العهد الخامس

غرونوبل في ٢ آب سنة ١٧٩٥، في الليل في منزل أحد النجارين الفقراء

ماذا؟ أأنا في هذا المكان؟ … ربِّ! اسهر عليها من عليائك! يا ملاك الرحمة، أَجرها بجناحيك! ماذا! تركتُ لورانس أمانةً عند الصخور؟ إن قلبي الكسير لشديد الحزن وتوبيخ الضمير يثقل عليه!

•••

ولكن، أيمكنني أن أرفض رجاء الميت الذي يدعوني إليه في ساعته الأخيرة؟ أأقدر أن أُخالف إرادة ذلك الراعي القديس الذي تعهدني في أيام بؤسي، وتقبلني صغيرًا بين المبتدئين وحنا عليَّ حنو الأب الكريم، وكان صديقًا لنفسي، وسيدًا عليَّ!

•••

عندما رأى أن سجنه المظلم حل محل قصره، وأن ثوبه الأُسقفي جنى عليه وكان حكمَ الموت، وأن المقصلة تشير إلى القدر المحتَّم عليه، ولم يبقَ له إلا شرب الكأس التي أعدوها لعذابه، طلب أن يمثل لديه صديقه الحميم ليؤاسيه قبل أن تفيض روحه بين جلاديه، آه! أأقدر أن أكون رجلًا ولا أُسرع لاستغاثته؟ لا، لا أطيق على نفسي أن تكون جبانة وجاحدة الجميل!

•••

بأي لولبٍ غريب تدير يد الخالق القدير ذلك القدر، حيث العيون البشرية لا ترى إلا صدفًا وعجائب! …

•••

صعد أحد الجبليين، وهو خادم في السجن الرهيب الذي يضم بين جدرانه ذلك الأسقف المحكوم عليه بالإعدام، إلى قريته ذات يوم وقال للمعَّاز الذي يعرف دون سواه مكان إقامتي في تلك الجبال، إن الأسقف وقع في يد الجلادين أسيرًا وهو قيد المحاكمة وإنه يطلب قبل موته أن يؤتى إليه بجوسلين الصغير ليُسر إليه أمرًا مقدَّسًا.

•••

عندما سمع المعَّاز اسمي ظنَّ أن الله يأمره بأن يكشف أمري، وأن واجبًا مقدسًا يقضي عليه بأن يتسلَّق الجبال مع ذلك الجبلي ويُفضي إليَّ بمشيئة الأسقف، فانتظرا حتى هبط الليل وصعدا إلى مغارتي متسترين فسمعت وطء أقدامهما المتثاقلة، فاستغربت الأمر بادئ ذي بدء وأطللت من الصخرة المجوفة، وكانت لورانس نائمة في الكهف فلم تسمع شيئًا، فبلغاني بكلمتين سبب قدومهما، عند هذا أخذ الحب والغيرة يتنازعان في نفسي، ثم استأذنتهما قليلًا ودخلت إلى الكهف، حيث كتبت ورقة للورانس ضمنتها هذه الكلمات: «ارقد بسلام أيها الحب، فغيابي لا يتجاوز اليوم الواحد!» ووضعت الورقة بالقرب من لورانس بعد أن وقفتُ دقيقة أتأمل جبينها الجميل، وقد مرت عليه سحابة الأحلام العذبة وبرزت على شفتيها ابتسامة الملائكة، ثم سجدتُ أمامها وألصقتُ على قدميها جبهتي وخدي وفمي واستنجدت الله والقديسين لحراستها طيلة غيابي، وخرجت من الكهف بعد أن أبقيت قلبي تحت قدمي لورانس!

نزلت على آثارهما تلك السلالم الحجرية بعد أن استبدلت ثوبي الرث بثوب المعَّاز، وتنعَّلت حذاءه المسمَّر، وكان شعري الطويل، وجبيني المشهَّب، وأناملي المتفلعة بالبرد تُعطيني هيئة جبلي لا يزال شابًّا، بلغنا المدينة بعد أن اجتزنا تلك المزارع المجهولة ونزلت ضيفًا عند الجبلي ابن عم المعَّاز، وفي هذا النهار يجب عليَّ أن أمتثل بين يدي أُسقفي الشهيد في ذلك السجن الهائل!

في مستشفى غرونوبل في ٥ آب سنة ١٧٩٥ في المساء

أين أنا؟ ربِّ اغفر ذنوب تلك النفس التائهة! لا لا، بل اضرب ذلك القلب المتردد الذي ما عرف أن يتبين الجريمة من الفضيلة، والذي لم يعد يعرفُ إذا كانت السماء تمقته أم تهواه!

•••

أجل! إني أَضغَن على نفسي، فلتحتجب روحي عن روحي! هو ذا الأُسقف يباركني! … أنا قاتل ورسول السلام معًا، فلقد خلصتُ بيدٍ وسفكتُ بيدٍ أخرى!

•••

ولكن أين أنا؟ وإلى أي مكان قادتني المقادير؟ كلٌ يتراءى رهيبًا لعيني التائهتين، ما هذه الأسرَّة القطنية؟ ومن هؤلاء النساء، وهذه الأشباح البيضاء؟ أراها تتمشى صامتة كالقبور بين هذه الأروقة المظلمة، وتنحني فوق الوسائد كالأمهات! أتُراها ملائكة الرحمة هبطت من السماء؟ أتراها عرائس ابن الله أمام أسرَّة الآلام؟ أتراها أُمهات لجميع الأبناء، وأخوات لجميع الإخوة؟

في ٦ آب في الصباح

ماذا جرى في العالم فتبدلت هيئة الأمم وساد السلام؟ أرى الكل يعرفونني باسمي الحقيقي! هم يقولون: إن باريس فتكت بالجلاد، وإن فرنسا غسلت الأراجيف، وخنقت أصوات الدم، وإن السجون فرغت من الأبرياء المظلومين، وأعادوا رموز الله إلى المعابد بعد أن حطَّم الشعبُ مقاصلَ الموت! هم يقولون: إن فرنسا بُعثت من القبر ونجت من يد الجلادين!

في المساء

كل نائم … تلك امرأة قديسة لا تزال ساهرة بالقرب من وسادتي … أشعر بالنعاس يحاول الهرب من أجفاني، فأقدامي تود أن تصعد إلى حيث يقيم قلبي، غير أنها لا تزال رازحة تحت ثقل الضعف الشديد، سأذهب غدًا صباحًا إلى مكان قلبي! آه إن مشاهد السهر والآلام تتصاعد من خلال تذكارات بعيدة وتنعقد على جبيني كأنها خيوط مقطعة يحاولون أن يجمعوا أطرافها!

•••

حكم قاضي الشعب بالموت على الأسقف السجين! سمعتُ ضربات المطارق تسمر أخشاب المقصلة في هدأة الليل، فدخلت إلى السجن وكنت أخال أقدامي، وهي تنزل الأدراج الرطبة، أنها تلصَق بأدراج من الدم. لا أعرف أية رائحة من روائح الدموع كانت تفوح تحت النوافذ، وأي عرقٍ كان يجري من الجدران سيولًا سيولًا. كنت أسمع الألواح تردد النحيب، كأنما هي مجرمة ترشح نزعها قطرة قطرة، في أسفل ذلك القمع المظلم، كان ينفتح السجن الرهيب القائم على الصخور، ما كدت أدخل حتى رأيت الحاجب، وفي يده مشعل يُعطي الظلمة الباردة أشعة صفراء شاحبة، داخلًا إلى مأوى المظلوم، ورأيت الشيخ يحدق في تلك العتمة، والشعاع المترامي على خديه كأنما هو يد من نار تشير إليه بين تلك الجدران القاتمة، راسمة فوق رأسه تاجًا من الأنوار المقدسة، أجل! أبصرت ذلك الأسقف المسكين وقد رزح تحت ثقل السلاسل الحديدية، فاحدودب ظهره، والتوت قامته الطويلة، وبرزت أضلعه من خلال أثوابه الممزقة، واضطربت أقدامه العارية على الحضيض البارد، وكان فراش القش، ذلك الفراش المبعثر الأطراف لا يزال مستبقيًا آثار جسده، ولحيته البيضاء بارزة من خديه المجوَّفين كأنما هي قطع من الزَّبد تجمدت على نواتئ صخرة، وعيناه المقعرتان تلمعان كالجمرة في محجريهما المظلمين، وكان بصره الضعيف يبحث عنَّا ولا يرانا من عمق أحداقه، وقد تراءت الإنسانية المغلوبة، على جبينه الشاحب فخلتُني أمام نصير عظيم من نصراء الحقيقة المبتدَعة!

وما كدت أتوسط المكان حتى سقطتُ على الأرض خائر القوى غير متجاسر أن أقترب إليه أو أن أهرب من وجهه، وبعد هنيهة رفع الحاجب نظره إلى الأسقف، وقال: «هو ذا الشاب يا سيدي، فلقد قمت بواجبي نحوك»، ثم ترك المشعل على أقدامي وخرج من السجن مقفلًا وراءه الباب الكبير، «أأنت؟ اقترب لأراك وأضم إلى صدري ابنًا وديعًا من أبناء الله، أشعر بساعتي الأخيرة تدق في قلبي، غير أني أود أن ينبثق فجري الخالد من نفسك الطاهرة، وأن أغسل روحي بمياه الكاهن أمام خالق الكائنات، جوسلين، أريد أن أضع بين يديك مفاتيح الله وأن أَكِلَ إليك أمر قطيعي المقدس، فالسجون والمنفى والسيوف الظالمة لم تُبقِ على أحدٍ من هؤلاء المبتدئين رفاق حداثتك، ولم يبقَ سواك أيها المبتدئ الوديع»، لبثت واقفًا كالصنم لا أجيب، ولا أرفع جبيني الحيي، ولم أعد أسمع إلا دقائق الظلمة تتمشى بين جدران السجن، فاستطرد قائلًا: «يجب أن تصير كاهنًا يا جوسلين، فالكاهن ضروري لله! إن الحكمة الإلهية توجب عليك أن تنزل عند مشيئتي، وأود أن أنذرك لله على حافة قبري: اخفض رأسك يا ابني لينزل عليه الميرون المقدس! عندما يسيل عليك ذلك الروح الأقدس أريد أن أتقبل منك أنا الخاطئ المشرف على الموت، قربانة الحياة وخمرة الآلام! اقبل من الشهيد ذلك السر الأعظم، ومُت لكي يحيا الله …» قال هذا ورفع يده ليباركني، غير أني كنت قد ابتعدتُ عنه قدمًا، وقلت له: «تمهَّل قليلًا يا أبتِ، قف، قف، فلست قادرًا على ذلك، أجل! إن نفسي لخالقها، ودمي لإيماني، غير أن أيامي المدنسة لم تعد ملكي، فالله لا يطلب مني أن أضحي له ميتين في ميت وقلبين في حياة!» عند هذا نظر إليَّ نظرة رهيبة وقطَّب حاجبه الكثيف فاستأذنته ساعة سردت فيها على مسامعه حوادث العامين بدون أن أستثني حادثة، وأطلعته على القَسم الذي أعطيته لتلك الفتاة رفيقة آلامي ومصائبي، ثم صمتُّ فترة كنت أقرأ فيها أمارات الغضب على جبينه حتى استطرد قائلًا: «إن الروح الخداعة تقذف بك إلى فخ مخجل مدنس، فاحمد الصُّدف أيها الجاهل، إنها لتهبك أسمى هبات الله للإنسان! آه! حطِّم تلك المكائد الغرارة واخفض جبينك من الخجل، ماذا؟ أتستسلم لتلك الأهواء الخطرة ثمار الكسل ونتائج الانفراد؟ ألأجل ذلك تخون موتي وتدعه بلا غوث، وتترك معبد الله عاريًا من الرعاة؟ لم أكن لأعتقد يوم كان المذبح مخضَّبًا بدماء رعاته، يوم كانت أبناء الله تَثب من السجون إلى المقاصل، يوم كان العالم ينظر بعجب إلى دماء الشهداء، شهداء الإنسانية والدين، تتفجر من أيدي الجلادين، أجل، لم أكن لأعتقد يوم ذاك أن أحد الجنود، جنود المعبد المقدس، يأبى أن يسرع لنجاة الله فينطرح بين مخالب الأهواء الدنسة رافعًا للخالق، على أقدام المقاصل، حيث فاضت أرواح إخوته الشهداء، نساءً غريبات يخضِّبن خدودهن بحمرة الآثام!»

– رحمةً يا أبتِ وشفقةً! أية كلمة تتلفظ بها شفتاك؟ إن السماء لتعرف ما إذا كنتُ أضطرب من رؤيتك، هي لا تجهل تعلقي بك وحبي الشديد لك، ولكنك تقيس قلوبنا بقلبك، وتعتقد أن نفسي العاشقة لا تنزع إلا حلمًا من صدر تلك الفتاة، لا، بل ثق أن حبي لها سوف لا يُرفع إلا على أقدام المذابح، أتريد أن يُغمى على العاطفة المغروسة في قلبينا، وأن ينطفئ ذلك الحلم الذي فتح براعم نفسينا، ويضمحل ذلك الشعاع الذي أنارنا طيلة سنة؟ قدِّر حب الرجل والمرأة يا أبتِ، ذلك الحب الطاهر الذي يربط حياتهما بلُحمة واحدة، ويبقى حيًّا كالحياة وقويًّا كالموت!

– اصمت! يا جوسلين إنك تدنِّس هذه الساعة، وهذا الموقف المقدس، وهذه السلاسل المثقلة عليَّ، وهذا المكان المطهر بشهادتي، كيف تتجاسر أن تتلفظ بالحب في هذه الظلمة الخرساء؟ انظر أين أنت! حدِّق في هذا السجن إلى أعضائي البارزة، وإلى ذراعيَّ المرتفعتين إلى الله! بقيودٍ قتَّالة، انظر جيدًا إلى هذا المرقد، حيث الكنيسة تطلق نفَسها الأخير شاعرة بقبلة الله في فِرِنْد الحسام، إلى هذا الضريح، ضريح الموت الآهل بالحياة الذي لا ينفتح إلا للخلود، أأمام هؤلاء الشهود، شهود الآلام والمصائب، وأمام هذا المحتضر على خشبات التضحية، تتجاسر أن تتلفظ بمثل تلك الأهواء المميتة؟ آه! إن هذه الحسرات لتثقل على موتي! ماذا؟! أخائن أنت؟ ولكن لا، لا يكون ذلك! لا يمكن أن تلطخ حياتك الطاهرة، لا يمكن أن ترمي جبيني بهذه الرذالة! لا يمكنك أن تسقيني السُّم عوضًا عن الماء، سوف لا تدع روح والدك الشيخ تذهب إلى خالقها قبل أن تتزود الغفران وتلقي خطاياها عن كاهلها المثقل! آه! طالما رجوت الله أن يمنحني كاهنًا لأنطرح على قدميه عند ساعتي الأخيرة وأسمع من فمه تلك العبارة الإلهية: «إني أحلك من خطاياك!» جوسلين، إني بحاجة إلى هذه العبارة، ألا تهبني إياها؟ باسم هذه الدموع الأخيرة المتساقطة من أجفاني على يديك، باسم هذا الشَّعر الذي بيَّضته السجون بظلماتها، باسم هذه الأعضاء المضطربة فريسة المقاصل وضحية الظلم، باسم العناية الحنونة التي تعهدتُ بها نفسك يوم كنت صغيرًا، باسم أمك، باسم تلك المرأة التي لو رأتك عيناها الطاهرتان في هذه الظلمة، لما ترددت بدفعك إلى الواجب المقدس بكل ما أُوتي قلبها من الحب، أجل باسم كل ذلك أرجو منك ألا تضن عليَّ بتلك العبارة لأحملها إلى السماء يا ابني.

ما أوشك أن ينتهي من كلامه حتى كان العرق قد بلل ثيابي، فبقيت واقفًا كالتمثال، صامتًا كالموت، محدِّقًا في الظلمة كجانٍ ينتظر الحكم عليه، ثم حولتُ نظري إلى الأسقف فأبصرت عينيه تتألقان بغضب فوق غضب الإنسان، وانتصبت قامته، كأنما فكرته قد رفعته عن الأرض، وبسط ذراعه المثقلة بالسلاسل فوق رأسي، فخُيِّل إليَّ أن صاعقة من صواعق الانتقام تقذف نارها من جبينه وتتلوى كالأفعى بين جدران السجن القاتمة، وسمعت صوته الغضوب يرمي عليَّ قنابل اللعنات، قائلًا: «إذن! فبما أنك تبقى عديم الإحساس لدى مدامعي وتوسلاتي، وبما أن الرحمة لا تستطيع أن تنير في نفسك مشعلها المنطفئ، وبما أن روحك تتردد بين السلام الذي أرجوه منك وبين حبك المرذول الدنس، ألعنك بين المسيحيين لعنة تتبعك إلى القبر: اخرج من أمامي فلم أعد أعرفك! اخرج من جبل الجلجلة، حيث يموت سيدك فما أنت إلا جلاد أفظع من جلاديه، ما أنت إلا شاهد جبان لا تستحق أن ترى كيف يموت المسيحي فداء واجبه، أجل! اخرج من هذه الظلمة المقدسة، اخرج بصورة غير الصورة التي دخلت فيها، واحمل على جبينك ذلك الغضب الإلهي ولتشاطرك إياه …» وقبل أن ينتهي من كلامه أوقفته قائلًا: «قف يا أبت لا تكمل! لا تلعن أحدًا بل صوِّب لعنتك عليَّ وحدي!» وكأنه شَعر بخوفي يضطرب لدى قوَّته ويتساقط على أقدامه كما تتساقط الشجرة لدى فأس الحطَّاب، فقال لي بصوت جهوري، كأنه يخاطب إنسانًا من وراء حجب الموت: «أصغ إليَّ يا جوسلين، إنك لتسمع صوت الله من شفاه الموتى، فالله يأمرني أن أنزع بيدٍ إلهية قلبك التائه من ذلك الفخ الذي يقودك إليه العالم الشرير، إنه يُعير صوتي ذلك الحكم المحتَّم، ذلك الحكم الذي يوجب عليك أن ترضخ لي وتأتمر بأوامري!» عند هذا شعرت بيده المغللة بالحديد تلامس جبيني، وخيِّل إليَّ أن يد الله تمر على رأسي، فسقطتُ ساجدًا على قدمي الأسقف لا أَفوه بكلمة ولا أحرِّك ساكنًا، ولم يمضِ بعض ثوانٍ حتى شعرت بأن تغييرًا مدهشًا قد طرأ على كياني، وعندما رفعني من الأرض كنت كاهنًا! …

•••

ترامى الشيخ بدوره على أقدامي واعترف بخطاياه للإله المصغي إليه، ثم حولت قطعة سوداء من الخبز إلى جسد الله وباركت كأسًا من الخمر وغمست القربانة فيها، ثم رددت العبارة التي أملاها عليَّ وكان المشعل يلقي في الغرفة أشعَّته المأتمية! كنت أخال أن الله يهبط من عليائه ويتحول إلى جسد ودم في تلك الخبزة وتلك الكأس، وبعد برهة قصيرة انطفأ المشعل في الظلمة وزحف النهار! …

فُتح الباب الرهيب ودخل الحاجب فنزع السلاسل عن الأسقف وقاده إلى خارج السجن، حيث تنتظره المقصلة المخيفة، فاقتربتُ منه وتركته يتكئ على كتفي ليتمكن من قطع تلك المسافة المأتمية، وكان يمشي إلى الاستشهاد كمن يمشي إلى الانتصار مباركًا جلاديه تارة بأنامله وطورًا ببسماته، حتى بلغ المكان المعدَّ له فأعنته على صعود السلَّم الرهيبة، وتبعته حتى المقصلة نفسها، وكان الشعب الشرس يعجُّ في الساحة ويهتف هتافًا مزعجًا فلم يُصغ الأسقف إلى تلك التجاديف واللعنات بل كان يبحث في عيني عن الوداع الأخير، وعندما ألقى جبينه على الخشبة الشؤمى تراءى لي الموت زافرًا في السكين زفرة المتظلِّم، فلم أقدر على التجلُّد لدى هذا المشهد المؤلم فسقطتُ ملطَّخًا بدم الشهيد، وشعرت أن صورة لورانس قد امَّحت من قلبي! …

•••

آه! إني أتنفَّس الصُّعَداء! إيهِ حكمة الله، أأنت في كل مكان ساهرة مصغية؟ أطلعت شقيقة الأسقف وهي راهبة قديسة على سري العظيم، فقالت لي: إنها تود أن تذهب بنفسها إلى الكهف وتأتي بالفتاة إلى منزلها، حيث تتعهدها بعنايتها الرءوفة وتحبها وتعطف عليها عطف الأم الحنون إلى أن يتبلغ أهلها خبر أمرها فيعيدوا إليها ما حجزته الحكومة من أرزاقها في الأيام العصيبة.

في ١٢ آب سنة ١٧٩٥

صعدتُ الجبال العالية مصحوبًا بالراهبة والمعَّاز فكنت أقف حينًا كرجلٍ يمشي إلى الموت وقد نازعته الريبة ودبَّ الخوف في ركبتيه حتى بلغتُ إلى هوة عميقة فأبصرت دوحتين متكاتفتين صنعت الطبيعة جسرًا منهما فمررت ومرت الراهبة والمعَّاز على ذلك الجسر وجعلت أُسرع بالخطى حتى بلغتُ الكهف قبل أن يبلغاه، ولكني ترددت بالدخول مضطربًا ثم تقدمت وأزحت الأوراق عن فوَّهة الصخر، فأبصرت لورانس ساجدة على ركبتيها، وجبينها الشاحب ملقى بوهن على صدرها الكئيب، وذراعاها الواهيتان مطوِّقتان عنقَ وعلها النائم، وشعورها المستطيلة مسترسلة على قرونه الجميلة، وبصرها التائه يرتفع تارة تحت أهدابها الحريرية ويذرف الدموع طورًا على خديها النحيلين، فتقدمت قليلًا فسمعت وطء أقدامي فنهضت مذعورة من مكانها، ولمَّا رأتني هتفت: «جوسلين!» ولكنها عادت فتراجعت إلى الوراء، قائلة: «ربِّ! ليس هو» وارتمت على أحد الصخور منهكة القوى، ثم جعلت تحدِّق إلى الراهبة والمعَّاز اللذين كانا قد وصلا إلى الكهف فاقتربت الراهبة، قائلة لها: «لا تخافي يا بنيتي واقتربي مني فما جئت إلا لأضمك بين ذراعي، إن الله الذي ينزع أخاك من يديك يهبك بدل الأخ أمًّا»، وببعض كلمات أطلعت لورانس على تفاصيل الحادثة فجمدت كالقبر، وقد تاهت أفكارها في مذاهب الآلام وتحوَّلتْ من فتاة جميلة إلى صنم من الرخام الشاحب، وفجأة، لا أعرف أية فكرة لمعت على جبينها فاستعادت نضارة الحياة، وبرز شبح الغضب من خلال عينيها، وتشعث شعرها على وجنتيها كأنه أمواج في إبان عاصفة، ثم ضحكت ضحكة السخرية، فاضطربت الراهبة لدى هذا المشهد وتراجع المعَّاز من الخوف، عند هذا رفعت صوتها بغضب شديد، وقالت: «أنتم كاذبون! فعودوا من حيث أتيتم إلى الذين أرسلوكم إلى هذا المكان، ماذا! أكنتم تعتقدون أنني ولد أنخدعُ بسهولة؟ اخرجوا من هنا جميعًا فقلبي لا يغتر بحِيَلكم، ولا يُؤخذ بحبائل مكركم!

هل اغتنمت فرصة غيابه لتنزعيه من بين يدي يا سيدتي؟ إنك لشديدة الغرور بنفسك، أَوَ تجهلين أنك تنزعين الجسد من الروح؟ …» وكان صوتها النحاسي يدوي في الكهف دويًّا مخيفًا، ويدها المرتجفة ملصقة على نواتئ الصخرة، فلم تتمكن الراهبة من إمساك دموعها، فقالت لورانس بصوت أليم: «أنتِ تبكين؟ لماذا أنت تبكين؟» ثم أمرَّت يدها المثلجة على جبينها الشاحب كأنما هي تحاول أن تطرد فكرة رهيبة، وقالت: «لا، لا، لست أثق بسوى جوسلين! أنا البائسة الطريدة المنطرحة بين يديه! أنا ضحية القدر! أنا فريسة المآرب! لقد هجرني بين هذه الصخور وتركني بين مخالب الخوف بعد أن قضينا عامين لا نأكل إلا معًا ولا نشرب إلا حليبًا واحدًا! أَمِن العدل أن ينهدم هذا المأوى على رأسي، وأن ينفتح ذلك القلب، الذي لم يعرف الجرائم ولم يلطخ طهارته بدم الآثام، ويصبح هوَّة يقبرني بها حية في أعماقها؟ لا، لا يمكن أن يكون ذلك! أجل، أنتِ كاذبة! وكذبك تجاديف مدنسة!» ثم صمتت فترة وبصوت ضعيف تراوده التأثرات النفسانية، قالت: «آه، يا جوسلين! آه يا أخي، ماذا فعلت وأين أنت الآن؟ أين أنت لتسمع ما يقول هؤلاء الناس فتسرع لنجدتي، أين أنت يا جوسلين؟ لماذا لا تدافع عن حبيبتك لورانس؟» فلم أقدر أن أُهدِّي روعي فوثبتُ إليها في وسط هذا المشهد الأليم، وما كادت تراني حتى قفزت قفزة واحدة إلى عنقي وحوطته بذراعيها الواهيتين ثم لامست جبيني وعيني بشفتيها الباردتين وضمتني إليها ضمة شديدة، وأخذت تضطرب بين ذراعي وتتلوى كالحية قائلة: «من يجسر الآن أن ينزعه من بين ذراعيَّ؟ أجبني يا جوسلين، قل لي إذا كنت قد خنت صديقك وحبيبتك وأختك! أجب يا جوسلين، تكلم، خذ بثأري وثأرك وقل لهم من نحن وأي حب يربط قلبينا!»

بقيت واقفًا بدون أن أفوه بكلمة وقد غمرتني أشعة رهيبة، وشعرت أن ذراعي تكبل ذلك القلب الذي يحبني دون الناس بسلاسل من حديد، فأخذت أبحث عن مهرب ألجأ إليه غير أن ذراعيها كانتا تضغطان بشدة على عنقي، وأخيرًا تمكنت من التخلص منها، قائلًا: «لا، لا تلمسيني، فلم أعد ذلك الرجل الذي تعرفينه، فما أنا إلا …» فقاطعتني قائلة: «لا تكمل! لا تكمل!» فلم أُصغ لكلامها وأردفت قائلًا: «ما أنا إلا راهب يا لورانس! لقد خنت حبي وسعادتي وقَسَمي، وشربت دمي ودمك في الكأس الأولى التي رفعتُها بيدي، لقد خنت أكثر من إله بخيانتي إيمانك الحي، فاهربي مني، ولا تُسمعيني كلمة الوداع الأخير، لا تنظري إلى بائس نظيري بل حولي عينيك عن وجهي، لا بل اسحقيني بقدميك كما يسحقون حشرة بين الأوحال! والعنيني ولا تضطربي! واحتقري نفسي المنطفئة وقلبي الخائن!» قلت ذلك وارتميت على الأرض منطرحًا على قدميها لتتمكن من المرور على جسدي وتسحق حياتي الملتهبة وجبيني الشاحب، ولكنها تراجعت شيئًا فشيئًا، كما يتراجعون عند رؤية الأفعى، وصرخت صرخة واحدة كأنما قلبها المنسحق قد انفجر مرة واحدة وقُذف من شفتيها، ثم ارتمت على جسدي واهية القوى فشعرت بيديها تثلجان وبلهاثها يتقطع شيئًا فشيئًا فأخذتها بين ذراعي وجعلت أدفئها لاعنًا نفسي ألف لعنة، ثم قلت لها بصوت عذب: «اغفري لي يا لورانس! وأفيقي من سباتك! أفيقي وارجعي إلى الحياة، فسأجحد فضائلي المرذولة وقسمي المقدس! لا إله إلا في قلبك وبين ذراعيك، ولا معبد إلا في نفسك الطاهرة الشريفة! أفيقي يا لورانس! فلا سماء إلا في عينيك ولا نفس إلا نفسك! لقد كذبوا يا حبيبتي، فعودي إلى الحياة: إن جهنم لا تنفتح لمثل هذا الحب!»

عند ذلك اقتربت الراهبة والمعَّاز شاحبي اللون، مضطربي الأعضاء، ونزعا لورانس من بين ذراعي … لورانس العذبة … لورانس الجميلة … فأبصرتها تنتعش قليلًا، ورأيت شعورها الذهبية تسترسل من جبينها الأبيض كأنما هي أجنحة ملاك ألقت عليها الشمس جواهرها اللمَّاعة، فلبثتُ محدِّقًا في باب الكهف وقد تواروا عن نظري!

مغارة النسور في ١٥ آب سنة ١٧٩٥

يا ابن الله، لقد رشح النزعُ من جبيني كما رشح من جبينك في تلك الليالي الثلاث، ليالي الأرق والآلام! آه! لماذا لا أسمع ذلك الصوت قائلًا لي كما قال لك في جبل الزيتون: «لقد انتهى كل شيء!» أأقدر أن أحمل ثقل المستقبل في فؤادي؟ وأن أسمع صدى الآلام يقول لي في كل مساء: «لا تنتظر شيئًا هنا، لا تنتظر شيئًا هناك! لا تنتظر شيئًا في الغد! إن حياتي لضريح ألقى الله ذكرياتي بين جدرانه! رب! لماذا أنا أحيا؟ لماذا أستفيق من رقادي؟»

•••

الموت؟ أجل! ولكن عفوًا … لقد نسيت أني كاهن! كاهن! رسمته الآلام في ظلمات السجون!

•••

لقد فطمني الله عن حليب الملذات! فلأشرب إذن كأس العذاب حتى الثمالة! ولأرفع تنهدات الله إلى مذابح الدموع! ولأضم إلى صدري أبناء البؤس بشفقة ورحمة! ربِّ! اسكب في نفسي حبك الطاهر لأذيبه في قلوب العالم كما كنت أُذيب حبي في فؤاد تلك الفتاة! وليكن كل ولدٍ من أولاد الإنسانية بمثابة لورانس! أجل! إن في أعماق السماء حيث يراك الإنسان كاشفًا عن وجهك، في ذلك المدى الأزرق، في مروج الكواكب النيِّرة، يتراءى لنا عالم فسيح الأرجاء أعدته يداك الإلهيتان مأوى للحب الطاهر! رب! إني لأنطرح على قدمي عزتك، ولا أرجو من هذا العالم غير الذي نلته، من الناس من يحلمون بسماواتهم ولكن أنا لا أحلم بشيء لأني رأيت سمائي!

عن المغارة في ١٦ آب سنة ١٧٩٥

أيها القلب، أغلق نفسك كحفرة فارغة! أيتها الزفرات، ارقدي في طيات قلبي رقادك الطويل! وليختبئ اسمك إلى الأبد بين جدرانه القاتمة! واحذري أن تتصاعدي إلى شفتي من خلال أحلامي المنطفئة! وليجهل الناس المنخدعون أن حبي لهم إنما هو وقف لكِ وحدك! ولتفترس النارُ الإلهية، تلك النار المضطرمة في قلبي، اسمك المقدس بلهيبها الطاهر! وليخفف هذا السر العظيم عن كل إنسان، إلى أن يحجبه القبر في ساعتي الأخيرة!

ولكن لورانس، آه! فلتحيَ طويلًا في هذا العالم، ولتتناسَ اسمي الدنس حتى يجيء الموت ويجمعني بها في العالم اللانهائي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤