العهد الثالث

في مغارة النسور في ٣ تموز سنة ١٧٩٣

عندما الشمس، موقدُ الحياة الخافق، تضطرني إلى خفض جفني أمام أشعَّتها المغشية، وتمر خلال أهدابي بأسلاك من الذهب، وعندما تتحطم على الثلوج الخالدة وتتدفق سنابل من الشرر تُعطي هذه القمم وهذا الفضاء الأزرق لونًا كلون البحر، لا أرى في هذه السماء الصافية، التي تظهر كبحيرات لا شواطئ لها سوى الأثير الجميل، حيث لا يسبح إلا النسر الأسود، كأنه نقطة حالكة تظل مسمرة على الجلد الثابت، عندما الأشجار أو الصخور تُلقي على الأرض جزرًا من الظلال، حيث أثقال الزهور تحني الأعشاب بعذوبةٍ ودلال، تغمرني بين طيات الأحلام وترفع نفسي إلى مذاهب الملأ الأعلى! وعندما أسمع دمدمة الهواء الفاتر ويمتزج لهاثي بنسيم السماء العذريِّ أشعر بلذةٍ حية فأسلو الدقائق الشاردة المنسلخة عن نفسي، كما تسلو الإوزة التعبة أثقال أجنحتها عندما تستريح من الطيران، كم أُحب أن أبقى بين هذا السكون وألا أشعر بالتفكرات والذكريات، معتقدًا أن روحي قد تركت إلى الأبد ذلك الغلاف البائد، وسبحت في سماء من الأنوار الخالدة! غير أن إحساسي المستفيق لدى خطرات الأرواح يحملني دائمًا إلى عالمٍ من اللذات المرة فأشعر بنفسي هابطة من السماء حيث الخالق يصغي إليَّ ولا يجيب! آه! لو وهبني الحظ قلبًا ثانيًا، قلبًا فارغًا أخرس حيث الحب والحياة يتفتحان دائمًا، لسكبت فيه ما فاض من قلبي الأول، وتمكنت من رمي الأحزان ومضاعفة الحب، وإيجاد روح من روح وعاطفةٍ من عاطفة!

إن هذه القبة الزرقاء لتابوت جميل، ها أنذا أبسط ذراعي طالبًا نفْسًا تشاطرني وحدتي وقلبًا يشعر بما يشعر به قلبي، ولكن الصحراء منفردة تكتنفني بالسكون الرهيب، أذهب من بحيرةٍ إلى بحيرة ومن صخرةٍ إلى صخرة ثم أعود على أقدامي وأختلي بين جدران الكهف المظلم، أشعر بفراغٍ في كياني لا يملؤه إلا كيان آخر، فصوتي لا صدى له في هذه الأصقاع البعيدة، ويخيَّل لي أن سعادتي تتبدل في هذا المكان وتلبس ثوبًا من الملل.

في مغارة النسور في ٦ حزيران سنة ١٧٩٣

قطعتُ هذا الصباح حواجز مملكتي، عاري القدم، مخافةَ أن يسمعني أحد، وتبعت مجاري المياه نازلًا تلك المنحدرات حتى بلغت إلى مكانٍ كنت أسمع منه عجيج البقر صاعدًا إليَّ مع الهواء العاصف، فأبصرت الذي كانت تتوق نفسي إلى رؤيته: مشاهد الحقول الخضراء وصور الماضي البعيد التي لم يبق من آثارها إلا التذكارات، وقع نظري على النعاج ترعى الأعشاب على حافة التلال الصغيرة، وعلى بعض الرعاة يلعبون بعصيهم مع النسمات اللطيفة، وأبصرت جبليًّا لا يزال فتى جالسًا على صخرةٍ بالقرب من جبليةٍ جميلة لا رقيب عليهما سوى الزرقاء والأشجار المدلَّة بارتفاعها، أجل، أبصرت ذلك الجبلي وقد خفض رأسه إلى الأرض مفكرًا ثم رفع عينيه الكبيرتين إلى الفتاة فظهرت على شفتيه بسمة لطيفة هي خيال فكرته العذبة.

لبثت محدقًا إليهما، مختلسًا من الفتاة نظراتٍ ملؤها اللذة والمرارة، ناظرًا إلى قدميها العاريتين، وقد أُلقيتا على الأعشاب الخضراء كأنهما قدمان من الرخام الأبيض أوجدتهما الطبيعة بين تلك الخرائب، مضت ساعة أو ساعتان وأنا على هذه الحالة، محدِّقًا بسكرة أليمة إلى هذين الجبليين شاعرًا بأن قلبي يزداد فراغًا أمام قلبيهما الطافحين بالحب، سامعًا من حين إلى آخر بعض كلمات مبهمة تتخلل ذلك السكون اللطيف وهي ذائبة من شفتيهما كما تذوب المياه من غدير شفاف وتتقطر قطرة قطرة على الأعشاب، وعندما استوت الشمس في كبد السماء رأيت الجبلي الشاب يستلقي على جنبي حبيبته الهادئة ويستسلم لرقادٍ عذب، بينما هي تلاعب أناملها العاجية بشعوره المتفرقة!

لم تكد الشمس تتوارى خلف الجبال حتى تركت ذلك المشهد حاملًا بين جفني خطوط هذه الصور الملونة، صور السعادة والأفراح!

في مغارة النسور في ٢٤ آب سنة ١٧٩٣

لقد نام، فلأكتب! بأية كارثة اشتريت هذا الولد، رفيق مصائبي وآلامي! كان النهار قد أوشك أن يغيب عندما كنت أتجول من مكان إلى مكان تائهًا بين الصخور الجرداء والأشجار المسنَّة، وكانت نفسي تتدفق خيالات وتضيع بين أعمال الخالق، إذا بي أسمع طلقًا ناريًّا فذعرت ونهضت مستفيقًا من أحلامي فأبصرت جنديين يجدَّان في إثر محكومين من الأشراف، ثم سمعت طلقًا آخر ورأيت المحكومين قد بلغا حواجز السيول فوقفا مترددين ثم أخذا يعانقان بعضهما فأومأت إليهما فأبصراني وأشرت بيدي إلى طريق وعرة فلم يتردد أحدهما أن أخذ بيد الآخر وهو حديث السن وصعد به المراقي المنحرفة، فأسرعت بنفسي لمساعدتهما على أمرهما حتى إذا ما بلغت أسفل الجسر رأيت الرجل يُدلي إليَّ الولد المضطرب فأخذته بين ذراعي، وسمعت الرجل يقول لي: «انجُ، انجُ أيها الغريب الكريم بهذا الولد فسأبقى فترة في هذا المكان لعل موتي يدع لكما دقيقة سانحة تهربان بها عن أعين الجنود!» إذ ذاك كان الجنديان قد أوشكا أن يصلا إلى مقربة من ذلك المسكين، فصوبا عليه بندقيتهما وأطلقا عليه عيارين ناريين، وكان هو قد أعدَّ بندقيته أيضًا وأطلق منها رصاصتين معًا، فسقط الجنديان في هوة من المياه، ثم رأيت الرجل، وقد جس صدره بألم شديد، يترامى على الأعشاب متأوِّهًا فأسرعت إليه وكشفت عن صدره فأبصرت جرحين يقطران دمًا، فجعلت أضمدهما وأغسل الدماءَ عن فوهتيهما ولم تمضِ بعض دقائق حتى أُغمي عليه بين يدي ابنه، فوضعناه في المغارة على فراش من الأعشاب.

في ٢٥ آب سنة ١٧٩٣

كان رأس الجريح ملقى بوهن بين ذراعي ولده، وجسده ممتدًّا على فراش مخضب بالدم، وكان الولد يبكي بكاءً أليمًا ويرفع جبينه إلى سماء الكهف مصليًا، ثم يكبُّ على والده كأنه يود أن يحول بينه وبين الموت، وكان شعره الأشقر يمتزج بذلك الشعر الأبيض فيخفي وجهيهما عن نظري، حتى لا أعود أسمع إلا الزفرات تتقطَّع بين مراشفه وتختنق في صدره.

كنت واقفًا إذ ذاك في زاوية من زوايا المغارة مخافة أن أُدنس الألم بنظرة، وفي يدي مشعل يصعِّد تارة ضياءه الأحمر ودخانه المأتمي في تلك الظلمة الكالحة وطورًا يغُمى عليه فأُشعله، حتى إذا انتصف الليل أبصرت الجريح، وقد حدَّق إليَّ بعين مائتة، قائلًا: «لقد دنت ساعتي الأخيرة، فحافظ على هذا الولد وكن له عونًا ومغيثًا، كن به أبًا وأخًا، الوداع!» كانت الكلمات تتقطع بين شفتيه، وكان ينظر إلى ولده فيناديه بيا ابنتي، حتى انطفأ الشعاع الأخير من أشعة عينيه فوضع إصبعه على فمه ولفظ نفسه الأخير مع اسم لورانس!

في ٢٦ آب سنة ١٧٩٣

قضيت النهار كله بين جدران ضريح من الأحزان، وكان الميت ملتحفًا بردائه المدمَّى وبالقرب منه ولده المسكين موسِّدًا جبينه بين طيَّات كفن والده كأنه يتسمع إلى غطيط الموت في تلك الساعة الرهيبة!

بينما كان الولد مستسلمًا لرقاد طويل نزعتُ ذراعيه عن جسد والده البارد، وحملت الميت إلى خارج الكهف وأرجعته للتراب! …

على جانب من البحيرة بقعة خصبة نسجت فيها الطبيعة حلة خضراء من الأعشاب والزهور، هنالك، حفرتُ قبرًا وضعت فيه الميت بعد أن زودته الدموع والزفرات، ثم أتيت بخمسة حجارة ورميتها على الضريح! سوف يُزهر المنثور والأصفُ الأخضر على جوانب التربة وتجيء الطيور الداجنة لتنثر ريشها على تلك الحجارة وتستبدله بريش جديد!

في مغارة النسور في ٢٨ آب سنة ١٧٩٣

قال ليَ رفيقي الفتى: إنه ابن شريف محكوم عليه بالإعدام وإن اسمه لورانس، ماتت أمه وهو لا يزال في المهد فخلَّفته وحيدًا بين ذراعي والده، وهو الآن في السادسة عشرة من عمره، وقد قضى معظم حياته القصيرة في مزرعة قائمة على ضفاف بحر بريتانيا إلى أن نشبت الثورة وزفرت دماء الأشراف على أسنَّة الشعب، فهرب مع والده متسترًا تحت اسم غير اسمه الحقيقي، إلى أن بلغا هذه الأصقاع فأبصرا جنديين من الجنود القتلة يطاردانهما … وهنا أجهش بالبكاء فعرفت الباقي من حديثه!

عن المغارة في ١٦ أيلول سنة ١٧٩٣

كل نفس هي أختٌ لنفسٍ أخرى، هذا ما قاله لي قلبي مرارًا! لم أعد أشعر بثقل الزمان، فالساعات تلامس أجفاني بأجنحتها المتشابهة، أجل، كل دقيقة، وكل موضع، وكل فصل، تبدو هنيئة وعذبة عند قلبين متآلفين، فماذا يهم النفوس المتحدة إذا تقلبت حواليها الأشياء وتبدل الزمن؟ ألا تقدر أن تسنَّ لبعضها شرائعَ وأزمانًا، وتبني عالمًا تعيش فيه، وتأخذ من صفائها سماء زرقاء لا تمر في فضائها غيوم سوداء، وترى أفقًا جديدًا ينفتح أمامها، وتخترع لغات أسمى من لغات البشر تتفاهم بها؟

عن المغارة في ٢٥ أيلول سنة ١٧٧٣

عندما أعود من الصيد حاملًا على ظهري وعلًا أو أيلًا، وأرى بحيرتي الزرقاء، من على رأس قمة، تضطرب لدى مرور النسمات، والأكاليل الخضراء تكتنف كواكب الصَوَّان، ورءوس الأدواح قد بدأت تُنبتُ أوراقًا، ودخان الموقد يتصاعد من الكهف في الفضاء البعيد، تأخذ مجاري الأفكار العذبة بمجاميع قلبي: «فأعرف أنَّ هناك، في تلك المغارة روحًا لطيفة تنتظرني، وأن عينًا جميلة تبحث عني، وقلبًا ينبض لذكري، وصديقًا وهبتني السماء عطفه ومحبته، فكنت له وطنًا، وأهلًا، وأمًّا وأبًا وشقيقًا وشقيقة، وأنه عندما يبصرني قادمًا يسرع لملاقاتي ويأخذ من يدي الوعل أو الأرنب ثم يتقدمني إلى الكهف واثبًا على الصخور كالأُيَّل المطمئن»، وأحيانًا عندما أصل إلى الكهف أجد لورانس جالسًا ينتظرني فأقص عليه حكاية رحلتي ويقص عليَّ حكايته ويريني الأسماك الصغيرة التي اصطادها بشباكه، والقش اليابس الذي جمعه لسقف الجهة الغربية من المغارة قبل مجيء الشتاء، ثم يجيئني بالأثمار التي قطفها من الغاب، فنجلس إلى الطعام ونأخذ بأطراف الحديث إلى أن يهبط الليل فنرى النجوم النيرة تنعكس على مياه البحيرة كما تنعكس الوجوه على المرآة الصقيلة، وأحيانًا أرى بعض الدموع تتناثر على خده وهو محدِّق إلى قبر والده، ثم يتجه كل منا إلى فراشه وينام حتى يستفيق على أنغام الطيور!

عن المغارة في ٢٣ تشرين الأول سنة ١٧٩٣

منذ أخمدت الأيام أوجاع لورانس وتذكاراته أخذ ينشط وينمو ويزداد جمالًا، ففي هذا المساء، نظرت إلى جبينه على ضياء الموقد فرأيته أبهى من الجمال نفسه، فاستفاق في مخيلتي طيف أختي، وخيِّل إليَّ أني أسمع صوتها صاعدًا من فمه في تلك العذوبة وذلك النغم اللذين كانا موسيقى نفسي في ساعات حداثتي الأولى، فلم أتمكن من إمساك دموعي لدى هذه التذكارات، فاقترب لورانس وجلس على ركبتي صامتًا، ناظرًا إليَّ بدهشة وانذهال ثم سألني عن سبب بكائي وعما إذا كنت أفكر بأحد، فأجبته ساردًا على مسامعه قصتي الأليمة فبكى لآلامي، قائلًا: «إني أحبك كحبهم، ألست أخًا لك، أُشاطرك ما تتوجع له وأمزج دموعي بدموعك؟ ألم تكن أبًا أشعر قربه بما كنت أشعر به قرب والدي؟» قال ذلك وألقى جبينه على حجر أملس فألقيت جبيني بالقرب منه ثم أخذنا نبكي صامتين!

عندما استفقتُ من أحلامي المرة ومسحت مدامعي بأطراف كمي، رأيت لورانس يستفيق أيضًا ويمسح دموعه ثم يُضيء كمرآة حية فيضطرب خيال وجهي على ذلك الشعاع الإنساني، وعندما فكرت أن لا ملجأ لهذا اليتيم إلا حناني وعطفي، وأن ذراعي وذراعه، وحياتي وحياته أصبحت ذراعًا واحدة وحياة واحدة، نضبت مدامعي واستعاد قلبي ما فقده من الغبطة والسعادة!

عن المغارة في ٢٩ تشرين الأول سنة ١٧٩٣

أيها الجمال، يا سرَّ الخلود، يا شعاع الأزل، يا رمز الألوهية العظيم، من يدرك في أي مكان ولدت، ومن أي مرتفع هبطت؟ ومن يعلم لماذا يحبك البشر، ولماذا تتبعك الأعين، ويعلق بطيفك القلب المحب، فإذا ما اقترب إليك يحترق ويضطرم، وإذا ما انفصل عنك ينزع ويموت؟ لقد طبعت ختمك على الطبيعة المنتعشة، وأعطيت الأسد رهبة النظرات، والجواد تموجات شعوره المتشعثة، والنسر جلال أجنحته، وأرسلت إلى أوجه البشر أشعة شفافة هي مرآة عظمتك، ونسجت أكاليل الكياسة والبهاء على رأس المرأة والرجل، ما من أحدٍ يدرك أسرارك أيها الجمال وترى الجميع ينزلون عند رغباتك ويخضعون لدى شرائعك، من يدري إذا لم تكن صورة من صور الخالق الذي يتراءى من خلال هذه الغيوم؟ من يدري إذا لم تكن النفس المغلفة بذلك الجسد الجميل قد أُبدعت على المثال الإلهي واقتدت بالجمال الأسمى؟ سنعرف كل ذلك فيما بعد، ولكن، فليُضئ الجمال في مذاهب الطبيعة، وليسطع على كل عشبة من الأعشاب، وبين كل زهرة من الأزهار، فقلبي لم يولد إلا للحب، ونظراتي لم تتفتح إلا أمام هيكله السامي، ونفسي المشتعلة ترمي عليه من حين إلى آخر ذرة أو ذرتين من موقدها الخافق!

كم مرةٍ ناجيت الله بهذه الكلمات: «ربِّ! أتستنكر هذه العاطفة وتعتبرها تدنيسًا للقلب؟ لا، إن العيون لتتحول رغمًا عنها إلى المصباح الإلهي الذي لن يزال يُضيء في الوجود … أية جريمة يقترفها البشر بحبهم ذلك الجمال وتعلقهم بتلك النجمة الإلهية؟»

عن المغارة في ١١ تشرين سنة ١٧٩٦

إنَّ يدَ المبدع القدير لم ترسم على جبين لم يتجاوز السادسة عشرة مثل تلك الملامح الخلابة التي رسمتها على جبين لورانس، فالذي يحدِّق إلى هذا الشاب لا يشك في أنه ملاك هبط من الجنة على الأرض، فكل ما في الصباح من الصفاوة والطهر، وكل ما في العيون من العذوبة، وما في الفجر من الحياة الساحرة قد تجمعت بين تلك الخطوط الباسمة التي تلمع على جملة وجهه، وكونت شعاعًا كوردة الطهر وذوَّبته دموعًا شفافة بين محجريه، حيث تراءت الأحلام سابحة كالضباب في سماء من الأنوار البهية الساطعة! تلك الأشعة الإلهية لا تبرح تنطوي بين حاجبيه وتبرز على حافة أهدابه، ثم تبدو على شفتيه بسامة، كأنها ضياء داخلي يلمع في نفسه ويخرج إلى ظاهر وجهه! فمرارًا، عندما يكون النهار قد أوشك أن يضمحل وتلبس المغارة حلتها القاتمة، أرى ضياءً كضياء الصباح لا يزال ينبثق من ملامحه، ويرسل سنابل من النور إلى أعمق الظلمات، فأخفض ناظري أمام ناظريه، ويخيل إليَّ أن ذلك الشعاع لإكليل نفسه الطاهرة، فطالما بحثت في ذاكرتي عن جمال يشابه جماله، وعن صوت عذب كنغمات صوته، فلم أكن لأجد بين هؤلاء المبتدئين رفاق حداثتي، من له تلك السمات الطاهرة، وذلك الجبين البض، وتلك النغمات الساحرة، وتلك البشرة النقية، وذلك النظر الجاذب كأنه الفضاء القاتم، وذلك الشعر الحريري كأنه تموجات البحيرة! وعندما أُشاهد قدميه العاريتين تتسلقان هذه المرتفعات، وأرى جبينه مبللًا بالعرق كزهرة بيضاء تضطرب على برعمها قطرات الندى، أخاله رجلًا خياليًّا أوجدته الطبيعة في هذه الأنحاء المنفردة، فأكاد أعبده لولا أني أعود فأرجع إلى نفسي وأتبين صوته وحركاته فأعرف فيها ذاك الولد الجميل والصديق المخلص المسكين!

عن المغارة في ١ كانون الأول سنة ١٧٩٣

مرت أشهر النور ولمَّت السنة أشعتها عن تلك القمم لتنثرها بعد ستة أشهر، فغرقت الشمس في بحر الغيوم وترامت الثلوج بدلًا من الزَّبد على تلك المرتفعات، فلم يبقَ للنهار إلا شعاع ضئيل تحطمه العواصف، وقد كنست الأخيلة الهائمة ما بقي من الأوراق الصفراء على أقدام الشجر، يخال لي أن الله قد ترك هذه القمم فريسة للظلمات، وأن عجيجًا خافتًا يدور في الفضاء دورته ويخرج من عظام الجبال، كأنه الهواء يقتتل في مذاهب السماء، والثلوج تتلاطم على نواتئ الصخور، تلك هي طقطقة الأغصان الذابلة ترزن تحت أثقال الجليد وتتكسر غصنًا غصنًا وترتمي على الأرض، تلك هي وثبات الثلوج المتثاقلة تتدحرج من أعالي القمم وتستحيل إلى تراب أبيض على ممر الهواء، لم تعد السماء لتحيي حفلاتها على المرتفعات الملثمة، ولم يعد الفجر يبرز بحلته المنيرة، والليالي بكواكبها المشعة، فالحمامة التائهة أصبحت تتبع مواكبها السوداء، وأكاليل الزهر أصبحت أكاليل من الجليد حول كهفنا المظلم، أما النهار فلم يعد ليدخل إلينا إلا من خلال الثلوج، وأما نحن فقد جلسنا أمام الموقد نصطلي ونتحدث، تارة نقرأ بعض الكتب وطورًا نلتقط الطيور من أعشاشها وقد أويت قريبًا من الكهف، غير مكترثين للأعاصير الزائرة، والليالي المدلهمة تحت سماء تكاد تهبط من أثقال غيومها، حتى إذا ما نفذت إلينا بعض أشعة من شمس الشتاء، وثبنا حالًا إلى خارج المغارة وملأنا نواظرنا من الجليد الذي يكون قد صنع قصورًا شفافة من زجاجه الأثيري، أو جسورًا من الياقوت الأزرق، أو مغاور من المياه الخضراء!

عن المغارة في ١٦ كانون الأول ١٧٩٣

عندما أستفيق أحيانًا في منتصف الليل وأرى الظلمة تكتنفني من كل الجهات، أسترسل لذكريات بعيدة، غير منتبه للورانس راقدًا بالقرب مني، ذاهبًا في مذاهب الفكر إلى أويقات عذبة وقد طواها الزمان ومرت عليها الحوادث بأثقالها، ثم أستفيق من ذكرياتي فأسمع أنفاس رفيقي تتصاعد من صدره كنسمات متعادلة، تلك الأنفاس الموسيقية الخارجة من ولد نائم، فأنهض نصف نهضة وأسجد أمامه كما تسجد الأم أمام وسادة ابنها، وأجعل أُصلِّي إلى الله شاكرًا إياه على ما أسداه إليَّ من النعم بإرساله هذا الملاك لحراسة قلبي، وأشعر بأن روحي تتنفس وتحيا بقلبين ولهاثين، فأقول في نفسي: «أية موسيقى في هذا العالم تعزف بمثل هذه الأنغام؟» ثم أعود إلى فراشي وأنام!

في ٦ كانون الثاني سنة ١٧٩٤

بينما العالم يتمرغ في أوحال الأراجيف، والأيام تذيب في الأيام جوامد الدموع والدماء، تسود السكينة في هذه الأنحاء، ويهبط عليها السلام من يد الخالق، والمحبة العذبة التي تمقت المجتمعات تصنع لنا وجودًا هادئًا من الوحدة والانفراد!

من يستطيع أن يفرق بين نفسينا وقد جمعتهما السماء والأرض بخيوط متينة من الحب؟ ونشأتا مع الأيام تحت جزع واحد ودوحة واحدة؟ ولكن المشابهة غير كاملة! فأنا أتذكر أن صديقي في أيام حداثتي كان كلبًا أبيض ذا مِخطَم كمخطم الغزال، وعنق كعنق الحجل، وشعور جعدية كالحرير المتموج، ومقلة عميقة وعذبة كمقلة الإنسان، أجل، كان صديقي كلبًا وديعًا لا يأكل إلا من يدي، ولا يجيب إلا لندائي، ولا يتبع إلا آثاري، ينام على أقدامي، ويشتم رائحة مكاني، كان يثب على زجاج النافذة ويبقى برهة ملصِقًا يديه على لوحها البارد، ناظرًا إلى جميع الجهات حتى يراني قادمًا فيسرع لملاقاتي، أو يطوف في غرفتي فيقف طورًا أمام ثيابي المعلقة على الجدار وتارة أمام كتابي أو دواتي، حتى يسمع وطء أقدامي على السلَّم الخارجية فيقفز إليَّ ويترامى على أقدامي، ثم يجعل يدور حولي ملاعبًا ذنبه الأبيض في الهواء، وإذا جلست إلى كتابي لأطالع بعض سطوره يجلس أمامي على الأرض ويأخذ بالنظر إليَّ منتبهًا لكل حركة من حركاتي، مصغيًا إلى تمتمة شفتي، رافعًا رأسه لدى اضطراب الأوراق بين أناملي، وحين مات كانت عيناه محدِّقتين إلى عيني، كم بكيت ذلك الصديق الأمين! ولكن، تلك الذكريات البعيدة لا تلبث أن تتجسم في قلبي عندما أفكر بلورانس، فهذا الصديق المسكين يحبني حبًّا لا حد له، حتى إنه لا يستطيع البقاء دقيقة واحدة بعيدًا عني، يمشي حين أمشي ويفكر حين أفكر، ويتبعني بنظراته أين اتجهت وكيف تحولت، ولكن هذا الولد، ربيب الأحراج والغابات، سيصير وحشيًّا فيما بعد!

يا إلهي! إن هباتك لتفوق وعودك دائمًا! لم أكن أفكر، حتى في الحلم أن عاطفتك وحنانك سيعيدان إليَّ نصف كياني بين هذه القمم المنفردة والصخور الجرداء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤