خاتمة

رؤيا!

بعد مضي ستة أشهر، في أيام الحصاد، صعدتُ إلى جبال النسور وفي يدي قصة صديقي المسكين، وأخذت أبحث عن ذلك الكهف مسرحًا طرفي في جميع الجهات، حيث حدثت تلك الفواجع الأليمة، فإذا بي ألتقي صدفة بالمعَّاز الشيخ، فجلست على الأعشاب بالقرب منه وجعلنا نتحدث إلى أن قال لي:

المعَّاز : عمن تبحث يا سيدي في هذه الأصقاع؟
أنا : عن مكان جرت فيه حادثة حب دوَّنها هذا الكتاب، عن مغارة يُقال لها: مغارة النسور، حيث عاش ولدان عيشة الطهر والسعادة، أرني قبر السيدة المجهولة.
المعَّاز : ماذا؟! هل بلغتك تلك القصة؟
أنا : لقد كنت صديق أحدهما الوحيد، (مبرزًا المذكَّرات) ومعي الآن مذكَّرات ذلك الصديق.
المعَّاز : أود أن أعرف إذا كان هذا الكتاب يذكر اسمي.
أنا : اسمك أنت؟
المعَّاز : أجل، أنا.
أنا : وكيف ذلك؟
المعَّاز : ما أنا يا سيدي إلا رجل بائس مسكين، كنت سبب أفراحهما القصيرة ويأسهما الأليم!
أنا : ماذا؟! أوضح ما تقول.
المعَّاز : أنا الذي هديتهما إلى طريق الكهف، حيث صرفا عامين تحت سقفه، أنا الذي كنت أغذيهما من خبزي، انظر جيدًا إلى ذلك المرتفع، على رأس تلك الأدواح، فمن هناك تتجه يمنة وتتبع مجرى المياه، ثم تنزل في عقبة ضيقة إلى أن تبلغ ضفة البحيرة، وهناك قريبًا من الزبد المتموج ترى ثلاثة قبور على قيد خطوتين من المغارة!
أنا : ثلاثة قبور؟ ولكنَّ القصة لا تذكر سوى قبرين فقط: قبر لورانس وقبر والدهما.
المعَّاز : وقبر صديقهما أيضًا.
أنا : ماذا؟ جوسلين هنا؟ أنت في ضلال.
المعَّاز : بل على يقين، إنه يرقد قريبًا من حبيبته، قيل: إن خادمته «مرتا» باحت بسره، وما أحد يدري كيف توصلت إلى معرفته، فحمل بعض من أبناء رعيته جثته ووضعوها رحمة به في قبر السيدة، وها قد مضى فصلان من السنة على رقادهما معًا في مكان حبهما وتحت صليب واحد.
أنا : آه! هل لك أن تصعد معي إلى القبور الثلاثة أيها المعَّاز! إني أود أن أُقبل تلك الأرض المقدسة، فالوقت لا يزال متَّسعًا لنا، والشمس تنير الجبال بأشعتها الحية.
المعَّاز : لا تنتظر مني أن أنزل عند رغبتك يا سيدي، فاذهب وحدك!
أنا : أأنت تخاف تلك الجهة أيها المعَّاز؟
المعَّاز : في ذلك المرتفع يا سيدي أسرار عظيمة تجري كل يوم، كأنما تلك الأسرار إله مختبئ في دَغَل من اللهيب!
أنا : ماذا رأيت هناك؟ تكلم!
المعَّاز : آه! مشهدًا رهيبًا لم يُخلق إلا لأعين الملائكة فقط!
أنا : لا تفتح أمامي نصف قلبك وتدع النصف الآخر مغلقًا أيها المعَّاز، فأنا من المؤمنين بالله، وكنتُ صديق ذلك المسكين.
المعَّاز : إذن فأنت تريد أن أقص على مسمعك ما رأيت؟ يعلم الله إذا كنت صادقًا في ما أقول أم كاذبًا، كيف أبدأ؟! صعدت ذات يوم إلى القبور الثلاثة وسجدت أمامها مصليًا ثم قبلت الحجارة الملقاة عليها، وبعد هذا اتجهت إلى ضفة البحيرة وجلست أفكر تاركًا عيني التائهتين تطوفان على تلك المرآة الصقيلة، وكانت المياه راقدة رقادها الهادئ، وقد انعكست عليها قمم الجليد مع الثلوج البيضاء، والكهف مع قبوره الثلاثة، والأدواح المرتفعة مع أغصانها الساكنة، وفجأة رأيت المياه الساجية تستنير بشعاع غريب وتراءى لي كما يتراءى في الحلم وجهان بارزان من السماء اللامعة، وما لبثا أن هبطا على قمم الجليد متكاتفين متعانقين ثم حاولا أن يدخلا باب الكهف كطائرين يضيء في جناحيهما نور إلهي، فجمد الدم في عروقي وجحظت مقلتاي، ذلك لأني عرفت الوجهين يا سيدي!
أنا : ومن كانا؟
المعَّاز : جوسلين! ولورانس معه! آه يا سيدي، لو لم تخني قواي لما ترددت من الهرب، فبقيت في مكاني أضطرب كالأوراق لدى مرور النسيم، ناظرًا إليهما في تلك البحيرة الشفافة، وقد غلف جسديهما رداء من الأثير الفضي، وبعد فترة قصيرة وقفا على الأعشاب المرتعشة وأخذا يحدقان إلى جميع الأماكن، ناظرين إلى الأشجار تارة وطورًا إلى المياه، ثم يشيران بالعيون إلى البقية الباقية من آثار حبهما القديم ويلتفتان إلى بعضهما كأن كلًّا منهما يقرأ فكرته في مخيلة الآخر، عندئذٍ رأيت لورانس تمد يدًا إلى الأعشاب المرتعشة وتقطف باقات من الزهر ثم تنثرها على رأسها المكلل بالغيوم الشفافة وتنادي ذكرياتها البعيدة فتبعث جميعها من العدم وتُسرع إلى ندائها، وأبصرت الوعلة تلجذ يديهما بسرور لا حد له، والحمائم البيضاء تخرج من عشاشها وتتجمع أسرابًا أسرابًا على رأسيهما الجميلين، وأبصرت أيضًا جماعات من النساء والأطفال لا أعرف من أمرهم شيئًا يفدون من وراء الغيوم ويباركون هذا العرس السماوي، وسمعت أصواتًا عديدة تتدفق مع المياه وتنشد أغاني الزفاف الملكي، كانت أصوات الملائكة وقد جاءت لتصغَ في أنمليهما حلقة العرس الخالد، أما أنا فقد صُعقت لدى هذا المشهد العظيم، ولكي أتبين جليًّا ما يتراءى لي في مياه البحيرة حوَّلت نظري إلى السماء فلم أرَ شيئًا، غير أني سمعت أصواتًا تنشد هذه الكلمات العذاب: «لورانس! جوسلين! الحب! الخلود!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤