العهد الرابع

عن مغارة النسور في ١٥ نيسان ١٧٩٤

هذا الصباح، وجدت في جوف الصخرة بعض الخبز الذي يجيء به الراعي كل شهر متسترًا تحت جلباب الظلام، ورأيت ورقة مع الزاد مكتوبًا عليها هذه الكلمات: «كن حذرًا، فالويل لمن ينزل إلى مدينتنا الخالية من وجود الله؛ لأن مقصلة الشهداء لا تزال ظمأى إلى الدم!»

ربِّ! حطِّم سيوف الغضب والحقد، واختصر أيام اليأس والاضطرابات التي تحجب اسمك العظيم عن أعين الأمم، وأَنزل ملاك السلام على الأرض، أمَّا أنا فلا يسعني إلا شكرك على نعمٍ أسديتها إليَّ!

عن المغارة في ٦ أيار ١٧٩٤

إنَّ من الأيام الزاهية والفصول الجميلة ما تكون ملأى بأزهار الحياة الناضجة، تلك الأزهار الملونة، المبللة بالأنداد والمضخمة بالعطر، والتي يذوقونها فترة ويستنشقونها مدة فجر واحد، ثم يتساءلون عمَّا إذا كانت تلك البراعم هي التي تحمل بين أوراقها ذلك الشذى الطيب والعطر الفواح!

هذا النهار كان زاهيًا زاهرًا، فاستفقنا على زقزقة الشحرور التي تشابه أنغام الشاعر برقتها، وعلى خرير البحيرات المضطربة لدى خطرات الهواء، فرأينا الطبيعة تبسم عن أبدع ما وهبها الله من الجمال، وشاهدنا الربيع رقَّاصًا طربًا، يشدو على قيثار الأغصان ألحان الطبيعة السكرى، وأبصرنا الثلوج ذائبة لدى الأشعة الوردية قبل أن تعطي التلال ذلك اللون الأبيض، وكانت كل قطرة متسقطة من الفضاء تبرز بشكل يقرب إلى كريات النور كأنها نحلة ذهبية تنثر الجواهر اللماعة من أجنحتها التائهة في مذاهب الجو، ثم تتوارى عن الأعين وترتمي على فراش الأعشاب في مطارح الوادي، حيث تنحني الأزهار تحت ثقلها اللطيف مستبقية على براعمها نثارًا من الزبد اللؤلؤي ثم تأتي النسمات فتمسح ذلك الزبد بأطراف ردائها الشفاف، وكان الهواء الفاتر العليل يزحف مع الشعاع السماوي كأنه الهواء العذري يذيب الأنهر الراقدة في أوائل الشتاء، ويطلق زفرات لطيفة تهتز لديها الثلوج المتجمعة على رءوس التلال، كأنما تلك الزفرات أغاني العاشقين تردد صداها الأرض والمياه والسماء والأثير! كل شيء كان يستفيق لدى مرور الهواء، فأوراق الصباح كانت تأخذ حجمًا كبيرًا، وأعشاب الوادي تمتد بساطًا أخضر، فتخرج تارة من بين الصخور، وتلتفت طورًا على جذوع الأشجار، مالئة نواظرنا بأمواج من الألوان الجميلة المسكرة، وكأن الماء يتدفق من قشور الأغصان ويجري صموغًا من الذهب فتزعجُ أجنحةَ الشحرور وهو خارج من بين الأوراق أو مختبئ تحت طياتها، وكانت الأوراق تضطرب لدى النسمات فتظهر كأنها بحيرة ذات أمواج خضراء توحي أسرار الحب إلى القلوب العاشقة، وكانت العصافير والحشرات والفراش تتصاعد أعمدة في الفضاء، ثم تنقلب على الماء أو على الأعشاب كأنها غبار ينتشر في الطرقات فيتصاعد تارة ويقع طورًا، من يا ترى سكب تلك الخمرة المسكرة على أجنحة الهواء والنهار والفراشة؟ من دفَّأ لهاث الهواء فأذاب الثلوج وأمطر الشتاء؟ من حرك الشباب في أفئدة الفتيان فكادت تجري الحياة في صدورهم وتتدفق من أعينهم؟

كنَّا نركض على الأعشاب ونتسلق الصخور الضخمة ويختفي كل منَّا عن عيني الآخر، ثم يظهر فجأة على مرتفع تلَّة أو وراء شجرة، وكنا تارة نضحك ونغني ونتسابق بالركض، وطورًا نجلس إلى أحلامنا محدِّقين إلى الجبل العالي وإلى غيوم الصيف راكضة كالمجنونة على قمته الشاهقة، تلك الغيوم لم تكن إلا زَغَبًا حاميًا تنزعه الأشعة المتوقدة من الجليد وتندفه رُضابًا أبيض، وكانت أخيلة الأشجار المترامية على الخضرة تتقطع قطعًا قطعًا على الأعشاب وتسكب في بعض الأوداء الصغيرة التي تبرز كأنها أسرَّة لا تزال مضطجعة أسرارًا تحمل في طياتها نغمات عذبة من نغمات الجمال، وأخيرًا عندما تعبنا من اللهو والغبطة استرحنا على حضيض منبسط كأنه جزيرة من الأزهار داخلة في بحيرة عميقة ذات أمواج من الظلال، وفي قلبينا صمتٌ ممزوج بسكرة لا حدَّ لها، فجعل كل منا ينثر على المياه أوراقًا خضراء، ناظرًا إلى كل موجة يلاعبها النسيم ويدغدغها بأنامله الأثيرية، كأنه يبحث عن نفسه الضائعة بين تلك التموجات اللطيفة، وعندما رفعت صدفة نظري إلى لورانس رأيت جبينه يستعيد لونًا أحمر وشفتيه تضطربان وشاهدت دمعتين تترددان بين أهدابه كأنهما من دموع الليل التي يلونها الشعاع النقي ويجففها الهواء الفاتر.

– ماذا يجري في نفسك يا لورانس؟ أفي قلبك ثقل يضغط على عواطفك كما في قلبي؟

– آه! إني أشعر، أجابني، بأن فؤادي يذوب في صدري، فنفسي تبحث بلا جدوى عن كلمات تطلقها وتود أن تخلق لغة نارية تحمد بها الله والطبيعة.

– قل لي يا صديقي، أجبته، أية قوة تدفع نفسي إلى التفكُّر بمثل الذي تفتكر به أنت، كنت أشعر بنزوات الشوق وإيثاق الحب، فتثب عاطفتي إلى شكر الخالق، غير أن لساني المثلج يقف متلجلجًا في فمي، فالطبيعة هي أنشودة غير كاملة، والمبدع القدير لا يتقبل التسابيح التي تروق له؛ لأن الإنسان الذي خلقه الله ليرى مثاله في صورته لا يرفع إليه صوته الحقيقي، أجل، إن الطبيعة لمشهدٌ ونفسَنا صوته، فلنجتهد يا صديقي، كما يصنع الطائر أو نسيم الأشجار، أن نلقي على قدمي ذلك الإله حملنا الثقيل ونشدو ألحاننا أمام جلاله، ولنكن كاهني هذه الأصقاع باسم الحب الذي يربطنا.

لورانس :
أيتها النسمات الطاهرة،
الملأى بالحياة والأشذاء الفوَّاحة،
أين كنت؟ ومن أين أنت قادمة؟
أيتها النسمات الخفاقة،
خفاقة كقلبينا في هذه الأصقاع،
لما أنت تتدفقين أوراقًا خضراء وأزهارًا طاهرة،
كذرات من النور؟
أين ضمَّخت تلك الأجنحة الذهبية؟

•••

أراك تغتسلين بالعطر،
بين هذه الجبال، والأوداء، والمروج،
حيث الأشهر تكتسي وشاح الربيع،
طيلة أيام السنة!
يا لهاث الفجر الجميل،
خذ أنفاسنا واحملها مع عطور الزهر،
احملها إلى سماء الخلود، لتصلِّي أمام أنفاس الخالق،
فالصلاة هي عطر القلوب!
أنا :
ألا ترى قوس قُزَح،
يضطرب لدى مرور الشعاع،
كأنه الأفعى على مضجعها،
كأنه أفعى السماء ذات الألوان البرتقالية،
انظر إليه رافعًا عنقه بين الضباب،
كأنه السيف المجوهر،
كأنه جسر الفضاء،
جسر الفضاء العظيم.

•••

هل هو جسر لمرور ملائكتك،
أيها المبدع القدير؟
أعلى هذا الجسر ينتهون إليك،
أيها الجالس على عرش الأثير؟
آه! لو كنت أتمكن من الوصول إلى حيث يبتدئ هذا الجسر؟
متسلقًا أدراج الفضاء الأزرق،
ماشيًا على هامة الموت والزمان،
وكلتا يدينا متلاحمتان يا لورانس!
لورانس :
انظر إلى أنثى البلبل في عشها،
تحضن فراخها بجناحيها،
فالحب ينفخ ريشها،
ويدفئ الفراخ!
ألا تخال قلبها خفقانًا سريعًا،
ويضطرب العش لدى أنفاسها الراقدة؟
من يا ترى أوحى ذلك الحب،
وتلك العناية بصغارها؟

•••

ألا تسمع أغاني البلبل في الغاب،
تذيب جداول الألحان؟
أَوَلا تخال أن قلبًا يخفق،
يخفق في تلك النغمات؟
فهذه الموسيقى المضطربة،
تتقطع في فؤاد أنثاه،
في فؤاد عاشقته،
وتطبع سيماء الربيع الدائم في ذلك القلب المحب!

•••

رب، إن الحياة لجمال،
أشعر بالحب الذي تشعر به تلك الأنثى،
وبالنغمات،
التي ينشدها البلبل العاشق!
أنا :
ألا ترى الشعاع ينسلُّ بين ورقتين،
وينطرح على الأعشاب الخضراء،
كأنه عتلٌ من الذهب،
أنهكه التجوال في مطارح الغابات؟
ألا ترى الفراش الملون،
يستحم في مياه الأثير؟
ألا ترى الأجنحة النَّيرة،
تلقي على الطبيعة شعاعًا من ضياء الله؟

•••

ألا ترى الحشرات الصغيرة،
تتطاير في الفضاء كأنها مواكب السراب؟
فأي نظر لا يضيع في هذه المواكب؟
وأية مقلةٍ تستطيع أن تحصي هذه الحشرات؟
غير أن لكل حشرة وجودًا تحيا فيه،
وبكل ذرة من ذرات الفضاء
عالمٌ تعيش فيه المخلوقات
مهما كان ذلك العالم صغيرًا أو ضيقًا
كل ذرة من ذرات الفضاء،
هي وجود فسيح،
وكل شعاع من أشعة النهار،
هو زمان طويل.
وللهوام نُهُرها ولياليها،
ومنازلها وأقدارها،
وحياتها وأفكارها،
ومنخفضاتها وعلاليها.

•••

ربِّ إن ينبوع الحياة لعظيم،
كم في صدرك عاطفة،
تضم بها تلك العوالم؟
وكم في عينك أشعة،
تنير بها هاتيك العيون؟
وكم في دماغك معارف،
تحصي بها مواكب الحشرات،
من ذبابة وذرة وعُثَّة؟

•••

آه! هل لأُذنك أن تصغي إليَّ،
وتسمع تمتمة قلبي،
تمتمة قلبي الوضيع؟
أنت الذي تسمع خفقات الجناح،
جناح الفراشة الصغيرة،
أو الذبابة المغتسلة في براعم الأزهار،
أنت الذي تسمع ذلك،
من علياء جلالك!
لورانس :
فلنطلب من الخالق المبدع،
أن يبقينا في هذا المكان،
لنتملَّى من الأماني،
ونذوق معًا ما تنثره لنا يداه الجبارتان!
أنا :
ليلَقِّنْ كلٌّ منا الآخر،
أغاني المروج وتسابيح الله،
ليلقِّن كلٌّ منا الآخر،
كما يلقنُ البلبل الصدَّاح أناشيد الطبيعة،
لبلبلٍ صداح!

•••

ولنكن صدى الأغاني الأخير،
أغاني الأشجار الباسقة،
والأزهار البيضاء،
البيضاء كالثلوج!
لورانس :
ولنعطرْ يديه الإلهيتين،
كزنبقتين نابتتين معًا في تراب صخرة واحدة،
على ضفاف جدولٍ واحد،
تفوحان بأريج واحد!

نظرت إلى لورانس فأبصرته يبكي فبكيت، ثم أخذنا نصلي!

في ٢٥ تموز سنة ١٧٩٤

كنت في الماضي أقضي الساعات الطوال في الحديقة أو في بعض المروج الخضراء وفي يدي كتاب وبالقرب مني كلبي الأبيض، تارة أقرأ بعض القصائد وطورًا أتلهى بقشر الأغصان أو بنثر الأزهار على مياه الجداول، تابعًا بنظري مجاري المياه تلمع على ضياء الشمس كقطع من اللؤلؤ الأبيض، مصغيًا إلى خريرها المسكر يتقطع على الحصى بين الأدغال الكثيفة، أو مضطجعًا على الأعشاب، حيث الأزهار الفيَّاحة تُغرقني في فراشٍ من الأحلام اللذيذة أو من الأسرار المبهمة وتلقي عليَّ ستائر من أخيلتها، فأسترسل إلى عواطف مرة، وتتراءى لي صور الحياة ملأى بالأشباح الهائمة، أشباح الحب الإلهي، ثم تتوارى تلك المشاهد عن عيني وتتلاشى كضبابٍ بعد عاصفة، وتجف الدموع على حافة أجفاني، لم يبقَ لي من تلك الرسوم القديمة إلا غيوم ملونة من الذكريات تمرُّ في فضاء قلبي! فلورانس يشغل اليوم فراغ نفسي، فأية قصيدة من الشعر تضارع جماله العذب، وأي صفاء يضاهي صفاوة حياته عند ما تمر حمرة الخجل على محيَّاه ويلقي جبينه البض على صدري المضطرب؟ فكم من آلهة تضيء على وجهه النير، وكم من شعاع يلمع بين عينيه بحقائق أسمى من حقائق البشر!

في ١٥ تشرين الأول سنة ١٧٩٤

هذا المساء، هبَّ هواء فاتر فكنس ما كان على قمم الجبال، إن التنهُّدات الأليمة التي تطلقها النسمات وترسلها إلينا لهي قبلات الوداع لفصل الصيف المائت، كانت السماء صافية الأديم، عميقة كالبحر، وفي ذلك العمق كنَّا نرى موقد الشمس ذات الأشعة الفضية يخفق ويضطرب كشهب من نار، أو كشعلة من قش أضرمها الفلاح على قمة جبل، وكان القمر يلمع كقطعة من الجليد ويركض على مياه البحيرة برعشة بيضاء، والشجر العارية من أوراقها تنتصب بأغصانها كأنها هياكل أجساد عراها البلى! والحطب المائت، الساقط على الأرض، كأنه عظام رماها الحفَّار على جانب التربة، فاقتربنا بقلب منقبض إلى الصخرة المجوفة، حيث ينام والد لورانس نومه الأبدي، ولا أدري أية فكرة صعدت من تلك الحفرة ومرت في ذاكرتي، فقلت في نفسي: «مسكين لورانس!» ثم نظرت إليه قائلًا: «عندما استرجع التراب والدك يا لورانس وهبك الله أبًا وأمًّا من قلبي ونفسي وأوحى إليَّ تلك العاطفة وذلك الحنين اللذين كانا ينسكبان عليك من مقلتي أمك وأبيك، ولكن، إذا نزع الخالق صديقك وأعاده إلى أحضان أمه الأولى، فماذا يحل بك يا لورانس؟»

– ماذا يحل بي؟

أجاب لورانس، أتتجاسر أن تسألني عن ذلك؟

ثم قادني إلى قبر والده، ووقف كالتمثال أمام تلك الحجرة الرهيبة، ورفع نظره إليَّ، قائلًا: «لقد ألقاني بين ذراعيك أمانة مقدسة فيجب عليك أن تعيد إليه تلك الأمانة كما ألقاها بين ذراعيك، عفوًا يا صديقي، أليس الموت غيابًا لا نهاية له؟ لا تعد على مسمعي هذه العبارة الأليمة.»

قال هذا، ووثب إلى صخرة مرتفعة ووقف على شفيرها كأنه يود أن يلقي بنفسه من ذلك العلو الشاهق، فاضطربت اضطرابًا شديدًا وخفت أن يذهب ضحية غفلته، فانتبه إلى اضطرابي، فقال لي: «لا بأس، إنك حدثتني عن الموت وأنا أنتقم لذلك!» فحاولت أن أردعه ولكنه أسرع بالهرب وتوارى عن نظري.

في ٦ تشرين الثاني سنة ١٧٩٤

سقط الشتاء على هذه الأصقاع فالتفَّت من حولنا هضبات الثلوج، ولم نعد نتبين الأودية الصغيرة من القمم، والسيول المتدفقة من شواطئها، ورَعْنَ الجبلِ من هوَّته، فالطوفان غمر المرتفعات بمحيط من الجليد، والهواء العاصف يبدل في كل ليلة مواضع الهضبات!

•••

خرجت هذا الصباح من المغارة وكانت الجبال تلمع بالثلوج البيضاء، فجعلت أتجول بين الأشجار المتثاقلة بالجليد إلى أن بلغت مسافة بعيدة بعد أن قضيتُ أكثر من ثلاث ساعات هائمًا على نفسي في مذاهب الطبيعة، فوقفت على مرتفع تتهاوى الثلوج على أقدامه وتتدفق السيول على جنباته وأخذت أُسرِّح الطرف ناظرًا إلى جهة الكهف مفكرًا بلورانس، وقد تركته نائمًا بالقرب من وعلته الوديعة فمرَّت في صدري رعشة شديدة؛ إذ سمعت اسم جوسلين يتقطع بالشهيق ويموت بين تلك الأعاصير، لبثت فترة، مترددًا على تلك الصخرة، وقد مرت في مخيلتي فكرة رهيبة: «أتراه خشي عليَّ من الخطر فرمت به عاطفته في لجة من تلك اللجج العميقة؟» ثم أسرعت بالرجوع مناديًا لورانس فيرجع الصدى ذلك الاسم اللطيف، إذا بي أرى الوعلة تقترب مني وتقفز أمامي ثم تحاول أن تهديني إلى مكان قريب، فحدثتني نفسي بأن هناك مصيبة أليمة فمشيت ومشت إلى أن بلغنا هوة عميقة فتقدمت الوعلة وأزاحت بمخطمها بعض الثلوج المتراكمة على مقدم الهوة فتراءى لي جسد لورانس ممددًا على الجليد والدم الغزير يتدفق من جرح بليغ في رأسه وشعوره الذهبية ملطخة بالدم، فارتميت عليه وحملته بين ذراعي وصعدت به إلى خارج الهوة ثم أسرعت إلى الكهف، حيث مددته على فراشه وأشعلت النار لأُدفئه، فنبع دم غزير من صدره، فلم أتردد بأن مزقت ثوبه بأسناني، ويا للعجب عند ما رأيت ثديي امرأة يندلقان من ذلك الصدر المغمى عليه! فتراجعت مذعورًا وقد جمد الدم في عروقي وجحظت عيناي، غير أني تجلدت أمامها وجعلت أدب الحرارة في جسدها المدمي حتى استفاقت … أجل، استفاقت وأجالت بنظرها إلى ما حولها، وقد احمرَّت وجنتاها من الخجل فأغمضت عينيها بسكرة الألم ثم جعلت تعض يدي تارة وتقبلها أخرى ورقدت رقادًا طويلًا!

٧ تشرين الثاني في الصباح

قضيتُ الليل على فراش لورانس، ساهرًا على آلامها، مغسِّلًا جراحها من الدم، وفي المساء، عادت إليها شاردات الحياة فرفعت رأسها إليَّ، وقالت: «لقد خدعتك يا جوسلين فسامحني؛ لأن والدي شاء ذلك قبل موته ولم أجد بدًّا من احترام مشيئته، طالما حدثتني نفسي أن أكشف لك عن سريرتي، غير أن يدًا قوية كانت توقف لساني عن القول، ولا أدري أي خجل كان ينسدل عليَّ عند ما أحاول أن أوقفك على أمري، ثم إني كنت أعرف ما تنطوي عليه نفسك من الميل إلى الترهب فأكتم عنك كل شيء مخافة أن تقول لي ما لا أتوقعه، فأضطر إلى قتل نفسي على قدميك، والآن أشعر بالموت يدنو مني شيئًا فشيئًا، فالهوَّة قد أخذتني وحدي وتركتك للحياة، عش بعدي يا جوسلين واذكرني في مطارح غربتك، واغفر ذلك الذنب الذي اقترفته نحوك واضرب صفحًا عمَّا مضى …»

•••

آه! هل عند الملائكة مثل ما عندها من الفضائل؟ أيقدرون أن يمزقوا أنفسهم في فؤاد من يحبون؟

– أجل، إني أسامحكِ يا لورانس، فالحب الذي رفعتِه على مذبح التضحية هو أسمى من الغفران، إني أحبك فاحيي طويلًا لتسمعي كلماتي صاعدة من أوتار قلبك، ولينرنا الله بمصباحه الإلهي.

في ٨ تشرين الثاني ١٨٩٤

– لقد كنتَ لي خير طبيب، قالت لورانس وعلى شفتيها خيال ابتسامة لطيفة، كنَّا صديقين فأصبحنا أخًا وأختًا!

– أخ! أخت! آه! ألا يوجد كلمة أعذب من هاتين الكلمتين؟

– إذن أنت تحبني يا جوسلين، تحبني بعد ذاك القسم الرهيب!

– أجل، أُحبكِ! كان الأحرى بكِ أن تطلعيني على أمرك قبل الآن، يجب ألا يُخفي محبٌ شيئًا عن محبه، لقد عرضت نفسكِ مرارًا إلى الريبة فنزل الحب منزلة الشفقة من قلبي؛ لأن صوتكِ كان يختلف عن صوت الرجل، وعينيك الجميلتين كانتا ترميان قلبي بسهام أقوى من سهام العيون، أجل أحبك! فما من قسم يربطني حتى الآن، ولكن، يجب ألا تفكري اليوم بسوى الحياة، وأن تهتمي بصحتكِ قبل اهتمامكِ بشيء آخر، لقد انهدم الصخر وسُدت طرقات الأودية بأكواد الثلوج، فلا مخرج من هنا قبل مجيء الصيف.

– سأحيا يا جوسلين، قالت بصوت موسيقي، فحبك الشريف يناديني من أعمق أعماق الموت! سأعيش سعيدة طيلة حياتي، فلا يهمني أي قسم يغلل أيامك إذا كان الخالق يسمح لي أن أتبعك، وأسمع صوتك وأراك في أي مكان شاء! يكفيني من الحياة أنك تحبني وأن قلبك ملكي!

•••

قلت للورانس: «ربما لم تكوني عارفة أن الله يحكم على الراهب بأن يكون مترمل القلب، ويمنع عنه ذينك الاسمين اللطيفين: الحبيبة والزوجة، إذا أراد المبدع أن أتطوع لخدمة المعبد فأضطر إلى شرب دمي من ذلك الكأس، وإلى العيش بعيدًا كل منا عن الآخر.»

– إذن، أجابت، فأحرى بك أن تقتلني! بماذا أنت تفكر الآن؟ إن الله الذي جمعنا في هذه الأماكن الرهيبة، ألقاني بين يديك كما يُلقى الولد المهمَل بين ذراعي امرأة غريبة فتتعهده بحنانها وتسهر عليه سهر الأم على وحيدها، أَتُلقي بي بعد ذلك بين ذراعي. حظِّي مائتة وباردة كالقبر، أتقول للإله: «مات أخي الوحيد!» أتقف له حياتك وحياتي كالبخور؟ ماذا، ألا يلعن ذلك النذر، وينادي باسمي ضميرك الملسوع؟ آه! لا، فإرادة الله لم تعد مشكلة يصعب حلها، وأنا أئتمنه على قلبك الذي فتحه لي بيده الشفيقة، أجل! إن سعادتي لشريعتك، وما من سعادة، وما من فضيلة في هذا العالم بدوني.

قالت ذلك ثم أجلستني على فراشها وتنهدت قليلًا واستطردت قائلة: «أقسم لي، أقسم لي يا جوسلين لشقيقتك المسكينة، ليتيمك الصغير، أقسم أمام المبدع القدير أنك لن تهجرني، أجل، أقسم، فموتي وحياتي يتنازعان بين شفتيك»، ثم جعلت تحدِّق إليَّ مستعطفة متوسلة، فنظرت إليها نظرة تجسَّم فيها القسم وطبعت على يدها المضطربة قبلة حرى أعادت إليها الحياة!

•••

أخذت لورانس تنتعش رويدًا رويدًا، وفي هذا الصباح تركت فراشها لأول مرة وخرجت من الكهف متكئة على كتفي، أيتها الشمس الجميلة، هل أنرت مرة مثل هذه الزهرة الذابلة على قممك المرتفعة؟

كم أُحب أن أشعر بثقل ضعفها على كبدي، وأن أعرف أن قدميها، قدميها الواهيتين، لا تستطيعان الوقوف لولا ذراعي! وكم أُحب أن أنظر إلى مقلتيها السوداوين، وإلى بسماتها السحرية، شاعرًا بقلبها يخفق تحت ثوبها الأبيض!

في ٦ كانون الثاني سنة ١٧٩٥

لا أعرف أي حياء يوقف نفسي عن النظر إليها، وهي لا تعرف أيضًا معنى ذلك الخجل، ولا تشعر أني أصبحت أتردد عن وضع شفتي على جبينها كما كنت أصنع سابقًا، لم أعد أسمح لذراعي أن تطوق عنقها العاجي، ولم أعد أجد من اللائق أن أدعها تنام على جنبي، ولا أن أترك شعورها تتبعثر على جبيني، وكما يردعون الولد الصغير عن اللعب بالنار هكذا أحوِّل رأسي عن رأسها غير مكترث لبكائها أحيانًا.

لا تلبث لورانس أن تبكي عند ما تراني مبعِدًا جبيني عن جبينها؛ إذ تعتقد أني ما عدت أحبها، فأخفف ما بها بنظرة أو بتبسمة، وأدعها تحب مصغيًا إلى نغمات قلبها المسكرة، ناسيًا كل شيء في سبيل جمالها الإلهي!

آذار سنة ١٧٩٥

عند ما يهبط الظلام، يتحول كلٌّ منا إلى جهة، فتنام لورانس في الكهف وأنام تحت صخرة في الخارج، وهنا أحرس عليها ككلب أمين، حتى تستفيق من رقادها في الصباح وتناديني إليها، لا أعرف أية حرمة أحفظها للورانس فأردع نفسي عن لمسها، كأنما هي مخلوقة إلهية سقطت من الأثير العلوي فقدست التراب بقدميها!

نيسان سنة ١٧٩٥

كم أحب أن أنظر إلى عينيها المغلفتين بالأحلام، بانيًا ألف خيال من أخيلة السعادة بتلك الأحلام الذهبية، مؤسسًا في هذه المملكة كوخًا للحب الطاهر الشريف، آويًا تحت أغصان الشجر غبطة لم يذق حلاوتها سوى قلبينا، شاريًا راحة المساء العذبة بأتعاب النهار، حامدًا مبدع الكائنات على تلك السعادة القاتمة المختبئة تحت طيات البؤس، قائلًا للورانس: «أنت جزء من كياني، فانظري إلى نفسك في نفسي»، آه! لا يقدر أن يحمل هذا الحلم اللذيذ الذي اخترعه الله في هذا المكان من الطبيعة إلا الحب المستقطر من نواظر الطهر!

نوار سنة ١٧٩٥

النهار يعقب النهار، والشهر يخلف الشهر، والسنة تتثاقل على هضبات الأزهار، ربِّ! أنا منطرح على قدميك، فهل في سمائك شموس أجمل من هذه الشمس؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤