهم وجهة النظر نفسها، ووصلوا إلى المكانة التي وصل إليها، لم يسيروا على الدرب نفسه، ولم يتحولوا إلى الكتابة باللغات الأفريقية، وقد كتب عن هذا الموضوع باستفاضةٍ وبلا هوادة، وانتقد كثيرًا الكُتَّاب الذين واصلوا الكتابة بالإنجليزية والفرنسية:

«… بعبارةٍ أخرى، لا بد من أن يُعيد الكُتَّاب باللغات الأفريقية صلتهم بالتقاليد الثورية للفلاحين، وللطبقة العاملة المنظَّمة في أفريقيا، في نضالهم لدحر الاستعمار، وإقامة نظام اشتراكي ديمقراطي، بالتحالف مع كل شعوب العالَم الأخرى، عندما يفتح الكُتَّاب اللغات الأفريقية على العلاقات الحقيقية في نضال الفلاحين والعمال، فسوف يكونون في مواجهةِ تحدٍّ كبير، تحدي السجن والنفي، وربَّما الموت.» (p. 29-30)
بعد عدَّة سنوات، أصبحت نبرته أقل حِدَّة وتشدُّدًا، وأصبح يرى أنَّ كُلَّ كاتبٍ حُر في اختيار اللغة التي يريد أن يكتب بها، وبرفضه أن يفرض وجهة نظره على الآخَرين، خرج «أشيبي» فائزًا من هذا الجدال أيضًا، كما أنَّ موقفه أصبحَ واضحًا منذ سنوات: «أشعر أنَّ اللغة الإنجليزية ستكون قادرةً على حمل ثقل تجربتي الأفريقية، ولكنها ينبغي أن تكون إنجليزية جيدة، وأن تكون ما زالت على صلة وثيقة بوطن الأسلاف وإن كانت مُعدَّلة لتناسب الوسط الأفريقي الجديد.» (Morning Yet on Creation Day. p. 26.)
إذا عُدنا مرةً أخرى إلى السنوات السابقة على نشر «الأشياء تتداعى» (١٩٥٨م)، فسيكون من السهل علينا أن نفهم قرار «أشيبي» أن يكتب بالإنجليزية. أين كان يمكن أن ينشر روايته لو أنه كان قد كتبها بلغة الإيجبو Igbo؟ ليس في إنجلترا بالتأكيد. كان كُتَّاب «أونيتشا» يكتبون أعمالًا قصيرةً جدًّا مقارنةً ﺑ «الأشياء تتداعى»، وليس هناك ما يدل على أنَّ الناشرين هناك، كان لديهم إمكانيَّات لطباعة كتاب من مائتي صفحة؛ فالقُرَّاء كانوا يريدون أعمالًا قصيرة رخيصة الثمن وكلماتها محدودة. قرار «أشيبي» الكتابة باللغة الإنجليزية، كان قرارًا عمليًّا؛ فكثيرٌ من أبناء شعبه «الإيبو»، كانوا يقرءون بالإنجليزية أكثر من «الإيجبو» آنذاك؛ حيث إنَّ الكتابة بالإيجبو لم تظهر إلَّا حديثًا، ولو أنه كتب بها لَظلَّ جمهوره محدودًا بجزء ضئيل من شعبه، والأسوأ من ذلك، أنه كان سيظلُّ مقصورًا على جماعته العِرقية. هناك حوالي ٢٥٠ لغةً ولهجة في نيجيريا، وقليل من الناس في المجتمعات الأخرى، هم الذين كانوا يستطيعون أن يقرءوا طبعةً من «الأشياء تتداعى» بلغة «الإيجبو»، كما أنَّ مطبوعةً كتلك ما كانت لتصل إلى قُرَّاء آخَرين في القارة التي تحتوي على ٧٥٠ لغةً ولهجة أخرى، أو في خارجها، «أشيبي» يعرف مثل الآخرين جيدًا، معنى تجاوزات النزعة القَبَلية، والكتابة الأفريقية باللغات الأوروبية، قد يعتبرها بعض المثقَّفين غير أفريقية unAfrican، وقد يرونها مُناقِضة للقيم والتقاليد المحلية، إلَّا أنَّ تَرِكة الاستعمار، لا يمكن محوها بالعودة إلى اللغات الأفريقية. إنَّ الكتابات باللغات الأوروبية، قد تساعد في الواقع على كسر الحواجز القَبَلية، بالإضافة إلى أنَّ اللغة التي يستخدمها الكاتب، ليست هي العامل الحاسم في تحديد هُويَّته القومية. «صمويل بيكيت Samuel Beckett» مثلًا، كان يكتب بالفرنسية، ولكنَّه لم يكُن أقلَّ «أيرلندية» بسبب ذلك. «فلاديمير نابوكوف Vladimir Nabokov» كتب عددًا كبيرًا من رواياته الأخيرة بالإنجليزية (الإنجليزية الأمريكية)، ولم يكُن بذلك أقل روسيةً. ولنعُد إلى «الأشياء تتداعى»، ألم يكُن «أشيبي» ليوافق على ترجمة روايته إلى «الإيجبو»، لو كان قد وجد مُبررًا لذلك؟ اختيار اللغة قضية مُواءَمة، أو لعلَّها ناحية براجماتية، إلَّا أنها — قبل كل شيء — تعبِّر عن رغبة الكاتب في أن يصل إلى أكبر جمهورٍ ممكن.

الجوانب الاقتصادية

رغم أنَّ قضيتَي اللغة والجمهور عاملان مُهمَّان في تحقيق النجاح النهائي للكُتَّاب الأفارقة، فهما ليستا مؤثِّرتَين بنفس درجة الجوانب الاقتصادية. الخط الأدنى شديد القسوة: الكُتب غالية جدًّا في أفريقيا، وكانت كذلك دائمًا، سواء أكانت تُباع اليوم نُسخة من «الأشياء تتداعى» بحوالي ١٧٥ «نيرًا» (ما يقرب ١٫٧٥ دولارًا) في نيجيريا، أم عندما كانت أول عنوان في سلسلة «هينمان» للكُتَّاب الأفارقة في سنة ١٩٦٢م، عندما كانت تُباع بما يُقارب ذلك. الكُتب باهظة الثمن، وتعتبر من السلع الترفيهية، وبالتالي فهي ليست في متناول كثير من أبناء أفريقيا من الطبقة المتوسطة، أو الوسط الدراسي (الابتدائي والثانوي والجامعي)، حيث الجمهور الطبيعي للأعمال الأدبية. مُعظم الأفارقة اليوم، يُنفقون نقودهم على الاحتياجات الضرورية: الطعام والملبس والدواء … حتى الماء الصالح للشرب.

كلاهما، العناوين المستوردة والكُتب المحلية غاليةٌ جدًّا بالنسبة للقارئ الأفريقي المُحتمَل، والأسعار المُقارَنة ربما تكون أفضل وسيلة لبيان ذلك؛ ففي ١٩٩٦م، عندما كانت رواية «الأشياء تتداعى» تُباع ﺑ ٥٫٩٩ دولارًا في طبعة «أنكور» الأمريكية ذات الغلاف الورقي، كان القارئ في زيمبابوي يدفع دولارَين أكثر عن النُّسخة المستوردة من طبعة «هينمان». ربما يشعر قِلَّة من الأمريكيين بالضيق، عندما يكون عليهم أن يدفعوا ستَّة دولارات في نُسخة من الرواية، ولكن المؤكَّد أنَّ ثمانية دولارات بالنسبة لمواطن في زيمبابوي (لا يزيد دخل أسرته السنوي على بِضع مئات من الدولارات) أمرٌ مُستحيل. في صيف ١٩٩٨م، كنت في زيارة لجامعة أفريقيا في «ميوتار» زيمبابوي، وتكلمت مع أعضاء من هيئة الإنجليزية، الذين كانوا يأسفون لأسعار الكُتب، ويعترفون أن الطُّلاب لا يستطيعون شراء المُقررات الدراسية، كما أنَّ المكتبة لم يكُن بها عددٌ كافٍ من النُّسَخ، وكان أعضاء هيئة التدريس يكتفون بتدريس أجزاء مُختارة من الروايات … لم يكُن هناك حتى وسائل كافية للنسخ. هذا المثال ينسحب على القارة كلها، وينطبق على ما يعتبره الغربيون الكُتب ذات الأسعار المعتدلة، أمَّا الكُتب الفنية، فقد يصل ثمن أحدها إلى ما يعادل سُدس دخل الأسرة؛ فكيف يمكن أن يكون مُستقبل التعليم في أفريقيا، إذا كان سعر الكتاب هكذا؟

أحيانًا تكون الكُتب المُنتَجة محليَّا أقل تكلفة من تلك المستوردة، ولكن في حدود؛ فالورق سعره مرتفع في معظم الدول الأفريقية، ومن سوء الحظ، أنَّ ما يتم إنتاجه منه قليل، كما أنَّ مُعظم الدول تقوم باستيراده لصناعة الكُتب، وفي الوقت نفسه، تقوم الحكومات (التي لا تفكر في العواقب)، بفرض ضرائب على الاستيراد، مما يرفع تكلفة الكتاب. يُضاف إلى ذلك أنَّ مُعظم الكُتب التي تُطبع في أفريقيا رديئة؛ حيث يستخدمون لذلك ورق الصحف، وهو سريع التَّلَف، بينما الأعمال الإبداعية، أو الكتب المدرسية المطبوعة على نوعيةٍ أفضل من الورق، يمكن أن يفيد منها قُرَّاء مختلفون، ويمكن أن تصمُد في الأيدي فترة أطول، حتى في المناطق الاستوائية. الكُتب المدرسية التي يتم إنتاجها لسوق المرحلة الابتدائية، أقل تكلفة، ولكن النوعية رديئة وسريعة التلف.

في هذا السياق، لا بد من تعليق سريع على المكتبات الأفريقية؛ لأنَّ ذلك وثيق الصلة بموضوعنا. إذا كانت الكُتب مرتفعة الثمن بالنسبة للأفراد، فالأمرُ كذلك بالنسبة للمكتبات (سواء العام منها أو التابع للمؤسسات التعليمية). الأنظمة التعليمية في كثير من الدول الأفريقية فقيرة، ولا يتم توفير ميزانيات للمكتبات، إلَّا بعد الإنفاق الضروري مثل الرواتب، والفصول الدراسية، أمَّا المكتبات — كما نعرفها في الغرب — فلا وجود لها في كثير من دول أفريقيا.

في أحدث إحصاء لليونسكو (١٩٩٨م)، كان عدد الكُتب في الاثنتي عشرة مكتبةً عامَّة في دولة «بنين» حوالي ٣٧٠٠٠ كتابٍ، وفي ٢٦ مكتبةً عامَّة في السنغال، كان العدد ١٧٠٠٠ كتابٍ، كما يوجد ٨٢٠٠٠ كتابٍ في المكتبة العامَّة الوحيدة في أوغندا بأفرعها السبعة عشر. عدد الكُتب في المكتبة العامَّة في كينيا (٢١ فرعًا) يصل ٦٠٣٠٠٠ كتابٍ. ولا شك في أنَّ هذه الأرقام تُصبح أكثر دِلالةً عند مقارنتها بما هو موجود في خارج أفريقيا؛ ففي كندا، يوجد مثلًا، ٣٦٧٢ مكتبة عامَّة، تضم حوالي ٧٠٠٧٧٠٠٠ كتاب، وفي تركيا ١١٧١ مكتبة عامَّة، بها ١١١٧٠٠٠٠ كتاب، وفي الدانمرك ٢٤٩ مكتبة عامَّة (٩٥٠ مركز خدمة)، يوجد بها ٣١٥٨٠٠٠٠ كتاب. حسب تقديرات African Skies Library Foundation، نجد أن الولايات المتحدة (عدد سكانها أقل من عدد سكان أفريقيا جنوب الصحراء)، يوجد بها عدد من المكتبات يصل إلى ٤٠ ضعفًا، وهذا الرقم لا يعكس — حتى — الفجوة الواسعة، عند مقارنة إجمالي عدد الكتب. أمَّا الأسوأ من ذلك، فهو أنَّ بعض الدول الأفريقية لا يوجد بها مكتبات وطنية على الإطلاق، كما أنَّ عدد الكُتب في المكتبات التابعة للمؤسسات التعليمية، يكاد لا يُذكر، وقد علمت من «تيجان م. صلاح Tijan M. Sallah»، أنه لا توجد مكتبات عامَّة في بلده (جامبيا)، كما أنَّ المكتبة الوطنية لا يوجد بها كمبيوتر ولا فاكس. (مُقابلة معه في ١٧ يونيو ١٩٩٩م)، كما يمكن أن نقول — دون مبالغة — إنَّ مُعظم الأفارقة — باستثناء مَن يعيشون منهم في الدول الكبرى — لم يدخلوا مكتبة في حياتهم. فكرة المكتبة نفسها غريبة عليهم. عندما أجريت مقابلة مع «إيرين ستونتن Irene Stanton» صاحبة دار نشر «باوباب برس Baobab Press» في «هراري» — زيمبابوي — في ٤ أغسطس ١٩٩٨م، وسألتها عن التغير الرئيسي الذي يمكن أن يترك أثرًا على الحد الأدنى لدار النشر، قالت إنَّه «مبيعات المكتبة».
هذا الواقع الاقتصادي لا مفرَّ منه بالنسبة للكاتب الأفريقي؛ فهناك المئات وربَّما الألوف من الكُتَّاب في القارة، وقصص النجاح التي نسمعها عن الكُتَّاب في الغرب نادرًا ما تنطبق على الكُتَّاب الأفارقة. صحيح، أنَّ «الأشياء تتداعى» باعت ٨ ملايين نُسخة، منذ أن نُشرت أوَّل مرَّة، والمُشجِّع أنَّ مُعظم هذه النُّسخ قد بِيع في القارة الأفريقية أكثر من غيرها، والمؤكَّد أنَّ «أشيبي» اسم معروف. الشيء نفسه ينطبق على «نجوجي»، الذي باعت روايته «لا تبكِ أيها الطفل» (Weep not Child, 1964) أكثر من مليون نُسخة، ولكن، مَن يُحقِّق مثل هذه الأرقام من الكُتَّاب الآخَرين؟ ففي سنة ١٩٨٨م، كتب «آلان هيل Alan Hill» (المحرر في هينمان ومكتشف «أشيبي»، والذي بدأ فيما بعد سلسلة كُتَّاب أفريقيا)، كتب يقول: إنَّ «أشيبي» و«نجوجي» كانا هما الغالبَين على السلسلة: حتى سنة ١٩٨٤م، فإن أكبر نسبة من عائدات ٢٨٠ كتابًا من سلسلة كُتَّاب أفريقيا (African Writers Series)، حققتها كُتب «أشيبي» الستة (In Pursuit of Publishing), p.1 44.

لن تكون مفاجأة، إذَن، أن يكون عددٌ قليل فقط من الكُتَّاب الأفارقة، هم الذين يستطيعون أن يعتمدوا في معيشتهم على عائد أعمالهم، كما أنَّ الغالبية من هذا العدد القليل أكاديميون، أو من موظفي الحكومة، أو كانوا كُتَّابًا في السابق. عدد الصحف والمجلات والمطبوعات المستعدة لأن تدفع للكُتَّاب في مُقابل كتاباتهم قليل، كما أنَّ الاعتماد على المطبوعات الأجنبية غير مضمون، ولا يمكن أن يحقِّق دخلًا ثابتًا، والاعتماد على عائد الكتب التي تصدر محليًّا، ضَرْب من العبث، والعائدات القادمة من النشر في الخارج — حتى بالنسبة للكُتَّاب المتحققين — شيء أقرب إلى الوهم، كما يتضح من الأمثلة التالية:

أظهرت المراسلات مع دار نشر «جروف» Grove Press الناشر الأمريكي لراوية «شرِّيب نبيذ النخيل»، أنَّ المبيعات الأمريكية الحديثة للرواية، كانت تصل إلى ما يقرب من ٢٠٠٠ نُسخة في السنة، ويُفترض أن مُعظمها للسوق الجامعية. ثمن الكتاب في طبعته الحالية، كما هو محدد في القائمة، ١٢٫٩٥ دولارًا، أي إنَّ ثمن عدد الكمية المطبوعة (٢٠٠٠ نسخة)، ٢٥٩٠٠ دولار، وهو مبلغ كبير، وعلى افتراض أنَّ عائد الكاتب ١٠٪ يُصبِح نصيبُه ٢٥٩٠ دولارًا، ولكن هذا هو الرقم الذي نبدأ به. لا نعرف ما إذا كان «جورج برازيلر George Braziller»، صاحب حق النشر في أمريكا، يحصل على نسبة من العائد أو لا، ولكن، لنفترض أنه لا يحصل على شيء، وأنَّ العائد كله يذهب إلى ورثة «تيوتولا»، وهكذا، فإن مبلغ اﻟ ٢٥٩٠ دولارًا، يُرسَل إلى دار «فيبر آند فيبر» في لندن، التي تحصل على ٥٠٪ (وهي نسبة مُحدَّدة في هذه التجارة) لترخيصها بالطبعة الأمريكية، وبالتالي، ينخفض المبلغ المخصص للمؤلِّف (أو لورثته) إلى ١٢٩٥ دولارًا، وهو ما يظل مبلغًا كبيرًا بالنسبة لشخصٍ ما، يعيش في ظروف اقتصادية رديئة، وحيث إنَّه لا يوجد اتفاق تبادلي يشمل الضرائب بين نيجيريا والولايات المتحدة، تقوم الضرائب الأمريكية بالخصم من حصة المؤلِّف، وهي نسبة تصل إلى ٣٠٪ (أي ٣٨٨٫٥٠ دولارًا). وهكذا، يقلُّ نصيب المؤلِّف (أو الورثة) ليصبح ٩٠٦٫٥٠ دولارًا … قبل خصم الضرائب في نيجيريا. (الحكومة البريطانية لا تخصم أية ضرائب، نظرًا لوجود اتفاق تبادلي بين المملكة المتحدة ومستعمراتها السابقة.)
من المحتمل أن يكون ورثة «تيوتولا»، يحصلون على نسبة من العائدات الأمريكية، أعلى من تلك التي يحصل عليها «أشيبي»، عن الطبعة الأمريكية من «الأشياء تتداعى»، إلَّا أنَّني أؤكِّد أنَّ الأرقام السابقة مُجرَّد افتراضات؛ لأنَّني لست مطَّلعًا على خبايا عالم النشر، وهي مبنية على ما هو متاح من شروط النشر المعروفة. إذا كانت رواية «أشيبي» تبيع ٥٠٠٠٠ نسخة في السنة في الولايات المتحدة، وهو رقم ليس مستحيلًا؛ لأنه أهم النصوص الدراسية، فإن الأرقام سوف تبدو كذلك. طبعة «أنكور» الحالية تُباع بسعر ٨٫٩٥ دولارات للنسخة، ليصبِح الرقم الإجمالي ٤٤٧٫٥٠٠ دولارًا، نسبة اﻟ ١٠٪ الخاصة بالمؤلف هي ٤٤٫٧٥٠ دولارًا، وهو ما يبدو رقمًا كبيرًا، ولكن ناشر «أشيبي» الحالي، كان عليه أن يحصل على ترخيص بنشرها من «إيفان أوبولنسكي Ivan Obolensky»، الذي يحصل على نسبة ٥٠٪، باعتباره الناشر الأمريكي الأصلي للطبعة ذات الغلاف المقوَّى، وهكذا، تقلُّ حصَّة «أشيبي» لتُصبِح ٢٢٫٣٧٥ دولارًا، وهو لا يزال رقمًا كبيرًا، إلى أن تُخصم منه حصَّة «هينمان» (٥٠٪)، باعتباره صاحب العَقد الإنجليزي الأصلي، لتنخفض حصة المؤلِّف مرَّة أخرى إلى ١١١٨٧٫٥٠ دولارًا، ثم يأتي الوكيل الأدبي ﻟ «أشيبي»، الذي باع له الكتاب في الأصل، ليحصل على ١٠٪ (١١١٨٫٧٥ دولارًا)، لتنخفض حصة المؤلِّف إلى ١٠٠٦٨٫٧٥ دولارًا، ثم تأتي الضرائب الأمريكية لتخصم ٣٠٪ (٣٠٢٠٫٦٦ دولارًا)، ويتبقَّى للمؤلِّف ١٣٫٧٠٤٨ دولارًا، قبل خصم الضرائب في نيجيريا. مرَّة ثانية، هناك بعض الافتراضات التي ربَّما لا تكون مُطبَّقة في هذه الحسابات، (فالمثالان يعتمدان على الطبعات التجارية، على أساس أنَّ العائدات محسوبة على الإجمالي، وليس على الصافي). عَقْد «أشيبي» مع «هينمان»، ربما كان في حاجة إلى إعادة النظر، بعد نجاح الكتاب على هذا النحو، أو ربما لم يكُن «أشيبي» الذي يعيش ويعمل بالتدريس في الولايات المتحدة، خاضعًا للضرائب عن عائدات في نيجيريا. على أية حال، ما زال كُتَّاب أفريقيا وكُتَّاب العالم الثالث، يحصلون على جزء ضئيل من العائدات عن نشر كُتبهم في الولايات المتحدة وأوروبا. وفي حال النشر للأسواق الدراسية (أكثر مما هو بهدف النشر التجاري)، ربما لا تكون نسبة العائدات أكثر من ٥ أو ٧٫٥٪، تُحسب على البيع بالجملة.
قبل سنوات أخبرني «ستانليك سامكانجي Stanlake Samkange»، عن الموقف المهين الذي تعرَّضَ له عند فحص بيان عائداته عن روايته On Trial for My Country (١٩٦٦م)، عندما اكتشف أنَّ النُّسخ المُباعة خارج البلاد، كانت تحقِّق عائدات أقل. ماذا كان يعني ذلك؟ حيث إنَّ ناشره كان موجودًا في إنجلترا، فإن كُل النُّسخ المُباعة خارج المملكة المتحدة — بما في ذلك دولة روديسيا (ريمبابوي الآن) — بلد سامكانجي — كانت تحصل على عائداتٍ أقل، ربَّما لكي تعوض تكاليف التوزيع المرتفعة. جميع كُتب الأفارقة الذين ينشرون خارج القارَّة، إذَن، يحصلون على عائدات منخفضة عن نُسَخ أعمالِهم، التي تُباع في بلادهم، ولم يكُن «سامكانجي» قد انتبه إلى تلك الفقرة في العَقد، إلى أن رأى تلك الحقائق الاقتصادية الفادحة بين يدَيه.

الاستحواز وغيره من المعوقات

كان أول لقاء لي ﺑ «شينوا أشيبي» في ديسمبر ١٩٧٢م، بالرغم من أنَّني كنت أعيش على مسافة قريبة منه، عندما كنت أعمل بالتدريس في نيجيريا، قبل عشر سنوات. بعد أن انتهت الحرب الأهلية النيجيرية في ١٩٧٠م، وفي أثناء إحدى زياراته المتعددة للولايات المتحدة، تقابلنا في واشنطن دي سي؛ حيث كنت أعمل بالتدريس أيضًا، وحملت معي إلى هذا اللقاء مجموعة كبيرة من الكُتب لكي يوقِّعها، في أثناء ذلك، قدَّمت له نُسخة من الطبعة الأولى لروايته الثالثة «سهم الله» Arrow of God الصادرة عام ١٩٦٤م. تفحَّص «أشيبي» الكتاب باهتمام، ثم قال ما معناه إنَّه لم يكُن لديه نُسخة من هذه الطبعة الأولى، ولمَّا سألته عن السبب، قال: إنَّ الفيدراليين خرجوا عن طريقهم أثناء الحرب الأهلية، وقصفوا منزله الذي كان يقع بعيدًا عن مسرح الحرب. لم أستوعب فكرة أن تقصف الحكومة منزل كاتِب، لمجرَّد أنه كان مع الطرف الآخَر؛ فهل الكُتَّاب على هذه الدرجة من الأهمية؟ في زمن السِّلم وفي حالات الهدوء، يتم تجاهلهم تمامًا.
ظلَّت إشارة «أشيبي» تُطاردني عدَّة سنوات، ولو كُنت على مُستوى المناسبة، لصمَّمت على أن يحتفظ بالكتاب، وهو ما كان من حقِّه أكثرَ مِنِّي، لا بدَّ من أن يكون لدى الكاتِب مجموعة كاملة من الطبعات الأولى من كتبه، ولكن هل كان فشلي في أن أُعطيه النُّسخة، راجِع إلى عدم قُدرتي على فهم الطريقة التي تم استيلائي بها على الأدب الأفريقي، أو استحوازي عليه؟ وهل «الاستحواز» هو المصطلح الصحيح، لوصف ما كنتُ أقوم به، وهو الكتابة عن الكُتَّاب الأفارقة، والترويج لأعمالهم لدى الناشرين الأمريكيين؟ هل يمكن امتلاك الأدب، أو الاستحواز عليه، مثل الموارد الطبيعية التي يتم التنقيب عنها، أو استخراجِها من باطن الأرض؟ وهل الناقد الغربي للأدب غير الغربي، مُستعمِرٌ آخَر يقوم بتجريد دولةٍ ما من مواردها الأساسية؟ وعندما يقوم ناقِدٌ أو باحِث من ثقافة ما بمراجعة نقدية، أو كتابة تحليل لكتاب أفريقي، أو عمل من هذه الثقافة؛ فهل يمكن أن نقول إن هذا الناقِد أو الباحِث قد أصبح يمتلك شيئًا من هذه الثقافة الأخرى؟ وهل لو قام ناقد أدبي أفريقي، بمراجعة الرواية الأخيرة للروائية الأمريكية «آن تيلر Ann Tyler» مثلًا، وأمضى كل حياته الأدبية في الكتابة عن كل أعمال «تيلر»؛ فهل يُعتبر ذلك تملُّكًا أو حيازةً؟

إنَّني أطرح هذه الأسئلة؛ لأنها مُرتبطةٌ بالمأزق الذي يواجه الكُتَّاب الأفارقة، عندما يريدون نشرَ أعمالِهم في الخارج: هل يكون عليهم أن يعتمدوا على أحكامٍ نقدية، يُصدرها أُناس يعيشون خارج ثقافتهم، وقد لا يفهمون ما يكتبونه (ويعتبرونه ليس أفريقيًّا بما يكفي)؟ إنَّه لأمرٌ سيئ جدًّا، أن يكون المحررون غير الأفارقة، في دور النشر الأوروبية والأمريكية هم أصحاب القرار، بالنسبة لما يُنشر من أفريقيا (أو من أي مكان من العالَم غير الغربي)، ثم تُصبِح هذه الضربة مُزدوجةً عندما يقوم بمراجعة هذه الأعمال نُقَّاد غربيون بعد نشرها، وكيف يُمكن أن يتحقَّق النجاح لهذه الأعمال لو لم يقُم بمراجعتها وتحليلها نُقَّاد غربيون؟ وعندما ترتفع الأصوات مُطالبةً بكفِّ الأيدي عن الأعمال الأفريقية؟

في مقال بعنوان «النقد الاستعماري Colonialist Criticism»، ضِمن كتابه «الصباح التالي ليوم الخلق» (١٩٧٥م) يقول «أشيبي» عن تحليلي لكتابة «آي كوي آرمه Ayi Kwei Armah»: «وهناك ناقِد أمريكي، هو «تشارلز لارسون»، يستخدم مثل هذه الأدلَّة جيدًا، لا لكي يدعم رأيه النَّقدي عن الكاتب الغاني «آي كوي آرمه» فحسب، بل بالأحرى لكي يظهر تفوقه على رأي المثقفين الغانيين» (p. 6). ويُكمل أشيبي بمثال آخَر: في كتابه، «نشأة الأدب القصصي الأفريقي» (١٩٧٢م)، يُقدِّم لنا «لارسون» بعض الأشياء الكاشفة عن العالمية؛ ففي فصلٍ يكرِّسه لرواية «لنري بيترز Lenrie Peters»، التي يجدها مُثيرةً للإعجاب على نحوٍ ما، يتحدث عن «عالميتها»، وعن ارتباطها المحدود بأفريقيا نفسها»، (p. 8)، ثم يُكمِل باقتباس من كتابي لكي يدعم رأيه:

«وقوع أحداثها في أفريقيا ربما يبدو مُصادفةً؛ فباستثناء بعض التعليقات القليلة في البداية، يمكن أن تقع قصة «بيترز»، في الجزء الجنوبي من الولايات المتحدة، أو في المناطق الجنوبية من فرنسا، أو إيطاليا، ولو تغيَّرَت بعض أسماء الشخصيات والأماكن، سيشعر المرء بأنها رواية أمريكية بالفعل، وباختصار، فإن رواية «بيترز» رواية عالمية.

ولكن «لارسون» ليس غبيًّا كما قد يبدو للوهلة الأولى من هذا الجزء؛ حيث ينهيه بعبارة شك، أجدها مُخففة تمامًا؛ فهو يقول: … أم تراني أُضلِّل نفسي عندما أعتبر العمل عالميًّا؟ لعلَّ ما أقصده هو أن «الجولة الثانية The Second Round»، غربية بدرجة كبيرة، وبذلك، فهي أبعد من أن تكون أفريقية.
وبعد ذلك، أجد من الصعب إبداء المزيد من الحِدَّة عن مُجرَّد الموافقة على هذا التضليل، ولكنَّ عددًا قليلًا ممَّن أعرف، لديهم استعداد لكي يكونوا كُرماء! وفي مراجعة حديثة للكتاب في «أوكيكي Okike»، نجد ناقِدًا نيجيريًّا آخَر، هو «أُمولارا ليزلي Omolara Leslie»، يسخر من ذلك «الإيمان المعلن بأنَّنا كلنا أمريكيون تحت الجِلد».
هل خطرَ ببال «لارسونات» الأدب الأفريقي، أن يُحاولوا القيام بلعبة تغيير أسماء الشخصيات والأماكن، في رواية أمريكية ﻟ «فيليب روث»، أو «أبدايك»، على سبيل المثال، ويضعوا أسماءً أفريقية بدلًا منها، ليروا كيف سيبدو الأمر؟ إنَّ ذلك لن يحدث بالطبع، لن يحدث أن يَشُكُّوا في عالمية أدبِهم؛ لأنَّ من طبيعةِ الأشياء أن يُعتبر عمل الكاتب الغربي عالميًّا بشكلٍ تلقائي، أمَّا الآخَرون فعليهم أن يحاولوا. عمل فلان وفلان عالمي … لقد وصل! وكأنَّ العالمية شيء في الطريق، تحصل عليه عندما تواصِل سيرك في اتجاه أوروبا أو أمريكا، وتقترب منه كُلَّما بعدَت المسافة بينك وبين وطنك. كم أتمنى أن تُحذف كلمة العالمية تمامًا، من الجِدال حول الأدب الأفريقي، وأن يجيء وقت، يتوقف فيه الناس عن استخدامها كمرادِف لضيق الأُفُق الذي يخدم أوروبا، وإلى أن يمتد أُفُقهم ليشمل العالم كلَّه.» (p. 8-9)١
اتخذ الاستحواز على الأدب الأفريقي من قِبَل الدارسين غير الأفارقة، أشكالًا مختلفة، سواءً تَمثل ذلك في العلاقات التي عقدَتْها بين الأعمال الأدبية الأفريقية، والأعمال الغربية (ومفهوم العالمية الذي أعتقد أنه مفهوم إشكالي)، أو محاولات «لندفورس» لكي يرى تلك المخطوطات المهمة لكُتَّاب أفريقيا، محفوظةً جيدًا في أرشيفات ملائمة، أو حتى حديثًا في عبارات «وولي شوينكا» الخشنة، ضد «جيمس جبس James Gibbs»، الذي يتهمه بالاستحواز على حياته؛ حيث كان الأخير، على مدى سنوات، يقوم بجمع معلومات عن الأديب الفائز بجائزة نوبل، ربما ليكتب سيرة حياته.

إنَّني أطرح هذه الجوانب هنا؛ لأنها تتضمَّن قضايا معقَّدة، لسنا على وعي بمعظمها عندما نتنقَّل بين الثقافات، لقد توصَّلتُ بالتأكيد إلى استنتاجاتٍ غير صحيحة، وبالتالي إلى أحكام خطأ، عن بعض جوانب الثقافات الأفريقية (وغيرها)، عندما كَتبتُ عن أعمالهم الأدبية، وأعرف أنهم يعتبرونني جزءًا من المشكلة. كل النقاد تقريبًا يستحوزون (أو على الأقل يحصلون على سبيل الاستعارة) على نصٍّ أدبي ما، عندما يكتبون عنه، حتى في حالة النقد الإيجابي، ولكن الموقف يُصبح أكثر تعقيدًا، عندما يكون الكُتَّاب الأحياء، معنيين بتجسير الهوَّة بين ثقافتَين أو أكثر، ويكون من حق الكاتب المعاصر، أن يقول: «لارسون لا يعرف ما يتحدث عنه»، أو إنَّ «أحكام لارسون مصفَّاةٌ عبر عيون غير عربيةٍ» (أي إنَّ لارسون ليس أفريقيًّا بما يكفي)، وكُلُّها عباراتٌ مشروعة.

على الرغم من التوجُّه الحديث نحو وعيٍّ ثقافي أكبر، وتنوُّع واسع، فقد كان هناك تضييق في الأكاديمية في العقدَين الأخيرَين، ووجود لنُقَّاد وكُتَّاب، يؤكِّدون أنَّ الأمريكيين من أصول أفريقية وحدهم، هم الذين يجب أن يكتبوا عن الأدب الأفرو-أمريكي، أو يدرسونه، وأنَّ نساء فقط، هُنَّ مَن يجب أن يكتبن أو يدرسن أدب النساء، كما أنَّ الأفارقة فقط، هم الذين يحقُّ لهم أن يتناولوا الأدب الأفريقي بالدِّراسة والبحث. مثل هذه القضايا كانت محل جدلٍ في المؤتمرات الأكاديمية، والمجلات الجامعية. أفهَم كيف تطوَّرت هذه المواقف، كما أعرِف أنَّني سأقول الشيء نفسه، في حال الكُتَّاب الأفارقة، لو أنَّنا عكسنا الوضع. إنَّ «نجوجي وا ثيونجو» على حقٍّ: الاستعمار الثقافي ليس شيئًا من صُنع الخيال، بل حقيقة، والكُتَّاب الأفارقة، لم يكونوا أحرارًا لكي يكتبوا وينشروا ما يريدون، دون أن يواجهوا بنًى وافتراضات غربية.

ما زلتُ أريد أن أصدِّق أنَّ ما قُمتُ به من عملٍ، مهما كان ضئيلًا، كان مُفيدًا أكثرَ منه ضارًّا بالنسبة للكُتَّاب الأفارقة، والمؤكَّد أنَّني على مدى سنواتٍ، عندما كنتُ أقوم بمراجعةٍ نقدية، لأعمال أفريقية، لحساب الصحف الغربية، أنني كنتُ أُدرِك أنَّ عدم مراجعتي لعملٍ ما، قد يؤدِّي إلى تجاهُلِه.

كُنَّا أنا و«أشيبي» أصدقاء لفترةٍ مُعيَّنة، وهو يعرِف أنَّ أفكاري عن أفريقيا، والكُتَّاب الأفارقة، قد تطوَّرت منذ تلك الآراء الأوَّلية، التي جاءت في مواضِع كثيرة من كتابي عن نشأة الأدب الأفريقي، أمَّا «آي كوي آرمه»، الذي لم يسبق أن التقيتُ به، فلا شك في أنه ليس سعيدًا، لأنني أواصل الكتابة عن الكُتَّاب الأفارقة، وأنَّ المجال اليوم (بعد مرور خمسة وعشرين عامًا على كتابة مقالة) لم يختلف كثيرًا. نُقَّاد الأعمال الأدبية الأفريقية في المجلات الأمريكية، ما زال مُعظمهم من الأمريكيين، والنقاد الإنجليز ما زالوا يسيطرون على مراجعة هذه الأعمال في المطبوعات البريطانية، كما أنَّ هناك جوانب مُعيَّنة من عملية النشر (بما في ذلك قيام الأفارقة أنفسهم، بتغطية الأدب الأفريقي، في الصحافة الأفريقية)، ليس من المحتمل أن تتغير كثيرًا في المستقبل.

إنني ما زلت على اعتقادي بأنَّ الأدبَ وغيرَه من الفنون، تقرِّبنا من بعضنا أكثرَ مما تُباعد بيننا، ربما يكون ذلك رأيًا قديمًا، في مرحلةِ ما بعد الاستعمار هذه، إلَّا أنَّ المؤسف أنَّ مجال الفنون لم يشهد تحسُّنًا كبيرًا عمَّا كان عليه الحال في مرحلة الاستعمار. نحن نقرأ لأننا نريد أن نفهم شيئًا عن الآخرين، أكثر من ثقافاتنا، ومن العصر الذي وُلِدنا فيه، ونحن نقرأ أيضًا، لأننا كُلنا بشر، وشغوفون بأن نعرف كيف يبدو العالَم خارج الحدود التي أقمناها، والتي نعرف جيدًا أنه لا بُد من إزالتها.

الاهتمام الدراسي الغربي بالأعمال الأدبية الأفريقية و«تملُّكها»، قد لا يبدو للكُتَّاب أنفسهم، بعيدًا عن الأخطار المُحدِقة بكتاباتهم: الرقابة، والمنفى الاضطراري، والأعمال الأدبية المجهَضة، والموت. في آخِر عامين من حياته، كان «كين سارو-ويوا: Ken Sara-Wiwa»، قد أصبح ما كان يتحدَّث عنه لعِدَّة سنوات: كان قد أصبح l’homme engagé الإنسان الفاعِل المثقَّف، ولم يكن، في ذلك، حالة فريدة في نيجيريا. «شينوا أشيبي» نَشر: «عِلَّة نيجيريا» في ١٩٨٣م، وبعد موت «سارو-ويوا»، نشر «وولي شوينكا»: «جُرح القارَّة المفتوح» (١٩٩٦م). هؤلاء الكُتَّاب، استمدُّوا طاقاتهم من أعمالِهم الإبداعية، وتحوَّلوا إلى التعليق النَّقدي، بما يعني أنَّ الوضعَ السياسي في عدد من الدول الأفريقية كان قد وصل إلى حالةٍ يُرثى لها، ولدرجةٍ، اضطُرَّ معها الكُتَّاب، إلى الكتابة السياسية، بدلًا من مواصلة الأعمال الإبداعية.

الرقابة، والمنفى الاضطراري، كانا مُلازمَين لهذه المطبوعات، كما كان الحال في دول أخرى (التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، وقمع «باندا» للفنون في مالاوي، على مدى سنوات). وكما سنرى بعد قليل، كان الكُتَّاب يجدون أعمالَهم ممنوعة، وكانوا يُفصَلون من وظائفهم، ويفرُّون من بلادهم، خوفًا من الأعمال الانتقامية، وبالرغم من كُلِّ الظروف غير المواتية الأخرى: الأمية، قلَّة عدد القُرَّاء، استخدام لغة أجنبية مستوردة، ضعف القوَّة الشرائية لمعظم أبناء القارَّة، تناقض ردود الفعل النَّقدية، الرِّقابة، المنفى الاضطراري … بالرغم من ذلك كله، كان الكاتب الأفريقي موجودًا دائمًا في المشهد الأدبي العالمي، على مدى خمسين سنة. هل يمكن أن تتخيَّل لِلحظة، كيف كان يُمكن أن يبدو العالَم، دون كُتَّاب أفريقيا؟ لا شكَّ في أنه كان سيبدو مختلفًا … والخسارة فادِحة!

١  كان هناك ردُّ فعلٍ أكثر عنفًا على ما كتبته عن الأدب الأفريقي من «آي كوي آرمه» الذي اتهمني ﺑ «اللارسونية». (Larsony, or Fiction as Criticism of Fiction)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤