الفصل الخامس

الرعب … الرعب!

«نحن الذين نكتب في كينيا، في أفريقيا، في العالَم الثالث … نحن نموذج لكاساندرا الجديدة في العالَم النامي، محكوم علينا بأن نصرخ في وجه الثقافات الاستعمارية الجديدة، ثم نكون مستعدين بعد ذلك لدفع الثمن بالسجن، والنفي، وربما الموت.»

نجوجي وا ثيونجو
(Detained: A Writer’s Prison Diary, 1981)

«ما موضوع الأدب؟ لقد بدأ بطرد آدم من الجنَّة، وما يفعله الكُتَّاب في الواقع هو أنهم يلهون، إمَّا بأسطورة الخلق، أو أسطورة العودة، وبين القوسين هناك ذلك الوعد بالعودة، وبينما ننتظرها نروي القصص، ونصنع الأدب، ونُنشد الشِّعر، ونتذكَّر الماضي، ونعيش الحاضر، نحن الكُتَّاب نروي قصة هذه العودة بالأساس.»

نور الدين فرح
(Literature in Exile, 1990)

لم تكُن نهاية القرن العشرين فترة سعيدة بالنسبة لكثير من الكُتَّاب غير الغربيين على نحو خاص، وليس الأفريقيين وحدهم؛ فالفتوى التي عُمرها عقد من الزمان ضد «سلمان رشدي»، بسبب نشره «آيات شيطانية» تظل في أذهان الكثيرين، باعتبارها رمزًا للعصر، كما تعرَّض الروائي المصري «نجيب محفوظ» لطعنة سكين متعصِّب من أحد أبناء وطنه لا يحب روايات الكاتب الحاصل على جائزة نوبل للآداب، أمَّا الكاتبة البنجلاديشية «تسليمة نسرين»، فقد فرَّت من وطنها في صيف ١٩٩٤م خوفًا على حياتها من بعض قُرَّائها المتطرِّفين (أو على الأرجح من غير قُرَّائها)، هؤلاء الكُتَّاب الثلاثة، نجوا من أسوأ كوابيس الكثيرين من كُتَّاب العالَم الثالث: نجوا من الموت، ولكن ذلك لم يكُن مصير الكاتب النيجيري «كين سارو-ويوا»، الذي أعدمته حكومة بلاده شنقًا، في ١٠ نوفمبر ١٩٩٥م، لتحيي بذلك النمط القديم لأفريقيا، باعتبارها القارَّة السوداء.

لقد عانى الكُتَّاب الأفارقة من سوء المعاملة، والترويع، والامتهان، والرعب الحقيقي أكثر من نظرائهم في بقية العالَم غير الغربي، أمَّا أحد تفسيرات هذا الرعب، الذي لا مُبرر له، فلا شك، في أنه يرجع إلى ما أشار إليه «كين سارو-ويوا»، بحاجة الكاتب الأفريقي إلى الالتزام، مُلمِّحًا إلى وضعه الخاص كناطق باسم شعب «أجوني»؛ إذ كتب يقول:

«عندما يكون الأدب في ظرف دقيق، كما هو الحال في نيجيريا، فمن المستحيل، أن يكون منفصلًا عن السياسة، والحقيقة، أن الأدب لا بدَّ من أن يكون في خدمة المجتمع بأن يغمس نفسه في السياسة، بأن يتدخَّل فيها، وينبغي ألَّا تكون كتابة الكُتَّاب لمجرَّد التسلية، أو للنظر بذهول إلى المجتمع. لا بدَّ من أن يقوموا بدور اقتحامي، لا بدَّ من أن يكون الكاتب هو الإنسان الفاعل L’homme engage»، هذا الاقتباس، من كتابه «شهر ويوم: يوميات الاعتقال»، ١٩٥٥م (p. 81). الذي نُشر بعد إعدامه بفترة قصيرة، ولكنه كان قد كتب أعمالًا أخرى غير روائية، أبعدته قليلًا، عن أعماله الإبداعية.
هذا الابتعاد عن الأعمال الإبداعية، والشِّعر والدراما، والاتجاه إلى مجال التعليق السياسي الأوسع، كان مشحونًا بتعقيدات لكثير من كُتَّاب القارَّة، وخاصَّة كُتَّاب نيجيريا. كانت الكتابة الإبداعية ترفًا يراوغ عددًا من أشهر كُتَّاب البلاد، وقد شنَّ «شينوا أشيبي» هجومًا مباشرًا على المشكلة، في كتابه … The Trouble with Nigeria (١٩٨٣م)، ولكن الطُّغاة والسفَّاحين لا يقرءون، كما هو معروف عنهم:
مُشكلة نيجيريا أو عِلَّتها، بكل بساطةٍ ووضوح، هي فشل القيادة، ليس هناك عيب جوهري في الشخصية النيجيرية، ولا في الأرض النيجيرية، ولا المناخ، أو الماء، أو الهواء، أو أي شيء آخر، مشكلة نيجيريا هي عدم استعداد قادتها، أو عدم قدرتهم، على الارتفاع إلى مستوى المسئولية، إلى مستوى تحدي النموذج الشخصي، وتلك هي السِّمات الحقيقية، المميزة للقيادة السليمة. (p. 1)، بعد ذلك بأكثر من عقد، جاء كتاب «وولي شوينكا»: The Open Sore of a Continent: A Personal Narrative of the Nigerian Crisis (1996).
لينقل هذا الخطاب إلى مرحلة أبعد، وهي الهجوم المباشر، على الزعيم المزعوم، سيئ الذِّكر «ساني أباشا Sani Abacha»، ولك أن تتخيل مثلًا كاتبًا مثل «وليم فوكنر William Faulkner»، أو «إيرنست هيمنجواي Ernest Hemingway»، أو كاتبًا أحدث قليلًا، مثل Anne Tyler، عندما ينتزعون أنفسهم من أعمالهم الروائية، ليتناولوا موضوعًا مخيفًا مثل القيادة.
هناك بالطبع كثير من الكُتَّاب الغربيين الملتزمين، أو الفاعلين، كما كان «كين سارو-ويوا»، وفي هذا السياق، ترِد إلى الذهن أسماء مثل «ألدوس هكسلي Aldous Huxley»، و«آرثر كويستلر Arthur Koestler»، و«نورمان ميلر Norman Mailer»، و«دوريس ليسنج Doris Lessing»، ولكن عددًا كبيرًا من الكُتَّاب الأفارقة، قد توقفوا عن الكتابة، أو تركوا أعمالهم على نحو مفاجئ، بسبب اتساع شبكة الرقابة، أو التهديد، أو السجن الفعلي، أو النفي، سواء الإجباري أو الاختياري، بالرغم من صعوبة التمييز الفعلي، بين النوعين أحيانًا. صفحات Index on Censorship، ومطبوعات نادي القلم الدولي، ومنظمة العفو الدولية مليئة بأمثلة على التحرُّش المستمر بالصحفيين الأفارقة خاصَّة، وكُتَّاب القارَّة بشكل عام، وهناك أمثلة مزعجة كثيرة من أفريقيا، لا يستطيع أن يتجاهلها أيُّ كاتب في الغرب؛ لأن ما يحدث لكاتب في نيجيريا، أو غينيا، أو أي مكان آخر، إنما هو أمرٌ يعنينا كُلنا، بيد أن الكُتَّاب الغربيين الذين كانوا يُعبِّرون عن غضبهم لإساءة معاملة نظرائهم خلف الستار الحديدي أثناء الحرب الباردة، لم يُبدوا اهتمامًا خاصًّا — في معظم الأحيان — بكُتَّاب أفريقيا، أو العالَم الثالث؛ فعندما صدَرت الفتوى ضد «سلمان رشدي»، كان هناك صمت مُربك من جانب كثير من الكُتَّاب والأكاديميين الأمريكيين، كما تكرَّر الموقف نفسه عند إعدام «كين سارو-ويوا».

لا بدَّ من أن تكون البيئة الخطِرة، التي يكتب فيها الكُتَّاب الأفارقة مدعاة لقلق الكُتَّاب في الغرب؛ فالمشكلات لم تنتهِ، ولا يبدو ذلك ممكنًا في المستقبل المنظور، هناك دول بأكملها في القارَّة، لا وجود فيها لكُتَّاب مبدعين تقريبًا — سيراليون، وليبيريا، ورواندا، والكونغو، مثلًا — وهناك دول أخرى كثيرة حالة الأدب فيها يُرثى لها، كما أنَّ المشكلات ليست مجرَّد مشكلات معاصرة، وإنما تعود إلى بدايات فترة ما بعد الاستعمار.

«كامارا لايي Camara Laye»: موت الفنان

في الستينيات والسبعينيات كان نُقَّاد الأدب الأفريقي (وأنا منهم) يشيرون كثيرًا إلى الكاتب الغيني «كامارا لايي»، باعتباره مؤلِّف الرواية الأفريقية العظيمة «نظرة الملك» (Le regard du roi) (١٩٥٣م)، التي تُرجِمت إلى الإنجليزية، بعنوان The Radiance of the King، نفس الدرجة من التقريظ تقريبًا كانت من نصيب رواية L’enfant noir، في سنة ١٩٥٢م، التي تُرجمت بعناوين مختلفة، مثل «الطفل الأفريقي»، و«الطفل الأسود»، وهي السيرة الذاتية ﻟ «كامارا لايي» (رغم إشارة بعض النقاد إليها كرواية)، كما ظهرت على غلاف الكتاب عبارة مقتبسة عن هيئة الإذاعة البريطانية، تقول: إن «لايي هو أول كاتب عبقري يخرج من أفريقيا»، وقد حصلت رواية «الطفل الأسود» على جائزة «شارل فيللون»، إلَّا أنَّ الكثير من هذا المديح طواه النسيان في السنوات التالية، وذلك — دون شكٍّ — لأنَّ «لايي» مات سنة ١٩٨٠م، وهو في الثانية والخمسين، وفي ذلك الوقت كان نتاجه قد قلَّ نتيجة لسلسلة من الأحداث التعسة، إنْ لم تكُن مأساوية، كما أثارت «ليليان كيستلوت Lilyan Kesteloot»، أسئلة كثيرة، حول المؤلِّف الحقيقي لرواية Le regard du roi..

«لايي» من مواليد «كوروسا» في غينيا العليا سنة ١٩٢٨م، لإحدى عائلات «المالينكي» المتميزة، كان أبوه حدَّادًا مشهورًا، وحِرَفيًّا ماهرًا، كما وصفه «لايي» في «الطفل الأسود»، في التاسعة عشرة ذهب «لايي» إلى فرنسا، في منحة لدراسة صناعة السيارات، وبعد الانتهاء منها، قرَّر البقاء للحصول على البكالوريا، ولمَّا كانت المنحة الحكومية قد توقَّفت عملَ بمهن مختلفة لكي يعُول نفسه، ويدبِّر مصروفات مدرسة ليلية، وفي وحدته واكتئابه لعزلته وابتعاده عن وطنه بدأ يكتب مذكَّراته عن مرحلة الطفولة، فكانت «الطفل الأسود»، التي تُعتبر واحدة من أنقى القصص، التي ظهرت عن الطفولة وأكثرها صدقًا في أي مكان، ولا شك أن أهم أسباب ذلك كان الكتابة، بصرف النظر عن عملية النشر.

مثل «آموس تيوتولا»، كان «كامارا لايي» كاتبًا آخر بالمصادفة، أتبَع كتابه الأول بكتاب ثانٍ أكثر طموحًا، وهو Le regard du roi بعد عام واحد، الشخصية الرئيسية في هذه الرواية (كلارنس) أوروبي، ذو خلفية يصعُب تصنيفها، وهو موجود في أفريقيا بالمصادفة، قامَرَ بممتلكاته المتواضعة، ويحاول أن يعمل لدى الملك الذي يعتقد أنه سوف يستأجره لمجرَّد أنه أبيض، أو بمعنى آخر، لأنه أفضل من الأفارقة المحيطين به. تحيزات «كلارنس» ضد الأفارقة كثيرة في الحقيقة، إلَّا أنَّ «لايي» يجعل ما هو متعذِّر فهمه ممكنًا بإزالة قصر نظره تدريجيًّا، إلى أن يحوِّله في آخر الرواية إلى أفريقي.
«نظرة الملك Le regard du roi»، واحدة من القصص النادرة عن المواءمة الثقافية وهي عمل متفائل بإمكانياتنا كبشرٍ؛ لكي نفهم بعضنا البعض، و«كامارا لايي» نفسه لم يكن أسيرًا للجدل والخطابة، ولكنه كان متفائلًا دائمًا في تناوله لظروف الإنسان على الأرض.
هناك قصصٌ وروايات مختلفة، عن حياة «كامارا»، ولكننا نعرف أنَّ «الطفل الأسود» نُشرت؛ لأنَّ صديقًا فرنسيًّا للمؤلِّف قرأ المخطوطة وأدرك أهميتها، وعندما عاد «كامارا» إلى «غينيا»، كان قد أصبحَ مشهورًا في فرنسا بوصفه كاتبًا شغل عدَّة مناصب في حكومة غينيا، واستمرَّ في الكتابة، وفي وقتٍ ما في أوائل السبعينيات عرف «سيكوتوري Sekou Toure» — رئيس غينيا — بأمر الكتاب الجديد الذي كان «لايي» يكتبه، وربما يكون قد قرأ المخطوطة (أو أن يكون أحد قد قرأها له)، ورأى أنها كانت تنتقد نظامَه، وتلقَّى «لايي» إخطارًا بأنه يمكن أن يبقى في غينيا بشرط ألَّا ينشر الكتاب.
فرَّ «لايي» إلى السنغال، ونشر رواية Dramouss في باريس في ١٩٦٦م، أي بعد ثلاث عشرة سنة من نشر كتابه السابق، وكانت «دراموس» تكملة لرواية «الطفل الأسود». كان عنوان الطبعة الإنجليزية «حلم بأفريقيا A Dream of Africa» (١٩٦٨م). تبدأ القصة بعودة فاتومان (لايي) إلى غينيا، في إجازة لمدَّة أسبوعين بعد ست سنوات في فرنسا. الصدمات التي تواجهه في كل مكان ذات صلة بالتغيرات السياسية المشئومة في بلاده التي يحبها، وبأحوال والده في عمله. كانت البلاد وهي تقترب من الاستقلال، في حالة تمزُّق، تعاني من الصراعات والانشقاقات السياسية والمطالب الأخيرة للبقية الباقية من الزعماء، وبعد مؤتمر سياسي، يقوم «فاتومان» بتنفيذ ما قاله المتحدثون. ويقول وهو يشعر بالحسرة على مستقبل بلاده:
لا بدَّ من أن يقول المرء إنَّه بالرغم من أنَّ الاستعمار كان شرًّا مستطيرًا بالنسبة لبلادنا، فإن النظام الذي تطرحونه سيكون كارثة لها نتائجها التي ستبقى عِدَّة عقود، لا بدَّ من أن يتكلم أحد ليقول إنَّ نظامًا يعتمد على سفك الدماء، من خلال عمليَّات الإحراق العمد للأكواخ والمنازل، ليس سوى نظام للفوضى والدكتاتورية، نظام يقوم على العنف. (p. 164)
كما يصف «فاتومان» لوالده مستقبل غينيا وهو يروي له حُلمًا رآه عن «الإلهة رداموسي»:
رأيت شعبًا في أسمال ومزق بالية، شعبًا يتضوَّر جوعًا، شعبًا يعيش في ساحة يحيط بها سور عالٍ بارتفاع السماء، وفي هذا السجن الكبير، كانت القوة هي القانون الوحيد، أو ربما لا بد من أن أقول: إنَّه لم يكن هناك قانون على الإطلاق. كان الناس يُعاقَبون، ويُعدَمون دون محاكمة … الأمر مُرعب! هؤلاء الناس هم شعب غينيا، شعب أفريقيا. (pp. 183-84)

بنشر «دراموس: حلم أفريقيا»، أصبح الكاتب المعتدل كاتبًا ملتزمًا، أو إنسانًا فاعلًا، بعبارة «كين سارو-ديوا».

على مستوى شخصي أبعد من ذلك، كان «كامارا لايي» شديد الانزعاج، لما حدث لوالده أثناء غيابه، البراعة الفنية التي وصفها بعناية في «الطفل الأسود» أصبحت مُهدَّدة أمام حالة الفورة الثقافية؛ فلكي يكسب قوته أصبح والد «فاتوم» مضطرًّا لحفر منتجات خشبية للسائحين، وعندما يطلب «فاتوم» من والده أن يُعطيه التمثال الذي كان يقوم بحفره، يقول له والده: إنَّ الصائغ الأفريقي القديم قد أصبح شيئًا من الماضي:
في تلك الأيام كان فن الحِدادة يفوق كل الفنون الحِرَفية الأخرى، كان فنًّا نبيلًا بحقٍّ، وساحرًا وحقيقيًّا، وكان يتطلب مهارة أكبر ومعرفة أكثر من كل الفنون، وكان من الطبيعي في تلك الأيام أن يتجه الناس إلى الحدَّاد، لا ليصنعَ لهم شيئًا يستطيع أي شخص أن يصنعه، وإنَّما ليصنع نماذج تصوِّر الأسلاف (أقدم نماذج لها الطوطم)، ولعمل أقنعة الرقصات التقليدية الطقسية التي كانت قوى الحدَّاد الكامنة تجعلها مقدَّسة، لأنه خالقها، وبالرغم من أنَّ هذه القوى، لم تمُت تمامًا يا بُني، فإنني لا أستطيع أن أُخفي عنك أنها قد فقدت قدرتها إلى حدٍّ ما، وأنها لم تعُد تهتم بطبيعة مجتمعنا الخاصَّة، التي سمحت لنفسها بأن تتحوَّل إلى الإسلام، بالرغم من أنها لم تتخلَّ تمامًا عن معتقداتنا الخاصَّة، وإذا كانت طبقتُنا ما زالت قوية، فمَردُّ ذلك إلى أننا نحن الحدَّادين وعمال المعادن بِتنا نصنعُ أشكالًا بعيدة عن أي اهتمامات دينية، وليس صحيحًا أن أفكار القوَّة والسِّحر قد ماتت تمامًا واختفت؛ لأنها لم تعُد موجودة حيث كانت في السابق، ولكنَّها بدأت تذوي وتندثر تحت تأثير الأفكار الحديثة؛ لذا فإن هذا الشكل الذي ستأخذه معك لن يكون أكثر من حِلية، أو زينة.» (p. 131-32)

اندثار فن والده يمكن فهمه باعتباره خوف «لايي» من أن يموت فنُّه أيضًا.

لم تكن بقية حياته سهلة، فقد دفع ثمنًا باهظًا نتيجة قراره بأن ينشر كتابه الثالث، كانت كُتبه ممنوعة في غينيا وفي منفاه في السنغال حصل على وظيفة بحثية، في أحد المعاهد العلمية Institut Fondamental d’Afrique Noir، بواسطة رئيس البلاد «ليو بولد سيدار سنجور Léopold Sédar, Senghor»، الذي يشاركه الاهتمام بالأدب، والزنوجة Négritude،١ وعندما عادت زوجة «لايي» إلى غينيا في زيارة قصيرة بسبب حالة وفاة في العائلة وضعها «سيكوتوري» في السجن انتقامًا من الكاتب، حيث بقيت سبع سنوات. (Evenson and Beus, “Camara Laye” 1997, p. 277.)
تدهورت صحة «لايي» الجسدية والنفسية، وكان لا بدَّ من التردد على المستشفى، والبقاء به لفترات متقطعة، وبالرغم من أنه نشر عملًا رابعًا، قبل وفاته بفترة قصيرة Le maitre de la parole (١٩٧٨م)، الذي تُرجم إلى الإنجليزية ﺑ The Guardian of the Word (١٩٨٠م) (حارس الكلمة)، والذي هو إعادة صياغة للملحمة المالية «سوندياتا Soundiata»، بالرغم من ذلك فإن بقية حياته كانت مليئة بمشروعات مُجهضة، ومخطوطات أعمال لم تكتمل، ومن بين الأوراق التي تركها رواية كان يُشير إليها ﺑ «المنافي The Exiles»، ربما تُلقي الضوء على أزمته ككاتب انتُزع من جذور أسلافه، ولكن العمل لم يكتمل.

عندما التقيت «لايي» في «داكار» سنة ١٩٧٣م، قال لي: «لا أحد في أفريقيا اليوم لديه الحرية لكي يكتب ما يريد، لا أحد حُر؛ لأنَّ الحُكَّام الأفارقة لديهم حساسية شديدة، ولن يستمعوا لشعرائهم، ولا لفنانيهم الذين يسبق تفكيرهم تفكير السياسيين بسنوات.» (مقابلة مع المؤلِّف في مايو ١٩٧٣م)، ولا يستطيع أحد أن يغفل عن السخرية التي تنطوي عليها العبارة، «سكوتوري» طرَدَه أمَّا الملاذ فكان عند «سنجور». كان «لايي» يعرف أنَّ بقاءه هو سبب عدم إكمال عمله «المنافي»، ويبدو كذلك أنه كانت هناك مشكلة «السكتة الكتابية»!

كان «كامارا لايي» إنسانًا متواضعًا، لا يعرف الادِّعاء، وفنانًا نادرًا يُضفي على أعماله رؤية من التفاؤل والإنسانية، وبالرغم من أنه كان يصف دَور الكاتب، بأنه دَور الرجل الواهِن الذي يحمل عبء مجتمعه على كاهله، كان كل مَن يلتقونه، يجدون أنفسهم أمام شخص ذي قوَّة داخلية جبَّارة، وصلابة لا مثيل لهما. عنوان آخِر أعماله «حارس الكلمة The Guardian of the Word»، أصبح هو مرثاته؛ فقد كتب يقول فيه: «إننا ينبغي ألَّا نخلط بين حارس الكلمة، والمأجورين «تُجار الموسيقى، ومُنشدي الكوراس، أو عازفي الجيتار، الذين يجوبون شوارع المدن الكبرى، بحثًا عن ستوديوهات للتسجيل.» (p. 24) الحارس الحقيقي للكلمة، كان واحدًا من أهم أعضاء المجتمع القديم ذي التراتبية الاجتماعية المحدَّدة؛ فهو فنَّان قبل أن يكون مؤرِّخًا، وحارسًا للتراث، وللقيم الثقافية والتقاليد التي يعرفها، وبالتالي فإن مرويَّاته وأساطيره وملاحمه أعمال فنية، وعليه، فإن الموروث الشفاهي فن أكثر مما هو عِلم، وكما يفعل النَّحَّات، أو المثَّال الأفريقي، فإن حارس الكلمة، لا يقدِّم التاريخ بأسلوب الأمر الواقع، إنَّه يُعيد حكيه مستخدمًا صورًا قديمة مهجورة، الحقائق تُترجم إلى أساطير مُسلِّية بالنسبة للإنسان العادي، ولكنَّها تنطوي على معانٍ سرية لأولئك الذين يستطيعون قراءة ما بين السطور.» (p. 25.)

الرقابة

باستثناء دولتين أو ثلاث في أفريقيا جنوب الصحراء لا توجد رقابة شاملة على الأعمال الأدبية، وإنما هي رقابة موجَّهة كيفما اتُّفِق بالنسبة لكُتَّاب معيَّنين، ولأعمال مُعيَّنة لهؤلاء الكُتَّاب أحيانًا من الذين يكونون قد أساءوا إلى أشخاص في السُّلطة، أو أزعجوهم، وغالبًا ما تكون الأسباب سياسية؛ فالزعماء الأفارقة يضيقون بحرية الصحافة، هذا إن كان لمثل هذه الحرية وجود أصلًا. الصحفيون غالبًا، هم الأكثر عُرضة للرقابة، ولكن بالرغم من أنَّ الرقابة على الأعمال الإبداعية صارمة — بالمقاييس الغربية — فإنها كانت دائمًا محدودة، يمكن التنبؤ بها، وعليه، فقد كانت هناك أعمال فردية محظورة لعدد من كُتَّاب القارَّة في مرحلة ما بعد الاستعمار، بالإضافة إلى أعمال عدد كبير من كُتَّاب جنوب أفريقيا، ومالاوي (مثل لجسون كاييرا Legson Kayira، وجاك مابانجي Mapanje Jack، ولوبنجا مباندي Lupenga Mphande… إلخ)، ومن الكُتَّاب الذين كان هناك حظر على بعض أعمال لهم: «وليم سعيدي William Saidi» من زيمبابوي، و«نجوجي وا ثيونجو Ngugi wa Thiong’o» من كينيا، و«نور الدين فرح» من الصومال، و«كامارا لايي Camara Laye» من غينيا، و«سيميليه م. كوردر Similih M. Cordor» من ليبيريا، و«رينيه فيلومبي René Philombe» من الكاميرون.
أحيانًا يستطيع الكاتب أن يرد بقوة في عمل من أعماله؛ ففي رواية «شينوا أشيبي» الرابعة وهي هجائية بعنوان A Man of the People (١٩٦٦م)، نجد «شيف نانجا» وزير ثقافة البلاد شخصية سياسية أكثر منه شخصية راقية محبَّة للجمال، مما يمنح الكاتب فرصة لتوجيه سخريته نحو أحداث ربما يكون قد خبرها في الواقع. في الرواية نجد «أوديلي Odili» (الراوي)، عندما يُدعى إلى منزل الوزير، يشير بسرعة إلى الكُتب الموجودة في مكتبته، ويقول: كانت هناك موسوعة أمريكية، موضوعة كديكور، ورواية She لريدر هاجارد، و«عائشة Ayesha»، أو The Return of She، وبعض كتب ماري كوريللي، وبرتا كلاي، وأتذكر على نحوٍ خاص The Sorrows of Satan، كان ذلك هو كل شيء تقريبًا، باستثناء بعض المواد الأخرى، مثل: Speeches: How to Make Them (p. 38)، والأسوأ، أن الوزير لا يعرف شيئًا عن كُتَّاب بلاده، ويقول «أوديلي»: «وقال وزير الثقافة على الملأ إنَّه لم يسمع أبدًا بأشهر رواية في بلاده، وصفقوا له، كما صفقوا له بعد ذلك عندما قال إنه لن يمر وقتٌ طويل قبل أن يظهر في بلادنا كُتَّاب عِظام، مثل «شكسبير»، و«دكنز»، و«جين أوستن»، و«برنارد شو» ثم رفع عينيه من على الورقة وقال: و«مايكل وست»، و«ددلي ستامب» (p. 62)، وهذا كثير على كاتب في أفريقيا.»
نتمنى أن تكون الرقابة على الأعمال الأدبية في أفريقيا قد أصبحت شيئًا من الماضي؛ ففي مرحلة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وفي مالاوي، تحت حكم «هيستنجز باندا Hastings Banda»، كان وحش الرقابة طليقًا يلتهم كل شيء في طريقه تقريبًا، وبعض الأمثلة التي نسوقها من جنوب أفريقيا، تبدو مضحكة أكثر منها براجماتية، ولأنَّ الفصل العنصري، كان لا بدَّ من تحقيقه بأي ثمن، كان الرُّقباء يمنعون حتى الكُتب التي لا علاقة لها بالاندماج العِرقي، أو تدعو إليه، ولذا، نجد أنهم في وقت من الأوقات منعوا أعمالًا مثل: Black Beauty من تأليف «أنَّاسيول Anna Sewell»، وReturn of the Native من تأليف «توماس هاردي Thomas Hardy»، بسبب ما قد توحي به عناوينها، وكانت مثل هذه الإجراءات السخيفة مربكة للذهن، بالرغم من أنَّ أصحاب هذه الأعمال لم يكونوا من الأحياء، ولكن الشبكة التي اصطادت كثيرين من كُتَّاب جنوب أفريقيا من مواليد القارَّة، أو من مواليد أوروبا، كانت تحتوي أيضًا على أعمال فردية لكُتَّاب يحظون بمكانة عالمية، مثل «نادين جورديمر – Nadine Gordiner»، و«أتول فيوجارد Athol Fugard»، اللذين يكتبان بالإنجليزية، وغيرهما من ذوي الأصول الأوروبية، الذين سجلوا فظائع التفرقة والاضطهاد العنصري، وكانوا يهزون القارب، وينتقدون تراثهم بكل جرأة مثل «أندريه برنك Andre Brink»، و«إيتيان ليرو Etienne Leroux»، و«ج. م. كويتزي J. M. Coetzee»، و«بريتين بريتنباخ – Breyten Breytenbach».
من المعروف أيضًا، أنَّ لجنة الرقابة كانت تراقب وتراجع وتحظر وتمنع الأعمال على أساسٍ عنصري؛ ففي سنة ١٩٦٦م أعلنت Government Gazette Extraordinary حظرًا شاملًا، على أعمال ٤٦ من كُتَّاب جنوب أفريقيا السود؛ حيث لم يكُن بالإمكان نشر، أو إعادة طباعة، أو اقتباس كلمة واحدة لأي منهم في البلاد، وكان من بينهم «أسكيا مفاليلي Es’kia Mphahlele»، و«لويس كوزي Lewis Nkosi»، و«بيسي هيد Bessie Head»، و«كان تيمبا Can Themba»، و«ريتشارد ريف Richard Rive»، و«دينيس بروتس Dennis Brutus»، و«ألكس لاجوما Alex La Guma»، و«بيتر أبرامز Peter Abrahams»، وأحيانًا كانت تُمنع أعمال هؤلاء الكُتَّاب لكونهم ماركسيين، وكانت سلطات جنوب أفريقيا قد اكتشفت أنَّ ردود الفعل والاستجابة لأنشطتهم يمكن أن تخمد لو أنهم أوقفوا قضية الشيوعية. الأكثر مدعاةً للأسف هو أنَّ بيروقراطية الاضطهاد العنصري كانت تسمح للكُتَّاب بمغادرة البلاد شريطة ألَّا يعودوا، ولذلك كان كثير من كُتَّاب جنوب أفريقيا الذين يعيشون في لندن ونيويورك يعرفون أنَّ التفرقة العنصرية والاضطهاد لن تنتهي دون معركة دامية، وقد صدرت كتب ومقالات كثيرة عن هؤلاء الكُتَّاب وسوف نكتفي هنا ببعض الأمثلة لتوضيح الصورة.
الاضطهاد العنصري، دفع بالكاتبة «بيسي هيد Bessie Head» إلى الجنون، «بيسي»، ابنة زواج مختلط (أمها بيضاء، وأبوها أسود)، أُعيد تصنيفها فجأة من بيضاء إلى ملوَّنة، ولم تبرأ من مرضها بشكل كامل. حاولت في روايتها الصادرة سنة ١٩٧٣م بعنوان A Question of Power أن تقدِّم — على نحو غير مباشر — حياتها كطفلة في جنوب أفريقيا، إلى جانب سنوات المنفى التالية في «بتسوانا»، والرواية بشكلٍ عام دليل على فداحة الآثار النفسية، للاضطهاد العنصري، وقد كانت ممنوعة — بالطبع — في جنوب أفريقيا، حتى تحرُّر البلاد في ١٩٩٤م.
رواية «إسكيا مفاليلي Es’kia Mphahlele» الصادرة سنة ١٩٧١م بعنوان The Wanderers (الهائمون)، تصوِّر عجز الشخصية الرئيسية عن التأقلم مع أي مكانٍ آخر بعد فرض المنفى عليه، وطرده من جنوب أفريقيا، والعمل في مُجمله جسر على جغرافيات جنوب أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة (على نحوٍ يُصوِّر تجوال الكاتب نفسه) في محاولة للإجابة عن سؤال: «لِمَ ينتمي المواطن الجنوب أفريقي؟» وبالرغم من أنَّ الكتاب لا يُقدِّم إجابة، فإن «مفاليلي» نفسه فعل ذلك؛ إذ إنَّه عاد إلى جنوب أفريقيا قبل انتهاء الاضطهاد العنصري، وكان بعض رفاقه يعتبرونه قَبِل بمساومة مُذِلَّة، وكأنه أقرَّ في النهاية بأنَّ التفرقة والاضطهاد ليست سيئة إلى ذلك الحد. وإذا كانت الحكومة لم تُسكِته، بعد عودته في ١٩٧٧م، فإنه «كَمَّ» نفسه بنفسِه، وهناك أيضًا، مَن عادوا إلى بلادهم الحبيبة بعد أن أصبح «نلسون مانديلا Nelson Mandela» رئيسًا ليكتشفوا أنَّ أعمالهم الأولى كانت مؤسَّسة على الهجوم على الاضطهاد العنصري، والتفرقة، وبمجرد أن انتهى النظام، لم يكن هناك تقريبًا ما يكتبون عنه.
الرقابة الواسعة والقائمة الطويلة، بالأعمال الممنوعة في جنوب أفريقيا كانت تضم مئات العناوين، لكُتَّاب من داخل البلاد، وكل أعمال كُتَّاب آخرين، ومئات الأعمال أيضًا لكُتَّاب من العالَم، كان الرُّقباء يرون أنها تهدد النظام، كما كانت أعمال الكُتَّاب الأمريكيين من أصول أفريقية ممنوعة أيضًا «ريتشارد رايت Richard Wright»، و«جيمس بولدوين James Baldwin»، بالطبع، وأعمال فردية للكُتَّاب البيض «تينسي وليمز Tennessee Williams»، و«إيرنست هيمنجواي Ernest Hemingway»، و«روبرت جريفز Robert Graves»، و«جون أبدايك John updike»، و«روبرت بن وارين Robert Penn Warren»، و«كورت فونجت Kurt Vonnegut»، و«جان بول سارتر Jean-Paul Sartre»، و«ألبرتو مورافيا Alberto Moravia»، و«كارلوس فوينتس Carlos Fuentes»، و«نيكوس كازانتزاكس Nikos Kazantzakis»، وعشرات غيرهم. في ظل سياسة التمييز العنصري Apartheid، لم يكن مسموحًا بالتلفزيون؛ خوفًا مما قد يشاهده الأفارقة عليه، كما كانت عشرات — إن لم يكن مئات — الأفلام الغربية تخضع لعمليات الرقابة، وأحيانًا بغباء شديد، مثل منع فيلمي: Black Beauty، وThe Return of the Native، وفي كتاب بعنوان The Apartheid Handbook (الطبعة الثانية، ١٩٨٦م)، يقدِّم لنا «روجر أوموند Roger Omond»، مثالًا مُضحكًا (وسخيفًا لغرابته)، وهو ما تم بالنسبة للفيلم الموسيقي The King and I، «ففي الخمسينيات والستينيات تم تغيير البوسترات (الملصقات الإعلانية)، لتظهر فيها البطلة «ديبورا كير Deborah Kerr»، في أحضان ظل باهت، بينما كانت في الملصق الأصلي في أحضان «يول براينر yul Brynner»، الذي كان يقوم بدور ملك سيام: السياميون آسيويون، وكان الملصق يعتبر مخالفًا لقانون حماية الأخلاق الذي يمنع اختلاط الأجناس.» (p. 244.)
وأثناء فترة حكم «هيستنجز كاموزو باندا Hastings Kamuzu banda»، في دولة «مالاوي» القريبة، كانت الرقابة على كُتَّاب البلاد صارمة، وشاملة، مثل تلك التي كانت تفرضها حكومة الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا؛ إذ كان على المحررين، والناشرين أن يقوموا بتسليم المواد التي يريدون نشرها إلى هيئة الرقابة. وفي هذا السياق، يقول «جيمس جبس James Gibbs»، الذي كان يقوم بالتدريس في جامعة مالاوي، في الفترة من (١٩٧٢–١٩٧٨م)، إلى جانب اشتغاله بالإخراج المسرحي: «بالإضافة إلى ضرورة الموافقة على المسرحية (قبل تقديمها)، كان ينبغي أن يحصل كل مسرح على ترخيص، وأن يحصل كل عرضٍ على إذْن في كل مرة.»
(“Experiences of Censorship and Theatre in Malawi”, 1958, pp. 69-70.)

كما كانت هيئة الرقابة تقوم بشكل روتيني، بمنع أعمال مثل:

«في انتظار جودو Waiting for Godot»، و«سيدة ستشوان الطيبة The Good Woman of Setzuan»، وكذلك أية مسرحية ﻟ «وولي شوينكا»، التي كان الرقيب يعتبرها ضد الرئيس «باندا» بالتحديد.
كان الرقيب يستهجن رغبة «جبس» في تقديم مسرحيات أفريقية، «بينما هناك مسرحيَّات لشكسبير، ودكنز، وتينسون، لا تُقدَّم كثيرًا»: وكما يشير «جبس»: «كان الرقيب يؤكِّد لي أنه وافق على مسرحيات لمثل أولئك الكُتَّاب دون أن يكون عليه أن يقرأها، وكان يحُثُّني على نحو خاص، على إخراج «جزيرة الكنز Treasure Island»، التي كان قد شاهدها في بريطانيا، واستمتع بها تمامًا! (“Of Kamuzu and Chameleons”, 1982, p. 77)» أمَّا القضية الرئيسية وراء الرقابة على المسرح، فكانت — كما يقول جبس — هي الكاموزويزم – Kamuzuism:٢
«مالاوي بلد لا أمل فيه للفنان، إذا حاول أن يتحدَّى القوة المطلقة للدولة، ويتشامخ على شعار الكاموزويزم»، مالاوي لها بطلُها القومي الذي أسَّس مسرحًا وطنيًّا ضخمًا يقف عليه نجمًا وحيدًا، البطل ذو القُبَّعة العالية، يلوح بعظمة، بمذبَّة الذباب لآلاف النسوة اللائي يرقصن أمامه، وآلاف النسوة اللائي يرقصن خلفه، وإلى آلاف الوزراء والمسئولين، الذين يتحلَّقون حوله أينما ذهب، صفوف من الأعلام (التي يرفعها سُجناء في كثير من الأحيان) تحدد طريقه وكلماته الهادئة المعسولة تلتقطها مكبِّرات الصوت لتنفخ بها في السماعات، وآلاف أجهزة الراديو، والويل والثبور لمَن يحاول أن يخفض قوة الصوت. لا أمل للكاتب المسرحي، في أن يناطح أو يُعارض هذا المقام المتنقل، هذه المؤسسة القومية، هذه الشريحة من التاريخ … (p. 81).
«ستيف شيمومبو Steve Chimombo»، الذي بقي في مالاوي أثناء سنوات حكم «باندا»، مما أثار غضب بعض زملائه، يقول:

كنت مُستهدَفًا باستمرار من الرقابة الحكومية، بكل صورها، لمجرَّد أنَّني كنت — وما زلت — كاتبًا مسرحيًّا، وشاعرًا، وناقدًا، وروائيًّا، كنت أعمل محررًا لصحيفة أكاديمية، توقفت، وأعمل الآن محررًا لصحيفة جديدة عن الفنون، وفي كل مرة كنت ضحية لقمع الرقباء، وترويع الفنانين، الوجود القوي والمتغلغل للرقابة، كان يعني توقفي عن الإبداع كإنسان حُر، وابتداءً من انتهاك خصوصية غرفتي أو مكتبي، كان عليَّ أن أُصارع الرقابة الذاتية أيضًا: هل ستسمح هيئة الرقابة بذلك؟ كيف سيكون موقفها من هذه العبارة، أو الفقرة، أو من هذا السطر؟ كنت أُجبِر نفسي على التوقف أحيانًا، بعد أن جفَّ نبع الإبداع، وحتى إذا كتبت مرَّة أخرى، لم يكن هناك أمل في أن يرى ما كتبْتُه النور.

(“Thirty Years of Writing under Banda”, 1996)

ويصف «شيمومبو»، على نحوٍ تفصيلي القيود الكثيرة التي كانت مفروضة على الكُتَّاب، والصحفيين وغيرهم في فترة حكم «باندا»، عندما كان السفر إلى الخارج مستحيلًا دون إذن رسمي، ووجود شبكة من المخبرين السريين جعلت الناس يرتابون في أقرب الأقارب وفي أفراد أُسرهم كما كانت الرسائل الخاصَّة تُفتح بشكل روتيني — هذا إذا سُمح بتسليمها لأصحابها — ثم يُعاد لصقها بشريط مكتوب عليه «فُتح بمعرفة حكومة مالاوي»، أمَّا الأعمال الأدبية، التي كانت تحصل على موافقة بنشرها، فكان يُمكن أن تُمنع بعد ذلك، أمَّا الأجانب (ومعظمهم من الأكاديميين) فكان يمكن ترحيلهم من البلاد فجأة، بينما يُلقَى بالمواطنين في غياهب السجون، وحدث أن منعوا كتابًا عن عِلم البيئة بسبب الكلمة الأولى في عنوانه «الثورة الخضراء»، وكان الكثير من هذه الأساليب نفسها موجودًا في جنوب أفريقيا في مرحلة «الأبارتايد» — التمييز العنصري — إلَّا أنَّ رئيس مالاوي كان أفريقيًّا، كما يشير «شيمومبو» أيضًا إلى أنَّ الرقابة تبدأ بالكاتب نفسه؛ فحيث يوجد خطر الرقابة، يقوم هو بأول حذف «قبل أن يكتب»، كأن يتجنَّب تضمين رواية أو مسرحية مشهدًا ما. الجو العام في الكونغو، وأوغندا، وسيراليون، وليبيريا، ونيجيريا، والسودان — وهي دول كانت توجد بها أنظمةٌ سيكوباتية أحيانًا — لم يكن يشجع على الإبداع، من أي نوع.

ولو افترضنا أن عملًا قد تمَّ إنجازه فلا بد من أن تأتي بعد ذلك درجة أخرى من الرقابة وهي الحذف أو التعديل الضروري قبل النشر، وكنا قد أشرنا إلى استعداد بعض الناشرين الأفارقة لتسليم أعمال إبداعية إلى الدوائر الحكومية مسبقًا لضمان ألَّا يكون بها ما يُسيء، أو ما يُحتمَل أن يُعطِّل الموافقة على الكتاب في السوق التعليمية، والقضايا هنا ليس بالضرورة أن تكون أيديولوجية، وإنما قد تكون دينية، وأحيانًا جنسية، كما أنَّ الناشرين خارج القارَّة، يمارسون شكلًا آخر من الرقابة قبل النشر، عندما يحاولون أن يجعلوا الكتابة الأفريقية، متَّسِقة مع قوالب ونماذج مقبولة ومتوقَّعة. (ليست أفريقية بما يكفي! كم كاتب غربي رُفضَت أعماله لأنها لم تكن غربية بما يكفي؟!)

إحدى درجات الرقابة الموجودة في الولايات المتحدة — مثل إلغاء بعض النصوص من المقررات الدراسية، بسبب اعتراضات من أولياء الأمور المحافظين، أو أعضاء في مجالس إدارات المدارس — يبدو أنها لم تصِل بعدُ إلى شواطئ القارَّة الأفريقية، ولكن كانت هناك على أية حال صورة أخرى من صور الرقابة — إذا رجعنا إلى الفترة الاستعمارية — عندما كانت المدارس الدينية تقوم بفحص المواد الموجودة في مكتباتها الهزيلة ولا تشتري لها سوى الأعمال التي ترى أنها أخلاقية.

السجن

غالبًا ما كانت الرقابة مترادفة مع التعذيب والسجن أو على الأقل مع التلويح بهما، وحالة الكاتب الأفريقي الأبيض «بريتين بريتنباخ Breyten Breytenbach»، تصوِّر على نحو مذهل أسباب فرار كثير من كُتَّاب جنوب أفريقيا قبل أن يوضعوا في السجون.٣ ربما تكون القصص الطويلة عن تعذيب السجناء السياسيين قد استُخدمت كوسيلةٍ للرَّدع؛ فلماذا البقاء في الوطن ودخول السجن في آخِر الأمر عندما يكون هناك بديل وهو المنفى بالرغم من عدم وجود فرصةٍ للعودة؟ ومرةً أخرى، نجد جنوب أفريقيا، ومالاوي، تتصدران قائمة الدول، التي يوجد بها سجناء سياسيون، بمَن فيهم الكُتَّاب المبدعين.
حالة الشاعر المالاوي «جاك مابانجي Jack Mapanje»، الذي قضى في السجن حوالي أربع سنوات، هي واحدة من أسوأ هذه الحالات، بقيت زنزانته يغمرها الماء حتى ركبتيه لمدة أربعة أشهر وكان من المتعذر عليه أن ينام، وحتى اليوم يجد صعوبة في المشي، هذه التجربة تعبِّر عنها قصائدُه في مجموعته الصادرة عام ١٩٩٨م، بعنوان «Skipping Without Ropes القفز دون حبال» بالرغم من أنها قد لا تكون ذاتية بشكل مباشر، مثل القصة التي يُقال إنَّه يكتبها، وفي أُمسية شِعرية في مقهى الكُتَّاب في هراري أثناء معرض زيمبابوي الدولي للكتاب (١٩٩٨م)، أشار «شنجيراي هوف Chenjerai Hove»، إلى محنة وعذابات «مابانجي Mapanje» كمثال على ما أصاب عددًا كبيرًا من الكُتَّاب الأفارقة بقوله: «معظمنا لهم تاريخ مرعب» (٧ أغسطس ١٩٩٨م).
سجن الكُتَّاب الأفارقة كانت عملية متكررة، ومنتشرة بالدرجة التي أدَّت إلى ظهور جنس أدبي فرعي، وهي قصص وتقارير، وحكايات طويلة كتبها المبدعون (مثل وولي شوينكا، ونجوجي وا ثيونجو، وكين سارو-ويوا)، الذين قضوا فترات في سجون بلادهم، كما كتبوا قصائد وقصصًا قصيرة، وروايات، عن هذه التجربة المؤلمة، ومن بين هذه الأعمال Mating Birds (١٩٨٦م) ﻟ «لويس نكوسي Lewis Nkosi»، وThe Prisoner Who Wore Glasses (١٩٧٣م) ﻟ «بيسي هيد Bessie Head»، وThree Days on the Cross (١٩٩١م) ﻟ «واهوم ميوتاي Wahome Mutahi»، وLemona’s Tale (١٩٩٦م) ﻟ «كين سارو ويوا»، التي نُشرت بعد إعدامه، والمجموعة الشِّعرية Letters to Martha (١٩٦٨م) ﻟ «دينيس بروتس Dennis Brutus»، ومن بين «خريجي السجون» كذلك (بتعبير كوامي نكروما Kwame Nkrumah)، هناك «موليف بيتو Molefe Pheto»، و«كوفي أوونر Kofi Awoonor»، و«جيمس ماتيوز James Matthews»، و«تود ماتشيكيزا Todd Matshikiza»، و«ميكيري موجو Micere Mugo»، و«بيرسي متوا Percy Mtwa»، و«لويس برناردو هونوانا Luis Bernardo Honwana»، و«رينيه فيلومبي René Philombe».
إحدى حالات سجن الكُتَّاب الأفارقة المثيرة للقلق والإزعاج هي حالة «وولي شوينكا» الذي سُجن من أغسطس ١٩٦٧م إلى أكتوبر ١٩٦٩م، وقد سجَّلها في واحد من أهم كُتبه، وهو The Man Died (١٩٧٢م) في بداية الحرب الأهلية في نيجيريا (حرب بيافرا)، نشر «شوينكا» رسالة في الصحافة النيجيرية يشير فيها إلى ما يعتبره «عبثية هذه الحرب»، وكان نُقَّاد الأدب، يتوقَّعون أن يكون «شوينكا» أقرب إلى «الإيبو» ولو بالفكر منه إلى الفيدراليين، بمَن فيهم شعب اليوروبا، الذي ينتمي إليه، وفي أغسطس ١٩٦٧م، قام «شوينكا» بزيارة خاطفة إلى «إينوجو Enugu»، للقاء الكولونيل «أوجوكوي Ojukwe» القائد الانفصالي في محاولة لمنع الأعمال العدائية الوشيكة بين الجماعتين، وفي ١٧ أغسطس أُلقي القبض عليه في «أبادان»، وبعد شهرين، أعلن المفوض الإعلامي الفيدرالي (Chief Anthony Enahoro)، أنَّ «شوينكا» قد اعترف بمساعدة متمردي بيافرا لشراء طائرات قتالية وقلب الحكومة الفيدرالية.
أنكر «شوينكا» الاتهام الموجَّه إليه، ولكنهم اقتادوه إلى سجن في «كادونا»، في نيجيريا الشمالية؛ حيث تم احتجازه لمدة عامين، قبل أن يُطلق سراحه. لم تُجرَ محاكمة له، وترددت في تلك الفترة شائعات كثيرة عن مرضه، وعن موته في السجن. معظم هذه الفترة، قضاها في سجن انفرادي، محرومًا من أدوات الكتابة، ولكنه كتب قصائد (نُشرت بعد ذلك بعنوان «قصائد من السجن» في سنة ١٩٦٩م)، و«الرجل مات The Man Died»، وقد كتبها بين سطور الكتب التي كانت تُهرَّب إليه في زنزانته.
بعد إطلاق سراحه في أكتوبر ١٩٦٩م عمل بالتدريس في «أبادان»، ولكنه سرعان ما غادر نيجيريا؛ حيث عمل في مشروعات مختلفة عدة سنوات في أوروبا، والولايات المتحدة. في تعليق مختصر في بداية روايته The Man Died، التي نشرها بعد الإفراج عنه بثلاث سنوات تقريبًا، يقول «شوينكا»: إنَّ فترة سجنه، كانت تنطوي على «أشد الإجراءات والاحتياطات الأمنية الصارمة، التي اتُّخذت ضد أي سجين في تاريخ سجون نيجيريا.» (p. 8) ويقول: إنَّه لن يذكر أسماء مَن ساعدوه أثناء هذه الفترة (ربما يكون بعضهم ما زال يعمل في حراسة السجن)، كما يقدِّم تفسيره الخاص، لأسباب الزج به في السجن.

القبض عليَّ، وتلفيق الاتهام ضدي، كانا أمرَين مختلفَين تمامًا، الأمر الأول، كان بسبب الأعمال التالية: إدانتي للحرب في الصحافة النيجيرية، زيارتي للشرق، محاولتي تجنيد مثقفي البلاد في الداخل والخارج كجماعة ضغطٍ للعمل من أجل فرض حظر شامل، على توصيل السلاح إلى أي مكان في نيجيريا، إنشاء قوة ثالثة، يمكن أن تستغل الورطة العسكرية، واستنكار وإنهاء انفصال بيافرا، ودكتاتورية الجيش التي جعلت كلًّا من الانفصال والحرب حتميين.

أمَّا تلفيق الاتهام ضدي، فكان بسبب ما كنت أقوم به في السجن، وقد كانوا على وشك تصفيتي عندما كتبتُ رسالة، وهربتها من «كيري-كيري»، تفضح سياسات حكومة «جاوون Gowon»، وعرف بها المذنبون والخونة الحقيقيون، فحاولوا أن يضيفوا إلى خياناتهم مؤامرة على حياتي. (p. 18)
في البداية سُجن في «أبادان» ثم في «لاجوس» بعد ذلك نقلوه إلى سجن أكثر صرامةً في «كادونا»؛ حيث أمضى ثمانية عشر شهرًا، من الأشهر السبعة والعشرين، و«طبقًا لقانون الطوارئ» (p. 27) كان يُقيد بالسلاسل أحيانًا ولكنه كان يعرف ما يحدث للسجناء الآخرين وما يدور في السجن. يقول إنَّه عندما كان لا يزال في لاجوس، كان هناك حظر على كل الأخبار من الخارج، وأنه كان قد بدأ «يفقد القدرة على التمييز بين الواقع والخيال.» (p. 80) فقدَ كل الشهية للطعام والماء: «فقدتُ الإحساس بالزمن، وتحوَّلتُ إلى حجر.» (p. 80) كان هناك آخرون من «الإيبو»، في سجن لاجوس، وكانت كل جريمتهم هي أنهم «إيبو»! في ذلك الوقت، كان «رهاب الإيبو» (p. 111) منتشرًا في أرجاء البلاد.
في سجنه الانفرادي في كادونا، وبالرغم من عدم السماح له بأدوات الكتابة، كان بإمكان «شوينكا» أن يستعير الكتب من مكتبة السجن المتواضعة، وبعد أن قرأ كل العناوين الموجودة بها في تسعة أيام بدأ يشعر بفقدان الواقع من حوله، وكأنه قد دُفن حيًّا. وبعد وقت قصير، ونتيجة لفترات متكررة من الصيام، بدأت نوبات الهلوسة؛ فكان يتخيَّل الذين عرفهم في حياته، وكأنهم معه في الزنزانة (مثل الشاعر «كريستوفر أوجيبو Christopher Okigbo»، الذي مات في بدايات الحرب الأهلية)، ومعظم الوقت الذي قضاه في السجن كان مريضًا بالحمَّى، ويعاني من مضاعفات في مرض عينيه، وعندما زاره طبيب آسيوي في إحدى المرات خدعه «شوينكا» بأن جعله ينظر إلى السقف، ونشل قلمه الجاف من جيبه. (p. 190.)
بدأت أسوأ فترات محنته في السنة الثانية من وجوده في «كادونا»، رغم صعوبة وصف تفاقم مشكلاته وتردِّي صحته بسبب الصيام. مرَّة يُخيَّل له أن «هتلر Hitler» معه في الزنزانة، ومرَّة أخرى يتصوَّر «ألبرت شفيتزر Albert Schweitzer»، ومرَّة يتساءل ما إذا كان قد أصبح «حاملًا»، بسبب تغيُّر شكل جذعه تمامًا. «حملي يبدأ من بعد السُّرة مباشرة، وهو صلب كالحجر، صغير ومُدمج، يبدو أنني أحمل بداخلي بيضة كبيرة … موجودة تحت جلدي مباشرة، وهذا أمر غريب، لأنَّ بقية جسدي جلد وعظم.» (p. 212) وفي رسم غريب لنفسه، نُشر مع النَّص بعنوان «فحم على ورق تواليت» (p. 227)، يبدو «شوينكا» كالمجنون، وهو جالس في أحد أوضاع اليوجا، وهذا الرسم يصوِّر مدى الاشمئزاز الذي كان يشعر به من حالة ومنظر جسده.
كان يقضي مُعظم وقته في السجن في نشاط يحاول به أن يُحافظ على عقله يقِظًا. من قِطع الورق والخيوط كان يُشكِّل سيارات ويراقب حياة الحشرات، والسحالي، بدأب واهتمام عالِم مُجرِّب، ويُشارك في مسائلَ رياضية لا تنتهي «قُمتُ ذات مرَّة، بكتابة كل الاحتمالات، التي يمكن أن تكوِّنها ستة أرقام» (p. 244). ومن قصَبة نبات عبَّاد الشمس، صنع ذات مرَّة «فلوت»، ولكن المحاولة لم تنجح تمامًا، وفوق ذلك كله، يستمع إلى الأصوات — أي أصوات إنسانية — من بقية أرجاء السجن، وأحيانًا كان يسمع أصوات السُّجناء الآخرين أثناء عمليَّات التعذيب وفي مرحلة واحدة على الأقل من مراحل سجنه، كان يعتقد أنه قد انتصر على مشكلة «صُنع أي شيء من اللاشيء»، «كان لديَّ الوقت، كنت أستيقظ في الصباح على مشكلة، وبعد دقيقة، دقيقة واحدة بمعنى الكلمة، أجد الحَرس يدق الباب مُعلنًا مرور ساعة من فترة السجن، كنت أحطم الزمن.» (p. 144.)
بالرغم من كل هذه «التحولات»، فإن القضية الأكبر في رواية The Man Died، تظل هي عملية الموت البطيء التي كان «شوينكا» يمر بها في السجن؛ فموت العقل هو الذي يحطم الكاتب. كان العنوان الأصلي للكتاب: «قتل بطيء»، ولكن «شوينكا» غيَّره بعد أن قرأ رسالة كتبها «جورج مانجاكيس George Mangakis» (أحد الأساتذة اليونانيين ممن سجنتهم الدكتاتورية في بلادهم)، وبعد أن عرف بوفاة أحد رفاقه النيجيريين، من مضاعفات «الغنغرينا». لا توجد عبارة تصف ما حدث له أصدق من عبارة «الرجُل مات»، وهو الاعتقاد الذي يتردد صداه في كل الكتاب، كما توجد في آخِر الكتاب أيضًا، جُملة موجزة تلخِّص الوضع المهين، لأي سجين، وهي أنَّ «السجين ليس بشرًا» (p. 279)، وإن كان … فللحظات خاطفة.
إحدى هذه اللحظات، وقعت قبل أشهر معدودة من إطلاق سراحه، عندما سُمح لزوجته بزيارته، فرَشَت سُلطات السجن الزنزانة، وزوَّدته بورق للكتابة (رزمة ٥٠٠ ورقة)، وأقلام، وآلة كاتبة … حتى ورق الكربون … كما زوَّدته بكُتب، وجرائد جديدة … «جديدة بنار الفُرن»، كما يقول. (p. 279)، ولكنَّ الورق بالنسبة له، كان أهم الأشياء، وأكثرها إثارةً لمشاعره:
كيف يمكن أن أصف ورقة كتابة نظيفة … بِكر؟! كيف أصف مساحة بيضاء لم يلمسها أحد، ولا تحمل أي علامات وخالية من التجاعيد؟! كيف أصف شعوري بذلك؟ هل أقول إنَّها تُشبه الربيع … تشبه الواحة التي تظهر بعد تبدُّد الأمل والتصاق اللسان بجذوره؟ هل أقول إنَّها مثل النبيذ؟ لا! حتى النبيذ الذي يجيء بعد سنوات من الحرمان لا يمكن أن يكون له رائحة هذه الورقة بنقائها المصون، فلأشبهها إذَن بصبية جميلة تلمع الكتابة عليها لمعان الأقراط الفضية، بشقيقة صغيرة أحلى وأنقى من أي فتاة، ترتدي ثوب الزفاف، لم تكُن ورقة واحدة، بل مئات، وكنت أجلس أمامها لكي أرقِّمها، واحدة تلو الأخرى: ٥٠، ٥١، ٥٢، ٥٣، ٥٤ … ١٠٣، ١٠٤، ١٠٥ … ٢٠٧، ٢٠٨، ٢٠٩، كان عملًا مُضنيًا. أكتب الأرقام بخطٍّ بالغ الدقة، في ركن أعلى كل صفحة، وكان ذلك أيضًا شيئًا سخيفًا. كانت فكرة الترقيم، لكي يضمنوا أنَّني لن أستخدم هذه الأوراق، في غرض آخَر غير مصرَّح به … كأن أكتب عليها رسائل من السجن مثلًا، وكان الضابط يقف على رأسي وأنا أقوم بهذا العمل الغريب، وبعد رقم ٢١٩، عُدت إلى رقم ١٢٠ وهو خطأ قد يبدو غير مقصود، وقد يبدو طبيعيًّا، لو أنهم اكتشفوه … ولم يكتشفوه … وفي النهاية وصلنا إلى رقم ٣٧٥، فطلبت من الضابط أن يبلغ قائده أنَّ الرزمة لم تكُن ٥٠٠ ورقة، وأنني لم أحاول أن أقول ذلك، إلَّا بعد التأكد منه «ولكن ألم تلاحظ أنَّ الرزمة كانت مفتوحة؟» وبعد أن خرج الضابط بدأت أفرز الأوراق التي كانت تحمل الأرقام المكررة، وهكذا اعتمدوا العدد على أنه ٣٧٥ ورقة. (p. 278)
«بعد ساعة من مغادرة زوجته للسجن جاءت مجموعة من الحرَّاس، وأخذت كل شيء … كل شيء!» (p. 280)، وهكذا كانت العودة إلى اللاشيء! إلَّا أنَّ «شوينكا» حاول بشكل غير قانوني أن يكتب بين سطور الكتب القليلة التي كان مسموحًا له بها مستخدمًا في ذلك القلم الجاف الذي سرقه من جيب الطبيب الآسيوي وكان ذلك هو سلامه العقلي، في وجه الجنون.
سنوات السجن كسرت في «وولي شوينكا» ما هو أكثر من روحه! صحيح أنه أصبح أول كاتب أفريقي يحصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٨٦م)، ولكنَّه في ذلك الوقت وبعده كان قد أصبح أيضًا جوَّالًا أفريقيًّا يقضي في الخارج وقتًا أطول مما يقضيه في وطنه، وعندما جاء الجنرال «أباشا Abacha» إلى السلطة — لكي تتضاءل آمال نيجيريا في الديمقراطية — كان «شوينكا» قد عاد للتدريس في «أبادان». «شوينكا» الصريح دائمًا، والنَّشِط السياسي كل الوقت، كان مضطرًّا للفرار من بلاده، بعيدًا عن فِرَق الاغتيالات التابعة للجنرال. هرب بجواز سفر مزوَّر، ورصد «أباشا» مكافأة بعد ذلك مقابل حياته. هكذا، حتى خارج نيجيريا، كان عليه أن يكون حذِرًا في كل تحركاته، وأن يعيش حياة أشبه بحياة «سلمان رشدي»، ولو بشكل مؤقت. بعد الحرب الأهلية النيجيرية، اتجهت طاقته الإبداعية نحو التراجيدي، مثل Madmen and Specialists (١٩٧١م)، ونحو التعليق السياسي، مثل The Open Sore of a Continent، التي جاء ذكرُها قبل ذلك. «شوينكا» الذي كان يُعرَف بأعماله التراجيدية، والكوميدية، الرائعة، (The Lion and the Jewel and the Jero Plays)، وبعدد من قصائده، «شوينكا» هذا، كَتب عن الجوانب المُعتمة في جنون بلاده. «شوينكا» القديم مات في زنزانته الضيقة، في ذلك السجن، في «كادونا».
هناك أوجه شبه كبيرة، بين سجن «نجوجي وا ثيونجو» في كينيا، وسجن «شوينكا» في نيجيريا، مع بعض الاختلافات. في منتصف ليلة ٣٠ ديسمبر ١٩٧٧م أُلقي القبض على الكاتب في منزله في «ليمورو»، وفي اليوم التالي تم اقتياده إلى سجن «كاميتي»، وقد كتب عن هذه التجربة — السجن لمدة سنة — في Detained: A Writer’s Prison Diary، بعد أن أُطلق سراحه في ١٢ ديسمبر ١٩٧٨م، «نجوجي» لم يوضع في سجن انفرادي، بل كان بإمكانه الاتصال بغيره من السجناء، وبالرغم من أنه كان ممنوعًا من الكتابة، مثل «شوينكا»، كان يكتب على ورق التواليت وعلى قصاصات كان يحضرها له بعض العاملين بالسجن. كان لدى «نجوجي» مادة كافية للقراءة، بما في ذلك الإصدارات الإخبارية الدولية، وبالإضافة إلى قيامه بتسجيل مذكرات عن سجنه، كتب Devil on the Cross، التي نُشرت بالجيكويو في كينيا في سنة ١٩٨٠م، إلى جانب عددٍ من الأعمال الأخرى بلغته القَبَلية.
كانت اللغة، إلى حدٍّ ما هي التي أوقعت «نجوجي» في مشكلة في المقام الأول؛ إذ كان معروفًا بحملته دفاعًا عن اللغات الأصلية عندما كان رئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية في جامعة نيروبي، وكان يرى في استخدام الإنجليزية تعبيرًا عن الاستعمار الجديد. كان «نجوجي» مرتبطًا لدرجة التماهي بفقراء الطبقة العاملة، ويبدو لي أنه — وذلك من حقِّه المشروع — كان يريد أن يكون الكينيُّون قادرين على قراءة الأدب بلغاتهم: «ليس أمام الكُتَّاب في كينيا سوى أن يعودوا إلى الجذور إلى منابع وجودهم في إيقاع الحياة، وحديث ولغات الجماهير الكينية، إذا كانوا يريدون أن يرتفعوا إلى مستوى التحديات الكبرى للإبداع في أشعارهم، ومسرحياتهم، ورواياتهم، لتكون معبِّرة عن عظمة هذا التاريخ.» (Detained p. 196.)
كان الحدث الذي أدى إلى القبض عليه، عرض لمسرحية (سوف أتزوج عندما أريد Ngaahika Ndeenda) بالجيكويو، بواسطة مجموعة من العمال والفلاحين من «ليمور»، لجمهور عريض، متحمس ومتعطش، في المركز الثقافي التعليمي في «كاميريثو Kamirithu» (pp. 174-175).
ويتساءل: ماذا كانت جريمته في أن يكتب بلغة كينية؟ في أن يضم ساعده إلى سواعد الفلاحين، لبناء مسرح كيني وطني حديث؟ للتواصل مع عدد قليل من الفلاحين (p. 143). «في حالتي فإن أسباب اعتقالي غير المعلنة، هي معارضتي الدائمة للسيطرة الأجنبية على اقتصادنا وثقافاتنا للاستعمار الذهني للطبقة البرجوازية الحاكمة الذي يجعلهم يثقون ثقة أطفال في الأجانب، وخاصة إذا كان أولئك الأجانب رأسماليين بريطانيين، أو أمريكيين» (p. 174). قبل ذلك كان «نجوجي» قد نشر «بتلات الدم Petals of Blood» (١٩٩٧م)، وهي هجوم على الاستعمار الجديد والمؤسسات متعددة الجنسية التي كان بعضها يحاول تملُّق الحكومة الكينية.
في معظم الأحوال، كان «نجوجي» يرى نفسه جزءًا من جماعة كبيرة مُضطهَدة، وهكذا، «فإن سَنة واحدة في سجن «كاميتي»، علَّمتني ما كان ينبغي أن يكون واضحًا بالنسبة لي، وهو أنَّ نظام السجن، سلاح قَمعي في يد قلَّة تحكم، كلها تصميم على تحقيق أكبر درجة من الأمان، لدكتاتورية طبَّقتها على بقية الشعب» (p. 4). لم يكن سجن «نجوجي» قضية خاصَّة، «إنَّه جزء من تاريخ طويل من المحاولات، لتربية الشعب الكيني في ظل ثقافة رجعية من الصمت والخوف، جزء من كفاح الشعب الكيني الضاري، ضدهم، لخلق ثقافة شعبية، ثورية، شجاعة، وبطلة» (p. 28). أمَّا الأسوأ من ذلك، فهو أنَّ «الاعتقال دون محاكمة جزءٌ من تجربة الخوف الاستعمارية (p. 44)، التي يطبِّقها الكينيون الذين جاءوا إلى السلطة على مواطنيهم، بعد عامين تقريبًا من الاستقلال، أمَّا بالنسبة لقضية اللغة، فإن التوجُّه في رحلة ما بعد الاستعمار أيضًا ليس سوى امتداد للوضع الاستعماري نفسه.»
«كان المستوطِن يحتقر لغات الفلاحين، التي يصفها بالعامِّية أو بلغات العبيد، بينما يعتقد أنَّ الإنجليزية مُقدَّسة، وكان تلاميذهم يتمادون في هذا الاحتقار؛ فكان من أوائل الأشياء التي فعلوها عندما تولوا أمر التعليم أن حظروا اللغات الأفريقية في المدارس، واعتمدوا الإنجليزية وسيطًا للتعليم من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية، وكان العقاب البدني دائمًا من نصيب مَن يُضبطون متلبسين بالكلام بلغاتهم الأصلية في بعض المدارس، كما كانوا يدفعون غرامات عن ذلك، أمَّا كبار الموظفين والقيادات فكانوا يغضبون عندما يُخطئ الأفارقة في النطق بالإنجليزية، ويتباهون بأنهم لا يجيدون التحدث بلغاتهم الأفريقية، وفي بعض المصالح الحكومية كانت إجادة الإنجليزية مثل أصحابها هي المعيار الوحيد للحصول على وظيفة أو للترقي، ولمَّا كان عدد مَن يجيدونها مثل أصحابها قِلَّة، كان الإنجليز هم الذين يحصلون على الوظائف، وهم الذين يُرَقَّون في المناصب المهمَّة.» (p. 59)
في حالة «نجوجي» إذَن، فإن اللغة لا تصنع تميُّزًا طبقيًّا فحسب، وإنما تؤدي إلى السجن كذلك، وهو إذا كان يكتب عن رتابة الحياة في السجن، وعن المتاعب الصحية التي عانى منها، هو وغيره من السجناء، وعن الرائحة الكريهة والنتنة للسجن نفسه، فإن حُجَّته الرئيسية هي أن السجن رمز للاستعمار، وأنه المعبِّر الصحيح عنه. لم يتغيَّر الأمر كثيرًا بالنسبة لأولئك في مستوطنة العقاب، سوى أنَّ الكاتب أصبح يرى ويفهم وضعه في كينيا، في مرحلة ما بعد الاستعمار على نحو أكثر وضوحًا (مُدركًا أن في ذلك جمعًا بين نقيضَين).
«كنت وأنا طليق أنظر إلى وضعي من خلال غشاوة. في السجن أصبحت أرى في ضوء مصباح في زنزانتي بقوَّة مائة واط، يحرمني النوم، أصبحت أرى في الضوء الأقوى المنبعث من عيون أفراد الحراسة، وصلصلة المفاتيح في أياديهم، الحرَّاس الذين حرموني كل خصوصية في الأكل والاغتسال … حتى في قضاء الحاجة، أصبحت أرى وضعي في ضوء الطعام، الذي يصيبني بالغثيان، والذي لا بد من أن أدفعه في حلقي دفعًا، أراه في ضوء هذا البيت الكئيب حديقة الحيوان البشرية، حيث لا أرى طول الوقت، سوى الحجارة، والتراب، وقضبان الحديد، أصبحت أرى وضعي في استخدام الشرطة الفظ للمرض كوسيلة للتعذيب، أراه في الضوء المبهر للامتهان الذي لا نهاية له والذي يهدف إلى تجريدي من البقية الباقية من إنسانيتي، مثل تكبيلي بالسلاسل، كشرط لإرسالي للعلاج في مستشفى، أو تقييدي، كشرط لرؤية أسرتي، وفوق ذلك، فإنني أرى وضعي، في ضوء معرفتي واقتناعي التام، بأنَّ القوى التي سارعت لإلقاء القبض عليَّ واعتقالي، هي القوى ذاتها، التي تقتل الديمقراطية، والحرية الإنسانية، في هذه البلاد.» (p. 187)
عندما مات «جومو كينياتا Jomo Kenyatta»، كان «نجوجي» وغيره من السجناء يُمَنون أنفسهم بعفو عام يُخلِّصهم من السجن، ولكنَّ ذلك لم يحدث. الهمُّ الرئيسي للسجين السياسي المعتقَل — على خلاف المجرمين العاديين المحكوم عليهم بفترات محددة — هو طول فترة الاعتقال؛ فهو «لا يعرف متى يخرج» (p. 140)، أي إنَّ السجين السياسي لا يُطَبَّق عليه أي إطار زمني، وهو وضع لا يمكن احتماله، ولكن «نجوجي» كان يجد السلوى على أية حال في كتابات غيره من السجناء، وخاصَّة «وولي شوينكا» (هناك إشارات مباشرة إلى The Man Died في مذكراته Detained)، وقصائد «دينيس بروتس Dennis Brutus». وكما حدث مع «شوينكا»، أطلقوا سراح «نجوجي» ذات يوم، ولم يكن هناك أي منطق وراء التوقيت!
بمجرَّد خروجه من السجن، بدأ يواجه مشكلات جديدة، كانت هذه المرَّة، خاصَّة بوظيفته السابقة في جامعة نيروبي؛ فعندما حاول أن يعود للتدريس وجد نفسه في مأزق آخر؛ فالجامعة لن تعيده للعمل، وفي الوقت نفسه ليس هناك قرار بفصله، كما أنه لم يُقدِّم استقالة من العمل. كانت رسائله للمسئولين في الجامعة تُقابَل بالصمت. وأخيرًا، أبلغوه في لقاء مع نائب رئيس الجامعة، بأنَّ اعتقاله كان بقرار من الدولة (p. 209) وهو ما يعني إلغاء كل العلاقات التعاقدية السابقة، بينه وبين الجامعة، أو بين «نجوجي والحكومة»! وهكذا، أصبح بلا عملٍ، ولا يمكن أن يعمل، وهو وضعٌ لا يختلف كثيرًا، عن ذلك الذي كان كُتَّاب جنوب أفريقيا يجدون أنفسهم فيه في مرحلة الأبارتايد، وهكذا، لم يكن أمامه سوى الرحيل أو اختيار المنفى.

المنفى

المنفى لا يعرف العودة، أو هكذا يُعتقَد، إلَّا أنَّ تنوع المنافي، الذي عرفه كُتَّاب أفريقيا كان واسعًا لدرجة يصعُب معها تحديد نموذج واحد له على مدى أكثر من ثلاثين سنة، منذ صدور روايته الأولى The Beautiful Ones Are Not Yet Born (١٩٦٨م) «الحلوين لم يولدوا بعدُ»، لم يمضِ «آي كوي آرمه Ayi Kwei Armah»، سوى وقت قليل في «غانا»، مسقط رأسه، بينما قضى معظم تلك السنوات في دول أفريقية أخرى؛ فهل يُعتبر كاتبًا في المنفى؟ «آرمه» يقول: لا! كما أنه لم يكن مضطرًّا لذلك، لأسباب تتعلق بالكتابة، أو الوضع السياسي في البلاد، كان هو الذي يختار المكان الذي يقيم فيه (الآن في السنغال)، والمفترض أنه يستطيع أن يعود إلى «غانا» في أي وقت.
هل الكاتب الأفريقي الذي يعيش في أي مكان في القارَّة غير مسقط رأسه يعتبر كاتبًا في المنفى؟ لو أنَّ «كامارا لايي Camara Laye» ما زال على قيد الحياة، لأجاب ﺑ «نعم»، وذلك بالنسبة لحالته على الأقل. كان «لايي» ممنوعًا من العودة إلى «غينيا»، بعد أن أصدر «سيكوتوري Sékou Toré» إنذاره، بسبب كتاباته، كما كان يكتب قبل وفاته رواية بعنوان The Exiles — المنافي — بالإضافة إلى أنَّ هناك ما يكفي للدلالة على شعوره بالاغتراب عن وطنه، سواء أثناء الفترة الباكرة من حياته، كطالب في فرنسا، أو عندما لجأ إلى «السنغال». الجانب الثاني من قضية المنفى ينطبق على «نور الدين فرح» الذي لم يكن يستطيع العودة إلى الصومال، على مدى عشرات السنين، وهو يقول: إنَّ حياته في دول أفريقية أخرى لا تجعله يعتبر نفسه كاتبًا في المنفى، «فرح» يعيش الآن في جنوب أفريقيا، ويشعر أنه لا يزال في الوطن، ويبدو أنه لا خطر من عودته إلى الصومال لو أنه فكَّر في ذلك.
بوجود كُتَّاب من جنوب أفريقيا أثناء فترة «الأبارتايد»، وبوجود «نجوجي وا ثيونجو»، وبوجود عدد كبير من الكُتَّاب النيجيريين بالتأكيد في أثناء حكم «أباشا Abacha»، يصبح موضوع المنفى أكثر تعقيدًا. تَذكرة الاتجاه الواحد صوب المنفى التي كان يختارها كُتَّاب كثيرون من جنوب أفريقيا، قبل أن تنتهي «الأبارتايد»، كانت تُسفر دائمًا عن كثير من حالات العصاب، وإدمان المُسكرات، والجنون أحيانًا، لدرجة أننا يمكن أن نقول: إن حكومة جنوب أفريقيا كانت تحقق ما تريده تمامًا: «كُتَّاب مكسورون، سكتوا لأنهم عاجزون عن الاستمرار في الكتابة»، ولم ينجُ من هذا المصير سوى قِلَّة واصلت الكتابة بغزارة، مثل «دينيس بروتس Dennis Brutus». هناك أيضًا حالة «إسكيا مفاليلي Es’kia Mphahlele»، الذي اكتشف أنَّ المنفى كان فوق الاحتمال، وحتى مع تأشيرة الخروج بلا عودة، لو كان له أن يعيش، كان لا بدَّ من أن يعود إلى بلاده.
وأخيرًا، هناك حالات مختلفة للمنفى الاختياري (بالرغم من أنَّ كل المنفيين تقريبًا، يعتقدون أنَّ حالاتهم مؤقتة) التي تنتهي بالعودة المظفرة للطفل الضال العائد إلى الجنَّة (إن كان لنا أن نستخدم مثال نور الدين فرح) ولذلك، فإن «آما آتا آيدو Ama Ata Aidoo»، الكاتبة الغانية فرَّت إلى إنجلترا، حيث عاشت ثلاث سنوات، إلى أن أصبحت لا تخشى التهديد بالقتل، أمَّا «جاك مابانجي Jack Mapanje»، فهو ينتظر في إنجلترا حتى يتحسن الوضع في «مالاوي»، بالرغم من أنَّ «هيستنجز باندا Hastings Banda» لم يعُد في السلطة، وكذلك فإن «سيميليه م. كوردر Similih M. Cordor» ما زال ينتظر … وينتظر … في الولايات المتحدة، لعلَّ الأوضاع في ليبيريا تجعل عودته ممكنة، والشيء نفسه، ينطبق على «سيل شيني كوكر Syl Cheney-Coker»، الذي ينتظر في الولايات المتحدة أيضًا، حتى يعود إلى «سيراليون»، أو «نجوجي وا ثيونجو»، الذي ما زال يردد الخطاب الماركسي، في ملجئه في الغرب الرأسمالي، ويبدو مستريحًا لهذا الوضع:

للمنفى نتائجُ إيجابية وسلبية، من الناحية السلبية، فإن الكاتب، أيَّ كاتب، يحتاج إلى انتعاشة تأتي من الاحتكاك المستمر بالناس من حوله، أولئك الذين يكتب عنهم. هذا الإثراء، الذي يتحقق من خلال الاحتكاك بالناس، لا بديل عنه لكاتب مثلي، يكتب بلغة أفريقية (الكيكويو)، يتحدثون بها في داخل البلاد التي نُفيت منها. من الناحية الإيجابية، فإن المرء يحاول أن يُقيم هذه الصلة؛ فالكاتب يتعامل مع المنفى باعتباره تحديًا كما أنه قد يُساعد على رؤية ما له صلة بالوطن، وبتاريخه، من منظور أفضل.

(من رسالة بالبريد الإلكتروني للمؤلِّف في ٣ أكتوبر ١٩٩٨م)
وهناك أيضًا مثال «وولي شوينكا»، الذي يقول إنَّه عرف المنفى ثلاث مرات: الأولى، بعد سجنه إبَّان حرب «بيافرا»، عندما كَتب The Man Died في فرنسا (وكان ذلك منفًى اختياريًّا، وإن كان السجن هو الذي حفَّزه عليه) وكانت المرة الثانية بعد انتخاب ١٩٨٣م، المُعد سلفًا، عندما حذَّروه من جماعات اغتيالات، تحاول قتله (ولم يكن منفًى اختياريًّا) والمرة الثالثة بعد أن رصد الجنرال «أباشا» مكافأة سخية لمَن يقتله، بسبب تصريحاته الملتهبة ضد نظامه: «كانوا يحولونني إلى نكرة، ويضعونني رهن الإقامة الجبرية في المنزل، ثم من هناك يجعلونني أختفي، بينما يشيعون أنني تحت الإقامة الجبرية! كانت لدينا تفاصيل ذلك كله، كما خططوا له، وعليه، فقد اكتشفت أنه قد حان وقت التحرُّك لإنشاء مراكز للمقاومة، ولكي يعرف العالَم ما كان يحدث لشعبنا.» Soyinka Tells His Exile Story 1998، ورغم أنه عاد بشكل مؤقت إلى نيجيريا، بعد موت «أباشا»، ما زال «شوينكا» ينتظر صابرًا في أمريكا وأوروبا ليرى ما إذا كان توجُّه نيجيريا مرة أخرى نحو حكم مدني سوف يحرر بلاده من هذه القبضة العسكرية الخانقة. حتى «شينوا أشيبي» الذي كان يقوم بالتدريس في الولايات المتحدة، على مدى سنوات، ولم يكُن مجبرًا على مغادرة نيجيريا، نجده يتساءل في رسالة لي أثناء حكم «أباشا»، ما إذا كان من الأفضل أن يعود في خضم الأحداث، بدلًا من البقاء على بُعدِ آلاف الأميال.
وهناك حقيقةٌ أخرى وهي أنَّ كثيرًا من الكُتَّاب المنفيين، وخاصةً ممن يشغلون مناصب أكاديمية، تركوا بلادهم الأصلية، من أجل ظروف عمل أفضل في الغرب، فيقول «إيرنست إيمينيو Ernest Emenyom» (نيجيري) مثلًا: إنَّ منفاه، ومنفى الآخرين، كان اختياريًّا، بسبب الظروف السياسية والاقتصادية في موطنه الأصلي، «فقد اضطرَّتهم ظروف مادية لمغادرة أوطانهم، لمجرد البقاء على قيد الحياة، كما دفعتهم ضمائرهم للبحث عن الاستقرار، ولو لفترة قصيرة خارج أوطانهم.» (رسالة للمؤلِّف في ٧ أكتوبر ١٩٩٨م)، كما يصف نفسه بأنه كان واحدًا من آخِر أساتذة الأدب الذين غادروا نيجيريا، و«عندما تتغير الظروف إلى الأفضل، أعتقد أنَّ المنفيين طوعًا بدافعٍ من ضمائرهم، سيكونون أول العائدين للوطن، وسوف يتبعهم الآخرون بسرعة»، ولكن «الآخرين»، ليسوا على هذه الدرجة من التفاؤل، وبخاصة عندما يكون المنفى قد امتدَّ إلى عدَّة سنوات.
في مواجهة بين «جيري رولنجز Jerry Rawlings» رئيس غانا، و«علي مازوري Ali Mazuri» حول المنفى، حدد الأخير (وهو أستاذ أكاديمي أكثر منه كاتبًا، بالرغم من أنه نشرَ رواية واحدة) عدة أسباب لاستحالة العودة الدائمة تقريبًا، بعد العيش في الغرب لمدة ٢٥ سنة، «فالمهنيون المهاجرون» — كما يصف نفسه، وغيره من الأكاديميين الأفارقة، الذين يعيشون في الغرب — «عُرضة لعوامل جذب تتضمَّن تسهيلات أفضل، ورواتب أفضل، وظروف عملٍ أفضل، وكذلك حرية أكبر» (Why exiles won't come home soon 1999) «مازوري Mazuri» أجاب عن تساؤلات «رولنجز Rawlings» بقوله: إنَّه ترك عمله — أصلًا — في التدريس بجامعة «ماكيريري Makerere» في «أوغندا»، خوفًا من «إيدي أمين Idi Amin»، ولكن بعد عدَّة سنوات في الولايات المتحدة، لم يعُد أبناؤه يعتبرون أنفسهم أفارقة (أولادي في الحقيقة أمريكيون). والأسوأ من ذلك، أن يقول ﻟ «رولنجز»: إنَّه لا يعتقد أن هناك فرصة لتطوره الأكاديمي في كينيا، موطنه، ثم يعترف بمشكلة أكبر: «السبب الوحيد لعدم وحدتنا كأفارقة هو أننا فشلنا فشلًا ذريعًا في الاعتراف بالتنوع.»
الكاتب الوحيد، الذي يبدو أنه قد تكيَّف على نحوٍ أفضل مع المنفى، هو «نور الدين فرح» (من مواليد ١٩٤٥م) الذي قضى معظم حياته خارج بلده الصومال، ابتداءً من الدراسة الجامعية في الهند، حيث كتب أول رواية له بالإنجليزية «من ضلع أعوج From a Crooked Rib» (١٩٧٠م). فرح عاش وعمل بالتدريس فتراتٍ طويلة، في إنجلترا، وإيطاليا، والدانمرك، والولايات المتحدة، وكذلك في دول أفريقية كثيرة (جامبيا – نيجيريا – جنوب أفريقيا)، وبالرغم من كل هذه السنوات في الخارج، فهو معروف بأنه الكاتب الرئيسي في بلاده، وواحد من أبرز الروائيين في القارَّة، وقد حصل على جائزة «نيوستاد Neustadt» سنة ١٩٩٧م، ويقول «فرح»: إنَّ كل كتاباته الرئيسية قد أُنجزت خارج الصومال. «البعد بالنسبة لي يقوم بعملية أشبه بالتقطير، فتصبح الأفكار أكثر صفاءً ونقاءً، المسافة تجعل الرؤية أفضل، وأنا أحبُّ أن تكون هناك مسافة ذهنية، ومادية، بيني وبين ما أكتب» (في مديح المنفى In Praise of Exile, (p. 65, 1999)).
يحدِّثُنا «فرح»، عن ملاحظات بعض أفراد الأسرة على روايته الأولى، فيقول: إنَّ ردَّ فعل أمِّه، تجلَّى في ملاحظة مُقلقة بالنسبة له: «ولكن هذا (يقصد أحد المواقف الخاصَّة بالشخصية الرئيسية) يحدث كل يوم، وحياة «إلبا» عادية، مثل العواصف الرملية في مقديشيو» (p. 66)، وقد علَّمته هذه الملاحظة درسًا مُهمَّا، وهو أنَّ السِّحر الذي يجده قُرَّاء الرواية في الخارج لم يكن موجودًا بالنسبة لأمِّه، ولعلَّه كان يكتب لجمهور عالمي، وقد سبق أن واجه «تيوتولا» مثل هذا الموقف من شعبه، عندما صَدرت روايته «شرِّيب نبيذ النخيل» قبل سنوات.
«فرح» يعترف بأنَّ كل رواياته تتناول المنفى، على نحوٍ أو آخر: هي روايات «عن نساء يرتعدن في عالَم شديد البرودة، يحكمه الرجال، روايات عن العدالة المنكورة بشكل عام، عن الذي يسوم الناس العذاب، ويسومه ضميرُه العذاب، من فرط شعوره بالذنب، عن خائن يخونه الآخرون.» (p. 66) نأيُه بنفسه عن مصادر مادَّته، كان لا بدَّ منه (de rigueur): «لكي أكتب عملًا مُلهمًا عن الصومال، كان لا بدَّ من أن أغادر البلاد … بُعْدِي عنها وَفَّر لي الوقت، لكي أواصل عملي … ومهنتي … مهنة الكتابة» (p. 67)، وفي إشارة دالَّة، يقول عندما يتحدث عن كتابته: «أكتب لأنَّ الموضوع يختارني، ولأنني أريد أن أستعيد نصفي الضائع»، (Why I Write, 1998, p. 1599)، وربما يكون «فرح» قد تعلَّم أكثر من غيره، كيف يستغلُّ منفاه، على نحو إيجابي، يُغذي كتابته، بشكل لم يستطع أقرانه أن يفعلوه.

موت «كين سارو-ويوا»

كان إعدام «كينول بيسون سارو-ويوا» شنقًا في ١٠ نوفمبر ١٩٩٥م، مُحاكاةً مُضحكة وسُخريةً من حقوق الإنسان، وفشلًا ذريعًا للدبلوماسية العالمية. موجات الصدمة التي أحدثها إعدامه ترددت أصداؤها في أنحاء العالم، وعلى الأخص في تلك الفترة المضطربة، عندما كان كُتَّاب الجنوب الكوني، يُجبرون على الفِرار إلى المنافي والاختفاء، بسبب المُكافآت المرصودة لمَن يأتي برءوسهم، الأمر الذي يجعل المرء يتساءل: ما إذا كان القلم أصدق أنباءً، وأمضى من سيف الجلَّاد.

الكُتَّاب يمضون بهدوءٍ في هذا الليل البهيم، ولكن إعدام «كين سارو-ويوا»، سوف يُسجَّل جريمة شنعاء، وفعلًا خسيسًا في تاريخ الحكم الشمولي، جديرًا بالازدراء؛ فالجلَّاد الذي لم يكن على دراية بعمله الذي يقوم به، الجلَّاد الذي أتوا به للتنفيذ، حاول شنق الكاتب خمس مرات، قبل أن يُفلح، أم تراها كانت عملية مقصودة، لإرهاب الآخرين وتحذيرهم، ورسالة موجَّهة تقول: حتى الموت على أيدي الطُّغاة، لن يكون سريعًا وناجزًا؟!

كان «سارو-ويوا» قد أمضى العامين السابقين من حياته، مُطارَدًا، مُفزعًا، وسجينًا من قِبَل السلطات في «نيجيريا»، بسبب دفاعه عن شعبه «الأجوني» (The Ogonis)، وتصدِّيه للدمار الذي تُلحِقه بالبيئة، التكتلات الاحتكارية البترولية، وبالتحديد شركة «شل».
قبل موته، كان «كين سارو-ويوا»، قد أصبح واحدًا من أشهر كُتَّاب «نيجيريا»، وأكثرهم إنتاجًا في السنوات الأخيرة، بالرغم من أنَّ مُعظم كتبه، كانت منشورة على نفقته الخاصَّة، ولم تكن معروفة تقريبًا، وغير متوفِّرة خارج «نيجيريا». كان يكتب عمودًا صحفيًّا على مدى عدَّة سنوات، كما كان يؤلِّف الكُتب للمرحلة الابتدائية، وكتب الرواية، والشعر، والمسرحية، أمَّا أشهر رواياته فهي «طفل السوزا Sozaboy» (١٩٨٥م)، وهي الوحيدة التي كانت منشورة في الغرب، عندما مات، وقد أسسها على تجربته في الحرب الأهلية في «نيجيريا»، ويعتبرها الروائي الإنجليزي «وليم بويد William Boyd» — الذي كان يَعرف الكاتب جيِّدًا — رواية عظيمة، مناهضة للحرب، كما يعتبرها من بين أفضل روايات القرن العشرين. (Introduction, p. ix)، العبارة الأولى، من الفقرة الافتتاحية في الرواية، هذه العبارة التي لا تُنسى، والتي تقول: «بالرغم من أنَّ الكُل في «دوكانا»، كانوا سُعداء في البداية …» تظل معلَّقة في الهواء، وتجعل القارئ يكتم أنفاسه انتظارًا للمزيد من التفصيل، بعد ذلك فإن القصة، بإنجليزيَّتها الرثَّة، كما يقول المؤلِّف، تصف صبيًّا أصبح جنديًّا، يذهب إلى ميدان القتال، متمنيًا أن يعود إلى الوطن بطلًا … إلَّا أنه ليس هناك ما يعود إليه، يعود «ميني Mene» الجندي الطفل، إلى قريته لكي يكتشف أنه بالرغم من نجاته بحياته، فإن أحدًا لم ينجُ من القرية (بمَن في ذلك أمه وزوجته). ليس من الصعب أن نربط بين مصير سكان القرية، ومصير شعب «أجوني»، الذي ينتمي إليه الكاتب، بالرغم من أن «سارو-ويوا»، عندما كتب رائعته لم يكن قد مرَّ بذلك التغيُّر الثوري الذي سيحرِّكه مثل كُتَّاب القارَّة الآخرين نحو ذلك المجال الاجتماعي الثوري. كانت هناك أشياء أخرى، عليه أن يكتبها في البداية، بما في ذلك المسلسل الناجح لتلفزيون نيجيريا، والذي استمرَّ بثُّه من ١٩٨٥ إلى ١٩٩٠م، في أوج الازدهار الاقتصادي النفطي. كتب «سارو-ويوا» ١٥٠ حلقة من المسلسل أثرى من ورائها، وخاصَّة أن المسلسل كان يُنشر مطبوعًا كذلك.
بعد الحرب الأهلية النيجيرية، أصبح «سارو-ويوا»، مهمومًا بمعاناة شعب «أجوني»، الذي كانت أرضه مركز حقول النفط الغنية في البلاد، وفي ١٩٨٠م، لم يكن يذهب للأجونيين سوى ١,٥٪ من عائدات هذه الثروة، ومع توالي الحكومات العسكرية على البلاد، كانت ثروة البلاد تُنهب، كما يُستخدم جزءٌ كبيرٌ منها في مشروعات في مناطق أخرى، وبدأ «سارو-ويوا» يرى معاناة شعبه، باعتبارها شكلًا من أشكال الاستعمار المحلي (A Month and a Day, p. 73). تحوَّلت الأرض إلى كارثة بيئية، ولم يكُن للشعب الأجوني — كما كَتَب — أي تمثيل على أي مستوى، في أيٍّ من مؤسسات الحكومة النيجيرية الفيدرالية، لم يكن لديهم مياه صالحة للشرب، ولا كهرباء، ولا فرص عمل في شركات القطاعين العام والخاص، ولا مشروعات اجتماعية، أو اقتصادية، من قِبَل الحكومة الفيدرالية (p. 68)، وبدأ وهو يرقب ما يحدث لشعبه عن كَثَب، ينشر كُتبًا تحمل عناوين من قبيل: Genocide in Nigeria: The Agoni Tragedy (الإبادة الجماعية في نيجيريا: مأساة شعب الأجوني). وبعمله مع «الحركة من أجل إنقاذ الشعب الأجوني»٤ التي ساعد في تكوينها، راح يناشد منظمات وجماعات مثل «السلام الأخضر Greenpeace»، و«منظمة العفو الدولية Amnesty International»، وأخيرًا منظمة الأمم المتحدة، ويدعوها للمشاركة في عملية إنقاذ شعبه. كان «سارو-ويوا» تحت المراقبة، والغريب أنَّ أحدًا لم يُحاول إسكاته قبل ذلك، كما كانت هناك صحافة حرة في نيجيريا، إلى أن جاء الجنرال «ساني أباشا» إلى السلطة، ثم بدأت أيامه تصبح معدودة، عندما بدأت حكومة «أباشا» تستشعر خطر انشقاق الأجوني (وهو ما لم يكن سارو-ويوا يفكِّر فيه).
ما كتبه «سارو-ويوا» عن تحرش حكومة «أباشا» به، بعنوان A Month and a Day (والذي نُشر بعد موته في أواخر ١٩٩٥م)، يقدِّم صورة مرعبة لقانون العقوبات في نيجيريا، ويغطي أحداث سنة، بدأت في ١٩٩٣م، برغم أنها لم تكن آخر مرة يُسجن فيها لتنتهي بإعدامه، ومن المفارقات الساخرة، أن «سارو-ويوا» كان قد كتب رواية تدور أحداثُها في السجن، Lemona’s Tale (١٩٩٦م)، ولكنه لم يكن يتصوَّر أنها سوف تتحول إلى واقع. يصف الكاتب عملية نقله من سجنٍ إلى آخر (مثل شوينكا)، وتعذيبه جسديًّا ومعنويًّا، وكيف كان يلتقي سُجناء صغار (١٢ سنة)، لا يجدون من الطعام سوى ما قد يرسله إليهم أهلهم وأصدقاؤهم. ولكي يبقى السجين على قيد الحياة، في ظل هذا النظام العقابي، كان لا بد من أن يكون معه نقود، وإلَّا «فإنك تُعرِّض نفسك لقسوة بالغة، وتقف طوال الليل للتهوية على أفراد الحراسة بصُحُف قديمة، وفي حال وجود نقود معك، يمكن أن يُسمح لك بأن تبقى خارج دورة المياه، التي كان بعض السجناء يُجبرون على النوم بها، بسبب ضيق المساحة وازدحام المكان» (p. 40)، وحيث إنَّ «سارو-ويوا»، كان لديه أموال كثيرة استطاع النجاة في هذه الظروف القاسية، ويصف على نحو سريالي، كيف كان عليه أن يدفع حتى ثمن أكل طاقم الحراسة، الذين كانوا ينقلونه في أرجاء البلاد (إلى أن انتهى به الحال في سجن بورت هاركورت)، كما كان يدفع أجور الأطباء، وثمن الأدوية التي يصفونها له، لأنه — مثل شوينكا ونجوجي — كان يعاني من متاعب صحية.
ويشير إلى أنَّ سجن بورت هاركورت «كان قد بُني في عهد الاستعمار، وكان في ذلك الوقت أكبر سجن في غرب أفريقيا، كان تصميمه جيدًا … ولكن كل شيء كان مُهدَّمًا … مُنهارًا» (p. 224)، «لم يكن هناك حتى تليفون لدى مسئولي السجن للاتصال بالعالم الخارجي، وكان الماء يتسرَّب من سقف العيادة مثل المصفاة … لم يكن هناك سقف تقريبًا … والمكان رطب، والأسِرَّة ضيقة، عليها مراتب عفِنة.» (p. 226) ولكنها كانت أكثر الأماكن أمانًا، في سجن يتكدَّس فيه ١٢٠٠ نزيل.
لقد بقي على قيد الحياة على أية حال، وفي النهاية أخذوه إلى المحكمة، مُتَّهمًا بالدَّعوة للانشقاق، وإثارة الفتنة، والتجمُّع غير القانوني (p. 219)، ويبدو أنها كانت اتهامات للتخويف والإرهاب؛ لأنهم أطلقوا سراحه في ٢٢ يوليو ١٩٩٣م، وكما يقول في آخِر تقريره، الذي يشيب له شعر الرأس «اعتُقلتُ لمدة شهر ويوم، عرفت وشاهدت فيها كيف يعمل الشرُّ بكفاءة! في بلاد لا شيء يعمل فيها تقريبًا، كانت الخدمات الأمنية مُجهَّزة بأحدث الأسلحة والمعدَّات، لضمان تنفيذ كل الأوامر، بدقَّة عسكرية بالغة، وكان الرجال ينفِّذون التعليمات بأمانة تدعو للإعجاب!» (pp. 237-8.)
قبل ذلك بأيام، وبينما «كان ١٣٢ رجلًا وامرأة وطفلًا من الأجوني، عائدين (١٥ يوليو) من مكان إقامتهم في الكاميرون، اقتادتهم جماعة مُسلَّحة إلى نهر أندوني، وقتلتهم، ولم يتبقَّ منهم على قيد الحياة غير امرأتين لكي تحكيا الحِكاية … كانت المذابح الجماعية للأجوني، قد اتخذت بُعدًا جديدًا.» (p. 238) وبعد موت أربعة من زعماء الأجوني المُوالين للحكومة، (وكان «سارو-ويوا» قبل ذلك، يعتبر اثنين منهم متعاطفين مع قضيته)، أُلقي القبض على «سارو-ويوا» وثمانية آخرين يوم ٢١ مايو ١٩٩٤م، متهمين بقتل الزعماء الأربعة، بينما كان «سارو-ويوا» الذي عُرف بسلاميَّته طوال حياته، يرى أنَّ الحكومة هي التي قتلتهم. وفي نوفمبر ١٩٩٥م، أصدرت محكمة عسكرية حُكمها بالإعدام على الرجال التسعة، وتم التنفيذ على وجه السرعة، فكانت مُحاكمة صورية، وهزلية، في رأي الجميع، في كل مكان، واحتجَّت عليها شركة «شل»، ولكن صوتها ضاع أدراج الرياح، في غمار الأحداث التي تمَّ التكتُّم الشديد عليها.
بعد موت «سارو-ويوا» بوقت قصير، لخَّص «وليم بويد William Boyd» موقف الحكومة الغامض تجاه صديقه المقتول: «لقد كان مصدر إزعاجٍ لهم، شخص يقف عقبة في طريق الأغنياء الذين يحاولون أن يكونوا أكثر غنًى … فلِمَ لا يقتلونه؟!» (Death of a Writer, 1995, p. 51.)
وفي تغطيتها للحدث، نقلت نشرة اتحاد الكُتَّاب النيجيريين (ANA) Association of Nigerian Authors، عن «لور إيهونوا Laure Ehonwa» من منظمة الحرية المدنية قولَها: «لسنا مقتنعين بأنَّ المحاكمة كانت حرَّة وعادلة؛ لأنَّ مستوى الإجراءات لم يضمن حقوق المتَّهمين.» (Sola Olorunymi, The New Hemlock, 1995, p. 23.)
ثم يمضي المقال متسائلًا لماذا يُحاكَم «سارو-ويوا» وغيره من المتهمين أمام محكمة عسكرية، وليس أمام محكمة مدنية؟! وفي بيان لاتحاد الكُتَّاب النيجيريين، وقَّعه رئيسه «أوديا أوفيمن Odia Ofeimun»، جاء «أنَّ حكم الإعدام يؤكِّد أنَّ الشرَّ والظُّلم، أصبحا لغة الحياة العادية في شئوننا الوطنية».
على مدى حياته في الكتابة، لم يكن «سارو-ويوا» يخشى أن يُعلن رأيه، لأنه الإنسان الفعَّال L’homme engagé، صاحب الموقف في وجه قوى الإرهاب والقمع المدعومة من الحكومة، ومع تدهور الأوضاع في نيجيريا في التسعينيات، وازدياد سوء أحوال شعب الأجوني، كان «سارو-ويوا»، يستخدم كل طاقته، من أجل قضية هذا الشعب، بالرغم من أنه كان يعرف أنه يُغامِر بحياته. لم يكن هناك ما يزعجه مثل الصمت، الذي كان يراه تواطؤًا مع القمع والظلم، كان لا بدَّ من أن تؤرق محنة وآلام شعب الأجوني كل أصحاب الضمائر، وليس الأجونيين وحدهم:
«إنَّ صمت دُعاة الإصلاح الاجتماعي النيجيريين، والكُتَّاب، ورجال القانون، عن هذه القضية، صمت يُصيب بالصمم!» (“A Month and a Day”. p. 64.)
وكان أحد البيانات الأخيرة، عن حياة «سارو-ويوا»، المنشور في الصحيفة النيجيرية Mail & Guardian (مايو ١٩٩٥م)، يتضمَّن الملاحظات البعيدة النظر التالية:

مرَّت سنة على إيقاظي من سريري بطريقة فظَّة، واعتقالي، خمسة وستون يومًا في الأصفاد، أسابيع من التجويع، شهور من العذاب المعنوي، وفي النهاية، تلك الجولات في سيارة عفِنة عديمة التهوية، للمثول أمام محكمة، لم تُراعَ فيها قواعد القانون والعدالة تُسمَّى محكمة عسكرية خاصَّة؛ حيث لا تترك الإجراءات أي مجال للشك، في أنَّ الأحكام كانت مكتوبة مُسبقًا، وأنه سيكون هناك بالتأكيد حكم بالإعدام، غير قابل للاستئناف. الذين يقدِّمون عرض العار هذا ويُشرِفون على هذه المسرحية المأساوية يخشون الكلمة وقوة الأفكار، يخيفهم القلم، وترعبهم مطالب العدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، ليس لديهم حِس بالتاريخ، إنَّهم يرتعدون أمام قوة الكلمة، لدرجة أنهم لا يقرءون، وهذه هي جنازتهم!

عندما قرَّرت بعد سنوات من الكتابة أن أحمل الكلمة إلى الشارع، لتعبئة شعب الأجوني، وتمكينه من الاحتجاج على تدمير البيئة على يد شركة «شل»، وامتهانه وتجريده من إنسانيته على يد الدكتاتورية العسكرية في نيجيريا، لم يكن لديَّ أدنى شكٍّ أين ستكون نهاية ذلك كله. هذه المعرفة كانت تمنحني القوَّة، والشجاعة، والبهجة، والتفوق النفسي والمعنوي، على مَن يقومون بتعذيبي … وسواء عشتُ أو مُت لا يهم، يكفي أن أعرف أن هناك مَن يبذلون المال والوقت والجهد، لمقاومة هذا الشر من بين شرور أخرى كثيرة سائدة، إذا لم ينجحوا اليوم، فسوف ينجحون غدًا، ولا بد من مواصلة الجهد؛ لكي يصبح العالَم مكانًا أفضل لكلِّ البشر، كلٌّ لا بدَّ من أن يُسهم على طريقته بقسط من الواجب، مهما كان صغيرًا.

كان «كين سارو-ويوا» يُسهم بأكثر من قسطه؛ لكي يحدث تغييرًا أساسيًّا في تلك البلاد التي أحبَّها، وكما نقلت وسائل الإعلام الغربية، فإن «ساني أباشا»، خصم «سارو-ويوا» اللدود، مات بأزمة قلبية في الثامن من يونيو ١٩٩٨م، وإن كان الناس في الشوارع يعتقدون أنَّ الجنرال قد قُتِل وهو نائم.

ليس هناك شكٌّ في أنَّ كُتَّاب أفريقيا المعاصرين يحملون على كاهلهم عبئًا ثقيلًا من المحن والمظالم، أمَّا الأسوأ من ذلك فهو عدم ظهور أي ضوء في نهاية هذا النفق المظلم. عندما سقط حائط برلين، وانتهت الحرب الباردة، وجد الكُتَّاب في العالَم الثاني أنفسهم فجأةً في وضع أفضل، والآن وأنا أكتب لا يبدو مصير «سلمان رشدي» غامضًا كما كان من قبل، بالرغم من أنه لا بد من أن يظل حذِرًا. حتى أثناء سنوات الفتوى، كان مستمرًّا في الكتابة والنشر، بما يوحي بأنَّ إبداعه لم يسكت، وإن كان ذلك ليس هو الحال بالنسبة لكثير من الكُتَّاب الأفارقة، الذين قَلَّ إنتاجُهم، وربما سكتوا تمامًا، بانقطاعهم عن جذورهم، وبقائهم في المنفى الاختياري. في ١٩٩٧م، وأثناء قيامي بتحرير كتاب «تحت سموات أفريقية Under African Skies»، أشار أحد النقَّاد، إلى أنَّ نصف العدد من بين سبعة وعشرين كاتبًا، من الذين تناولتهم «الأنطولوجيا»، عرفوا السجن أو المنفى الاضطراري، وأيًّا كانت طريقة فهمنا لمواقفهم، فإن الكُتَّاب الأفارقة، لم يحدث أن وجدوا أنفسهم أبدًا، في ظروف عادلة أو منصفة.
١  كان «لايي» أحد الروائيين الفرانكفونيين القلائل الذين تأثروا بشعراء الزنوجة وشاركوهم الكثير من أفكارهم.
٢  نسبةً إلى الرئيس كاموزو باندا.
٣  انظر: The True Confessions of an Albino Terrorist (1983)
٤  Movement for The Survival of the Ogoni People (MOSOP).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤