الفصل الثالث

الكُتَّاب الأفارقة والبحث عن ناشر

«لا بد من أن يكون الكاتب على استعداد للتجريب، رغم كل ما قد يسببه ذلك من مشكلات مع الناشر؛ فالأخير يهمه البيع، ويهمه أن يجد سوقًا وجمهورًا يشتري، وهو عادةً ما يبحث عن أكبر سوق، وأعرض جمهور، وبالرغم من ذلك كله، فلا بدَّ من أن يظلَّ الناشر مهتمًّا باحتضان صوت الكاتِب الأصلي الخاص، كما حدث معي. أمَّا بالنسبة للكاتِب، فيجب أن يكون هدفُه مُحدَّدًا، وهو تجويد فنِّه. هذه هي القصة كُلها، والباقي متروك للمُصادَفة، ولغريزة القُرَّاء، الذين سيحبون العمل الذي يُقدِّمه الكاتِب؛ فإذا كان جيدًا بالفعل، فسوف يتم الاعتراف به، وإن لم يحدث، فسوف يظل مُجرَّد عمل جيد تم إنتاجه. أمَّا بالنسبة لي، فقد كُنتُ محظوظةً بوصفي كاتِبة؛ لأنني وجدت قُرَّاء محليين وعالميين، وأنا أكتُب عن موضوعات شديدة الإيمان بها. أحب مُجتمعي ووطني، ولديَّ استعدادٌ للتعلُّم، وأتعلَّم بالفعل شيئًا جديدًا كلَّ يوم، كما أحبُّ أن أكتشفَ شيئًا عن الكتابة، لم أكن أعرفه بالأمس، ولا أضن بجهدي أبدًا.»

(إيفون فيرا Yvonne Vera)
من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ٤ أكتوبر ١٩٩٨م:

«أحيانًا أحسد الكُتَّاب في المجتمعات الأخرى، الكُتَّاب الذين ليس لديهم مشكلاتٌ حادَّةٌ مثلنا.»

(وولي شوينكا Wole Soyinka)
مجلة West Africa (١٨–٢٤ يوليو ١٩٩٤م)
بدون روَّاد الكتابة الأفريقية، فإن مفهومنا عن عالَم الأدب العالمي في القرن العشرين، لا بدَّ من أن يكون مختلفًا عن ذلك الذي نعرفه، وحتى في بداية القرن الواحد والعشرين، فإن معظم القُرَّاء الذين تعلَّموا خارج القارَّة، لا يعرفون الكثير عنها؛ فهي لسوء الحظ، ما زالت منطقة من العالم غير واضحةٍ بالنسبة لهم، إن لم تكن مجهولةً أو مظلمة، اطلب على سبيل المثال من أحد الطُّلاب في أية جامعة في الولايات المتحدة، أن يذكرَ اسم كاتبٍ أفريقي، وستكون الإجابة دائمًا: «شينوا أشيبي»، أمَّا في أوروبا — وفي فرنسا بخاصَّةٍ — فربما تمتد الإجابة لتشمل «ليوبولد سيدار سنجور Léopold Sédar Senghor»، أحد آباء «الزنوجة Négritude»، رغم أنَّ «سنجور» قد يُذكَر باعتباره رئيسًا للسنغال، أكثر منه لكونه شاعرًا، ومع النخبة الأدبية في أوروبا، سيذكرون بعضَ الأسماء الأخرى: «شوينكا» لكونه أوَّل أفريقي يحصل على نوبل للآداب (١٩٨٦م)، وبعده المصري «نجيب محفوظ» (١٩٨٨م)، ثم «نادين جورديمر Nadine Gordimer» من جنوب أفريقيا (١٩٩٩م)، ومنذ عام ١٩٩١، ذاع اسم «بن أوكري Ben Okri» النيجيري، بين القُرَّاء في بريطانيا، بسبب روايته «طريق الجياع» (The Famished Road) التي حصلت على جائزة «بوكر Booker» في ذلك العام، ومؤخَّرًا، لا بد أنهم سيذكرون الصومالي «نور الدين فرح Nuruddin Farah»، الحاصل على جائزة «نيوزدات Neustadt».
أضِف إلى هذه القائمة، أسماء «نجوجي وا ثيونجو Ngugi wa Thiong’o»، و«سمبيني عثمان Sembene Ousmane» (رغم أنه يُذكر بأفلامه أكثر منه برواياته)، و«آموس تيوتولا Amos Tutuola»، و«كامارا لايي Camara Laye»، وربَّما «سيبريان إكوينسي Cyprian Ekwensi»، و«إسكيا مفاليلي Es’kia Mphahlele»، ثم تتوالى الأسماء. أمَّا بالنسبة للمُدافِعات عن النسوية فهناك «بيسي هيد Bessie Head»، و«آما-آتا آيدو Ama Ata Aidoo»، و«تسيتسي دانجاريمبجا Tsitsi Dangarembga»، و«بوشي إيميشيتا Buchi Emecheta»، وكاتبة أو اثنتين أخريين، وبالرغم من ذلك، فإن العدد لا يزال قليلًا.

مُعظم المتعلمين الأمريكيين يجهلون أيضًا الكُتَّاب الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية، حتى السبعينيات، إلَّا أنَّني أتمنَّى ألَّا يمرَّ وقت طويل قبل أن يُصبح الكُتَّاب الأفارقة مقروئين على نطاق واسع، مثل إخوانهم الأفرو-أمريكيين في الولايات المتحدة.

بيد أنَّني لستُ واثقًا من ذلك، إلى حدٍّ ما؛ فسكَّان أفريقيا جنوب الصحراء، يصل عددهم إلى حوالي ٣٦٠ مليون نسمة، ومع ذلك فإن هذه الملايين، لم تستطع أن تدعم سوى كاتب واحد، هو «شينوا أشيبي»، ولعلَّه الوحيد — ربَّما — الذي يمكنه أن ينعم بحياةٍ مُريحة من عائد كتاباته، وأقول «ربَّما»، لأنه أكاديمي إلى جانب كونه كاتبًا؛ فهل كُنَّا نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن «شوينكا»، لو أنه لم يحصل على نوبل؟ وبدون جائزتي «بوكر» و«نيوزدات»، هل كان يستطيع «بن أوكري»، و«نور الدين فرح»، أن يعيشا من عائد أعمالهما؟ «شوينكا» يعمل بالتدريس أحيانًا، كما أنه يُحاضِر كثيرًا، أمَّا «بن أوكري»، فهو الوحيد الذي لم يمارس التدريس.

باستثناء «بن أوكري» — أصغر الكُتَّاب الذين ذكرناهم هنا — لم يستطع سوى عدد قليل من الكُتَّاب الأفارقة، أن يحققوا ذواتهم في السنوات الأخيرة. جائزة «بوكر» هي التي مكَّنت «بن أوكري» من ذلك، ولم يكن هناك جوائز أدبية ذات قيمة في أفريقيا، تُقدِّم مبلغًا نقديًّا يساعد الكُتَّاب، إلى أن جاءت «جائزة كايني Caine Prize» للكتابة الأفريقية في صيف ٢٠٠٠م، أمَّا جائزة «نوما Noma Award» للنشر في أفريقيا، والتي تُعتبر أهم جوائز الكُتب في القارَّة، فقد موَّلتها دار النشر اليابانية Kodansha، التي كان يرأسها في السابق، والجائزة السويدية «صوت أفريقيا»، التي تحتوي على مبلغ مالي كبير؛ فقد حصلت عليها «إيفون فيرا Yvonne Vera»، عن روايتها «تحت اللسان»، وهناك جوائز أقل، رغم أنَّ كل الجوائز مُهمَّة إذا كنت كاتبًا، ولكنَّها نادرًا ما تحتوي على جزء مالي، كما أنه ليس من المرجَّح أن تكون سببًا في زيادة مبيعات كتاب في أفريقيا، كما يحدث عادةً في أوروبا والولايات المتحدة، ولكن ربَّما يتغيَّر الوضع بعد تأسيس جائزة «كايني» للكتابة الأفريقية.
في مقالٍ بعنوان «في نيجيريا الأدبية كانت الأشياء تتداعى»، نشرته «الواشنطن بوست» ٣ فبراير ١٩٨٦م، يصف «إنيووكي إيباجير Eniwoke Ibagere» واقع الثقافة الأدبية في نيجيريا، ذلك البلد الأفريقي الذي قدَّم عددًا من الكُتَّاب المتميزين، أكثر مما قدَّم أي بلد آخر، ويوجد به أكبر تجمُّع سكاني من المتعلمين، كفيل بالحفاظ على هذا المناخ الأدبي. المؤشرات كئيبة: كثير من كبار الكُتَّاب في الدولة موجودون في المنفى، «كين سارو-ويوا» أُعدم، أحدث كتابٍ ﻟ «وولي شوينكا» يُباع بأربعة آلاف «نايرا»، (وهو مبلغ يزيد عن الراتب الشهري لمعظم الموظفين)، ويستمر المقال مع الاقتباس من أقوال «أولاينكا سولارين Olayinka Solarin»، رئيس اتحاد الناشرين في نيجيريا: «لم يعد في نيجيريا سوقًا كبيرًا للكتب، وهذا هو سبب نُدرتها، والاقتصاد في حالة متردِّية، وعليه، فالناس يفكرون أولًا في أمورهم المعيشية. أمَّا شراء الكُتب فلا يحدث إلَّا عند الضرورة، ولذلك فإن الناشرين يشكون، لأنَّ لا خيار لديهم سوى أن يطبعوا عددًا قليلًا من النُّسخ.»
كتاب شوينكا «إبادان Ibadan»، نُشر في إنجلترا، أمَّا بالنسبة لإصداراتهم، فيُقال إنَّ الناشرين النيجيريين، هم الذين ابتدعوا أسلوب «تدشين الكتاب»، إلى أن وصل الأمر إلى وضعٍ مُخلخَل لدرجة أنَّ بعضَ العناوين تُطرح للبيع، فقط، أثناء حفل التدشين، وبأسعار مرتفعة جدًّا، «إنَّ أكثرَ ما يطمَح إليه أي كاتِبٍ، هو حفل تدشين سخيٍّ، يطرَح فيه الناشر طبعة محدودة، يتخاطف نُسخها الأغنياء والمقتدرون، بأسعار عالية قد تصل إلى عشرين ألف نايرا (٢٥٠ دولارًا) للنُّسخة». في لقاء مع مجلة «وست أفريكا West Africa»، أُجري قبل عدَّة سنوات، كان «وولي شوينكا» يُندِّد بأسلوب تدشين الكُتب: «ثقافة التدشين حلَّت محل ثقافة النشر»، كما أن النُّسخ التي تُطرَح في مثل هذه الاحتفاليات، ربَّما لا تتوفَّر أبدًا في محلات بيع الكُتب، ولكن … هل النُّخَب التي تشتري هذه الكُتب بهذه الأسعار، يهمها أن تقرأَها؟ وكيف يمكن أن يُصبح الكُتَّابُ معروفين ومقروئين في مثل هذه الظروف؟ مقال «إيباجير» يقتبس عن «جوب بيركوت Joop Berkhout»، صاحب دار نشر «سبكترم بوكس Spectrum Books». هذا التعليق عن محلات بيع الكُتب في البلاد: «من الصعب أن تجدَ كتبًا في نيجيريا؛ لأنَّ محلات بيع الكتب المنظَّمة، مثل تلك الموجودة في الخارج، قليلة جدًّا، هناك بعض المحلات التي تأخذ الكتب من الناشرين، ثم تعجز عن الدفع، والناشرون لن يعطوهم الكُتب بالمجَّان.»
ويقول «بيركوت Berkhout» في عبارة مؤلمة أخرى: «إنَّ ثقافة القراءة لدى النيجيريين ضعيفة، ونادرًا ما يشترون الكتب»، وإذا كان هذا هو الحال في نيجيريا، فما بالك به في الدول الأخرى؟ في السنوات الأخيرة كان هناك نغمة واحدة يردِّدها الكُتَّاب في القارَّة كُلها تُعبِّر عن خيبة الأمل في القُرَّاء؛ ففي مؤتمر مُشترَك للكُتَّاب والناشرين (ندوة الكُتَّاب والناشرين الأفارقة، تنزانيا، من ٢٣–٢٦ فبراير ١٩٩٨م)، كان من رأي كُلٍّ من «فيمي أوسوفيسان: Femi Osofisan»، و«داف أوتوبو Dafe Otobo»، أنَّ الأفارقة «لا يذهبون إلى محلات بيع الكتب»، هذه النغمة نفسها، ردَّدَها «تيجان م. صلاح»، عندما سُئل في ندوةٍ إذاعية (٢٣ أغسطس ١٩٩٧م) ما إذا كان أبناء بلاده (جامبيا) يقرءونه، قال «تيجان»: «إلى حدٍّ ما … وذلك من قِبَل النخبة الجامعية، الذين يعرفون القراءة والكتابة، وأعتقد أنَّ أعمالي معروفةٌ في الخارج، أكثر مما هي في الداخل». «سنديوي ماجونا Sindiwe Magona» — من جنوب أفريقيا — قال الشيء نفسه تقريبًا: «أنا أفريقي والناس لا يقرءون كُتبي، البيض والملونون، هم الذين يستقبلون كُتبي جيدًا، ويقرءونها في الداخل والخارج»، والنخب الأفريقية، «لا تهتم كثيرًا بالقراءة أو الدرس، ومن أسفٍ — في رأيي — أنَّ الكُتَّاب الأفارقة يكتبون بالأساس، لكي يقرأهم الناس في أفريقيا.»
الكُتَّاب والمدرسون الأفارقة، ينحون باللائمة على نُظُم التعليم (وخاصَّةً في المراحل الأولى)، ويقولون إنَّ الاهتمام بالقراءة كان قليلًا. ويقول «أو إم لاوال-سولارين O. M. Lawal-Solarin»: إنَّ «القليل من أطفال المدارس، هم الذين يقرءون بغرض المتعة»، ولكن الكتب المتوفِّرة هي كُتب مستورَدةٌ في الغالب، وليست مكتوبةً باللغة الأم، التي يتكلَّم بها الأطفال. ويُقدِّم لنا «جيمس توموسيمي James Tumusiime» مدير «فاونتين Fountain» للنشر في «كمبالا»، مثالًا على «الغياب الكامل لكُتب الأطفال من قِبَل المؤلِّفين الأوغنديين»، حتى وقتٍ قريب، ورغم وجود بعض الكُتب الآن، ها هو يعترف بأنَّ «كتب الأطفال المنشورة محليًّا — في أوغندا — أغلى في السعر، وأقل في الألوان من الكتب المنشورة في الخارج»، كما يصف «هنري شاكافا Henry Chakava»، وهو أحد الناشرين الذين يحظون باحترامٍ شديد في أفريقيا. يصف لنا محاولاته، لنشر سلسلة من كُتب الأطفال باللغات الكينية: «الأطفال والكُتب: كينيا»، فقد طلب نصوصًا من كُتَّاب ممتازين مثل «نجوجي وا ثيونجو»، وأنتجَ كتبًا جذَّابة مُستخدِمًا في ذلك «الإخراج المُتقَن، والورق الجيد، والصور الملوَّنة على الغلاف، أو في داخل الكتب»، ولكن كل هذه الجهود، أحبطها واقع السوق: «فبعد العناوين الخمسة الأولى لم أتمكَّن من الاستمرار؛ لأنَّ مبيعات السلسلة كانت هزيلة، ولم يُطبَع أي من الكُتب مرَّةً ثانية.»
ربَّما يكون هدف «شاكافا» من نشر كُتب الأطفال باللغات الأفريقية، قد أصاب نجاحًا محدودًا، ولكنَّ السلسلة، تبعها خط أكثر نجاحًا، لكتب الأطفال بالإنجليزية؛ فقد كانت هذه السلسلة، استجابة لدعوة «أشيبي»، أثناء «معرض زيمبابوي الدولي للكتاب» (دورة ١٩٨٧م)، «عندما ناشد الكُتَّاب الأفارقة الجادِّين، إنقاذ أطفال أفريقيا، بأن يكتب كل منهم قصتَين (على الأقل) مناسبتَين لهم.»١ والآن يقول «شاكافا»: إنَّ برنامج شركته لنشر كتب الأطفال، «هو الجزء الأكثر نموًّا في تجارتنا، ومن المرجَّح أن يظلَّ كذلك لفترة طويلة قادمة»، إلَّا أنَّ «شوكويميكي إيك Chukwemeke Ike»، الكاتب النيجيري، ورئيس مؤسسة الكتاب هناك، لم يكن على هذه الدرجة من التفاؤل، عندما تكلَّم عن النشر في نيجيريا، بالرغم من الجهود المبذولة، لإقامة أسبوع للكتاب في أنحاء البلاد، ومنتديات للكتب، وأيام لكتب الأطفال، وقد أدلت الخبيرة التربوية «ميريام بامار Miriam Bamhare» بتصريحاتٍ مشابهة، في كثير من معارض الكتب، عن الحاجة لغرس حب القراءة في نفوس الأطفال، الذين ينبغي تدريبهم على ذلك، وربَّما كان مدرسوهم، وأمناء المكتبات أنفسهم، غير معتادين على القراءة بهدف المتعة، وليس غريبًا أن يكون الكُتَّاب الأفارقة، وخاصَّةً صغار السِّنِّ منهم، الذين ينبغي أن يحصلوا على أكثر من موطئ قدمٍ، في عالَم النشر، قد أصابهم الإحباط، وقد اتضح لي ذلك في عشرات الإجابات التي تلقيتها من كُتَّابٍ من مختلف أنحاء القارَّة، ردًّا على استطلاع الرأي، الذي طلبتُ منهم فيه أن يَصِفوا لي تجربتَهم مع النشر.
التشاؤم والشعور بالإحباط لدى كثير من هؤلاء الكُتَّاب، نجده موثَّقًا (وبالتفصيل)، عندما يصفون خبرتهم مع الناشرين الأفارقة والأجانب، وبعضهم غير مُلمٍّ بخبايا عالَم النشر، ومن السهل أن يكونوا ضحايا للخداع، رغم أنَّ ذلك قد يكون هو الحال بالنسبة للكُتَّاب في كل مكان. لقد عبَّر الكاتب النيجيري «نيفي بسكارد أوجوهو Nevilles Bsquared Oguohwo»، عن سذاجةٍ كبيرة في ردِّه على الاستطلاع، عندما قال: «معظم الكُتَّاب الناشئين في أفريقيا، تنقصهم المعلومات الأساسية عن عملية النشر، رغم إمكانية الإشارة إلى جهود الناشرين الأجانب الإعلانية، في مجلات مثل «الإيكونومست»، وغيرها؛ فهي على الأقل تضمن أن تصل المخطوطة إلى رفِّ الكتب، وخدمات بيع واسعة في العالَم» (من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ١٧ أبريل ١٩٩٨م).
وقد زوَّدني أحدُ الكُتَّاب النيجيريين، الذين لم يتمكَّنوا من النشر بنُسَخ من مُراسلاته الطويلة مع دار نشر «مينرفا Minerva Press» في لندن. تشير رسالة القبول (أو تقييم التحرير لدى الدار) إلى رواية الكاتب، بأنها «موجزة، ولكن المعالجة الكافية لمثل هذا الموضوع المهم جذَّابة بالنسبة للقارئ، على خِلاف الكُتب الأخرى من هذا النوع، إذ بدلًا من مواجهتها بسيل من المعلومات والحقائق «الجافة»، نجد هناك حوارًا وتفاعلًا، مما يُساعد القارئ على البحث، كأنه مشارك فيه.»

وتستمر الرسالة «… وهذا عملٌ مليء بالمعلومات، وإن كان ينقلها بشكلٍ سهل، الأسلوب مُختصَر، ولكنَّه واضحٌ و«إنساني»، ولن يكون القارئ مضطرًّا إلى تدوين بعض النقاط لكي يفهم؛ إذ بينما كان الكاتب موضوعيًّا في تناوله، إلَّا أنه استطاع أن يُحافظ على درجة ضرورية من الحساسية والتقمُّص، بالنسبة لموضوعه». وبعد هذا القبول الأولي للرواية، تأتي رسالة مُستقلَّة توضِّح للكاتب شروط النشر: الكاتب عليه أن يُسهم بمبلغ ٢٨٠٠ جنيه إسترليني، إذا كان يريد أن ينشر الكتاب.

مُعظم دور النشر المشابهة في بريطانيا والولايات المتحدة تفعل ذلك. أولًا: ردًّا على الاستفسارات الأوَّلية، تُعلن الدار عن سياستها، وهي أنَّ الكاتب ربما يكون عليه أن يُشارك في تكلفة الإنتاج، وعلى أية حال، فإن «كثيرًا من الكُتَّاب الناجحين بدءوا هكذا — أي إنهم أسهموا في تكلفة نشرِ أعمالهم الأولى — بمَن فيهم «مارك توين Mark Twain»، و«ناثانيل هاوثورن Nathaniel Hawthorne»، و«لورد بيرون Lord Byron»، و«بياتركس بوتر Beatrix Potter»، و«إدجار آلان بو Edgar Allan Poe»، و«أ. أ. مليني A. A. Milne»، و«برنارد شو Bernard Shaw»، و«مارسيل بروست Marcel Proust»، و«جين أوستن Jane Austen» بالطبع، ولأسباب اقتصادية، فإن الشركات الكبيرة، متعددة الجنسية، التي تسيطر على النشر في العالَم، نادرًا ما تقبل أعمال الكُتَّاب الجُدد». بعد ذلك، إذا تم تسليم مخطوطة عمل، يتلقَّى الكاتِب رسالة «القبول»، وغالبًا ما يكون ذلك عن كتاب متوسط القيمة، لن تقبله دار نشر شهيرة، وبعد ذلك تأتي رسالة، تطلب المساهمة المالية، التي ربما لا يُدرك الكاتب، أنها أكثر من كافية لتغطية تكلفة الإنتاج، وتحقق ربحًا معقولًا لدار النشر؛ حيث إنَّ من المفترض أنَّ عددًا قليلًا من النُّسَخ هو الذي سيتم بيعه.

وقد يستنتج الكُتَّاب الأفارقة من ذلك، أنَّ كل الناشرين يطلبون مساهمات مالية من المؤلفين، وقد قال لي الكاتب، الذي تلقَّى هذه الرسائل، من دار نشر «مينرفا»، في ردِّه: «لا توجد معلومات دقيقة أو صحيحة عن النشر بالنسبة للأفارقة»، فكيف يعرفون ما إذا كان عرض الناشر قانونيًّا؟ نحن لسنا في حاجة إلى أن نقول: إنَّ مبلغ اﻟ ٢٨٠٠جنيه المطلوبة، تُعتبر ثروة بالنسبة لأي أفريقي، ولو تحمَّل الكاتب مثل هذا المبلغ، فلا شك في أنَّ خسارته ستكون مؤكَّدة.

مثل هذا النقص في المعلومات، والجهل بمكائد وألاعيب عالَم النشر، كلها أمورٌ مفهومة، وذلك لأسباب تتعلَّق بالمسافة (الكاتب في أفريقيا، بينما الناشر في أوروبا)، والثقافة (افتراض أنَّ الناشر في إنجلترا لا بدَّ أن يكون أمينًا وحَسَن السُّمعة). القضية الأكبر التي تمتد إلى ما هو أبعد من مجال مثل هؤلاء الناشرين، هي قضية تدني الأخلاقيات بين كل الناشرين الأفارقة، وبين نظرائهم الأوروبيين، إلى حدٍّ ما. في سنة ١٩٩٤م قال «كونت ملانجا Cont Mhlanga»: «إنَّ أكبر مشكلةٍ لكاتب أفريقي، هي أنه لا يعرف ما يتوقَّعه من اتفاق تعاقدي مع ناشر، فنحن في حاجةٍ إلى عقدٍ … يضمن الحد الأدنى من أخلاقيات العمل، داخل صناعة النشر، ويساعد على توعية كُتَّابنا.»
في ندوة الكُتَّاب والناشرين الأفارقة، التي عُقدت في «أروشا Arusha» في سنة ١٩٩٨م، وجَّه عدد كبير من الكُتَّاب الاتهام للناشرين، بسبب الإجحاف في التعامل، بالرغم من أنَّ «كول أموتوزو Kole Omotoso» — مثل كونت ملانجا من قبله — قد عزا المشكلة إلى السذاجة العامَّة، التي يتصف بها الكُتَّاب الأفارقة، كما ذكر «تابان لوليونج Taban lo liyong» مثال الكاتب الراحل «أكوت بيتيك Okot P’Bitek»، الذي باع مخطوطة «أغنية لاوينو Song of Lawino» بمبلغ ٢٠٠ شلن كيني لا غير، هذا بالرغم من إعادة التفاوض بعد ذلك، وتحدث الشاعر «نيي أوساندارو Niyi Osundaro» بالتفصيل عن تعامله مع ثمانية ناشرين، من بينهم «اثنان أو ثلاثة»، كانوا يرسلون إليه مستحقاته بانتظام، وعن ناشر كان يتعامل معه سنة ١٩٨٣م، لم يحصل منه على عائدات سوى مرتين منذ ذلك التاريخ، وعندما كتبتُ إلى الشاعر لموافاتي بمزيد من التفاصيل، جاء ردُّه: «من بين الناشرين الثمانية الذين أتعامل معهم، هناك واحد فقط في أوروبا، هو الذي يرسل لي مستحقاتي بانتظام، وهناك اثنان من نيجيريا، يرسلان مستحقاتي رغم أنَّ أحدهما يعدني دائمًا بأنه سوف يدفع «عندما يتحسن الاقتصاد»، كما نقول دائمًا في نيجيريا، بينما لم يحاول أحد من الآخرين أن يرسل إليَّ أي كشف حساب» (من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ٢١ أكتوبر ١٩٩٨م).
وهناك كُتَّاب أفارقة آخرون، يتكلمون عن حالات، نسي فيها الناشرون أن يدفعوا استحقاقات المؤلفين، بما يعني أنَّ المؤلِّف لم يحصل على أي شيء، لأنهم لا يدفعون أي مبالغ مقدمًا، وتقول «فيرونيك تادجو Véronique Tadjo» (من ساحل العاج)، عن هذا الأمر: «عندما تتسلَّم مُستحقاتك، هذا إذا حدث، تكون العبارات غامضة دائمًا، والحقيقة، أنَّ أضمن شيءٍ، هو أن تذهب أنت بنفسِك، وتطالب بها، رغم أنَّ ذلك قد يكون مسألة مُحرجة لك، وأعرف أنَّ هذا ليس مقصورًا على «لارماتان L’Harmattan»، الناشر الفرنسي فقط، بل إن مُعظم الناشرين الأفارقة يتعاملون بالأسلوب نفسه. العائدات لا وجود لها، أو لعلَّها تأتيك بشكلٍ غير منتظم» (من رسالة للمؤلِّف بتاريخ ٢١ مايو ١٩٩٧م). وفي إشارة إلى «لامارتان»، (الذي يُعتبر الناشر الفرانكفوني الرئيسي لأعمال الكُتَّاب الأفارقة، رغم أنَّ مقرَّه باريس) قالت «مانثيا ديوارا Manthia Diwara»: إنَّ «لامارتان لا تدفع أي شيء عن الألف نُسخة الأولى من الكتاب» (من مكالمة تليفونية مع المؤلِّف في ١٨ سبتمبر ١٩٩٨م)، وبالتالي إذا كانت المبيعات هزيلة، فسيكون من السهل على المؤلِّف الذي نسي شروط التعاقد أن يعتقد أن «لامارتان» لا تدفع أي مستحقات بالمرَّة.
بوجود شروط وقواعد من هذا القبيل، فإن التشاؤم الذي عبَّر عنه عددٌ من الكُتَّاب، في ردودهم على استطلاع الرأي، لا يكون مُستغرَبًا. «سانيا أوشا Sanya Osha» من إدارة الدراسات العامة، من جامعة التكنولوجيا (Lodoke Akintola) في نيجيريا، كتبت عنوانًا للردِّ الذي أرسلته، وهو: «نهاية الأدب النيجيري»، كما كان من بين التعليقات التي تناولت دور النشر الأوروبية، عبارات من قبيل «الحقيقة أن الكتابة الأفريقية ليست هي الشيء الأساسي في السوق الثقافية العالمية»، «نشر الكتابة الأفريقية لا يختلف كثيرًا عن القيام بأعمال البر والإحسان»، «يمكن أن نقول: إنَّ النشر التقليدي في نيجيريا قد مات»، وعليه، «أصبح النشر الشخصي ضرورة»، ولكن، «لا بدَّ من أن يكون التسويق عقبةً ضخمة، وبالمثل، فإن الكُتَّاب الناشئين، يواجهون عقبات بالنسبة للتحرير؛ حيث إنَّ عليهم أن يقوموا بكل شيء، على نفقتهم، وكما هي الحال، فإن مُعظم هذه الكُتب يوزَّع الآن، في إطار الدوائر الأدبية، وليس بين جمهور واسع؛ حيث تكون مطلوبةً بشدة، وحيث يستطيع الكاتب في النهاية أن يعرف قيمته الحقيقية».
والأسوأ من ذلك، أنَّ «أوشا» عندما تذكر «رولان بارت Roland Barthes»، و«ميشيل فوكو Michel Foucault»، وتذكر «موت المؤلِّف»، فإن الاستعارة هنا، تنطبق على «المؤلِّف النيجيري»، «في هذه الأوقات الصعبة»، كما تتساءل: «كيف يمكن أن تقوم بتفكيك أو نقض ما لم يتكون أو يتحقق بعدُ؟» «إنَّ تَرِكة ما بعد الاستعمار، كانت مأساةً على كل الجبهات، وما زلنا، نحن الكُتَّاب المناضلين، نواصل تنقلنا بين دُور النشر، التي لا يمكن وصفها، ونحن نقضم أظافر أصابعنا، من أجل التخلي عن النقود المقترضة، ولبذل جهود من المرَجَّح أن تنتهي إلى لا شيء» (من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ٢٤ سبتمبر ١٩٩٧م).
«جيكو إيكيمي Jekwu Ikeme»، (وهو من نيجيريا مثل أوشا)، يتحدث عن تجربة سلبية أخرى، عندما حاول أن ينشر مجموعة شِعرية له؛ فقد سألَه أحد الناشرين النيجيريِّين صراحةً وبشكلٍ مُباشر: «ومَن يقرأ الشِّعر؟» «إيكيمي» حاول مع ناشرين آخرين، في الداخل وفي الخارج، وفي النهاية، اقترح عليه أحدُهم أن يُسهم بقيمة ٧٥٪ من التكلفة، وهو ما لا يَقدر عليه، كما قال الناشر إنَّه لن يقبل الكتاب، إلَّا إذا كان يتضمَّن مُقدِّمة بقلم «شاعرٍ وكاتبٍ مسرحي شهير»، وهكذا، راح «إيكيمي» يتحدَّث مع أكثر من ثلاثين «فاعل خير» — بمعنى الكلمة — لكي يساعدوه في تحمُّل ما هو مطلوب منه، «إلى أن اقترحت أن أقوم بإهداء الكتاب لأي شخص، يكون مُستعدًّا لتمويل المشروع، وللأسف لم أنجح في ذلك»، أمَّا عن حالته المعنوية، «مثل كل الكُتَّاب في أفريقيا، أصبحتُ فاقِدًا للشعور بالصدمة وخيبة الأمل» (من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ١٢ أغسطس ١٩٩٧).
الانزعاج والضيق اللذان عبَّر عنهما الكُتَّاب الأفارقة، عن فرص النشر المتاحة حاليًّا، سواء في الداخل أو في الخارج، يشملان كل جوانب وتفاصيل عملية النشر. اقتصادات كثير من الدول الأفريقية في حالة سيئة، لدرجة أن نشر أعمال كُتَّابِهم الإبداعية، قد توقَّف تمامًا، باستثناء دولٍ قليلة. دور النشر التي كانت موجودة إلى وقت قريب، مثل «باوباب بوكس Baobab Books» في زيمبابوي، كانت تتلقَّى سيلًا من الأعمال، لا تنشر سوى جزء ضئيل منها، بصرف النظر عن المستوى. الناشرون الأفارقة الآخرون، قرَّروا أن يلبوا طلبات السوق التعليمية، وفي بعض الأحيان، ينشرون بعض الروايات، على أمل أن تختارها الحكومات للمقررات الدراسية، كما يتحدَّث الكُتَّاب عن الرقابة بدرجاتها المختلفة، أولًا، قد يتوقفون هم أنفسهم عن كتابة ما يريدون خوفًا من قمع حكوماتهم، كما أنَّ المرجَّح أن يقوم الناشرون المحليون، بحذف أجزاء قد يرونها مُسيئةً أو غير لائقةٍ، لأسباب جنسية، أو سياسية، و/أو دينية، أمَّا الأسوأ من ذلك، فهو أنَّ الناشرين خارج أفريقيا، قد يخشون التداعيات التي قد تخلقها كُتب سياسية لأسبابٍ عِدَّة.
هكذا، يرى الكُتَّاب أنفسهم، مُحاصَرين من كل الجهات. في مؤتمر «أروشا Arusha»، حدد «كول أموتوزو Kole Omotoso» أخطار هذه الرقابة الحالية، المفروضة من الخارج: «كثيرًا ما كان القُرَّاء الأجانب، يرفضون تبنِّي قضايا أفريقيا المعاصِرة، مفضلين على ذلك الصيغ الأفريقية القديمة، التي تتفق مع مصالحهم.»
أمَّا «آجنس سام Agnes Sam»، وهي كاتبة من جنوب أفريقيا (من أصول هندية)، فقد كتبت عن الصعوبات التي واجهتها لنشر رواية تجريبية:
«المسودة الأولى كانت انطباعية، بِنيتها توحي بمجتمعٍ ممزق، وبشر في نظام عنصري، يعيشون منعزلين عن بعضهم، وكانت الرواية تجمع بين الشِّعر والنَّثر. كان الهدف هو إحباط حاجة القارئ للاستمرار؛ لأنَّ هذا هو الحادِث بالضبط في فهمنا للوضع في جنوب أفريقيا. رأيت أعمالًا تجريبية أخرى منشورة، وهو ما يدعم وجهة نظري، بأنَّ الناشرين لا يقرِّرون ما هو مقبول بالنسبة لسوق معيَّنة، وإنَّما لأنَّ لديهم «نمطًا» معيَّنًا، لما يجب أن يكتبه المؤلِّف، الذي ينتمي إلى جماعةٍ معيَّنة. لقد أكَّدَ لي ممثل إحدى دور النشر، أنَّ النساء السوداوات يكتُبن كتابةً أوتوبيوجرافية (ذاتية)، وأنَّ الكاتبة السوداء التي تحاول التجريب باللغة، لا مجال لها في الكتابة بهدفِ البيع، وفي «الكومنولث» الجديد، يُقال إنَّ هؤلاء الكاتبات، غير المتَّسقات مع هذا النمط، متأثرات بالتقاليد الغربية، وأنَّ إنجليزيتهن مختلفة عن «البانتو»، أو التعليم في العالَم الثالث، أو يُقال مثلًا، إنَّهن لا يكتُبن من أجل «الناس»، ولذلك ليس مسموحًا بالخروج على التقاليد الغربية في الكتابة، ولا بالتجريب بعيدًا عن «الأنماط»، التي يعرفها الناشرون.»٢
الكاتبة الغانية «آما آتا آيدو Ama Ata Aidoo»، عبَّرت عن أفكار مماثلةٍ، بخصوص كتابة أدب «يكون مقبولًا»، أو يَرضى عنه الناشرون في خارج القارَّة: «يمكن أن يقول لك أحدُهم: إنَّ مخطوطتك لا يبدو عليها، عند قراءتها، أنَّ كاتبها شخصٌ من العالَم الثالث»، كما تحدثت في مُناسبة أخرى، عن صعوبة كونها «كاتبة»، (أو امرأة تكتب): «لولا وجود دور نشرٍ بديلة، ذات توجُّهات نسوية، لما كان بالإمكان نشر كثير من الأعمال الإبداعية، وكُتب النقد الاجتماعي، التي تكتبها النساء»، مضيفةً: «إنَّهم يستغربون أن تكتب المرأة بشكلٍ عام»، وعندما حاورتها «لينا وليمز Lena Williams» (نيويورك تايمز، ٢٢ أكتوبر ١٩٩٧م)، عبَّرت عن امتنانها لقِسم النشر في «سيتي يونيفرستي، نيويورك» لنشرها كتابين لها.
بِناءً على كثير من التعليقات السلبية الكثيرة، عن وضع النشر بالنسبة للأعمال الأدبية الأفريقية اليوم، قد يتساءل المرء عن احتمالات المستقبَل، بالنسبة للجيل الحالي من الكُتَّاب الأفارقة، وباستثناء شعراء الزنوجة، فإن الجيل الأول، من كُتَّاب أفريقيا — أولئك الذين بدءوا النشر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية — سلك طريق النشر في أوروبا؛ حيث إنَّ ذلك كان هو الطريق الوحيد المتاح لهم. الجيل الثاني، الذي بدأ سنة ١٩٧٠م تقريبًا، أصاب بعض النجاح بالنسبة للنشر في أفريقيا، ولكنَّهم كثيرًا ما كانوا ينشرون في الخارج، وهنا ترِد على الذِّهن، أسماءٌ مثل: «آي كوي آرمه Ayi Kwei Armah»، و«بن أوكري Ben Okri»، و«نور الدين فرح Nurrudin Farah»، باعتبارهم الأشهر بين كُتَّاب هذا الجيل، ولكن بعد +عشرين أو خمس وعشرين سنة، كانت اقتصاداتُ كثيرٍ من الدول الأفريقية، في حالةٍ شديدة السوء، وكان من الصعب على كثير من الكُتَّاب، أن يجدوا ناشرين مستعدين لنشر أعمالهم؛ حتى إنَّ الناشرين الأوروبيين (فونتانا Fontana، وهينمان Heinmann، على سبيل المثال) كانوا يقلِّصون أعمالهم، وينشرون أعمالًا أقل، للكُتَّاب الأفارقة.

أين سيجد كُتَّاب أفريقيا ناشرين في المستقبل؟ ربَّما يساعدنا تأمُّل رحلة عدد من الكُتَّاب — سواء مَن تحقَّق منهم أو لم يتحقق — على الإجابة عن هذا السؤال، بالرغم من أنَّ بعض هؤلاء الكُتَّاب يحاولون تأكيد أهميتهم منذ سنواتٍ تفوق قدرة الآخرين على التحمُّل.

سيبريان إكوينسي (Cyprian Ekwensi) – نيجيريا

قبل رُبع القرن تقريبًا كتب الناقد النيجيري «إيرنست إيمينيونو: Ernest Emenyoun»، عن «سيبريان إكوينسي» بحماسةٍ شديدة يقول: «لقد تم توجيه الكثير من المديح واللوم إليه، ولكن أحدًا لم يقيِّمه بوصفه كاتبًا، على النحو الصحيح. النقاد الذين يبدو أنهم لم يقدروا على أن يكونوا على مستوى ثراء كتاباته، وتنوعها، ناهيك عن ضخامة كُتبه، هؤلاء النقاد قد تجنبوه، والحقيقة أنَّ تطوُّرَه ككاتب، بناءً على التسلسل الزمني لأعماله لم يستطع كثيرون إدراكَه» (Cyprian Ekwensi, p. 3). «إكوينسي» ليس مجرد كاتبٍ أفريقي، من أكثر كُتَّاب القارَّة إنتاجًا، في القرن العشرين، ولكنَّه أيضًا ممارس لعدَّة مِهن أخرى، إلى جانب الكتابة. «إكوينسي» من «الإيبو»، وُلد سنة ١٩٢١م، في نيجيريا الشمالية، درس المرحلة الثانوية في «إبادان»، في منطقة يُشَكِّل «اليوروبا غالبية سكانها، وتعكس أعماله مدى تآلفه وسهولة تعايشه مع الكثير من الجماعات العِرقية في بلاده.»
واصل تعليمه في «إبادان» (كلية يابا العليا)، ثم في كلية «أشيموتا»، في غانا؛ حيث درس الحراجة (علوم الغابات)، وعمل لمدة عامين في هذا المجال. قام بتدريس العلوم لفترة قصيرة، كما عمل في إذاعة نيجيريا، وفي ١٩٤٩م، التحق بكلية الصيدلة في «لاجوس»، ثم أكمل دراسته في جامعة لندن (كلية الصيدلة في شيلسي). أثناء هذه السنوات كتب «إكوينسي» رواياته الأولى، وكثيرًا ما كان يُعرَف بأنه أحد القوى الرئيسية، في «سوق أونيتشا» للأدب، من خلال كتابه «المصارع إيكولو وحكايات أخرى من الإيبو» Ikolo the Wrestler and Other Ibo Tales (١٩٤٧م) الذي نشره في لندن، وعندما صدرت روايته الشهيرة «جاجوا نانا Jagua Nana» ١٩٦١م في الولايات المتحدة. في ١٩٦٦م ذكَرَ المؤلِّف أنَّ له ١٩ كتابًا، بدأت ﺑ «عندما يهمس الحب» When Love Whispers (١٩٤٧م) يحدد «إيرنست إيمينيونو Ernest Emenyonu» أهميتها على النحو التالي: «كانت قصة الحب القصيرة هذه إحدى الأعمال الباكرة التي صدرت في نيجيريا باللغة الإنجليزية، وربَّما تكون قد ساعدت على الإلهام بكتابات «أونيتشا» الأدبية» (p. 7)، وعلى خلاف كُتَّاب نيجيريا الآخرين، استطاع «إكوينسي» أن يحقق تلك النقلة من الكتابة لسوق «أونيتشا» الأدبية، إلى جمهور عريض؛ أي إنه — بمعنًى آخر — اكتشف في مرحلة باكرة، أنَّ هناك نيجيريين يمكن اجتذابهم للقراءة، لو توفرت مادَّة مناسبة. «عندما يهمس الحب»، و«جاجوا نانا»، وغيرهما، كثير من أعمال الكاتب التي جاءت بعد ذلك، تلغم حقل الأدب الروائي الشعبي الغربي بالجنس، والعنف (رغم عدم تطرُّفه كما هو في الغرب)، والخداع، والغموض، وذلك في إطار معاصِر، وخاصةً في بوتقة انصهار المدن الكبرى، وقد أضاف «إكوينسي» إلى ذلك كُلِّه افتتانًا لا يهدأ بالمرأة الأفريقية، وباختصار، فإن أعماله تحتوي على كل عناصر الروائع الغربية، باستثناء أنَّ الأحوال الاقتصادية المتردِّية قد ألقَت بظلالِها على «مفهوم الروائع» في سوق الكتابة النيجيرية في السنوات الأخيرة. العملان: «عندما يهمس الحب»، و«جاجوا نانا»، يتمحوران حول امرأة أفريقية، شديدة الجاذبية، يتقدَّم لها عدد كبير ممَّن يطلبون يدها للزواج. في الرواية الأولى، ينشأ الصراع؛ لأنَّ «أشوكا» تعتقد أنها قد وجدت حبَّ حياتها، بينما يتوقَّع أبوها أن تتزوج من رجل أكبر سنًّا، وبأسلوبٍ مرتب جيدًا. «جاجوا نانا» أكبر سنًّا، وأكثر حبًّا للحياة: داعِرة في الخامسة والأربعين من العمر، ولها عشيق دائم إلى جانب زبائنها الذين يدفعون لها. هذه الرواية — مثل كثيرٍ من الروايات الباكرة في «أونيتشا» — تقدِّم لنا القاع الرثَّ للمدينة الرثَّة، (التي هي «لاجوس» في الرواية)، أمَّا المكان المفضَّل ﻟ «جاجوا»، فهو «بار تروبيكانا»، وهو مسرح معظم أحداث القصة:
«كانت كلُّ النساء يرتدين ثيابًا قصيرة جدًّا، تبرز منها الأرداف والصدور بوحشية فوق ثنايا الأجساد، وفي الوقت نفسه كانت الخصور نحيلة، والثياب ضيِّقة لدرجة الاختناق، وكان الثوبُ الأجمل هو ذلك الذي يلفت أعين الرجال النَّهِمة إليه، في هذه السوق الجنسية الفادحة، وكان الراقصون يشغلون مساحةً صغيرة، دون إضاءة، بحيث يُبدون صورًا ظِلِّية لأجساد بلا وجوه، وكان أي شخص، مهما كان بعيدًا عن الرياضة، يحاول أن يتقمَّص تلك الحياة، التي توصَف بأنها الحياة الراقية.» (p. 14)
«جاجوا نانا» كانت رواية شهيرة، ومنتشرة في الستينيات، لدرجة أنَّ إحدى شركات السينما الإيطالية، فكَّرت في تحويلها إلى فيلم، وقد أدَّت هذه الفكرة — فكرة تحويل رواية مثيرة إلى فيلم، يُقدِّم للعالَم لمحةً عن الحياة في نيجيريا — إلى مناقشات في البرلمان النيجيري، انتهت بإلغاء مفاجئ للمشروع، ويشير «إيمينيونوس Emenyonus» إلى المفارقة الساخرة في هذا الحدث؛ لأنه وقع تقريبًا، في الوقت الذي حصل فيه «إيكوينسي»، على جائزة «داج همرشلر» الدولية للآداب (١٩٦٨م). هذا التناقض بالغ الدِّلالة؛ لأنَّ «إيكوينسي» كتب أعمالًا أدبية كثيرة مثيرة، بالرغم من أنه لا يُعرَف إلَّا بهذا العمل. رواياته الباكرة، مثل «الولد الطبَّال The Drummer Boy (١٩٦٠م)» و«جواز سفر مالام إيليا Passport of Mallam Ilia (١٩٦٠م)» و«العُشب المحترق Burnning Grass (١٩٦٢م)» و«إسكا Iska (١٩٦٦م)» كلها روايات «جادَّة»، صدر بعضُها عن دور نشر أكاديمية، مثل «أوكسفورد يونيفرستي برس»، من أجل السوق الأفريقية، كما أصبحت نصوصًا دراسية لامتحانات شهادة إتمام الدراسة الثانوية، في غرب أفريقيا، وقد كان هناك دائمًا ذلك التنوع بين المثير والجاد، والصريح والمتحفظ، في أعمال «إكوينسي».

كتب «سيبريان إكوينسي» مئات القصص القصيرة، والتمثيليات الإذاعية، والسيناريوهات التليفزيونية، وعشرات الروايات، بما في ذلك أعمالًا للأطفال، وبالرغم من ذلك، نجده يقول في السبعينيات: إنَّ كتاباته لم تجلب له سوى «الشهرة والفقر»، وفي ردِّه على استطلاع الرأي، الذي أرسلْتُه إليه، كتب يقول: «خمسة عقود أو ما يزيد في كتابة الروايات، والقصص، وكُتب الأطفال، جلبت لي الشهرة العالمية، وليس الثروة، لو أنَّني أمريكي يعيش في أمريكا أو أوروبا، لكنت الآن أطفو في حَمَّام من الرغوة، على يخت خاص، بالقرب من ساحل فلوريدا» (من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ٨ مارس ١٩٩٩م).

مثل الكثيرين من أقرانه، يوافق «إكوينسي» على أنَّ ثقافة القراءة في بلاده (وفي القارَّة بشكلٍ عام) قد تغيَّرت تغيُّرًا ملموسًا، على مدى حياته الأدبية، التي استمرت خمسين سنة. عندما بدأ «إكوينسي» الكتابة، أيام سوق الأدب في «أونيتشا»: «كانت الكُتب تخرج أو تتدفَّق، على نحوٍ تلقائي، ودون إلحاح، وكانت تُوزَّع بسرعة، وفي كثير من الأحيان، كان المؤلِّف هو الناشر». في تلك المرحلة، كانت مبيعات الكتب جيدة، وكثيرٌ مما نشره في كُتيبات «أونيتشا»، طُبِع أكثر من مرَّة، أمَّا اليوم، «فهناك سيطرة مُحكمة من الناشرين (ومن النواحي الاقتصادية)، لا بدَّ من أن يكون كتابك مُلائمًا لجداولهم وبرامجهم، وليس العكس، الراديو والتليفزيون — والفيديو مؤخَّرًا — وراء تخريب ثقافة القراءة»، وما تبقَّى من القراءة هو قراءة بعض النصوص المقرَّرة على المدارس.

وينحو «إكوينسي» باللائمة — على نحوٍ أساسي — على تجارة النشر الكبرى، التي غيَّرت مضمون الكتابة بالنسبة للمؤلِّف، وبشكل جذري:

«هناك دُور نشر أفريقية كبيرة، مع شركاء أجانب، وهناك ناشرون نيجيريون مستقلون، وهناك مؤلِّفون طموحون، ينشرون لحسابهم. هدف الجميع هو أن يبيعوا الكُتب، ولكن الأكثر ربحًا، هو أن يكون من بين زبائنِك مشروع للبنك الدولي، أو وزارات التعليم، أو صناديق شركات البترول؛ فهذه التكتلات، تطلب طلبيَّات كبيرة. وبعض المؤلفين، وخاصَّة مؤلفي النصوص المدرسية، يفيدون من المبالغ الكبيرة، التي تأتيهم على هيئة مستحقَّات عن أعمالهم. لا بدَّ من أن تضع في اعتبارك دائمًا، أنَّ النشر تجارة. الناشر الصغير للكتب الإبداعية، مجرَّد بائع تجزئة، عائداته لن تكفي لتسديد إيجار شقة الكاتب المكوَّنة من غرفة نوم واحدة، ولا لشراء ضرورات الحياة، ولكن أصدقاءه يكونون قد سمعوا أنه قد أصبح «مؤلِّفًا»، هذه السُّمعة تُعتبر بمثابة ريشة في قُبَّعته.»

أمَّا بالنسبة لاحتفالات تدشين الكُتب التي أدانها «شوينكا» وغيره، فيقول «إكوينسي»: إنَّ الناشر الذي لديه نفوذ كافٍ، يمكن أن «يكسب آلاف النيرات عن طريق إعادة الاستثمار، الطرفان يتشاركان الأموال طبقًا للاتفاق، ولكن هذا النظام لا يضمن للكاتب دخلًا منتظمًا»، وسيكون على المؤلفين أن يوقِّعوا عقودًا «كلها لصالح الناشرين»، تمنحهم حق التحكم في الحقوق العالمية، وهم لا يستطيعون بيعها أو تنفيذها، ونادرًا ما يتسلَّم الكُتَّاب عائدات عن كتبهم، إلَّا إذا طالبوا بها: «لم أسمع أبدًا عن كاتب أفريقي يعيش في أفريقيا، مات ثريًّا من كتابته، أمَّا الأغنياء منهم فيعيشون كلهم في الخارج». ربَّما تكون المشكلة الرئيسية التي يشير إليها «إكوينسي» بمثابة موقف تجاه الكاتب المبدع نفسه:

«ما زالت الكتابة تُعتبر عملًا خيريًّا، وليس مهنةً مخصصة لتعليم وتسلية القُرَّاء، ولا شيء يتحقق فيها للكاتب. كما أنَّ ذِكر النقود يُعتبر نقيصة، ولكن العمل له بريق، والآلاف يُقْدِمون على ذلك، ويدعمون عملهم بالقيام بوظائف أخرى، أو أعمال في شركات البناء، أو الوزارات. لكي تُصبح الكتابة مهنة، سيكون على الكاتب أن يحاول مع الإعلام، وخاصَّةً الراديو والتليفزيون والصحافة المنتظمة. الصحفيون ينجحون هناك، ولكن الكُتَّاب المبدعين ينحرفون، ويتخلَّى عنهم الإبداع، إذا كان لا بدَّ من أن يحملوا الخبز والزُّبد إلى منازلهم، وأحد أخطار المهنة، هو أن ينتهي بك الأمر، في سجن إحدى الحكومات الدكتاتورية.»

إلَّا أنَّ «إكوينسي» لديه بعض الكلمات الإيجابية، التي يقولها في حقِّ دار نشر «سبكترم بوكس Spectrum Books»، في إبادان، وهي الدار التي نشرت إحدى رواياته الحديثة «ابنة جاجوا نانا» (١٩٨٦م) وقد كشفَت حواراتي مع الناشر «جوب بيركوت Joop Berkhout»، عن أنَّ المبيعات الحالية من الرواية، تصل إلى ألفي نُسخة في السَّنة، وذلك في دولة كانت ذات يوم تمتلئ بالقُرَّاء (مقابلة مع الكاتب في ٦ أغسطس ١٩٩٨م).
وباستثناء تلك السنوات، التي كان يدرس فيها الصيدلة في إنجلترا، ظلَّ «إكوينسي» كاتبًا نيجيريًّا يعيش في نيجيريا، وكان يعتمد في حياته على مهنة الصيدلة، إلَّا أنه ظلَّ يكتب، متحركًا مع الزمن (عندما تكلَّمتُ معه مؤخَّرًا كان يصف لي بحماسة شديدة قصة قصيرة نشرها على الإنترنت)، وفي ردِّه على استطلاع الرأي، الذي أرسلته إليه عَرَّف نفسه «واحِدًا من روَّاد الكتابة الأفريقية الجديدة»، والحقيقة أنَّ لا أحد في مجال الأدب الأفريقي يمكن أن يشك في ذلك، إلَّا أنَّني ما زلت أتساءل: لو أنه بدأ عمله الكتابي مرَّة أخرى، فكيف كان سينظر إلى الطريق الأجنبي الذي سلكه كثير من معاصريه:

«بحياته في الخارج، يكون الكاتب الأفريقي وسط الناشرين، وباعة الكُتب، وكُتَّاب العالَم، وغيرهم ممَّن يستجيبون لحضوره بينهم، ويعطونه المكان الذي يليق به في المجتمع، بل إنَّه يُصبح سفيرًا للثقافة الأفريقية، وهو ما يجب أن يكون. الاتصال يُصبح سريعًا وجيِّدًا، والعالم كلُّه يُصبح مسرحًا، يستطيع أن يقوم بدوره عليه، ورغم أنَّ المنفى حنينٌ للوطن، وبُعدٌ عنه، ومجرَّد تأجيل للتاريخ المشئوم، الذي يعود فيه إليه، ليجد أن لا علاقة له به، إنَّها حياةٌ قلِقة ومُربِكة.»

ومن الصعب أن نُحدِّد ما يعنيه بعبارته الأخيرة. مَن بالضبط الذي سيجد أنه لم تعُد له علاقة بالوطن، هل هو الكاتب الأفريقي المنفي، أم الكاتب الأفريقي بشكلٍ عام؟

سيميليه م. كوردر Similih M. Cordor – ليبيريا

النجاحات التي كانت جزءًا من عمل «سيبريان إكوينسي» الأدبي، لا يمكن أن يتصوَّرها سوى الكاتب الليبيري «سيميليه م. كوردر Similih M. Cordor»، «كوردر» من مواليد فوينجاما في ليبيريا الشمالية سنة ١٩٤٦م، عانى من كل المظالم والإهانات التي يمكن أن يواجهها كاتب، وخاصةً بسبب تراثه الليبيري. الليبيريون يميلون دائمًا للقول إن بلدَهم لم ينعم «بمزايا» الاستعمار؛ فليبيريا — التي أنشأها عبيد أمريكيون محررون سنة ١٨٢٢م — كانت مُهمَلة تمامًا من جانب الولايات المتحدة (فيما عدا استغلال مواردها الطبيعية من قِبَل بعض الشركات الأمريكية)، بمجرَّد أن تم تسهيل عملية الإعادة السريعة للعبيد السابقين.
هناك كثير من النكات والطرائف، التي تُروَى عن الثقافة الليبيرية؛ فيقول «كوردر» مثلًا: «على مدى قرن ونصف القرن تقريبًا، لم يكن في ليبيريا أدبٌ وطني حقيقي، ولا موسيقى، ولا تصوير، ولا نحت» (من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ٢٧ يوليو ١٩٩٧م)؛ فالعبيد الذين أعيدوا كانوا في الغالب الأعمِّ غير متعلمين، ولكنَّهم تمكَّنوا من الهيمنة على القبائل الأصلية، وأصبحت كل جماعة تحتقر غيرها، وذلك، بالرغم من أنَّ الأفارقة الليبيريين، ظلُّوا مسيطرين على البلاد سياسيًّا، حتى سنة ١٩٨٠م. وقد وصف «كوردر» نفسه بأنه نشأ في فراغ ثقافي، وأنه لم يكُن يريد أن يُصبح كاتبًا فحسب، وإنما عامل مساعد على ثورة فنية في بلاده أيضًا، ويقول إنَّ قراره بأن يصبح كاتبًا:

«كان نابعًا فقط، من اقتناعي العميق، بأنَّ ليبيريا التي لعبت دورًا سياسيًّا مُهمًّا في التاريخ الأفريقي، ينبغي كذلك أن تلعب دورًا مُهمًّا في الأدب الأفريقي الحديث. كنت أشعر بأنَّ ليبيريا، عليها أن تكون جزءًا مُهمًّا، من الكتابة الأفريقية المعاصِرة، التي ظهرت في القارَّة، بعد أفول الاستعمار الأوروبي، ولكنَّ ذلك لم يكُن مهمَّة سهلة؛ لأنَّ بلادنا ليس لديها تُراث أدبي غني.»

وبوصفه كاتبًا طموحًا، سرعان ما اكتشف «كوردر» أنه لم يكُن هناك ناشرون للكتب في بلاده، أو حتَّى عدد قليل من المطابع، كما أنَّ الناشرين الأمريكيين، الذين أرسل إليهم مخطوطات أعماله، لم يكونوا مهتمين بالأدب الليبيري، كما أسقطه الناشرون الإنجليز من الاعتبار؛ لأنه لم يكن من أبناء المستعمرات البريطانية السابقة. ليبيريا في الحقيقة لم يكن لها صِلات كثيرة بالدول الأفريقية الأخرى بشكلٍ عام، والمؤكَّد أنه لم يكن لها أية صِلة ثقافية بأحد، وكان هناك شبه احتقار عام للثقافات الأفريقية الأصلية من قِبَل نسل العبيد الأمريكيين. «كانوا يحتقرون النموذج الأفريقي للحياة»، ويحاولون تقليد النموذج الأمريكي.

لم تكن قراءة الكُتب معروفة بين الطبقة الوسطى، باستثناء بعض الكُتب المستورَدة التي تُستخدم في المدارس.

كان «كوردر» يريد أن يُغيِّر ذلك كله، وكانت مُشكلته الأولى، هي أن يُحدِّد كيف ينشر أعمالَه، فتحدَّث مع أشخاص في وزارة التعليم، على أمل أن يكون لهم اهتمام بالقصص القصيرة التي كان يكتبها عن أحداث ومواقف وشخصيات من ليبيريا، «بعد أن قرأها المسئولون في الوزارة لم يُعجبهم مضمونها، وقرَّروا عدم نشرها». كانت تلك أول مواجهة «واقعية» له مع الرقابة، فأرسل أعماله إلى ناشرين في غانا، ونيجيريا، ولكن النُّسَخ الخطية، إمَّا أنها فُقِدت، أو أنَّ الناشرين كانوا يطلبون منه إسهامًا ماليًّا، لا يتحمَّله راتبُه كمدرس، ولذا قرر أن ينشر على نفقته.

في البداية، كانت هذه الأعمال، تصدر منسوخة ومُدَبَّسة معًا، وهي قصصه القصيرة، وأعماله شبه النقدية: «المرشد لدراسة الأدب الليبيري» (١٩٧١م)، و«نحو دراسة الأدب الليبيري» (١٩٧٢م)، ويشير إلى أنه في تلك الأيام، كان بمثابة «مؤسسة بحثية مكونة من رجُل واحد»، بالرغم من أنَّ تلاميذه في كلية منروفيا، كانوا يساعدونه، وسرعان ما وجد جمهورًا جاهزًا، بما يوحي بأن الليبيريين، كانوا ينتظرون شخصًا ما، يقوم بإنتاج أعمالٍ أدبية عنهم، وبمساعدتهم، هذه الكُتب بِيعت بسرعة، كما أعيدت طباعتها، «كان القُرَّاء يحبون قصصي، لأنَّ الموضوعات كانت ليبيرية، وكان الليبيريون يرون أنفسهم وحياتهم وأنماط الثقافة الليبيرية في تصويري الروائي للملامح المجتمعية والثقافية المحلية». في سنة ١٩٧٧م أصدر «كوردر» أنجح أعماله «قصص حديثة من ليبيريا: غرب أفريقيا»، وهي أول أنطولوجيا للقصص القصيرة في بلاده، تُنشر محليًّا، وقد بِيعت معظم النسخ بسرعةٍ، بسبب تدريسها في جامعة ليبيريا. بعد ذلك ظهرت أعماله الأخرى، و«اكتشفتُ أنَّ الليبيريين كان لديهم الاستعداد للقراءة». المشكلة أنَّ الكُتب كانت قليلة، وخاصةً مؤلَّفات الكُتَّاب الآخرين، بعد ذلك بدا وكأن «كوردر» لا بد من أن يكون أول كاتب/ناشر حقيقي، وسرعان ما بدأت الأشياء تتداعى، وبقيادة «صمويل دو Samuel Doe» قام الجيش بأسوأ الانقلابات العسكرية التي شهدتها القارَّة، كان «كوردر» قد تفرَّغ للتعليق السياسي، وأصدر كتابه «إعادة البناء الوطني لليبيريا جديدة» سنة ١٩٧٩م، أثناء الفترة التي تصاعد فيها الاضطراب، الذي أدَّى إلى الانقلاب. وبعد ذلك جاء كتابه «ليبيريا تحت الحكم العسكري» (١٩٨٠م)، بعد الانقلاب، وكلاهما كتابان منسوخان، كما ارتبط بأحد الناشرين في الولايات المتحدة، أصدر له «أفريقيا: من الشعب وإلى الشعب» (١٩٧٩م)، وهي مجموعةٌ قصصية، و«في مواجهة الأمَّة الليبيرية» (١٩٨٠م)، وباعتباره واحدًا من كبار المثقفين في البلاد، بدأ يخشى على حياته، رغم اعترافه بأنَّ نظام «تولبرت Tolbert»، الذي سبق نظام «دو Doe»، كان أيضًا نظامًا قمعيًّا:

«بمرور السنوات وجد كثيرٌ من الكُتَّاب، والصحفيين، والمعلمين، أنفسهم محاصرين بمشكلات كثيرة، وكان يُلقَى القبض عليهم، ويُعتقلون، ويُسجنون، بسبب كتاباتهم الناقدة للحكومة، أو للقيادات السياسية، فكلاهما، النظامان، العسكري أو المدني، كان قاسيًا في معاملة الكُتَّاب والصحفيين، بالرغم من أنَّ القادة العسكريين كانوا هم الأكثر وحشيةً في التعامل مع «أصوات المثقفين المنشقين»، ولم أكُن أنا استثناءً.»

«كوردر» نفسه عانى من التهديد والمضايقات المستمرة والاعتقال، بسبب انتقاداته للحكومة وللقيادات السياسية، كان أوَّل صدامٍ له مع السلطة (واعتقاله) سنة ١٩٧٢م، وهو طالبٌ في جامعة ليبيريا، ثم أخذ ذلك شكلًا أكثر خطورة سنة ١٩٧٩م قبل الانقلاب، عندما أُلقي القبض عليه، وهو يُجري امتحانًا لطلابه في «كلية منروفيا». أخذوه إلى المبنى الإداري للتحقيق معه بسبب كتاباته، ثم أُطلِق سراحه، ثم أُلقي القبض عليه مرَّة أخرى (وتم تفتيش مسكنه ومصادرة كُتبه)، وأُخِذ إلى رئاسة وكالة المخابرات الوطنية، حيث اعتُقِل عدَّة أيام. اتُّهم «كوردر» بمحاولة إثارة الفتنة، وإشعال الثورة في البلاد، وفي النهاية، بعد خوفه من زيادة قمع الحكومة له، قرَّر أن يقبل منحة زمالة لمواصلة الدراسة في الولايات المتحدة، بتمويل من جامعة ليبيريا، ولعلَّ الحكومة قد وجدت بذلك وسيلة مناسبة لإسكاته.

يشير «كوردر» إلى حالة «الاضطراب الفكري، وخيبة الأمل السياسية» التي كان عليها عندما غادر ليبيريا؛ فالدراسة كانت تحدِّيًا جديدًا له، سيؤدي إلى توقفه عن الكتابة «كنت أشعر بالاكتئاب، لتعطُّلي عن الكتابة، وكانت دراسة الدكتوراه تستهلك جهدًا كبيرًا، كما كنت أشعر بأنني قد وقعت في فخٍّ، وكثيرًا ما كان يُصيبني الحزن والضَّجَر». وكانت زوجته وأولاده في «ليبيريا»، وكان يخشى على حياتهم، أمَّا الأكثر قسوة، فكان شعوره بأنه مقطوع من جذوره وثقافته، وبالرغم من ذلك، لم تكُفَّ الحكومة الليبيرية عن إزعاجه وترويعه أثناء وجوده في الولايات المتحدة، يقول عن تلك السنوات:

«كانت تنتابني الكوابيس، عن الأساليب المروِّعة، التي كان العسكريون يديرون بها شئون البلاد، حاولت التركيز على دراستي، وفشلت. كنت نافذ الصبر، وأريد العودة إلى الوطن بسرعةٍ، لكي أواصل الكتابة، كما كنت أشعر بأنَّ أهم مادَّة بالنسبة لعملي الروائي، والشعري، والمسرحي، وللأعمال الإبداعية كُلها، موجودة هناك، في ليبيريا، وبوصفي مثقفًا وطنيًّا، كنت أشعر بأن روحي مربوطةٌ بروح الوطن، فأنا أتألَّق في التراث الثقافي لمجتمعي، وألمع في العمق التاريخي لوطني، وأغنِّي أغنيات شعبي، تلك الأغنيات التي يخشون ترديدَها بسبب المناخ الاجتماعي والسياسي في مجتمعنا، أغوص في أعماق الوطن، بحثًا عن مادَّة لكتابتي؛ فأنا طفلُ بلادي. لذلك كله كنت أريد أن أعود بأسرع ما يمكن، ولكنَّ ذلك لم يحدث، كما كنت أتمنَّى، وهكذا، بعد ستة عشر عامًا، ما زلت أعيش في الخارج … في المنفى.»

السنوات الستة عشرة امتدَّت لما هو أكثر من ذلك، وأثناء ذلك لحقت به زوجته وأولاده، بالرغم من أنه لم يكُن يستطيع حضور جنازات أفراد آخرين من عائلته، وتراكمت عليه الديون، لأنَّ الحكومة الليبيرية أوقفت الإعانة، بعد فترة قصيرة من وصوله إلى الولايات المتحدة، أمَّا درجة الدكتوراه، فقد تأخرت كذلك؛ لأنه كان يتوقف عن الدراسة من وقت إلى آخر، ليعمل بالتدريس، لكي يتمكَّن من دفع فواتيره، وأخيرًا، حصل على الدرجة العلمية سنة ١٩٩٧م، وقد مرَّت في حياته فترات كان فيها متعطلًا عن العمل، ومُفلسًا، وفي ردِّه الذي أرسله إليَّ كان يستخدم عبارات ومصطلحات من قبيل: «كنت أشعر بأنَّ لا حول لي ولا قوَّة»، و«كنت أشعر بأنني قد خذلت شعبي ككاتب»، و«كنت أشعر بالاكتئاب، لأنني لم أكن هناك في الوطن، لأشهد الحرب مباشرة، وأكتب عنها»، و«مررت بأزمة التوقف عن الكتابة (سكتة كتابية)، وقد جفَّ عقلي، وفقدت القدرة على التركيز»، و«شعرت بأنَّ حياتي تنفجر، وتنقسم إلى عالمين منفصلين: عالم ما قبل الحرب، وعالم ما بعد الحرب.»

في النهاية، وكان على وشك الانتهاء من أطروحة الدكتوراه، كتب يقول: «لقد أجبرتني الحرب على أن أدرك أنني كنت الآن في حالة نفي إلى الأبد»، أمَّا الشيء الوحيد الذي كان عليه أن يعود إليه، فكان هو الكتابة، وقد وصل إلى هذه الحالة — جزئيًّا — عندما كتب الشِّعر، وهو جنس أدبي لم يكن قد مارسه من قبل، وتُصوِّر لنا هذه الحالةَ قصيدتُه «ماضيَّ … حاضري … مستقبلي»:

وضعتُ كُلَّ ماضيَّ ورائي
هناك على تلال فوينجاما،
عميقًا في قلب «لوفا» في ليبيريا
أغنِّي ماضِيَّ في سنواتي الماضية؛
لأنه قد أصبح ذاتي التاريخية.
ترجمتُ ماضِيَّ إلى أمسي،
وضعتُ حاضري كله أمامي،
ماثل في كرب منفاي:
بعيدًا … بعيدًا عن شعبي في ليبيريا،
حاضري هو كل ما أملك الآن،
وأحاول أن أعيشه الآن،
لقد فردت حاضري على يومي،
وضعت مستقبلي كله أمامي
وهو ينتظر يوم عودتي
كل الطريق إلى وطني الأم … في ليبيريا،
مستقبلي سيكون لي يومًا ما
أراه يقترب مُسرعًا،
لقد ميزت مستقبلي بِغدي.
في الخطاب الذي أرفقه برَدِّه على الاستطلاع، نجده متفائلًا بالنسبة لحالة المنفى الذي يعيشه في الولايات المتحدة، ولكنه كان قلقًا ومشغولًا، بقضية «الأدب الوطني الحقيقي في ليبيريا»، وهي القضية التي كرَّس لها كل طاقته، على مدى ثلاثين سنةً تقريبًا، ثم يُضيفُ بألم: «أشعر بالحزن لأنني لم أنشر روايات عظيمة، وقصائد، ومسرحيات، تحمل اسمي، تُبيِّن أنني كنت أحاول أن أكون كاتبًا من ليبيريا»، ولكنه يعترف بالاستقرار في حياته الحالية:

«لديَّ الآن وظيفة في التدريس طوال الوقت، بمزايا طيبة، وراتب لا بأس به، وقد نجحتُ في حلِّ بعض المشكلات الشخصية. كانت أمور الأسرة مزعجة ومقلقة لي. ما زلت حزينًا على شعبي ووطني، وما زلت أعاني من آلام المنفى، إلَّا أنني الآن أفضل ذهنيًّا وجسديًّا ومعنويًّا، مما كنت قبل نصف عقد. أصبحتُ أكثرَ حذرًا، لتجاربي السابقة، مثل البطالة ونتائجها المُدمِّرة، والديون، والطَّرْد من المسكَن، والإفلاس، واسترداد السيارات، والاعتداء على كرامتي، والديون للأقارب والأصدقاء، والاكتئاب الذي يصاحب ذلك كله.»

فيرونيك تادجو (Véronique Tadjo) – ساحل العاج

بالرغم من أنها تكتب بالفرنسية، اعتمدت «فيرونيك تادجو»، على ترجماتها للإنجليزية — التي تقوم بها — لتأكيد نوعية أعمالها، ولحسن الحظ، فإن تعليمها الكوزموبوليتاني، وعملها المِهَني، أمدَّاها بالطلاقة في اللغتين. وُلدت «فيرونيك تادجو» في باريس في ١٩٥٥م، ونشأت في «أبيدجان» في ساحل العاج، ودرست في مدارسها المحلية، حصلت على ليسانس في اللغة الإنجليزية من جامعة «أبيدجان»، ثم على الدكتوراه في الأدب الأفرو-أمريكي والحضارة، من «السوربون»، واشتغَلت بالتدريس في جامعة «أبيدجان» في أوائل الثمانينيات، بالرغم من أنها أمضت جزءًا من سنة ١٨٨٣م، في واشنطن دي سي في جامعة «هوارد»، بمنحة من «فولبرايت»، وبينما كانت تشغل مناصب تدريسية كثيرة في تلك السنوات، كانت تكتب الشِّعر والنثر (بما في ذلك كتب للأطفال).

تصف «تادجو» عملها الباكر بأنه كان ناجحًا، ولكنها تقول: إنَّ إحباطات السوق، قد تدخلت في السنوات الأخيرة، وهي ليست أول مَن يعترف، بأنَّ الكُتَّاب في دولٍ كثيرة — وخاصةً في إنجلترا والولايات المتحدة — يمكن أن يحكوا قصصًا مُشوَّشة، عن تجاربهم في عالَم النشر. صدَرت أول مجموعة شِعرية لها (تُربة صُلبة حمراء Latérite) سنة ١٩٨٣م، وكان السبب الأساسي لذلك هو حصولها على جائزة أولى في مسابقة أدبية.٣ عندما تلقَّت اتصالًا تليفونيًّا من «هاتييه Hatier»، وهو ناشر شهير لكُتَّاب الفرنكفون الأفارقة، كانت في غاية السعادة، وخاصةً لأنَّ «هاتييه»، كانت قد أطلقت منذ وقت قريب سلسلة بعنوان Mond Noir Poche، وكانت الكُتب الصادرة في هذه السلسلة — كما تقول — «تُباع بسعر معقول وتُوزَّع جيدًا» (من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ٢١ مايو ١٩٧٩م). كانت Latérite أول مجموعة شِعرية في السلسلة، ولقيت اهتمامًا كبيرًا من وسائل الإعلام في «أبيدجان»، «وقد أثبتت لي هذه التجربة، أنَّ الشِّعر عندما يتم تسويقه جيِّدًا، يصبح منتشرًا، وهذا على عكس ما يقوله معظم الناشرين.»
بعد هذه المجموعة، كتبت «تادجو» روايةً تجريبية بعنوان «عندما يطير الغراب As the Crow Flies»، يمكن قراءة عشرات الفصول القصيرة منها، كقصصٍ منفصلة (وكان عدد منها قد سبق نشره بهذه الصفة)، ولكن عندما تُقرأ متصلة، فإنها تُشكِّل كلها رواية غير تقليدية. كان لدى «تادجو» انطباع أنَّ «هاتييه» لم تكن مهتمَّة بنشر العمل، إلَّا أنَّ ذلك، كان مُجرَّد سوء فهم، وعندما أدركت ذلك كانت قد بدأت البحث عن ناشر آخر بالفعل. كان أحد الناشرين في السنغال قد قال لها إنَّ كتابها «كئيب ومُقبض»، ولكن «فرنان ناثان Fernand Nathan» (دار النشر الفرنسية)، التي تنشر الكتب المدرسية، قَبِلت الكتاب؛ لأنها كانت على وشك إصدار سلسلة عن الأدب الأفريقي، وللمرة الثانية تقول «تادجو» إنَّ أحد كُتبها لقي اهتمامًا كبيرًا.
لسوء الحظ، اندمجت دار «فرنان ناثان» مع «لاروس La rousse»، بعد نشر الرواية بفترة قصيرة، وتوقفت السلسلة الجديدة فجأةً بعد أن أصدرت خمسة عناوين، «كان علينا ككُتَّاب، بأن نصارع من أجل الحصول على حقوقنا، لأنَّ الناشر كان يتوقَّع أن نقبل ما حدث دون نقاش، وتجمَّع بعضُنا، وباستخدام الضغط، جعلناهم يدفعون مستحقَّات عن الكتب التي كانت ستُعدَم دون عِلمٍ منَّا». وهكذا انتهى شهر العسل، بين «فيرونيك تادجو» وناشريها، وفي تلك السنة، حصلت على مبالغ كبيرة، كعائدات عن أعمالها، ولكنَّها كان عليها أن تبحث مرَّة أخرى عن ناشرٍ آخر، إلَّا أنَّ حياة «عندما يطير الغراب» توقَّفت فجأة، حيث لم يكُن هناك ناشرٌ آخر، يريد أن يُعيد طباعتها.
كان قرارها باختيار مكان النشر (في أفريقيا أو في فرنسا)، عملية استغرقت فترةً طويلة، قبل أن تستقرَّ في النهاية على «لارماتان L’harmattan»، في فرنسا مرَّة أخرى، كان سبب هذا الاختيار، هو أنَّ النشرَ في ساحل العاج كان في حالة سيئة، بعد الانهيار المالي، لداري النشر الحكوميتين المحليتين، كان الوضع مثله في القارَّة كلها. النشر في أفريقيا، يعني أنَّك محدود بإطار الدولة، التي يعمل فيها الناشر، وكان ذلك أيضًا يعني المخاطرة بقبول تحرير، ربما لا يكون مُرضيًا لك، وكمثال على ذلك تقول إنَّها أعطت مجموعة شِعرية لدار Les Nouvelles Editions du Sénégal، التي كانت من بين الدور التي نادرًا ما تنشر الشعر، «كان عملهم في غاية السوء — أخطاء كثيرة وإخراج رديء — فكان عليَّ أن أرفض الكتاب، ولأنهم كانوا قد أرسلوا إليَّ العقد — بالخطأ — بعد النشر، رفضت توقيعه.»٤
وفي سنة ١٩٩٢م نشرت «لامارتان» المجموعة الشعرية الثانية لها (المملكة العمياء Le Royaume Aveugle)، وكانت النتيجة أقل من مُرضية، وشعرت «تادجو» بأنَّ دار النشر — هكذا ببساطة — كانت كبيرة لدرجة أنها «لا تُولِي أحدًا أي اهتمام شخصي»، «صحيح أنَّ الكتاب يصدر بسرعة، ولكنَّه يضيع في زحام كتب أخرى كثيرة، ذات مستويات متفاوتة. مجرَّد زيارة واحدة لمكتباتهم وتكتشف أنَّ العملية كلها فوضى، كتبٌ في كُل مكان ولا تستطيع أن تتحرَّك، وتعجب كيف يمكن أن يجدوا شيئًا يبحثون عنه! لم يكن هناك أي إعلانات، كما أنهم لا يُرسلون نسخًا لوسائل الإعلام، والأسوأ من ذلك كُلِّه، أنَّ كُتبَهم كانت غالية جدًّا، بالنسبة للسوق الأفريقية»، كما تُضيف أنَّ الكُتَّاب عادةً ما يصفون «لامارتال»، بعدم الأمانة، «قال لي أحد الأصدقاء الذين أثق بهم: إنَّه بينما كان في رحلة إلى إيطاليا ذات يوم، للمشاركة في ورشة عمل، وجد ترجمة إيطالية لروايته، ولم يكُن يعرف شيئًا عن ذلك»، والآن يريد أن يقاضيهم، ولكي تحصل على مستحقَّاتها، كان على «تادجو» أن تذهب إلى مكتب «لامارتان» بنفسها لتطالب بها.٥
بالرغم من هذه المشكلات، فإن لديها الحافز لكي تواصل الكتابة، بسبب النقد الإيجابي لأعمالها التي يُعاد طباعتها في أنطولوجيا كثيرة، كما أنها تُدعَى إلى مؤتمرات عالمية. النقاد والكُتَّاب الآخرون لهم رأيٌ إيجابي في أعمالها، «لقد شجعوني على المُضي في هذه الطريق الصعبة، التي اخترتها»، وفي سنة ١٩٩٧م، كانت ما زالت تندب حظَّها وتقول:

«أودُّ من كلِّ قلبي أن أجد ناشرًا أثق به، وأناقش معه عملي، وتوجهه، هل سيكون هذا الناشر في أوروبا … أم في أفريقيا؟ لا أعرف على وجه التحديد، الوضع في الوطن (أفريقيا الفرانكفونية)، لم يتحسَّن كثيرًا، بالرغم من أنَّ الأمور قد تغيَّرت منذ تخفيض قيمة الفرنك، وقد شجَّع ذلك الناشرين؛ لأنَّ الكتب المستوردة، مرتفعة الثمن جدًّا بالنسبة لمعظم الناس، وبالتالي، فإن الكتب، يتم إنتاجها محليًّا الآن. الكتب المدرسية لها الأولوية بدون شكٍّ، ولحُسن الحظِّ فإن اهتمام الناشرين بالأدب بطيء، ولكن النواحي الفنية ما زالت في حاجة إلى مهارات احترافية، كما أنَّ مشكلة التوزيع ما زالت قائمة.»

تقول «تادجو»، إنَّها تلقى تشجيعًا من دار نشر Les Nouvelles Editions Ivoiriennes (تم خصخصتها مؤخَّرًا)، التي تنشر كُتب الأطفال بما في ذلك كُتبها. كانت هناك مجموعة شِعرية لها بعنوان (Ami-chemin)، كتَبَتها قبل عِدَّة أعوام، وكان من المخطط أن تنشرها Feu de Brousse، ولكنها لم تظهر، وتقول بهذا الخصوص: «يبدو أن الناشر اختفى من على وجه الأرض … ويعتقد أنني قمتُ بتصحيح البروفات، المؤسف أنه ضيَّعني عِدَّة سنوات، وجعلني أترك الشِّعر، ولكن لحُسن الحظ أنا شاعرة في أعماقي، وسأجد دائمًا وسيلة لإخراج هذا الشِّعر» (من رسالة إلى المؤلِّف بالبريد الإلكتروني بتاريخ ٢٦ فبراير ١٩٩٩م).
تقول «تادجو» إنَّ أفضل وضع للنشر، بالنسبة لها، سيكون النشر المشترك: طبعة للسوق الأوروبية والأمريكية، مُثَمَّنة بمعدَّل واحد، وطبعة للسوق الأفريقية، يكون سعرها أقل، «سيكون ذلك أفضل بالنسبة للعالَمَين؛ لأنني أكتب في الأساس لجمهور أفريقي، ولكن لكل مَن يحب القراءة أيضًا» (من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ٢١ مايو ١٩٧٧م). روايتها الجديدة: «ساحات الوغى والحب: Champs de bataille et d’amour»، سوف تصدر في ضوء هذا الترتيب، عن دار نشر Présence Africaine في باريس، ودار Nouvelles Editions Ivoiriennes، وهو ما يعني «أنَّ السوق الأفريقية سوف تكون مكتفية، وكذلك السوق الأوروبية» (رسالة بالبريد الإلكتروني للمؤلِّف في ٢٦ فبراير ١٩٩٩م).

وعندما تفكِّر في قضية النشر بالنسبة للكاتب الأفريقي بشكلٍ عام تلاحظ «تادجو» أنها:

«عملية صعبة، والموهبة وحدها لا تكفي هنا، لا بدَّ من أن يكون لديك إصرارٌ وعزيمة، وقوة تحمل وشجاعة تواجهك مرتفعات ومنخفضات، ونجاحات وإخفاقات، ولكن إذا كنت مستعدًّا لأن تقاتل وإذا كنت مؤمنًا بنفسك، أعتقد أنه سيكون هناك مكان لكثير من الكُتَّاب، في عالَم النشر الأفريقي. أهم شيء هو تطوير السوق الأفريقية، لكي يصبح النشر الأفريقي مؤسسة جيدة.»

وتقول بالنسبة لكتاباتها:

«أكتب لأنني أريد أن أفهم العالَم الذي أعيش فيه، ولأنني أريد أن أتواصل وأتبادل تجربتي مع الآخرين عن معنى العيش في أفريقيا هذه الأيام. أستخدم عيني مثل الكاميرا، وأحاول أن أسجِّل كل شيء: من العواطف والمشاعر الخاصة، إلى الأزمات الكبرى، مثل الحروب والموت والإيدز.»

عندما أُسأل عن رواياتي، وعمَّا تتناوله، أتنهَّد بعُمق، وأقول: إنَّها «عن الحياة»؛ لأنني لا أستطيع أن أشرح ذلك بطريقة أخرى. أنا مُهتمَّة بالحياة بكلِّ جوانبها، بالحياة ككل، وهذا هو سبب مقتي لإعطاء أسماء لشخصياتي. أريد أن يراهم القُرَّاء كائنات حية بداية، هذه الكائنات الحية، تواجهها تحدِّيات وصراعات، لا بدَّ من أن يتغلبوا عليها إذا كانوا يريدون الإبقاء على آدميتهم، في هذا الإطار غير المواتي، لمجتمع أفريقي يعيش أزمة.

(مقتبس من كتاب: Larson: “Under African Skies” p. 277)

إلينور سيزولو Elinor Sisulu – زيمبابوي؛ جنوب أفريقيا

«إليونور سيزولو» كاتبةُ أطفال من مواليد ١٩٥٨م في سالزبري — هراري — في روديسيا — زيمبابوي — عندما يسألها الأطفال اليوم، ما إذا كانت قد اختارت أن تكون كاتبة عندما كانت طفلة، تجيب قائلة:

«كانوا سيعتبرونني مجنونة تمامًا. كانت آفاقُ طفل أسود ينمو في روديسيا، في الستينيات محدودة جدًّا، والناجحون في مجتمعنا، كانوا إمَّا مدرسين أو ممرضات، أمَّا الذين كانوا يتطلعون بعيدًا، فكان يمكن أن يفكِّروا في أن يصبحوا محامين أو أطباء … لكن «كاتب»؟! أبدًا! كان ذلك شيء خارج تجربتنا تمامًا. أمَّا بالنسبة لكاتب أطفال، فقد كان ذلك شيئًا لم نسمع عنه.» (من رسالة إلى المؤلِّف بتاريخ ٩ أكتوبر ١٩٩٨م)

في المدرسة، ظهرت موهبة «سيزولو» في الكتابة، الأمر الذي جعلها تفكِّر في العمل بالصحافة فيما بعدُ، وبالرغم من ذلك، حذَّروها من أنَّ «الصحافة مهنة خطِرة وغير مضمونة»، ولذلك «تخلَّيت عن الفكرة إلى أن كبرت»، كانت الكُتب التي تقرؤها في طفولتها، «عن الريف الإنجليزي، وكانت رأسي مليئة برؤًى وتصورات عن الثلج والعفاريت والجنِّيَّات»، وكان كُتَّابُها المفضلون هم «تشارلز ديكنز Charles Dickens»، و«إينيد بليتون Enid Blyton»، و«ريشمال كرومتون Richmal Crompton»:

«في الأحيان القليلة، التي كنت أقرأ فيها عن أفريقيا، كان ذلك يأتي في سياق قصص عن المبشِّرين، والمستكشِفين، والغابات الغرائبية، وكانت كلها أشياء بعيدة عن واقعي. لم تكُن ثقافتي الخاصَّة، ولا مجتمَعي، منعكسة في الكلمة المطبوعة، ولعلَّ ذلك كان سببًا في أنَّ فكرة أنْ أُصبح كاتبة، كانت فكرة بعيدة في مجتمعنا. الكُتب كلها كانت تقدِّم عالمًا مختلفًا ومثيرًا ومدهشًا. لم يسبق أن حلمت بالكتابة عن تجاربي، أو عن تجارب مَن حولي، كُنت أعتقد أن حياتي دائمًا مُملَّة ودُنيوية.»

درست «سيزولو» اللغة الإنجليزية والتاريخ، وتعرفت على الأدب الأفريقي، في جامعة زيمبابوي في «هراري»، ابتداءً من سنة ١٩٧٦م، وبعد التخرُّج، عملَت في وزارة تخطيط القوى العاملة والتنمية، وفي سنة ١٩٨٥م حصلَت على إجازة من العمل، لدراسة الماجستير في التنمية، في معهد الدراسات الاجتماعية، في The Hagu— هولندا — وهناك تعرفت على الأيديولوجيا النسوية، وفي العام التالي، تزوَّجَت «ماكس سيزولو»، المنفي من جنوب أفريقيا، الذي كان يعمل لحساب African National Congress – ANC (المؤتمر الوطني الأفريقي)، وبعد ذلك بوقت قصير، انتقلا إلى «لوزاكا» زامبيا، حيث واصلا العمل لحساب ANC، واستطاعا الانتقال إلى جنوب أفريقيا في ١٩٩١م، بعد التغيرات السياسية والاجتماعية، في نهاية مرحلة «الأبارتايد».
في هذا الوقت تقريبًا، بدأت «سيزولو» تكتب مادَّة خيالية، أكثر من البحث الأكاديمي الذي كانت تنتجه، كما عملت لفترة قصيرة لحساب Speak، وهي مجلة نسوية في جنوب أفريقيا، تُعنَى بشئون الطبقة العاملة، والنساء القرويات. بعد ذلك، حصلت على منحة من «مؤسسة فورد»، لكي تكتب سيرة حياة مشتركة لأصهارها، القادة في جنوب أفريقيا (وولتر، وألبرتينا سيزولو)، وأخذَتْها المنحة إلى كلية «رادكليف»، لعدَّة أشهر سنة ١٩٩٣م، ولكن الحدث الأساسي، الذي جعلها تكتب أول كتاب للأطفال جاء نتيجة لأول انتخابات ديمقراطية في جنوب أفريقيا في أبريل ١٩٩٤م.
تقول «سيزولو»، إنَّها وهي طالبةٌ سنة ١٩٨٠م، كانت تراقب الانتخابات الديمقراطية في بلادها، وكانت تشعر بإثارة تلك المرحلة غير العادية، وهكذا، فإن انتخابات جنوب أفريقيا بعد ١٤ سنة، كانت هي المناسبة الثانية التي شهدت فيها صُنع التاريخ في بلادها. أما الحدث الذي ألهمها، فقد وقع عندما كانت تعمل في إحدى لجان التصويت:

«جاء كهلٌ في ثياب رثَّة، للإدلاء بصوته في الانتخابات، في الصباح الأخير من أيام التصويت، ولأنَّ صورته على بطاقة الهوية كانت ممزَّقة، ولا يمكن التعرُّف منها على شخصيته، اعتبرت البطاقة غير صالحة. كان علينا أن نشرحَ له أنَّ الطريقة الوحيدة للإدلاء بصوته، هو أن يذهب للحصول على شهادة قيد مؤقتة من مكتب السجل المدني في وسط المدينة. آلَمنا أن نرى خيبة الأمل على وجهه، وهو يمضي منصرفًا، كُنَّا نتوقَّع أنه لن يعود، حيث لم يكُن هناك وسائل نقل إلى المدينة؛ لأنَّ يوم الانتخابات، كان عطلة، حتى لو تمكَّن من الذهاب إلى هناك، فإن طابور المنتظرين للحصول على شهادات مؤقتة، كان بطول كيلومترات.

في الخامسة والنصف بعد الظهر، كان يأتي إلى اللجنة عدد قليل للإدلاء بأصواتهم، وكانت الغرفة خاليةً تقريبًا، وأعضاء اللجنة على وشك الانصراف. أخرجَت الضابطة المشرفة عُلبة الشوكولاتة، التي كانت قد أحضرتها كمكافأة، لصاحب آخِر صوت، وقبل إغلاق المركز بخمس دقائق، ظهر الرجل، وهو يلوح بشهادة القيد التي استخرجها، لقد استطاع أن يمشي الطريق كله، إلى وسط المدينة، وأن يقف في الطابور عِدة ساعات، ثم يمشي عِدة ساعات أخرى، عائدًا إلينا، قبل انتهاء الموعد بدقائق قليلة. كان من الصعب أن نصف أيُّنا كان أسعد من الآخر، صاحب الصوت، أم الضابطة المسئولة، وعُدنا للعمل، لكي نجعله يُدلي بصوته، وعندما فعل ذلك، قدَّمت له الضابطة عُلبة الشوكولاتة، بينما كان ضابط آخَر يلتقط صورة له، كنَّا نُصفِّق له، وهو سعيد لاحتفائنا — غير المتوقَّع — به. بالنسبة لنا، كان هذا الحدث، بمثابة رمز لروح العزيمة والإصرار، من قِبَل المصوِّتين، وكان مبرِّرًا للأيام الثلاثة، من العمل الصعب، في هذه اللجنة الصغيرة.»

من هذا الحدث، خرج كتاب «يوم أن ذهب جوجو للإدلاء بصوته» The Day Gogo Went to vote، ونُشر في الولايات المتحدة سنة ١٩٩٦م، وفي البداية طلبت إحدى الشركات التلفزيونية من «سيزولو»، أن تكتب وصفًا لما رأته في لجنة الانتخابات، وعَرَضت ما كتبته على صديق أمريكي زائر، وأخذ هذا الصديق بدوره نُسخة من تقريرها، قدَّمها لأحد المحررين في دار Little Brown، قبِلَت الدار الكتاب بسرعة، وعهدت به لأحد الرسَّامين، وصدرت منه طبعتان، أمريكية وإنجليزية؛ في ذلك العام، كان «يوم أن ذهب جوجو للإدلاء بصوته»، واحدًا من أهم كتب الأطفال، وحصل على جائزة أفضل كتاب للأطفال، من جمعية الدراسات الأفريقية، كما حصل على جائزة «جان آدمز» للكُتب التي تدعو للسلام والديمقراطية، ووصلت مبيعاته في الولايات المتحدة إلى ٢٢٠٠٠ نُسخة. في العام التالي، أصدرت دار Tafelberg Publishers، في جنوب أفريقيا، الكتاب مُترجَمًا بست لغات، هي «الزولو»، و«الهوسا»، و«السوثو»، و«السيبيدي»، و«التساونا»، و«الأفريكانز».

تقول «سيزولو»، إنها ككاتبة لأدب الأطفال، كان يشغلها انقراض تقليد الحكي الشفاهي في المجتمعات الأفريقية، «إذا لم نكتب قصصًا، ولم نحافظ عليها، عن طريق تقليد الحكي الشفاهي، فإنها سوف تختفي تمامًا، وسوف نفقد في هذه العملية جزءًا مهمًّا من تاريخنا»، كما تعترف بأنَّ تفكيرها في أطفالها، كان أحد أسباب رغبتها في الكتابة للطفل، «قرَّرتُ أن أكتب ذلك النوع من القصص، التي كان يجب أن أقرأَها عندما كُنت طفلة»، وهي تُعرِّف دورَها بأنه «الحفاظ على التاريخ». أمَّا عن قصة «يوم أن ذهب جوجو للإدلاء بصوته»، فتقول: «لقد تمكنت من التعبير عن مشاعري، عن الطريقة التي يُعَامَلُ بها الكبار، ويُقدَّرون في مجتمعنا، والاحتفاء بالعلاقة بين الأجداد والأحفاد، وأن أنقل جزءًا خاصًّا جدًّا من تاريخنا، إلى الأجيال القادمة.»

ليس غريبًا أن تعتنق «إلينور سيزولو» آراءً قوية، عن الحاجة لأدب الأطفال، في المجتمعات الأفريقية، ولكن إذا كانت الكتب «مرتفعة الثمن»، بحيث لا يقدر معظم الأفارقة على شرائها، فإن ثمن الكتب المصورة (التي تعترف بأن الأطفال يحتاجونها)، أكثر ارتفاعًا، وتخشى أن تُحجِم محلات بيع الكتب عن إحضارها، إذا كان ذلك يكلِّفها كثيرًا، وهكذا فإن نوعية الكتب الأكثر ملاءمة لغرس عادة القراءة في نفوس الأطفال، هي مشكلة أكبر من مشكلة كتب الكبار، كما أنَّ المدرسين الأفارقة، لا يشعرون بحاجة إلى الأعمال الخيالية، التي تُعتبر «قراءة إضافية». عدد كبير من المدرسين لا يقرءون كثيرًا، وبالتالي فهم لا يستخدمون أدب الأطفال في قاعات الدرس، ويميلون للتركيز على عملية القراءة والكتابة الميكانيكية، وليس على استخدام القصة كوسيلة للتعليم، كما أنَّ معظم المدرسين ليسوا — حتى — على وعي كامل بأنَّ هناك كمية كبيرة من أدب الأطفال الأصلي.

لكي تروِّج لأعمالِها، ولكي تعود إلى مسقط رأسها، حرصت «سيزولو» على حضور «معرض زيمبابوي الدولي للكتاب» في هراري في أغسطس ١٩٩٨م، ورأت أنه سيكون من الجميل، أن تزور المدرسة الابتدائية، التي تعلمت فيها وهي طفلة، وأن تتحدث عن كتابتها، وعن عملها ككاتبة، ولكن خطتها فشلت؛ لأنها لم تكُن تتوقَّع كل تلك العقبات البيروقراطية، التي يمكن أن تحُول دون هذه الزيارة.

وفي الخامس من أغسطس، نقلت جريدة The Herald أن ناظر مدرسة «موفات» الابتدائية، أبلغها أنه «ليس مسموحًا لها بالالتقاء بتلاميذ المدرسة، إلَّا بموجب تصريح من وزارة التعليم والرياضة والثقافة» (منع طالبة سابقة من الالتقاء بالتلاميذ في مدرستها القديمة)، وتُعلِّق «سيزولو» على ذلك بقولها: «كل ما كنت أريده، هو أن أرى كيف يدرس التلاميذ، وربما إهداء بعض الكتب. لقد أصابني الذهول عندما أبلغني ناظر المدرسة، بضرورة الحصول على تصريح من مدير المنطقة، المؤكَّد أنَّ قُدامَى التلاميذ لا بدَّ من أن يُعامَلوا ببعض الاحترام.»

في الأسبوع نفسه، كانت «سيزولو» أقل مُجامَلة في ورشة الكتاب التي نظمها المعرض، عندما عبَّرت عن ملاحظاتها في عدد ٥ أغسطس من الجريدة نفسها، حيث بدأت مقالها هكذا «في إطار تنمية مجتمع أفريقيا الجنوبية، لا بدَّ من أن تعمل الحكومات على إدراج المزيد من الكتب التي ينشرها مؤلفون محليون، في المناهج الدراسية، بدلًا من كتب المؤلفين الأجانب المستوردة»، كان مقال «سيزولو» يحمل عنوان «أدخلوا الكتب في المناهج»، كما نُقِل عنها قولها: إن شُهرة «شيكسبير» في أفريقيا راجعة لحضوره في المناهج الدراسية، وإنَّه إذا كان هناك وجود لكُتَّاب أفريقيا، فإن شعبيتهم وشهرتهم سوف تزيد، وبعد أن قدَّمت أمثلة من مناطق أخرى من العالم، حيث تتوفَّر الكُتب، ويتم الترويج لها في الكنائس، وحتى في المناسبات الرياضية، كما كان من رأيها أيضًا، أنَّ «أصحاب الأسهم في صناعة الكتاب، لا بدَّ من أن يجدوا وسائل فعَّالة لتسويق الكتب، بدلًا من الأساليب القديمة.»

إيفون فيرا Yvonne Vera – زيمبابوي

عدد قليل من كُتَّاب أفريقيا جنوب الصحراء، هم الذين حققوا نجاحًا كبيرًا، في السنوات الأخيرة، وانهال عليهم المديح، كما حدث بالنسبة ﻟ «إيفون فيرا»، وذلك منذ أن نشرت كتابها الأول سنة ١٩٩٢م، وهو مجموعة قصص قصيرة بعنوان Why Don’t You Carve Other Animals، وقد صدر هذا الكتاب في كندا، حيث كانت «فيرا» قد بدأت تكتب، منذ أن كانت طالبة. كانت روايتها الأولى Nehanda (١٩٩٣م) قد كُتبت أيضًا في كندا، ولكنها صدرت في نشرٍ مُشترَك مع دار «باوباب بوكس» في زيمبابوي، وبذلك بدأت واحدة من أكثر العلاقات إثمارًا، بين الكاتب الأفريقي، وناشره، وبدون تلك العلاقة الحميمة بين «إيفون فيرا» ومحرِّرة أعمالها «إيرين ستونتن Irene Staunton»، ما كان لعمل «إيفون» أن يتحرك بمثل تلك السرعة، أو أن يحظى بقبول عالمي كبير، ولا أعرف علاقة أخرى بين كاتب ومحرر في أي دار نشر في القارَّة مثمرة ومفيدة للطرفين قدر هذه العلاقة.
«فيرا» من مواليد ١٩٦٤م في «بولاوايو Bulawayo»، واحدة من أكبر مدن زيمبابوي (روديسيا بعد ذلك)، كانت أمُّها مُدرِّسة وأبوها — بالمثل — على دراية بالفنون الاجتماعية، أي إنَّ حب الكُتب، كان موجودًا، قبل أن تذهب إلى المدرسة الابتدائية (كانت تقرأ وتكتب قبل أن تبدأ تعليمها الرسمي)، والأهم من ذلك أنها بدأت الكتابة وهي طفلة، تتذكر «فيرا»، أنها كانت تترك ملاحظات وقصائد لأمِّها عندما كانت مريضة، وفي المدرسة كان التلاميذ يعرفونها بالكاتبة. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، أمضت إجازة في أوروبا، حيث استهوتها المعارض وقاعات الفنون في فلورنسا، على نحوٍ خاص، ثم قامت بعد ذلك، بزيارات للولايات المتحدة (نيويورك)، وكندا، وانتهى بها المطاف في «جامعة يورك» تورنتو، حيث درست الفنون الجميلة، مع التخصص في السينما. كانت دراستها كوزموبوليتانية، وبقيت في «يورك» فترة طويلة، للحصول على ثلاث درجات علمية، كانت آخرها الدكتوراه في الأدب.
كان كتاب «فيرا» الثالث Without a Name (١٩٩٤م) هو أول عمل تكتبه في زيمبابوي، أثناء وجودها في إجازة في الوطن، أمَّا موضوعه فهو الحرب الأهلية (وهو موضوع خلافي). الكتاب هو أول عمل، ينحو نحوًا أكثر قتامة، وينتهك التقليد، بتركيزه على اغتصاب امرأة شابَّة، كانت قد تركت الريف، وانتقلت إلى المدينة، وكانت الرواية والكتابان على القائمة المختصَرة لجائزة «كتاب الكومنولث»، في المنطقة الأفريقية، وهي الجائزة التي حصلت عليها «فيرا»، بعد ذلك بعامَين، عن روايتها الثالثة «تحت اللسان Under the Tongue» (١٩٩٦م)، في مراجعة نقدية، في مجلَّة Worldview، تصف الناقدة «نيلي تاكر Neely Tucker» بؤرة هذه الرواية، بأنها «اغتصاب، وسفاح قُربى، وقتل زوجة، وموت طفل صغير، إنَّها ليست مكانًا سعيدًا». ومثلما كان الأمر في الرواية السابقة، يلعب نضال البلاد الحديث، من أجل الاستقلال، دورًا مُهمًّا في النفوس المشطورة، للشخصيات الرئيسية. إلى جانب حصولها على أهم جائزة أدبية في وطنها — الجائزة الأدبية لاتحاد الناشرين في زيمبابوي — حصلت «فيرا» في العام التالي، كذلك، على الجائزة السويدية الأدبية «صوت أفريقيا»، عن كتابها «تحت اللسان» (فبراير ١٩٩٩م)، التي كانت تتضمَّن مكافأةً مالية قيمتها حوالي ١٢٦٠٠ دولار.
عندما حصلت «فيرا» على هذه الجائزة السويدية المحترمة، كانت قد نشرت روايتها الرابعة، الأكثر إتقانًا «احتراق فراشة Butterfly Burning» ١٩٩٨م وهي سردية مكثَّفة، شديدة الإيجاز، مُربكة لبعض القُرَّاء، وتتناول، مرَّة أخرى، موضوعًا جسورًا، من الأفضل أن يظل مسكوتًا عنه (أو تحت اللسان إذا كان لنا أن نستخدم إحدى استعارات الكاتبة)، في مجتمع زيمبابوي، وهو موضوع الإجهاض. ومثل أعمالها الأولى، هذا عمل مليء بالوحشية والألم اللذين يتعرض لهما الرجال والنساء، على السواء، بالرغم من أنَّ مسرح الأحداث، ليس معاصرًا، وإنما يعود إلى الأربعينيات، إلى «جيتو»، في «بولاوايو»، أثناء الحقبة الاستعمارية، عندما كان الأفارقة، يُعامَلون معاملة مَن يعيشون في مستوطنة للعقاب، وبهذه الرواية، والروايتين السابقتين، التي تمثل ثُلاثية غير تقليدية، تبدو «فيرا» داعية نسوية، معارضة للهيمنة الذكورية في بلادها. أوجه الشبه بين روايات «فيرا»، وروايات «توني موريسون Toni Morrison»، واضحة بشكل كبير، وعندما سألتها عن موضوعها المثير للجدل — الاغتصاب وسفاح القُربى والإجهاض — قالت:

«ما دامت النساء تعاني من الضغوط الاجتماعية، وكل صور الوصم الاجتماعي في زيمبابوي، وما دامت هناك تلك الانحرافات المتعددة في الاتصال الإنساني التي تؤثر عليهن بشكلٍ أساسي، ستظل كتاباتي تنتقد الضعف الاجتماعي في بلادنا، وضع المرأة في حاجة إلى إعادة نظر مع المزيد من الإصرار على التغيير، وهناك فهمٌ قاصر لمأساة المرأة أو رحلتها الخاصَّة في زيمبابوي، كما في أماكن أخرى. المتوقَّع أن تكون النساء حارسات هذا المجتمع، وضحاياه في الوقت نفسه، وهنَّ مستمرات في ذلك، رغم شعورهن بالحصار والإهمال. هناك جميلات أيضًا، وأنا أكتب عنهن، وعن طاقتنا المشتركة، رجالًا ونساءً، على تحمُّل كل ما خبرناه في زمن الاستعمار والآن، أتمنَّى أن تُبرِز رواياتنا أفضل خواصِّنا، وأن تُفجِّرَ طاقاتنا.» (من رسالة بالبريد الإلكتروني، ٢٣ يناير ١٩٩٩م)

هل تعتبر «فيرا» نفسها كاتبة نسوية؟ وما معنى أن تكون مُدافعًا عن النسوية، في زيمبابوي في أواخر القرن العشرين؟

«أعرف أنَّ النسوية مصطلح ملتبس، ولست متأكدةً من معناه إن أنا أجبت ﺑ «نعم»، إلَّا أنني بالتأكيد مهتمَّة بقضايا المرأة، ومتحمِّسة لها، وأكتب عن النساء كما تقول. هناك شكٌّ كبير، وخُرافات عن النسوية في زيمبابوي، هناك خوف، وفي النهاية فإن الموارد التي نُصارِع عليها، وخاصةً بالنسبة للملكية، هي موارد محدودة، إلَّا أنَّ الصراع في الحقيقة على ما هو أكثر من ذلك، نحن نصارع من أجل وجودنا كُله … وجودنا كبشر … نحاول أن نجد اهتمامًا بكل جوانب وجودنا، ومن المهم جدًّا، أن تبحث النساء عن هذا الحل، عبر أصواتهن المختلفة، ليس هناك رفض معوِّق أمام النساء الكاتبات في زيمبابوي، بل ربما يكون هناك احتفاء بهن، ربما تكون المرأة قد جاءت متأخرة إلى المشهد، وأضافت إلى التنوُّع في أدب بلادنا.»

في ردٍّ سابق على استطلاع الرأي الذي أرسلْتُه إليها، كانت «فيرا» سعيدة وهي تشير إلى أنها كانت تتلقَّى رسائل أكثر وأسئلة أكثر من الرجال في بلادها عمَّا تتلقاه من النساء.

لا يوجد كاتب آخر من الجيل الحالي يمكن أن يُقال عنه إنَّه قد بلغ ما بلغته «إيفون» من النجاح الأدبي، رغم أنَّ «بن أوكري» — من الجيل السابق — هو الأقرب إليها بسبب ذلك العدد الهائل من الجوائز، إلَّا أنَّ الفارق بين الاثنين، على أية حال، هو أنَّ «فيرا» قرَّرت أن تترك كندا — حيث كانت قد وجدت مكانها، في وظيفة أكاديمية مريحة، إن لم تكُن مفيدة ماديًّا — لكي تعود إلى الوطن، والوطن في هذه الحالة هو كلٌّ من بولاوايو وزيمبابوي. بعد أن ظهرت كُتبُها الأولى في طبعات كندية، شعرت «فيرا» أن جمهور قُرَّائها، لم يكُن حيث ينبغي أن يكون، «كنت في حاجة إلى العودة إلى الوطن»، وفي مقابلة مع «إيشي مافاندكوا Ish Mafundikwa» لمجلة Skyhost في سنة ١٩٩٧م، تقول: «لم أكن أريد أن أترجم، كنت أريد أن يسمعونني؛ فأنا أرى أنَّ هذه المباشرة أمر شديد الأهمية بالنسبة لي». وعندما سُئلَت عن قرارها بالعودة إلى «بولاوايو»، أجابت بأسلوب غنائي:

«لقد وُلدتُ ونشأتُ في «بولاوايو»، وهي المدينة الثانية في زيمبابوي. كل واحد هنا يشعر بهوية هامشية، وبالتالي، بحب قوي لأن يكون هنا. الناس في «بولاوايو» كانوا دائمًا يشكِّلون هويَّاتهم حول مفهوم أن يكونوا طرفيين، كأن يكونوا مضروبين بالجفاف مثلًا، وفي أوقات مختلفة هم، سياسيًّا، مواطنون من الدرجة الثانية. المشهد الطبيعي متميز وفريد، مشرع وممتد على مسافات طويلة، شجيرات الأشواك منتشرة في كل مكان من هذه الأراضي الفقيرة، وكذلك كثبان الرمل، السماء منخفضة تستطيع أن تلعقها بلسانك، شديدة الزرقة في الشتاء. لم أفقد أبدًا دقات قلبها طوال وجودي في كندا، ولم أكن أبدًا كاملة. كنت أشعر أنَّني على سفر، في حالة انتقال، وبأنني أكثر هامشيةً هناك، رغم أنَّ كندا مكان جميل وهادئ. صحيح أنني لم أكن لأستطيع أن أجد مهنتي، دون أن أقيم هناك، وأخيرًا قررت أن أكون أنا. أن أتوقف عن الترحال والانتقال تحت سماء أخرى، لقد أحببت «بولاوايو» دائمًا. وبشكل تام، الجو جميل طوال العام، ودرجة الحرارة شديدة الارتفاع في أكتوبر، كنت أفتقد وطني، وأعرف أنَّ العودة ضرورية. قد تفشل، وقد يكون عليَّ أن أرحل مرَّة أخرى إلى أرضٍ أخرى. لم أكُن أريد أبدًا أن أكون كاتبة في المنفى، أتمنى ألَّا أكون مضطرة ذات يوم لاتخاذ قرار بمغادرة زيمبابوي، لأي سبب من الأسباب. أتمنى أن أبقى في هذه المدينة الصغيرة، ذات الإيقاع الهادئ.»

(رسالة بالبريد الإلكتروني في ٢٣ يناير ١٩٩٩م)

في سنة ١٩٩٨م عُيِّنت مديرًا لقاعة الفنون الوطنية في «بولاوايو»، وكانت وظيفة طول الوقت جعلتها على صلة مستمرة بالفنانين الآخرين، أمَّا واجباتها فكانت محدَّدة:

«التأكد من انتظام العمل في قاعة الفنون الوطنية، لعرض أفضل منتجاتنا الفنية البصرية، عبر الوسائط المختلفة، ولتسهيل مهام الفنانين، وتنمية الفنون في المنطقة، وتوفير التدريب والتعليم لهم، كلما أمكن.»

ومن مهام عملي كذلك، المحافظة على الأعمال الفنية في المنطقة، بالاحتفاظ بنماذج تمثيلية في الأرشيف، وعادةً نحن نقدِّم أنفسنا كمركز للنشاط الثقافي، فننظِّم الاحتفاليات، ليس في مجال الفنون البصرية فحسب، وإنَّما في كل فنون الأداء، كما نقدِّم سلسلة من المحاضرات، ونستضيف معارض للكتب، لتكون في خدمة المترددين على القاعة.

ما معنى أن تكون كاتبًا يحقِّق مبيعات كبيرة في زيمبابوي؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بدَّ من العودة إلى محررة أعمال «إيفون فيرا»، في دار نشر «باوباب»، وهي «إيرين ستونتن»، عندما سألتها عن الكتاب الناجح في زيمبابوي من منظور البيع، قالت: إنَّه الكتاب الذي يبيع ثمانمائة، أو تسعمائة نُسخة تقريبًا، معنى ذلك أنه لن يُصبح أي كاتب غنيًّا، بالرغم من بيع حق النشر الأجنبي أحيانًا. بالإضافة إلى الطبعات الكندية، فإن دار النشر الأمريكية Farrar, Straus & Giroux بدأت تنشر روايات «فيرا» سنة ٢٠٠٠م، كما كانت هناك ترجمة لعناوين كثيرة، بالرغم من أنَّ ذلك لا يحقق سوى عدد قليل من الدولارات، تقسم بنسبة ٥٠٪ مع «باوباب بوكس Baobab Books».

كيف، إذَن، ترى «إيفون فيرا» نفسها ككاتبة، حتى من ناحية السن، وهي ما زالت في مرحلة باكرة من عملها؟ لقد نجحت في تلافي كثير من المشكلات، التي واجهها كُتَّاب أفارقة آخَرون من جيلها، وكان من حُسن حظها، أن وجدت مُحرِّرًا متعاطفًا وراعيًا في «باوباب بوكس»، كما كان من حُسن حظها أيضًا، أنها استطاعت أن تكرِّس وقتًا لعملها الإبداعي، بالرغم من وظيفتها التي كانت تستغرق كل الوقت في قاعة العرض الوطنية في «بولاوايو». «وظيفة الكاتب هي أن يكتب، أن يحكي القصة بطريقة مُقنعة، أن يصنع عالَمًا، ويكتب بفصاحة وفنِّية تجعل العمل يظهر أصيلًا في تصوره، وممتازًا في تنفيذه، هذا هو التحدِّي، وهو المعيار الذي يجب أن يكون أمام الكاتب» (من رسالة بالبريد الإلكتروني للمؤلِّف في ٣٠ سبتمبر ١٩٩٨م)، كما قالت ﻟ «إيش مافندكوا»: «ليس لديَّ خيار، عليَّ أن أكتُب لكي أشارك، لكي أحرر خيالي، كل ما يشغلني هو أن أتطور في ذلك وكيف؟»

أعمال هؤلاء الكُتَّاب الخمسة مختلفة، وإن كان يجمع بينها بعض السمات المشتركة، أصغرهم «إيفون فيرا» (من مواليد ١٩٦٤م)، هي الأكثر نجاحًا في الحصول على دعم مستمر من ناشرها، ومن المجتمع الأدبي. لم يكُن عليها أن توجِّه جزءًا كبيرًا من طاقتها للبحث عن الناشر التالي لِكُتبها، مثل «فيرونيك تادجو». وبالرغم من أنَّ علاقتها كانت محدودةً — بدرجة ما — بزيمبابوي، أو بالقارَّة نفسها. كان من حظ «فيرا»، أن تكون لديها دائرة صغيرة من القُرَّاء الذين رحَّبوا بأعمالها عند نشرها. كانت في الحقيقة تستطيع أن تكتب لشعبها، ولا شك في أنَّ ذلك هو حلم كل كاتب أفريقي. صحيح أنَّ بعض قُرَّائها الأفريقيين قد يجدون رواياتها صعبة، إلَّا أنَّ الواضح، أنها قد أقامت مع هؤلاء القُرَّاء، ومع عالَم الأدب نفسه علاقة مريحة.

«فيرا»، تشترك مع الآخرين في تعليمها الكوزموبوليتاني، بما في ذلك الدرجات العلمية المتقدِّمة، وهو ما ينطبق كذلك على كثير من كُتَّاب أفريقيا، ومنذ أن بدأ شُعراء الزنوجة Négritude الكتابة، في أوائل الثلاثينيات، وحده «تيوتولا Tutuola»، الذي قدَّمناه في الفصل الأول، هو الحاصل على تعليم مختلف عن بقية الكُتَّاب، الذين نتناولهم هنا، بالرغم من أنَّ تعليم «أشيبي Achebe» كان كله في داخل حدود الوطن. «تادجو Tadjo» مولودة في باريس. «فيرا Vera» بدأت الكتابة وهي طالبة في كندا. «سيزولو Sisulu» بدأت الكتابة بشكل احترافي في أوروبا. «إكوينسي Ekwensi» أكمل دراسته في لندن. «كوردر Cordor» ربما لم يكن ليغادر مسقط رأسه، ويستكمل دراسته في الولايات المتحدة، لو أنَّ ليبيريا كانت مستقرَّة سياسيًّا. «كوردر» أيضًا، هو الكاتب الذي واجه أقسى الصعوبات، ليحقِّق النجاح في كتابته، وسواء أكان ذلك للأحسن أم للأسوأ، فإن الاستعمار البريطاني والفرنسي — وخاصةً المستوى العالي لأنظمتهم التعليمية — كانا هما الأرجح لتهيئة مناخ، يمكن أن يبدأ الأفريقي الكتابة فيه أكثر من حالة ليبيريا التي لم يكن بها أي إرث استعماري. لم تكن الولايات المتحدة مهتمة بليبيريا، وبما أنَّ التعليم كان مُهمًّا في المستعمرات البريطانية والفرنسية — إن لم يكن لخلق الهياكل الضرورية لقيام خدمة مدنية — فقد أُنشئت دور نشر محلية في النهاية في تلك المناطق، ولعل معظمها كان بغرض خدمة سوق الكتب الدراسية. رحلة «فيرونيك تادجو» مع النشر، ربما تكون أشبه بالمشي على حبل مشدود، إلَّا أنها تبدو كمَن حققت هدفَها، في نشر أعمالها، في كلٍّ من فرنسا وساحل العاج في الوقت نفسه، وهو ما يمكن أن يُقال عن عدد قليل من كُتَّاب القارة الآخرين.

حرص «تادجو» على أن تكون كتبها متاحة للقارئ الأفريقي، وعلى أن يقرأها شعبها، هذا الحرص يقترب من الإلحاح، الذي يعبِّر عنه كُتَّاب القارة، في العقد الأخير، كما أنَّ الجزء الأكبر من قلق «كوردر» أثناء سنوات المنفى يمكن أن نقول إنَّه كان نتيجة واقع صارخ، كونه مقطوعًا عن شعبه، وأنهم لا يقرءونه. «إلينور سيزولو» تعبِّر عن وضع أكثر تفاؤلًا من ذلك الإلحاح، بتأكيدها الحاجة إلى أدب خيالي للأطفال الأفارقة، وخاصةً إذا كانت هذه الكتابة متجذِّرة في التاريخ، على ضوء تقلُّص تقليد الحكي، في كثير من المجتمعات الأفريقية. «فيرا»، لم تعُد جسديًّا إلى جذورها فحسب، بل إنها بدأت تكتب عن مسقط رأسها «بولاوايو»، بعد أن كانت قد كتبت عدة أعمال أولى. شهرة «إكوينسي» كانت عالمية، إلَّا أنَّ عائداته كانت لا شيء تقريبًا، وذلك لأنه — كما يقول — قرَّر البقاء في الوطن الأم.

هذه الحاجة للإبقاء على الصلة، والارتباط بالثقافة الخاصَّة، وبالشَّعب، تبدو نوعًا من فكرة مهيمنة، سواءً في ردود الكُتَّاب على استطلاع الرأي، أو في أماكن أخرى كثيرة، حيث يتحدَّثون عن أعمالهم. عندما يتذكَّر «جلبرت دو Gilbert Doho»٦ السنوات الأولى، عندما بدأ يكتب، يصف حياته في المدرسة الثانوية مزدوجة اللغة، في خليج فيكتوريا، كان من المفترَض أن تكون «رحلة» الطالب روحانية، ولكنَّه في هذه المدرسة اكتشف رغبته في أن يُصبح كاتبًا؛ لأن كل الكُتَّاب الذين عرفهم أثناء الدراسة، كانوا أوروبيين.

«منذ ذلك الحين وأنا أكتب، بهدف ترسيخ كل شيء في الكاميرون، كنت أحلم بدور نشر، ينتقل منها الإنتاج الأدبي بسهولة، من الكاميرون إلى المناطق الأخرى. كنت أريد أن تُنشر أعمال في الكاميرون، في المقام الأول، وأن يجيء الآخرون إلى هنا، ويبحثوا عن إنتاجنا. ربما يكون هذا التصور الوطني للكتب، هو الذي أسهم في تكويني، ويظل هو صليبي الذي أحمله ككاتب. أعتقد أنه إذا كان هناك فخرٌ في أن تكون مقروءًا، فإن هذا الشعور يتضاعف، عندما تكون المادَّة مغروسةً في تُربتِنا. الشُّهرة التي تأتي من الخارج، طعمُها حامض.» (من رسالة للمؤلِّف في ١٥ يوليو ١٩٩٧م)

«دو» شخص وطني يؤرِّقه سؤال وجود أدب حقيقي لبلاده، إذا كان الكاتب يعتمد على ناشرين ومحررين في فرنسا، ومن هنا، يرى ضرورة لأن يكافح أبناء بلده، ليس من أجل إنتاج أعمال ذات مضامين جيدة فحسب، وإنما من أجل أسلوب هذا الإنتاج نفسه، وهو يعتقد أنَّ الكُتَّاب الكاميرونيين المشاهير، مثل «مونجو بيتي Mongo Beti»، و«فرديناند أويونو Ferdinand Oyono»، و«كاليكستي بيالا – Calixte Beyala» مؤخَّرًا، قد أضروا بالكتابة الكاميرونية، أكثر مما أفادوها، ويضيف ساخرًا: أنهم لو لم ينشروا في الخارج، لما عرفهم أحدٌ بالمرَّة. ولكن «القرار الصريح بالنشر في الخارج، أوقف عملية النشر في داخل الكاميرون، وبالتالي أسهم في نمو ظاهرة «الكاتب غير المرئي»، وهناك في الكاميرون ألوف الكُتَّاب الذين لا يعرفهم أحد.»
بعد تعرُّضه للمعاملة المهينة من قِبَل الناشرين الفرنسيين، والكاميرونيين — بما في ذلك دار نشر فرنسية، وقبولها لمجموعة من أشعاره، ثم رفضها بعد ذلك، دون تفسير — يتوصل «دو Doho»، إلى أنَّ الحل الوحيد هو إنشاء جمعية تعاونية أدبية:

يشترك فيها عشرة كُتَّاب مثلًا، يُسهم كلٌّ منهم بمبلغ خمسين جنيهًا، ليصل المبلغ الإجمالي إلى خمسمائة جنيه في الشهر، وبعد قراءة ونقد بنَّاء للكاتب الذي يتم اختياره شهريًّا، من بين المجموعة، تُطبع مخطوطته بعد تحريرها، وهكذا يصبح للمجموعة، وللكاتب إنتاج يحمل رقم إيداع، يوزَّع محليًّا وعالميًّا، وهكذا استطعنا أن نبقى (ككُتَّاب)، في إطار القمع الذي يُسيطِر عليه بعض الناشرين وبعض الكُتَّاب.

مرَّة أخرى، يبرز الواقع الاقتصادي، باعتباره أحد العوامل التي تقوِّض مثل هذه الأفكار والخطط. رواتب الجامعة في الكاميرون، تم تخفيضها بنسبة كبيرة نتيجة التضخم، لدرجة أنَّ العدد القليل من الأكاديميين الذين يحصلون على رواتب أفضل من غيرهم، لا يُمكنهم المشاركة في الجمعية التعاونية، ولذا يرى «دو»، أنَّ الكاتب — نفسه — عليه أن يجوع، إذا كان يريد أن يرى كتابه مطبوعًا!

وجد «دو Doho» وغيره من الأفارقة أنفسهم في دائرة مُغلقة، لو أنهم نشروا في الخارج، فإن المحررين الذين لا يفهمون ثقافاتهم، قد يحاولون التدخل فيما يقولونه (ناهيك عن التدخل في طريقة قول ذلك)، كما أنَّ كتبَهم لن يقرأَها أبناء وطنهم. يُضاف إلى ذلك أنَّ النشرَ المحلي له مشاكله وعيوبه الأخرى (الإرشاد التحريري محدود، والإنتاج ضئيل، والتوزيع هزيل)؛ فمن الأفضل أن ينشروا في الخارج، ليكونوا معروفين هناك على الأقل، أو ينشروا في الداخل، مع احتمال أن يظلُّوا مجهولين، إلَّا لنُخبة غنية تستطيع أن تقرأهم، فكيف يُمكن للكاتب إذَن، أن يُلبِّي حاجة جمهورين مختلفين؟
بالرغم مما قاله لي بعضُ طُلابي، الذين أُدرِّس لهم الكتابة الإبداعية، وهو أنهم يكتبون لأنفسهم، في تقديري، أنَّ الكاتب إنما يكتب، لكي يقرأه الآخرون، وأعتقد، أنَّ مُعظم الكُتَّاب، يريدون أن يكونوا مقروئين (أو يتوقعون ذلك على الأقل) بواسطة شعوبهم، أي بواسطة مَن يكتبون عنهم. هؤلاء الكُتَّاب، الذين تناولنا أعمالَهم في هذا الفصل، يؤكِّدون أنَّ الفنَّ مغروس في ثقافة الكاتِب المحدَّدة، وفي زمنه ومكانه، وذلك بالرغم مما نعتبره دائمًا «عالمية»، أو «عمومية» لا تعرف الزمن. قبل سنوات كتبَت «فرجينيا وولف Virginia Woolf» عن مأزقها في إطار مختلف نوعًا ما، عندما خرجت على المألوف وكتبت شيئًا جديدًا ومختلفًا، شيئًا حديثًا، وفي كتابها «الأدب الروائي الحديث» نقرأ:
«… لذلك إذا كان الكاتب حُرًّا وليس عبدًا، إذا استطاع أن يكتب ما اختار، وليس ما يجب، لو استطاع أن يؤسس عملَه على مشاعره، وليس على المألوف والسائد، فلن تكون هناك حبكة، لا كوميديا، لا مأساة، لا رغبة في الحُب، ولا كارثة في الأسلوب المقبول، وربما لن يكون هناك زر في مكانه، كما قد يضعه ترزية بوند ستريت.» (p. 106)

الكُتَّاب الأفارقة ليسوا مختلفين عن غيرهم من الكُتَّاب في العالَم في أي شيء، لديهم الأهداف، والطموحات، والأفكار نفسها، ولنتأمَّل هذه الشهادات:

  • «أحب اللغة والشكل.» (إيفون فيرا، رسالة بالبريد الإلكتروني في ٣ أكتوبر ١٩٩٨م).

  • «أكتب لأنَّني أحاول أن أُثبت للآخرين، أنني أستطيع أن أفعل ذلك، على نحو جيد مثل غيري.» (نور الدين فرح، لماذا أكتب؟ ١٩٨٨م)

  • «هدفي ككاتب، هو أنني أريدهم أن يتذكَّرونني، بعد أن أموت.» (جيكو إيكيمي، رسالة للمؤلف في ١٢ أغسطس ١٩٩٧م)

  • «هدفي ككاتب، هو أن أُعلِّم، وأُسلِّي، وأُحرِّك الجنس البشري.» (كيبوما لانجميا، رسالة المؤلف في ٢٦ يونيو ١٩٩٧م)

  • «أريد أن أشارك قُرَّائي في حب الحياة … أريد أن أستكشف العقل، وأرى إلى أي مدى يمكن أن يصل بي الخيال؟ أريد أن يستمتع الناس بما أكتب، على ألَّا يعتقدوا أنني أتصوَّر الحياة، رحلة واحدة سعيدة. الحياة قد تكون جحيمًا نعيشه، أريدهم أن يتقبَّلوا ذلك … جنبًا إلى جنب الحب والقُبُلات، أريد أن تدعنا حكوماتُنا نستكشف حدود الخيال.» (رسالة للمؤلِّف من «وليم سعيدي» في ٢٤ أبريل ١٩٩٧م)

  • «هدفي ككاتبٍ هو أن أقلل الرديء، وأزيد الجيد.» (ف. أودم بالوجم، رسالة للمؤلِّف في ١٢ أغسطس ١٩٩٧م)

  • «هدفي ككاتب، أولًا وأخيرًا، هو أن أقوم بتوصيل فكرة أو إحساس لديَّ، أرى أنه قد يكون مُهمًّا للآخرين.» (جار أجايا، رسالة للمؤلِّف في أكتوبر ١٩٩٧م)

  • «بهجة الكتابة بالنسبة لي في أن أُغيِّر، أن أضيف، أن أُثري اللغة.» (لينري بيترز، رسالة للمؤلِّف في ٢٤ أكتوبر ١٩٩٧م)

  • «لديَّ إيمان بالشِّعر، ككلمات ناطقة، كلمات ممسوسة، كلمات تحرِّك الأشياء، مُحصنة ضد الاتهام بالتجاوز، الشِّعر عندي يمكن أن ينقِّب عميقًا في مصادر التاريخ، ويوقظ الصور النائمة. يُعطي الماضي حياة في الحاضر، يُمَكِّننا من العودة إلى مدرسة الموتى، فنزور هياكلهم العظمية القلقة، ونتعلَّم من أصواتهم الخرساء.» (تيجان م. صلاح – Network ٢٠٠٠م، ١٩٩٧م)
منذ أن بدءوا النشر تقريبًا، غرس الكُتَّاب الأفارقة أعمالهم بعمق في ثقافتهم المحلية، وربما كان على «شينوا أشيبي Chinna Achebe»، أن يقوم في «الأشياء تتداعى» بشرح المزيد من تعبيرات شعبه وممارساته أكثر مما لو كان حُرًّا في أن يكتب ما يريد، ولكن هذه الإشارات السريعة، والتعليقات الخاطفة، على ثقافة «الإيبو» التقليدية، تعني أنَّ كتابَه كان مفهومًا، سواءً لشعبه أو للآخَرين، خارج قبيلته وبلده وقارَّته، تعليم قُرَّائه من «الإيبو»، عن عالمهم سريع التغيُّر، لم يكن أقل أهمية، من تعليم قُرَّائه الآخرين، عن ثقافة نيجيرية معيَّنة، كانت تفقد تقاليدها بسرعة، أكثر مما تكسب من تقاليد جديدة. «آموس تيوتولا Amos Tutuola» الذي لم يتوقف طويلًا عند المفاهيم الأكاديمية للرواية، وما يمكن أن تفعله، (وبالتالي كان أكثر حُرية من غيره من الكُتَّاب، لكي يكتب ما يريد)، قفز بجسارة إلى السوق الأدبية الغربية، لكي تفعل به ما تشاء. شاعر الزنوجة «ليوبولد سيدار سنجور: Léopold Sedar Senghor»، يتصور في واحدة من قصائده الشهيرة (صلاة للأقنعة)، يتصور علاقة جديدة بين أفريقيا والغرب، لم يعُد فيها الطرف الأول (أفريقيا) مجرَّد مُتلقٍّ، وإنما يقدِّم «الخميرة التي يحتاجها الطحين الأبيض»، وبالرغم من ذلك، يُعلن أنَّ الأفارقة ما زالوا مرتبطين ببيئتهم المباشرة. «إنَّهم يسموننا بالرءوس القطنية، رجال القهوة، المداهنين، يسموننا رجال الموت، لكننا رجال الرقصة الذين تكتسب أرجلهم القوة، عندما تدق الأرض الصُّلبة» (Moore and Beier [eds], The Penguin Book of Modern African Poetry, p. 233).
قائمة الأمثلة هذه، يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية، ولكن يكفي إضافة مثالين لكُتَّاب ما زالوا في المراحل الباكرة. «جيكو إيكيمي Jekwu Ikeme» شاعر نيجيري، حصل على أكثر من نصيبه من «الفشل المتكرر في أن يكون صوتي مسموعًا، وعملي مقروءًا، وأحلامي مُعاشة» (رسالة المؤلِّف في ١٢ أغسطس ١٩٩٧م)، وبالرغم من ذلك، نجده يعبِّر عن المشاعر العامة لأقرانه، في القارَّة كلها، إلى جانب تفاؤل عنيد، وإصرار على النجاح:

«أكتب لكي أنقل معلومات، لكي أُعلِّم، لكي أُشارك، وأتبادل الرأي، وبذلك، أُسهم في عملية إعادة تعريف اكتشاف الذات، فَنِّي موجَّه للاحتفاء بتراثنا الثقافي وتأكيده، ومن خلال أعمالي، أقوم بتأكيد المطلب الإنساني بالكرامة، والعدل، والسعادة؛ فأنا واحد ممن يؤمنون بمسئولية الكاتب تجاه وطنه، الكاتب هو الرائي والمعلم، وهو ضمير المجتمع، وهو الذي يحدد المهمة، والهدف، هنا يوجد البُعد الأسمى للفن.»

أو بكلمات «سيجون ديوروواي Segun Durowaiye»، الكاتب النيجيري الذي نشر قصصًا قصيرةً في الصحافة المحلية:

«في عالَم لا يوجد فيه نقود لشراء الأشياء الجميلة في الحياة، في عالَم يسود فيه الفقر، كما هو الحال في أفريقيا، فإن القِلَّة المتعلمة، وشبه المتعلمة، في حاجة إلى قصص إبداعية خلَّاقة، تجعلهم يشعرون بالسعادة، في زمن الحزن والكرب، إنَّهم في حاجة إلى شيء من السلوى … لشيء يُنعش أرواحَهم.» (رسالة المؤلِّف في ٢٦ أغسطس ١٩٩٧م)

١  أشيبي نفسه كتب ونشر كُتبًا للأطفال لاقت نجاحًا كبيرًا في السوق النيجيرية.
٢  عن كتاب: (Rosemary George: “The Politics of Homa”, 1996, p. 119).
٣  Prix de l’Agence de coopération Culturelle et Technique.
٤  الشاعر النيجيري «نيي أوساندار Niyi Osundare» مرَّ بمثل هذه التجربة السيئة عندما نُشرت مجموعته الشعرية وكأنها كتابة نثرية لحل مشكلة المساحة، فتداخلت القصائد وفقدت معالمها.
٥  كان هناك رد فعل أكثر عُنفًا على ما كتبته عن الأدب الأفريقي من «آي كوي آرمه» الذي اتهمني ﺑ «اللارسونية» (Larsony, or Fiction as Criticism of Fiction).
٦  روائي وكاتب دراما من الكاميرون يكتب بالفرنسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤