خامسًا: شرح البرهان (ابن رشد)

ويبدو أن ابن رشد قد توجَّه مباشرة إلى لب المنطق وقلبه فشرح البرهان متجاوزًا مباحث المنطق الأولى، المقولات والعبارة والقياس، وهو ليس كاملًا إنما هو شرح المقالة الأولى فقط وهي أقل من نصف الكتاب إنما الجزء الباقي يكفي للدلالة على الكل وتعميم الحكم عليه.

ويدل تحليل أفعال القول في شرح البرهان على استعمالها في الماضي كشرح تاريخي لنص مضى وأحيانًا في المضارع كحقيقة مستقلة عن التاريخ. فأرسطو تاريخ وبنية، يوناني وعقلي. كما تظهر أفعال الإرادة والبيان مما يدل على دخول ابن رشد في مقاصد أرسطو وأهدافه متجاوزًا القول. ولا تزيد أفعال القول عن خمس مرات في حين أن أفعال الشعور والعقل والإرادة مثل: قصد، صرح، أعد، بين، اشترط، سم، تكلم، تشكك، جوز، عشرات المرات. والحديث عن القول كاسم أي الشيء ذاته يفوق الحديث عن الفعل. وليس القول وحده بل هناك الطريقة والمذهب والغرض والبيان والرسم والتعليم والتمثيل والخطأ أيضًا.

ومن غير المحتمل أن يكون ابن رشد قد عرف اليونانية، ولكنه استعمل ترجمة متى أو غيره، كما استعمل ترجمة ما بعد الطبيعة وهي أقرب إلى القول الشارح منها إلى الترجمة، صحح ابن رشد أسلوبها فقط دون الرجوع إلى الأصل اليوناني، ونظرًا لعودة ابن رشد إلى الأصول الأولى فإنه عاد إلى الترجمات ليتحقق من صحتها. ويراجع المترجمين وهم المعلقون والشراح الأوائل مثل متى بن يونس، فيذكره ابن رشد بلقب متى المترجم، وإن عدم دقة الترجمات أحد الأسباب المحتملة في خطأ التأويل. والتأويل الصحيح قادر على تصحيح خطأ المترجم مما يدل على أولوية المعنى على اللفظ، والموضوع على المعنى. فهل كان بين يدي ابن رشد عدة ترجمات أم ترجمة واحدة؟ هل راجع على اليونانية؟ هل هناك ترجمة عبرية قام بها يهود الأندلس عن العربية؟ هل كان ابن رشد يعرف العبرية للاطلاع عليها في حالة وجودها؟ وإلا فكيف عرف ابن رشد خطأ الترجمة؟ هل من عدم فهمه للمعنى أم من ترجمات أخرى بمناسبة موضوع ضرورة الوسط للحد. واضح أن ابن رشد أيضًا ضحية الترجمة كمطابقة. في حين أن متى ليس مترجمًا بل هو مفسر وشارح للمعنى قبل التعليق والشرح.١

ويقطع ابن رشد النص الأرسطي حتى يسهل مضغه ثم ابتلاعه وهضمه وهو الطبيب، ومجموع هذه الفقرات تكون مجموع النص الأرسطي. وقد تكون مختارة فقط في بدايتها أو نهايتها وهي النصوص المشروحة كما هو الحال في الاستشهادات المعاصرة. هو النص الذي يحتاج إلى شرح. فالفكرة الشارحة هي التي تحدِّد اختيار النص؛ لذلك من الصعب تحديد درجة الاقتباس من نص أرسطو، النص بأكمله أو جزء منه، عبارة دالة أو لفظ مختار. أحيانًا يكون النص المشروح قصيرًا، وأحيانًا يكون متوسطًا، وأحيانًا يكون طويلًا طبقًا للمعنى المشروح. فالنص فكرة وليس امتدادًا. الفكرة معيار كيفي تحدد النص الكمي؛ لذلك تختلف الشروح طولًا وقصرًا مثل النصوص المشروحة، أهميتها ومدى تركيزها، والحاجة إلى تفصيصها. ولا يوجد معيار واحد لشرح الكم بالكم. وقد تستغرق عبارة شروحًا أطول مما قد تستغرق صفحات بأكملها لأنها عبارة دالة. وقد يتم شرح لفظ بلفظ بعد الشرح العام حتى يسهل الابتلاع بعد التقطيع والمضغ مثل طريقة الشراح على الداخل للنصوص الموروثة في عصر الشروح والملخصات. وشروح ابن رشد من نفس العصر على أية حال، عندما بدأت الحضارة تعيش على نفسها تستدعي بالذاكرة ما أبدعته بالعقل سابقًا.

والشرح بطبيعته هو نظرية في البيان والإيضاح بطريقة التحليل إلى الأجزاء الأولى قبل التركيب في التلخيص، وإيجاز القصد في الجوامع. الشرح بيان للصواب والخطأ وإصدار للأحكام لأنه تفصيل وتدقيق وتحقيق. ولا فرق في المراجعة بين زمن أرسطو ونص الشراح اليونان أو المسلمين.٢ قد لا يحتاج النص إلى شرح لأنه بين بذاته ومفهوم بنفسه. وإذا احتاج فإن مقياس الوضوح هو الاتساق وعدم الوقوع في التناقض والخلف بين المقدمات والنتائج.٣ والشرح أيضًا وصف لمسار الفكر الأرسطي من اليونان إلى المسلمين على نحو تاريخي، وقد يكون تقييمًا نهائيًّا لقول أرسطو باعتباره بنية عقلية مستقلة تعادل الموضوع ذاته. الأول تاريخي والثاني بنيوي. ويتضح المسار الفكري بالربط بين الأفكار وتحديد المقدمات واستنباط النتائج سواء في نص أرسطو أم في وصف شرح ابن رشد واصفًا شرحه خطوة خطوة كجراح بمبعض يشرح العضو.٤ ويعترف ابن رشد بالعوص والحيرة والشك في نص أرسطو مما قد لا يقبل التوضيح والبيان بسهولة. ويراجع استدلال أرسطو. ويتتبع مسار فكره خطوة خطوة حتى يطمئن إلى الاتساق وعدم التناقض. ويشعر بالاستطراد في الشرح، ويذكر بالعودة إلى الموضوع الأصلي. فالتوضيح عملية ذهنية قد لا تنتهي. الاستدلال يؤدي إلى استدلال، ويصبح الفكر مجرد اتساق بصرف النظر عن الموضوع المشروح. يتحول الشرح إلى غاية في ذاته بدل أن يكون وسيلة لاقتناص الموضوع، ويقدم ابن رشد الكتاب كله، القصد الكلي قبل المقالة الأولى. فالكل سابق على الجزء. ويصف المعارك الأرسطية وأساليبه في الجدل.٥

(١) الوافد

وبالنسبة للوافد وهو في الغالب الوافد اليوناني وحده لأن اليونان كانوا يمثلون ثقافة العصر وكانت الأندلس بعيدة عن حضارة الشرق؛ فارس والهند وبابل. يحيل شرح البرهان إلى باقي كتب المنطق والطبيعيات لأرسطو. فالجزء لا يُفهم إلا في إطار الكل مما يدل على القصد الكلي للشارح. كما يشير إلى محاورة مانن (مينون)، وكتاب إقليدس.٦ كما يشير إلى إيساغوجي والمقولات ولكنه لا يحيل إلى العبارة. ثم يظهر كتاب القياس كنقطة إحالة رئيسية. فالنص مشروحًا أو شارحًا له مراجعه ومكانه في كتب المنطق وباقي كتب أرسطو. يظهر بوضوح أو لا يظهر. فالموضوع الواحد يحال فيه إلى أكثر من موضع؛ ومن ثم كان شرح البرهان ليس فقط شرحًا لكتاب البرهان لأرسطو بل دراسة موضوع البرهان في باقي كتبه وفي كتب غيره كما يفعل الدارس الحديث. لا يهم الشخص بل العمل مثل الإشارة إلى محاورة «مانن» دون أفلاطون. ويعلل ابن رشد البنية الداخلية لمنطق أرسطو. ويحدد رقم المقالة في كل كتاب متوخيًا الدقة. ويحيل المنطق إلى الطبيعيات بعد إحالة المنطق إلى المنطق. أما الإحالة إلى الإلهيات فقليلة للغاية مما يدل على ارتباط المنطق بالطبيعيات كارتباط الطبيعيات بالإلهيات. ومن وسائل البيان إحالة الجزء إلى الكل، وشرح البرهان بالإحالة إلى باقي كتب المنطق، ثم بإحالة المنطق إلى الطبيعيات ثم إلى الإلهيات. فالمقولات واحدة في الذهن (المنطق) أو في العالم (الطبيعة) أو في الشعور (الميتافيزيقا). كما يحيل ابن رشد إلى باقي شروحه واضعًا شرح البرهان في مجموع الشروح كجزء من كل.٧ كما يحيل إلى باقي مؤلفات الفارابي في شرح البرهان شارحًا الجزء بالكل، متجهًا نحو الموضوع وليس نحو العقل. وقد ضاع بعضها، وبقي البعض الآخر مثل «شرائط اليقين» العقل. وقد ضاع بعضها، وبقي البعض الآخر مثل «شرائط اليقين» الذي لا يشير إليه ابن رشد. وهو مبدأ يعرفه المفسرون القدماء، شرح الكتاب بالكتاب أو المحدثون وضع النص في سياقه الأعم. لقد استطاع ابن رشد الاستفادة من منهج حضارة النص في تخليص النص من سوء تأويل المفسرين؛ لذلك قد تبدو خلفية الموروث في شرح الوافد عند ابن رشد، مثل إعطاء الأولوية لمنطق اليقين على منطق الظن، والاعتماد على نظرية البيان كما هو الحال عند الشافعي، والبحث عن التعليل، والعودة إلى الأصول إن ولى بعيدًا عن الشراح، واحتمالات سوء التأويل، وظهور مقولات علم الأصول مثل الشرط والعلة والبيان. ويطبق ابن رشد مقياس ظاهر كلام أرسطو وهو من مهد الظاهرية نقدًا لسوء التأويل. ويستعمل صيغة التساؤل والاستفهام مما يكشف عن تواضع ودقة في البحث عن المعرفة دون القطع والإلزام تعصبًا أو تكفيرًا.٨
ويدخل ابن رشد في معارك اليونان وكأنه منهم وينتصر للحق.٩ ليست مهمة ابن رشد تخطئة أرسطو بل فهمه واستيعابه وإكماله. الحكم بالصواب أو الخطأ مهمة الفقهاء والمتكلمين وليس الحكماء. هناك تقسيم عمل وتوزيع أدوار ومهام حضارية متعددة في الحضارة الواحدة، ويُسقط ابن رشد الأمثال اليونانية الشارحة لأنها لا رصيد لها في الوعي العربي الإسلامي، فالمثل يساعد على الشرح إذا كان مفهومًا أكثر من الممثول. ولا يمكن إحالة المجهول أو وصف المعلوم إلى مجهول لمزيد من التعريف والإيضاح. إنما إحالة المجهول أو نصف المعلوم إلى المعلوم.١٠ فقد أسقط ابن رشد في الشرح كثيرًا من أسماء الأعلام التي لا تفيد في الإيضاح لأنها مجهولة بالنسبة للجمهور، بالإضافة إلى طبيعة النص المنطقي المجرد الذي لا يحتاج إلى ضرب الأمثال على عكس ما هو الحال عليه في الخطابة، والشعر. وأحيانًا يشرح ابن رشد أمثال أرسطو حتى يربط المعنى بالمثل.١١
وبطبيعة الحال أرسطو هو الأكثر ذكرًا إما مسبوقًا بأفعال القول أو أرسطو في قراءة ابن رشد أو أرسطو مفردًا. ولا يمكن تحليل أفعال القول لأنها بداية النص المفصول عن الشرح، ولا ترى إلا من حيث عدد النصوص المشروحة. أما التفاعل بين ابن رشد وأرسطو فهو استعمال اللفظ وسط عبارة ابن رشد في الشرح. وقد وضع أرسطو داخل الشرح مجزئًا حتى يسهل مضغ اللقمة الكبيرة ثم ازدرادها جزءًا جزءًا.١٢
ويبدأ ابن رشد بالتحليل والدراسة. ثم يستشهد بأقوال ابن رشد على صحتها بإرجاعها إلى نتائج تحليله ودراسته؛ ومن ثم يتفق أرسطو مع ابن رشد. ويذكر ابن رشد أرسطو باعتباره مصدرًا للمعرفة يتعلم منه بل باعتباره موضوعًا للمعرفة يتحقق من صدق أقواله بمراجعتها على دراسة ابن رشد الخاصة وتحليلاته لنفس الموضوع ولاحتوائه داخل ثقافته في ثقافة إنسانية واحدة تجمع بين الوافد والموروث. ويذكر ابن رشد أرسطو للدخول في معركة تفسيره الصحيح وإنقاذه من بين أيدي المفسرين اليونان والمسلمين. فإذا استعمل ابن رشد «كما يقول» فإنه يستشهد بقوله الذي عرف ابن رشد صدقه من قبل بناء على تحليلاته الخاصة. فأرسطو مخبر وراوٍ عن شيء وليس واضعًا لحقيقة لا يعرفها ابن رشد من قبل. يحدد ابن رشد موضوعات أرسطو، ويستبعد الموضوعات التي ليست في كلامه. فابن رشد يعرف الأشياء لا الأقوال. يفهم الأقوال بالعودة إلى الأشياء، ولا يفهم الأشياء بالعودة إلى الأقوال.١٣ أرسطو يسمي الشيء وابن رشد يصفه. أرسطو يصرح وابن رشد يذهب إلى ما وراء التصريح، متجاوزًا النص الحرفي ليعلن عن الشيء ذاته الذي صرح به أرسطو. أرسطو يقول بعد أن يدرك وابن رشد يدرك ما يدركه أرسطو قبل أن يشرح.١٤ بل إن أرسطو نفسه لم يعد له وجود بشخصه. أصبح هو الحكيم أي حكيم. تحول من الشخص إلى النموذج كما تحول المسيح من يسوع عيسى ابن مريم إلى المعلم وابن الإنسان، وابن الله، والله في نصوص الأناجيل. كل منها شارح السابق، في موازاة مع تطور العقيدة. لا يهم الشخص بل النموذج. قدم ابن رشد الموضوع على أرسطو ثم احتذى بالحكيم ثم بتعاليمه. ابن رشد دارس يحتذي بالحكيم وليس شارحًا له. يرجع ابن رشد الأشياء التي يراها على ما وصف أرسطو حتى يشرحها من أسفل معطيًا له الأساس.١٥
ويبين ابن رشد معاني أرسطو، ويوضح مقاصده. فالشرح نظرية في البيان والإيضاح، ويبين ما يصرح به أرسطو، ويتجاوز الحرفية والنصية إلى ما يشترطه أرسطو وما يدل عليه قوله. يعني الشرح وصف الشيء ويكون هذا الوصف هو الشرح والعودة إلى الأشياء ذاتها وهي مقاصد الفيلسوف. فالنص قصد، والقصد شيء. البيان إيضاح للمقاصد والأغراض. ففي القصد يتحد المعنى والموضوع. وقد يكون القصد سلبًا ببيان ابن رشد ما لم يقصده أرسطو ونفي معاني ليست موجودة عند أرسطو. ويشرح ابن رشد ما لم يفعله أرسطو لأنه يعرف ما فعله. يبين ما بينه وما لم يبينه من أجل معرفة الشيء كله.١٦ ويتبع ابن رشد مسار فكر أرسطو ويجد عللَه وأسبابه وهو الأصولي الباحث عن العلل والمقتنص لها. فيعلل ترتيب أرسطو لكتب المنطق، القياس قبل البرهان. بل ويعلل ما سكت عنه أرسطو وليس فقط ما صرح به. وقد يكون الهدف من التعليل تخليصه من براثن الشراح. ولا يكون الشرح إلا معياريًّا أي بوجود مبدأ عقلي يحتكم إليه ابن رشد شارحًا أرسطو؛ لذلك تتردد عبارة «ينبغي أن يفهم» كثيرًا لأنه فهم موضوعي مبني على معيار. ويدخل ابن رشد في محاجات أرسطو، ويستشهد عليها بأقواله حتى يجد له نسقًا وتقوى دعوته بالبرهان.١٧ بل إنه يضع افتراضات مناقضة لنص أرسطو حتى تظهر المعارضة له من أجل إكمال الناقص.
لذلك يتوجه ابن رشد بالنقض للشراح والمفسرين لأرسطو؛ فقد توهم بعضهم أنه من الأفضل بعد القياس البدء بالجدل ثم بالبرهان، واليقين يأتي قبل الظن ومقدم عليه، يشرح ابن رشد ما يفعله أرسطو تجنبًا لسوء فهم الشراح له، آخذًا في الاعتبار ما يقصده أرسطو والمعرفة الدقيقة بمنطقه، والفرق بين القسمة والحد والرسم، يشرح عادة أرسطو. كيف يتكلم في شيء، ولا يتكلف في بيانه. ويشرح طريقته وأسلوبه في البيان ليرفض سوء الشرح والتأويل عند الشراح والمفسرين على أساس فهم منهج أرسطو في كتابه. والتأويلات الصحيحة هي التي تتفق مع ألفاظ أرسطو وظاهر عباراته. وبالرغم من تأييد أرسطو ضد الشراح، يونان ومسلمين، وبالرغم من أن الهجوم على الشراح اليونان أكثر من الهجوم على الشراح المسلمين فإن الإسكندر والفارابي أفضل الشراح. وأسوءُهم ثامسطميوس وابن سينا. ليست غاية ابن رشد التعلم من أرسطو بل مساعدته على فهم الشراح له الفهم الصحيح ضد سوء تفسيرهم له. لقد أخطأ الشراح عندما ظنوا أنهم زادوا على ما نقص عند أرسطو. والحقيقة أن أرسطو لم ينقصه شيء، ومع ذلك ليس المفسرون دائمًا على خطأ فإنهم على صواب إذا اتفقوا في الرأي مع أرسطو.١٨
ويستعمل ابن رشد الفارابي راويًا عن الشراح اليونان: ثامسطيوس وأوديموس والإسكندر. فقد ذكر ثامسطيوس في شرح البرهان. ويعتمد عليه ابن رشد ليتأكد من يقين دراسته. وفي نفس الوقت يقوم بتعليل الشرح وتغيير الترتيب الأرسطي إلى الترتيب الصناعي والتعليمي لسهولة الحفظ. يقوم بالتلخيص. وأحيانًا يتفق ابن رشد مع ثامسطيوس في ترتيبه وتجزئته لنص أرسطو من أجل إيجاد بنية له. وتأويل ثامسطيوس هو مجرد تطوير لأرسطو وإخراج شيء منه لم يكن موجودًا وربما بإعطاء أمثلة جديدة. فالشارح يشرح مبدعًا بنص جديد، وليس مكررًا بقول شارح. ويخرج ثامسطيوس على قصد أرسطو بجعله القضية عامة في الصنائع والعلوم. فيعيب الشرح إطلاق القيد، وتعميم الخاص بلغة الأصوليين عند ابن رشد.١٩ كما خرج ثامسطيوس على مذهب أرسطو بقوله عدم اشتراط أرسطو الحمل الأول في النتائج، ويستعجب ابن رشد خروج مذهب الشارح على مذهب أرسطو واختلاف المفسرين عليه مثل اختلاف ثامسطيوس والإسكندر. ويهاجم ابن رشد ثامسطيوس أكثر من نقده للإسكندر لأن السلف خير من الخلف.٢٠
ويذكر أفلاطون باستمرار مع مانن في موضوعين؛ نظرية المعرفة باعتبارها تذكرًا ونظرية المثل وما تدل عليه من صور مفارقة. ومانن هو المحاور الذي يشك وليس اسم المحاورة؛ لأن اسم المحاورة مشتق من اسم المحاور. وقد حل أفلاطون شك مانن بجعله العلم تذكرًا ومن أرسطو بإثبات المعرفة الحسية. فالمطلوب معلوم من قبل، ولا يمكن طلب معرفة المجهول. كل علم معلوم من قبل بالقوة قبل أن يصبح معلومًا بالفعل. ومثل أفلاطون ليست ضرورية للبرهان. فأرسطو ناقد لأفلاطون، وابن رشد مع أرسطو. الطبيعة في الصورة خارج المحسوسات؛ وبالتالي يجمع ابن رشد مثل الفارابي من قبل بين رأيي الحكيمين، كلاهما مطلبان إنسانيان.٢١ وقد ذكر أناخرسيس مرتين كمثال على الأسباب البعيدة على جهة التعمق والاستغراق في بيان الشيء مثل عدم وجود موسيقى في بلاد الصقالبة. كما ذكر بروسن مرتين، واحدة في نص أرسطو وأخرى في تلخيص ابن رشد لاستعمال بروسن بعض مقدمات المهندسين.٢٢
وقد ذكر مانن مرتين في شرح البرهان. فالمعرفة عند أرسطو هي القابلة للتصديق وعند أفلاطون تذكر. وطريق أفلاطون لا يحل شك مانن. ولما لم يذكر اسم مانن في النص الأرسطي حمل قول أرسطو على شك مانن أي تحقيق المناط الأصولي، وذكر إقليدس مرتين؛ الأول لضرب المثل بما في العاشرة من كتابه بما كان البرهان عليه بعيدًا جدًّا، ولا توجد مقدمات تثبت بها أو تبطل كما هو الحال في خواص الخط الأصم. وهو ما سيثيره في تلخيص الجدل بعد ذلك، والثانية تعلم المهندس من كتاب إقليدس كيف يعمل مثلث متساوي الأضلاع ولا يعرف كيف يصنعه جزئيًّا من خشب أو نحاس. كما ذكر قلباس مرة واحدة في نص أرسطو وذكره ابن رشد وهو أشبه بزيد وعمرو في الأسلوب العربي، كما ذكر القدماء في الشرح في مقابل المتكلمين من أهل ملتنا في اكتفاء العقل بذاته دون حاجة إلى الحس في حين أن القدماء جعلوا الحس هو العقل نفسه. ولا فرق بينهما، فالمتكلمون عقليون. والقدماء يوحدون بين العقل والحس.٢٣ وأخيرًا يظهر لفظ «المفسرون» في الشرح من أجل إزالة شكوكهم وتوضيح أخطائهم، فوظيفة الشرح التفصيل. كما يظهر لفظ «السوفسطائيون»، مجادلة معهم ورفض شكوكهم كما هو الحال في نظرية العلم في أصول الدين ورفض ابن حزم لهم في أوائل «الفصل»، ورفض شكهم وعلمهم وأقاويلهم. ويتحول السوفسطائيون أحيانًا من فرقة يونانية إلى سوفسطائية كخط عام للفكر يقوم على الشك والمغالطة والكذب.٢٤

(٢) الموروث

ويظهر الموروث في «شرح البرهان» إما كأفكار وتصورات أو كأسماء أعلام وفرق؛ فالحديث عن العلم مثل علم المنطق وموضوعه ومنهجه وغايته من أرسطو ومن علماء المسلمين في آنٍ واحد. وهنا يتم التعشيق بين الوافد والموروث. بل إن مفهوم الشرح أو التفسير له ما يشابهه في الموروث في علمٍ بأكمله هو علوم التفسير، تفسير القرآن من أوله إلى آخره، من الفاتحة حتى الناس جزءًا جزءًا، وسورة سورة، وآية آية، ما يحتاج إلى توضيح وما لا يحتاج. فمنهج التفسير هو منطق الحضارة. كما أن التأويل منهج إسلامي أي القرآن والاستنباط والتعمق وإخراج المسكوت عنه وهو موروث محلي.٢٥
وتنشأ المصطلحات الفلسفية داخل الشروح مثل سبار الذي يعني معيارًا ومنه السبر عند الأصوليين. وقد يكون المصطلح إبداعيًّا خالصًا مثل الاقتضاب الذي يدل على أخذ المقدمات متسلمة دون برهان.٢٦ كما يظهر التصور الهرمي للعالم في نسبة البرهان إلى سائر كتب المنطق، فالبرهان رئيس والجدل والخطابة والشعر بمثابة المرءوسين، علاقة الأعلى بالأدنى كما هو الحال عند الفارابي. فالبرهان أو القياس أعلى علم في المنطق.

وما قبله مقدمات له مثل المقولات والعبارة. وما بعده غياب له مثل الجدل والخطابة والشعر وتغيب السفسطة. كما يتوحد القياس والبرهان.

ويغيب نقد المنطق ونقضه كما فعل الفقهاء خاصة ابن تيمية. ولا يشار إلى ابن حزم والأخذ بالظاهر في فهم نص أرسطو، أحد وسائل ابن رشد لنقد الشراح اليونان في سوء تأويلهم لأرسطو. ولا يوجد نقد داخلي للأشعرية كما هو الحال في «تفسير ما بعد الطبيعة». وتغيب الأمثلة العربية كما يغيب الشعر العربي على عكس الخطابة والشعر.

ويبدو التقابل بين الأنا والآخر في «شرح البرهان» وذلك بتخصيص الآخر باليونانيين وتعميم الأنا. يقارن ابن رشد بين عادة اليونانيين بوضع ماء جارٍ ينقضي بانقضاء الخصومات وبين ما يعادله من الأحكام عندنا. وتبدو اللغة العربية في استعمال «زيد» كمثال لموضوع في قضية. فالمثال العربي يلاحق المثال اليوناني ويكون بديلًا عنه. ويتم القياس الحضاري على النحو الآتي في ثلاثة أشكال من البسيط إلى المركب.

figure
فابن رشد يشرح البرهان باعتباره فقيهًا وليس باعتباره شارحًا، وصورته في حضارته أنه الفقيه الأجل وليس الشارح الأعظم صورته عند اللاتين فهو ينتسب إلى الموروث وليس إلى الوافد.٢٧ ويتمثَّل هذا القياس الحضاري في خطوات ثلاث كما هو الحال في القياس التقليدي ولكنه انتقال من الجزء إلى الكل استقراء، ثم من الكل إلى الجزء استنباطًا؛ فالكل هو الجامع بين الجزءين على النحو التالي:
  • (١)

    معنى المثل اليوناني «الجزء الآخر».

  • (٢)

    تخليصه من حضارته من أجل تعميمه «الكل».

  • (٣)

    تركيبه على الحضارة العربية الإسلامية «الجزء الأنا».

ويزداد التراكم الفلسفي في «شرح البرهان». ويأتي الفارابي المعلم الثاني في الصدارة ثم ابن سينا ثم ابن باجه ثم متى بن يونس والمتكلمون من كل ملتنا.٢٨ ويكشف عن أثر جيل المترجمين والشراح الأوائل على فهم أرسطو في عصر ابن رشد؛ لذلك يتكلم عن الالتباس الذي حدث في زمانه. فابن رشد يبدأ من الحالة الراهنة في عصره لفهم كتب أرسطو. ويعيد تصحيح هذا الفهم بالعودة إلى الأصول الأولى كما هو الحال في مناهج التفسير وعلم الأصول.
لقد ظن الناس أن ما أتى به أبو نصر ناقص في أرسطو وهو موجود. فأرسطو كامل لا ينقصه شيء، ويحيل ابن رشد إلى باقي أعماله المفردة العارضة ربما للموضوع وليست الشارحة له. لقد أخطأ الفارابي في اعتباره إيساغوجي جزءًا من المنطق لأنه جزء عام مشترك بين الحدود مع أن إيساغوجي لا ينظر في الحدود من جهة أنها موجودات بل تصورات. فابن رشد أقرب إلى أرسطو لأنه لا يعتبر إيساغوجي جزءًا من المنطق. إيساغوجي يتعامل مع التصورات، والأجناس والأنواع، وليس مع الموجودات مما يدل على واقعة ابن رشد، أما الفارابي فقد أراد أن يصوغ أجزاء المنطق في مذهب متكامل. فأدخل إيساغوجي كتب المنطق ليقدم منطق أرسطو كاملًا متكاملًا. كان الفارابي ضروريًّا في البداية وابن رشد ضروري في النهاية. قسم الفارابي الكتاب إلى أربعة أجزاء غير ما أجمل أرسطو من أجل شرحه وبيانه كما هو الحال في المنهج الأصولي، بيان المجمل وتخصيص العام.٢٩ ولا يعارض ابن رشد الفارابي على طول الخط كما يفعل في كثيرٍ من الأحيان مع ابن سينا ولكنه يستشهد به أحيانًا على حسن فهمه لأرسطو؛ ومن ثم يكون ابن رشد هو الشارح للفارابي والمراجع على فهمه وليس التابع له أو المستمد علمه منه. يستشهد به في شرحه بعبارة لأرسطو تحتوي على عرض الكتاب كله. ويدرك ابن رشد الخلاف بين أرسطو والفارابي؛ فالفارابي يجعل القضية عامة للتصديق والتصور وأرسطو يجعلها من مواد التصديق فقط وليس التصور. في هذه الحالة الشرح هو تعميم الخاص وليس تخصيص العام، الضم والتجميع وليس التفصيل والتجزيء. ويقارن أحيانًا ابن رشد شرحي الفارابي وابن سينا مع أرسطو لمعرفة أيهما أصدق كما يفعل القاضي عندما يحيل النزاع بين متخاصمين بالرجوع إلى الشيء ذاته. وينتهي ابن رشد بالمصالحة عن طريق الجمع بينهما، وجعلهما رأيين في موضوع واحد على جهتين مختلفتين؛ فالحد الأوسط للموجود الأعظم والأصغر ليس الأصغر فقط كما يريد ابن سينا أو الأكبر فقط كما يريد الفارابي. فالشروح كلها ظنون ولا تطابق يقين أرسطو. وينقد ابن رشد الفارابي في أنه ليس من شرط الجنس المأخوذ في حد المحمول ألا يكون متعديًا جنس الصناعة لأن ذلك غلط. فتعميم الفارابي أحيانًا يضر بالخاص الذي يتمسك به ابن رشد. العام للأفهام، والخاص للعلم. العام لتقديم نسق أرسطو تقديمًا فلسفيًّا، والخاص لفهمه فهمًا علميًّا، كما يخطئ الفارابي في ظاهر قوله إن المحولات في كل برهان أحد صنفي العمل. فابن رشد يحترس من الحكم على الفارابي ويحكم على الظاهر في قوله، فقد يكون له تأويل آخر. وقد يوقع ابن رشد الفارابي في تناقض إذا ما جعل الفارابي كل واحد من الأسباب الأربعة تؤخذ حدودًا في البراهين المطلقة وجعل في نفس الوقت الحمل البرهاني صنفين، المحمولات في حدود الموضوعات، والموضوعات في حدود المحمولات. والحقيقة أنه لا تناقُض هناك لأن منطق التناقض يقوم على وضع أجزاء الكلام في مقابل بعض البرهان دون إحالته إلى الواقع نفسه الذي قد يكون الكلام تصويرًا لجهاته المختلفة. كما ينقد ابن رشد الفارابي في خروجه على أرسطو. فعند أرسطو ليس كل ذاتي ضروريًّا وعند الفارابي ليس كل ضروري ذاتيًّا، والحقيقة أن الفارابي يغلب أرسطو من أجل إتمام الجزء بالكل، ورؤية الموضوع من وجهة نظر أخرى، واستبدال الموضوع بالمحمول.٣٠
إن شرح الفارابي لأرسطو يجعله أكثر تخصيصًا من عموميته؛ فالمحمول الأول في البرهان لا يُحمل على جنس الموضوع عند الفارابي، وعند آخرين العكس. ويحيل ابن رشد إلى باقي مؤلفات الفارابي المنطقية مثل كتاب «المحمول الأول» المفقود مما يدل على أن ابن رشد يدرس الموضوعات ولا يشرح الأقوال، وأن ما يعتبره ابن رشد ظنونًا عند الفارابي هي محاولة من الفارابي لقراءة أرسطو من أجل الخروج من مذهبه اللفظي الظاهر إلى نسقه المعنوي العام. يبين الفارابي المجمل كما هو الحال في علم الأصول. ويريد ابن رشد العود إلى الأصول وهو منهج أصولي آخر. عند الفارابي المحمولات البرهانية بها خاص وبها ما هو غير خاص، منها أول ومنها غير أول. في حين اشترط أرسطو الحمل الكلي في البراهين ثم يرد ابن رشد الاعتبار للفارابي جاعلًا شرط أرسطو على جهة الأفضل لا شرطًا ضروريًّا بمنهج القاضي وبطريقة المصالحة بين الخصمين.٣١
وفي كثير من الأحيان يجمع ابن رشد طريقة أرسطو وطريقة الفارابي كوجهين مختلفين لموضوع واحد. فأرسطو يمثل الأفضل، والفارابي يمثل الضروري لتحويل حكم القيمة إلى حكم الواقع، والانتقال من الضرورة القيمية إلى الضرورة المنطقية. وقد اكتشف ابن باجه من قبل أن قصد أرسطو وقصد الفارابي مختلفان. فعند أرسطو الحدود بالقوة وعند الفارابي الحدود بإطلاق؛ لذلك اختلفت الشروط عند كل منهما، عند أرسطو على الأفضل وعند الفارابي على الضرورة. وكان ابن رشد قد اعتقد مثل ابن باجه بالجمع بين الموقفين، ولكنه عدل في النهاية، وفضل أرسطو على الفارابي. فقد أصاب أرسطو وأخطأ الفارابي حرصًا على الأصول وصحة النقل والتزامًا به قبل أن يتحول إلى إبداع عند الفارابي، كان سبب خطأ الفارابي هو تبعيته لثامسطيوس لإدخاله الجنس في العمل أي حمل الجنس على النوع وهو تناقض. وهذا هو الذي جعل الفارابي يرسم المحمول الأول بخلاف أرسطو. كما أخطأ الفارابي في إطلاق المقيد بتعبير الأصوليين؛ فقد حول الموضع البرهاني إلى إقناعي في كتابه في التحليل. ويحيل ابن رشد إلى باقي أعمال الفارابي المنطقية مما يدل مرة ثانية على أنه يدرس الموضوع ولا يشرح القول، والمناسبة عند أرسطو هي الذاتية، وعند أبي نصر تنقسم إلى جنس الصناعة. وهنا يقوم الفارابي بتقييد المطلق وليس بإطلاق المقيد. كما يورد الفارابي احتمالات عديدة، يسلم بوجود صناعتين نظريتين في مطلب واحد ولا يسلم بوجود حد أوسط، وهو ما يظنه ابن رشد تناقضًا. والفارابي لا يهمه التناقض بقدر ما يهمه عرض شامل لمذهب أرسطو.٣٢
ويستعمل ابن رشد لغة الفارابي وعباراته لشرح أرسطو. فهو الموروث الفلسفي المتراكم قبله. لا يُخطئه ابن رشد على طول الخط عنادًا أو عصبية أو تعالمًا بل يقدره، ويعطيه مكانته وإن كان يختلف معه في الموقف؛ الفارابي المؤول القارئ المبدع، وابن رشد الفقيه السلفي وأحيانًا الظاهري الباحث عن الأصول الأولى، ومع ذلك يرى ابن رشد أن الفارابي قد أخطأ في قوله إن الجزئية لم تذكر لأنها تدخل تحت الكلية لأن ذلك يصبح في المقدمات الجدلية كما قال أرسطو في الجدل. فالتبس الأمر على الفارابي وخلط بين البرهان والجدل. يرفض ابن رشد تحليل الفارابي، ويعطي العلة الصحيحة. ويميز بين البرهان والجدل طبقًا للمنهج الأصولي الذي يقوم على التعليل وعلى السبر والتقسيم لاقتناص العلة. كما أخطأ الفارابي في فهمه لفظ «انتقل» بمعنى انتقال المقدمة الكبرى لأنه يسلم أن المطلوب واحد في الصناعتين، ولا يسلم بأن يكون الحد الأوسط واحدًا فيهما. وقول أرسطو بيِّن بنفسه، وشرح الفارابي يثير الشك ظانًّا أن من الذاتية ما هو أعم من الصناعة، ويبدأ الفارابي مع أرسطو بجعل براهين الوجود صنفين ثم غلط في وصف الثاني لخروجه عن معنى أرسطو. الفارابي يبدأ من أرسطو ولا ينتهي إليه في حين أن ابن رشد يبدأ من أرسطو وينتهي إليه. فهو سلفي المنهج، النص في البداية والنهاية، ظاهري المنحى في فهم ظاهر قول أرسطو وظاهر قول الشراح، حنبلي الاتجاه يريد تخليص النص الخام مما علق به من سوء تأويل الشراح، يونان ومسلمين. ويبدو أن ابن رشد راح ضحية نظرية المطابقة، إن الشرح مطابق للنص، وهو ما حاول ابن رشد القيام به في حين أن الشرح قراءة للنص، وليس تكرارًا له. ومن ثم يكون ابن رشد في نفس الوقت الذي حاول فيه إحياء العقلانية أصبح ضحية الحرفية. وبها يكون ابن رشد الذي كان أحد أسباب النهضة الأوربية الحديثة بداية جديدة لنهاية الفترة الأولى للحضارة الإسلامية التي بدأت بالغزالي، واستمرت عند ابن رشد، وأرَّخ لها ابن خلدون.٣٣
وقد ذكر ابن رشد ابن سينا ناقدًا له في تقديمه الجدل على صناعة البرهان. ولم يصب ابن سينا مرة واحدة بل أخطأ على طول الخط، وليس له أجر الاجتهاد حتى ولو أخطأ. في حين أن الفارابي يصيب مرة ويخطئ مرات. لقد أخطأ ابن سينا في تقديم الجدل على صناعة البرهان بينما أصاب الفارابي. والحقيقة أنه لا مجال للخطأ والصواب في القراءات المتعددة. وليس أرسطو هو معيار الصواب والخطأ بل إعادة بنائه طبقًا لعصر مختلف وأغراض متباينة. يجعل الفارابي البرهان قمة المنطق، والمقولات والعبارة والقياس مقدمة له واقتراب منه، والجدل والسفسطة والخطابة والشعر ابتعاد عنه. في حين يرى ابن سينا أن الجدل هو غياب البرهان أو استعماله في غير البرهان؛ ومن ثم يكون سابقًا عليه وهما قراءتان مختلفتان. فإذ تبنى ابن رشد قراءة الفارابي وهي مقبولة فإن ذلك لا يعني أن قراءة ابن سينا خاطئة. والحد ليس علة، وجود الأعظم في الأصغر كما يقول ابن سينا، ولا علة لوجود الأصغر كما يقول الفارابي الذي يجوزه في البراهين المطلقة التي تفيد السبب والوجود معًا. خطأ ابن سينا في أنه جعل العلل بالأعراض عللًا. فقد يتفق أن يكون الحد الأوسط معلولًا عن الطرف الأكبر ولكن لا يمكن للحد الأوسط في البرهان أن يكون سببًا لوجود الأكبر في الأصغر إلا بسبب يلزم أن يكون وجود أحدهما سببًا في وجود الآخر.٣٤
كما أشكل الأمر على ابن سينا في ربطه بين العلمين الطبيعي والإلهي واعتماد الطبيعي على الإلهي في حين يرى ابن رشد اعتماد الإلهي على الطبيعي كما هو معروف في الأدلة على وجود المحرك الأول. وقد أثبت ابن رشد في دراسة منفصلة خطأ اعتماد العلم الإلهي على نفسه، وهوة الطريق الكلي لإثبات المبدأ الأول. هنا يبدو ابن سينا أكثر مبدئية من ابن رشد لأن العلم الإلهي قائم بذاته والطبيعي مستمد منه وقائم عليه في حين تبدو «طبيعية» ابن رشد عندما يجعل العلم الإلهي قائمًا على الطبيعي ومستمدًّا منه. والحقيقة أن كليهما صحيح. فالطبيعيات بلغة العصر إلهيات مقلوبة إلى أسفل كما يريد ابن رشد والإلهيات طبيعيات مدفوعة إلى أعلى كما يريد ابن سينا. فابن سينا في رأي ابن رشد شأنه دائمًا قلة تثبته في حكمه على الأشياء.٣٥
كما أخطأ ابن سينا في إنكاره برهان الوجود وزعمه أنه غير صحيح. فالبراهين ثلاثة أقسام. معروفة بنفسها مثل برهان الوجود الذي ينكره ابن سينا، وبرهان السبب، والبرهان المطلق. ينكر ابن سينا البرهان المعروف بنفسه ظنًّا أنه يقوم على العرض الذاتي للموضوع من قبل سببه ومن ثم لا يفيد يقينًا، فلا فرق بينه وبين المقدمات الاستقرائية التي تستوفي جميع أنواع الموضوع دون أن يشعر الذهن بالنسبة الذاتية بينها، وهنا يبدو ابن سينا أكثر ميتافيزيقية من ابن رشد، وابن رشد أكثر واقعية من ابن سينا. فبرهان الوجود عند ابن سينا ليس برهانًا لأنه لا يستند إلى الفكر في حين أنه عند ابن رشد برهان لأنه يستند إلى الواقع، فنقد ابن سينا لبرهان الوجود مثل نقد ابن تيمية للحد أنه لا يفيد البرهان. ويرجع خطأ ابن سينا إلى خلطه بين اليقين كفعل من أفعال الشعور والذاتيات العرضية أي علاقة الشعور بالوجود، مثل يقين التواتر الذي لا يعتمد على العدد المحدد بل على العدد الذي به يحصل اليقين. وإذا شك ابن سينا في سلب شيء من شيء دون وسط يقوم ابن رشد بحل هذا الشك بضرورة وجود وسط غير معروف، وهو إشكال التوسط في المنطق وفي الميتافيزيقا على حد سواء.٣٦
وقد ذكر ابن رشد ابن باجه وهو حلقة الوصل بينه وبين الفارابي، فقد كان ابن باجه هو القاضي قبل ابن رشد. قارن بين قصدي أرسطو والفارابي. وحاول الجمع بينهما من جهة أن قصد أرسطو الحدود بالقوة وقصد الفارابي البرهان بإطلاق. وهذا هو السبب في الخلاف بينهما في الشرط. ويعود ابن رشد إلى ما قاله ابن باجه مع مفهومي الضرورة والأفضل. فأرسطو عرف الأفضل وسكت عن الضرورة. والفارابي عرف الضرورة وسكت عن الأفضل. وكل منهما يكمل الآخر مثل الفارابي في جمعه بين رأيي الحكيمين. ومع ذلك تطور ابن رشد، وانتقل من الجمع بين رأيي الحكيمين إلى تبني رأي أرسطو ضد الفارابي، كان ابن رشد حكيمًا فأصبح عالمًا، كان مبدعًا فأصبح ناقلًا. كان مؤوِّلًا فأصبح ظاهريًّا. كان فيلسوفًا فأصبح فقيهًا، كان معتزليًّا فأصبح أشعريًّا. وكان حنفيًّا فأصبح حنبليًّا.٣٧
وقد ذكر ابن رشد «المتكلمين من أهل ملتنا» بمناسبة نقد العقل الصوري وعدم حاجته إلى الحس وهمًا بأن المتقدمين الأوائل قد انتهوا إلى ذلك مع أنهم كانوا يعتقدون أن الحس هو العقل، وأنه لا فرق بين الإدراك الحسي والرؤية العقلية. ويعرض ابن رشد لعلاقة العلم الطبيعي بالعلم الإلهي، العلم الطبيعي جزئي والإلهي كلي. والأمور المفارقة يتسلمها العلم الإلهي من العلم الطبيعي وعددها من العلم التعاليمي. فالعلوم تندرج بعضها تحت بعض، من الخاص إلى العام. وقد أشكل الأمر على ابن سينا عندما ظن أن صاحب العلم الطبيعي يأخذ من الإلهي المادة الأولى والمبدأ الأول. فابن سينا يؤسِّس العلم الطبيعي على الإلهي كفيلسوف إشراقي يعطي الأولوية للتوحيد. وابن رشد يؤسس الإلهي على الطبيعي كما هو الحال عند المتكلمين في دليل الحدوث بالرغم من نقد ابن رشد له ولهم، والتعاليمي وسط بين العلمين، وقد كتب ابن رشد في ذلك مقالًا منفردًا يرد فيه على خطأ ابن سينا واستحالة إثبات وجود المبدأ الأول من صاحب العلم الإلهي، فابن رشد مع أرسطو في البداية بالطبيعة، وابن سينا إشراقي يبدأ من الله. يبدأ ابن رشد وأرسطو من العالم إلى الله صعودًا وابن سينا من الله إلى العالم نزولًا. هناك تعادل بين الطبيعيات والرياضيات والإلهيات؛ فالطبيعي يعطي الرياضي أن هناك موجوداتٍ مفارقة، والرياضي يعدها، والإلهي ينظر في جواهرها. الإلهيات إذن نهاية الطبيعيات ومرجعها. والسؤال الغائب هو هل هناك تعاون بين المنطق من ناحية وبين الطبيعيات والإلهيات من ناحية أخرى؟ هل هناك أصل وفرع بين المنطق من ناحية والطبيعيات والإلهيات من ناحية أخرى؟ هل العقل والطبيعة ذوا بناء واحد يسقط على الله ويرمز له به؟٣٨
ويأخذ ابن رشد المناظرات الفقهية كنموذج على الخصومات أي المخاطبة التي تكون بالمنطق إلى ما لانهاية؛ لذلك وضع الفقهاء ثوابت محددة للمعاندات لا يتجاوزونها بينما وضع اليونان ماءً جاريًا تنقضي الخصومات بانقضائها. وقد وضعت الآجال في الأحكام لهذا المعنى. فالعلوم الإسلامية أحد مواطن التعشيق بين الوافد والموروث، بين عندنا وعندهم.٣٩
وتظهر العبارات الدينية في أول الشرح وآخره، البسملات والحمدلات والصلوات على جميع الأنبياء سواء من المؤلف أو الناسخ أو القارئ أو المالك. وقد تظهر البسملة والحمدلة في بداية ونهاية كل مقال. ويطلب الناسخ للمؤلف الرضوان من الله مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ وسائلًا التوفيق والتسديد. كما تظهر عبارات المشيئة الإلهية مثل «إن شاء الله». ولا تظهر نصوص قرآنية كما ظهرت في جوامع ما بعد الطبيعة باستثناء «اللهم» كأسلوب عربي. كما تدل الخواتيم على الحالة العامة للناسخ حالته النفسية وموقعه الجغرافي؛ إذ لا يكفي الناسخ بالتدخل لتقطيع الكلام وبدئه بقال الفقيه الأجل كأنه يتعامل مع نص مغاير، واضعًا نص ابن رشد بين قوسين بل إنه يسمي نفسه ويدعو لنفسه بالفك من الأسر؛ فقد كان يشغل وقته بالعلم وهو أسير في أيدي العدو الخارجي أو الأمير الداخلي، وتنتهي الخاتمة بالملكية الشرعية للكتاب لأسرة يهودية إسبانية بدليل أن ابن رشد نفسه يقص طرفًا من حياته، فلا فرق بين السيرة الذاتية وعلمها.٤٠
١  شرح البرهان، ص٢٦٨–٤٤٦.
٢  فما قالوه باطل، شرح البرهان ص١٧۸. ومن هنا يبين أيضًا خطأ قول ابن سينا، السابق ص۸.
٣  السابق، ص٢٢٦، ٢٤٠، ٤٠٤-٤٠٥، ٢٤٣.
٤  شرح البرهان، ١٦٠، ١٦٣، ١٧٧، ١٨٧، ٢١٣، ٢٣٧، ٢٦٠، ٢٦٦، ٢٧٦.
٥  وإنما قال ذلك على جهة الاستظهار على الخصوم، السابق ص٢٠٥.
٦  تكرار الكتب كالآتي: القياس، التحليلات الأولى «٢٩»، محاورة مانن «٦»، السماع الطبيعي، طوبيقا (الجدل) «٥»، المقولات «٣»، الحيوان، كتاب إقليدس «۲»، إيساغوجي «١».
٧  شرح البرهان، ص٢٩٨، ۲۸۹، ٢٢٣، ويحيل ابن رشد إلى كتاب البرهان للفارابي ثماني مرات وإلى كتاب التحليل مرة واحدة.
٨  السابق، ص١٦٦، ٢٦٠.
٩  وهذا ما أفعله مع الغرب الحديث في الجبهة الثانية لمشروع «التراث» والتجديد الموقف من التراث الغربي ولولا تجربتي الحية مع الوافد الغربي الحديث لما استطعت فهم تجربة الحكماء مع الوافد اليوناني القديم.
١٠  أسقط ابن رشد اسم قلياس من نص أرسطو، السابق، ص٤٥٣–٤٥٥.
١١  شرح الحكماء، ص٢٢٣، ٣٦١.
١٢  ذكر أرسطو «٢٢٦»، قال أرسطوطاليس «١٥٧»، أرسطو في تصور ابن رشد «١٤»، أرسطوطاليس «٥»، ثامسطيوس «١٠»، مانن «٦»، أفلاطون «٥»، أنافرسيس، إقليدس «٢».
١٣  السابق، ص١٦٨، ٢٩٢، ٢٢١، ٣٢٤، ٢٩٥.
١٤  السابق، ص٢٧٢، ٢٧٨، ٢٨٩، ٣٦١.
١٥  السابق، ص٦٨.
١٦  السابق، ص١٦٠، ١٦١، ٢٢٠، ٢٣٠-٢٣١، ٢٤٧، ٣٥٢، ٢٧٨، ٢٥٥، ٤١٦.
١٧  السابق، ص١٥٩، ٢٣١، ٢٤٥، ٢٥٣، ٣٦٦-٣٦٧، ٤١٧، ٤٦٧-٤٦٨، ٤٧٧، ٣٦٢.
١٨  السابق، ص٢٣١، ٢٧١، ٢٢٣.
١٩  السابق، ص١٦٦، ٢٣٩، ٢٧١.
٢٠  السابق، ص١٦٦، ٢٣٩، ٢٧١.
٢١  السابق، ص١٧٣، ١٧٧، ٣٢٠-٣٢١، ٤٥٢، وقد ذكر سقراط مرة واحدة بدون دلالة تذكر.
٢٢  السابق، ص٣٥٨، ٣٦٤-٣٦٥، ٣٤١، ٢٩٢.
٢٣  السابق، ص١٦٨، ١٧٣، ١٧٦، ١٧٩-١٨٠، ٣٠٩، ٣٧١، ٣٢٤-٣٢٥، ٤١٧.
٢٤  السابق، ص٢٧٣، ١٧٧، ١٧٩–١٨١، ١٩٨-١٩٩، ١٩٥، ٢٥٩.
٢٥  ويستعمل المعاصرون منهج التأويل ولم يحكم عليهم بإساءة الفهم مما يدل على المعيار المزدوج في دراسة الحضارات وليس فقط في الممارسات السياسية.
٢٦  السابق، ص١٦٣، ٢٤٨، ٣٢٩، ٣٥٨ والاقتضاب يعني عند المعاصرين التوقف عن الحكم أو وضع الأشياء بين قوسين أو وضعها خارج دائرة الانتباه.
٢٧  شرح البرهان، ص٣١٥، ٣٢٥، ٤٢٤، ٢٠٨.
٢٨  يذكر الفارابي «٣٦»، وابن سينا «٩»، وابن باجه «٢»، متى بن يونس، المتكلمون من أهل ملتنا «١».
٢٩  شرح البرهان، ص١٥٨-١٥٩.
٣٠  السابق، ص١٦٥-١٦٦، ٢٢٠-٢٢١، ٢٢٧.
٣١  السابق، ص٢٣٠–٢٣٢، ٢٤٥.
٣٢  السابق، ص٢٣٠–٢٣٢، ٢٤٥.
٣٣  السابق، ص٢٨٩، ٣٠٠-٣٠١، ٣٠٥، ٣٦١-٣٦٢.
٣٤  السابق، ص١٦٢، ١٨٦-١٨٧.
٣٥  السابق، ص٢٩٥، ١٦٢.
٣٦  السابق، ص٣٤٨–٣٥٠.
٣٧  السابق، ص٢٤١.
٣٨  السابق، ص٤١٧، ٢٨٥، ٢٩٨، ٣٦٩.
٣٩  السابق، ص٣١٥.
٤٠  السابق، ص١٦٣، ١٦٧، ٢٠٣، ١٥٧، ٦٧، ٤٨٥-٤٨٦، ٣٩. هو عبد الكبير بن عبد الحق بن عبد الكبير الخافقي الإشبيلي فك الله أسره. ويصف ابن رشد موقعًا محليًّا في الزرافة وسفره إلى البلاد الجنوبية فلم تعد بلاد اليونان هي الجغرافيا بل بلاد الأندلس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤