سابعًا: شرح النفس، والأرجوزة في الطب لابن سينا (ابن رشد)

(١) الشرح الكبير لكتاب النفس لأرسطو

بالرغم من أن تحليل المضمون لا ينطبق إلا على النص الأصلي وبناء الجملة العربية إلا أن الشرح الكبير لكتاب النفس لأرسطو لابن رشد ضاع أصله العربي، ومنقول من اللاتينية إلى العربية.١ ومهما كانت الترجمة العربية دقيقة من اللاتينية إلى العربية فإنها قد لا تكون كذلك من العربية إلى اللاتينية.٢ فكل ترجمة هي عمل حضاري، ونقل من ثقافة إلى ثقافة أخرى. الأسلوب ليس رشديًّا تمامًا؛ وبالتالي يصعب تحليل أفعال القول. وربما حذف المترجم اللاتيني البسملات والحمدلات وكل العبارات الإيمانية لأنه اعتبرها خارج العلم مع أن دلالاتها كبيرة فيما يتعلق بتمثل الوافد داخل تصور الموروث. فليس من المعقول ألا يبدأ نص ابن رشد بالبسملة وينتهي بالحمدلة على الأقل أسوة بباقي الشروح. وقد استعمل ابن رشد عدة ترجمات لكتاب النفس لأرسطو. ويصرح بذلك بقوله: «وهذا المثال وجدناه في ترجمة أخرى.»

(أ) الوافد

وطبقًا لتحليل المضمون لأسماء الأعلام وهو ما يصعب اختلافه عن النص العربي المفقود يتصدر أرسطو بطبيعة الحال، فهو صاحب النص المشروح ثم الإسكندر فهو الشارح الأعظم، ثم ثامسطيوس فهو الشارح الثاني، ثم أفلاطون فهو الحكيم الإلهي، ثم ديموقريطس، ثم أنبادقليس، ثم أنكساجوراس، ثم جالينوس وسقراط، ثم ثاوفرسطس، ثم فيثاغورس، ثم نيقولاوس ولوسيبوس، ثم هوميروس وطاليس، ثم هيبوقراطيس وديوجينس وهراقليطس وفيليب وديدالوس وهومافروديث وأورفيوس، وهي الأسماء المذكورة في الشرح سواء كانت مذكورة في النص أم لا لأن المترجم العربي الحديث أسقط ترجمة الأصل من الطبعة العربية ولا مجال للمقارنة بين النصين، المشروح والشارح، إلا بالعودة إلى النص اللاتيني المشروح.٣
أما بالنسبة للمؤلفات فيتصدر طيماوس وهو لأفلاطون وليس لأرسطو مما يدل على أهمية أفلاطون في موضوع النفس، ثم الحس والمحسوس، ثم الحيوان لارتباطها بالنفس والعقل الفعال، والعقل من قوى النفس، ثم الكون والفساد، ثم الآثار العلوية، فالنفس آخر كتاب في الطبيعيات، ثم كتاب المناظر العامة فالعين وظيفتها الرؤية والرؤية فعل من أفعال النفس، ثم النفس وما بعد الطبيعة نظرًا لأن الاتصال يكون بين العقل الإنساني.٤ ومن أسماء الفرق يتصدر القدماء. فأرسطو مؤرخ مثل ابن رشد تكتمل الحقيقة عند كل منهما، ثم المشاءون، ثم أهل السفسطة والجدليون والطبيعيون والرياضيون وأصحاب التناسخ، ولم يظهر لفظ يونان إلا كوصف للغة. فاسم حياة في لغة يونان مشتق من السخونة.٥ كما يشتق اسم الرؤية الحسية من الضوء، وفرق في اللغة اليونانية بين الملكة المتخيلة وملكة التمييز بين الأشياء، وتكثر الأسماء في الجزء الأول التاريخي الذي يستعرض فيه أرسطو أقوال السابقين في النفس.٦
لقد ظن ديموقريطس أن النفس مكونة من ذرات متحركة في أشعة الشمس، أشبه بالكرات النارية، وهو قول غامض، وظن ديموقريطس ولوسبوس هذه الكويرات لا منقسمة، وعندهما أن النفس والعقل شيئان. فالحق لا يدرك إلا عندما يظهر للحس. كما قال الشاعر هوميروس إن من فقد الحس فقَدْ فقدَ العقل.٧ صلة النفس بالجسم كصلة الزئبق بالتمثال.٨ ويرفض أرسطو اعتبار أن سبب الحركة حركة الكريات من ذاتها. ورأي فيثاغورس شبيه برأي ديموقريطس ولوسبوس بالرغم من أنه مؤسس المدرسة الأفلاطونية الرياضة الروحية على عكس ديموقريطس ولوسبوس مؤسسَي المدرسة المادية؛ إذ يرى أن النفس تنتقل من جسم إلى جسم طبقًا للأسطورة التي وضعها ليصلح بها المواطنين. وهو رأي باطل لاختلاف الطباع. أما أصحاب التناسخ فيرون أنها ذرات هوائية. والكل متفق مع أفلاطون في أن الحركة جوهر النفس ثم يختلفون بعد ذلك في وصف كيفيتها. ويرى أنكساجوراس أن النفس تتحرك بالعقل، وهما سيان، وإن كان أقل وضوحًا من ديموقريطس. وقد يكونان مختلفين ولكن من طبيعة واحدة. وهو الوحيد الذي لم يجعلها أسطقسا؛ لذلك امتدحه أرسطو وأثنى عليه، وجعل أمبادقليس النفس ناتجة عن أسطقسات ستة. وينتج عن ذلك صعوبة الحكم، هل التناسب الذي هو جوهر العضو هو النفس؟ ويفسر الأعضاء بالنسب. فالعظام بيضاء لأن الأرض فيها قليلة، ولا تعرف الأسطقسات إلا بالتشابه والاختلاف؛ لذلك توهم أورفيوس أنه لا يتكلم عن النفس الفردية بل عن النفس الشاملة متوهمًا أنها جسم مثل النفس يدخل الهواء الخاص من الهواء العام. وأخطأ أمبادقليس في جعل النفس هي الأسطقسات وأن الأعلى والأسفل ليسا جزءًا واحدًا. بل إن أمبادقليس يظن أن الآلهة وهي السموات مركبة من الأربعة أسطقسات بالإضافة إلى المحبة. ويرى أن الضوء جسم، وأن العقل يحكم على الشيء الحاضر المحسوس، وفي موضع آخر بين العقل والحس، يتحول كل منهما إلى الآخر. وهو ما قصده هوميروس بقوله إن الحس شبيه بالعقل. كما دحض أرسطو رأي ديموقريطس أنه لو كانت الرؤية في الخلاء لكان الصواب فيها أكبر.٩
وكان طاليس يرى أن النفس مبدأ محرك بذاته. وظن أن المغناطيس به نفس الكل مليء بالآلهة. وكان ديوجانس يرى أن النفس هواء لأنه ألطف من باقي الأجسام ومبدؤها. أما هرقليطس فكان يرى أن النفس هي المبدأ، وهو بخار سائل متحرك. فكل شيء يتكون من بخار ولا توجد أجسام أصلًا. أما سقراط فيضرب به المثل فحسب كزيد وعمرو وليس الحكيم. ويحال إلى جالينوس الطبيب لمعرفة موضوع التنفس الذي كتب فيه وهو غير كافٍ. وحرارة الهواء الخارج من الصدر لا تكون بسبب الرئة فقط. ويظن جالينوس أن الحامض والحار باردان، وأن الحاد أسخن من المر، وهو رأي خاطئ. هنا يشرح الطبيب الطبيب. وهو غير مصيب في تراكيب الطعوم. ويحاول جالينوس عرض ما قيل في طيماوس في أفعال الطعوم. وجدال جالينوس والأطباء الآخرين في كون هذه القوة في هذه المواضع بحجة المصاحبة والموضع الفاعل للظن ليس بحق.١٠
يضع ابن رشد أرسطو في تاريخ الفلسفة اليونانية، فمثلًا يكون البحث عن طرق الوقوف على حدود الأشياء إما بطريقة البرهان عند هيبقراطس أو بطريقة القسمة عند أفلاطون أو بطريقة التركيب التي أوردها أرسطو، ويقارن بين أفلاطون وأرسطو في محل قوى النفس، فعند أفلاطون الملكة المتعلقة في المخ، والنزوعية في القلب، والطبيعية أي الغاذية في الكبد. ويرى أرسطو أنها واحدة بالموضوع ومتكثرة في القوى، ويشبه أرسطو العقل بخط منكسر لارتباطه بالحس، وأفلاطون بخط دائري لارتباطه بالصورة الخالقة. ويقارن بين نظريتي أنكساجوراس وديموقريطس. ويقارن بين ما قيل في طيماوس الذي لا يختلف كثيرًا عن رأي ديموقريطس. في طيماوس تتحرك النفس تحرك الجسم في المكان. ويرفض أرسطو اعتبار النفس جسمًا حتى ولو كانت جسمًا كرويًّا حتى تكون شبيهة بالعقل. وأنكر أرسطو وجود الأشياء العامة خارج النفس كما يريد أفلاطون.١١
وتتفق نظرية أفلاطون في النفس مع نظرية المثل، النفس موجود مفارق مثل المثال وليس موجودًا ماديًّا بالفعل كاليدين.١٢ ولكنه جعل في طيماوس النفس من جوهر الأسطقسات وهو غير ما قيل في الجدليات. النفس طبيعة وسطى بين صور مفارقة لا تنقسم وصور محسوسة منقسمة حسب الهيولى، ويشرح ثامسطيوس ذلك بأن أفلاطون يعني بها العقل. أفلاطون في طيماوس، النفس جسم، مقابل فيثاغورس أن النفس صورة، وهي جوهر ينقسم في الجسم مع انقسام الأعضاء. ويتحدث أفلاطون عن قوى النفس العلم والخيال والعقل والنزوع. فالتعلم والتذكر سيان أي التحول من العلم إلى الجهل أو من الجهل إلى العلم، وهو غير صحيح. والخيال مركب من الظن والحس معًا، ويختلف العقل عن قدرات النفس الأخرى. وأكبر قول يكون في المبدأ، وأجزاء النفس ثلاثة؛ العقل والغضب والشهوة وهما مظاهر للقوة النزوعية. وأفلاطون هو فيلسوف النفس الأقرب إلى التصور الإسلامي بتمايزها عن البدن وليس أرسطو.

وأرسطو مؤرخ يحصي آراء القدماء في النفس. كما أن ابن رشد مؤرخ يراجع الشراح المسلمين ويهاجم الماديين خاصة أمبادقليس أكثر مما ينقد المثاليين مثل فيثاغورس. يدافع ابن رشد عن موقف أرسطو وأنه لا يقع في التناقض وهو الذي اكتملت الفلسفة فيه. ولا تفصح أحيانًا بعض ألفاظه عما يريد التصريح به مما يجعل شرحها ضروريًّا.

ونظرية أرسطو في النفس أنها تفعل أفعالًا بملكات مختلفة وبأعضاء مختلفة رئيسية وفرعية. وتتميز حواس الإنسان عن الحيوان بالنزوع، ويتم الإدراك الحسي عن طريق التوسط، واللون امتزاج جسم مضيء بجسم مشف، وجوهر الخيال حركة الحس بالفعل. ويظهر العقل في البحث في المبادئ. فالخطأ في المبدأ يكون خطأً في النهاية. وهو جوهر يتقبل كل الصور الهيولانية. وهو بسيط سواء كان في الهيولى أو في غيرها، وهو مخالف لطبيعة الهيولى وطبيعة الصورة، ليس جسمًا ولا ملكة في جسم، ونسبة العقل إلى الخيال كنسبة الحس إلى المحسوس. كماله الأول تهيئته وإعداده. وهو العقل الأخير في ترتيب المفارقات وليس العقل الفاعل. ويصحح ابن رشد ما يروى عن أرسطو أن العقل الهيولاني ملكة مفعولة بالمزاج لأنه بعيد عن قول أرسطو. هو سبب المعرفة وإدراك حركة الأشياء.١٣
وفهم الإسكندر الأفروديسي أن العقل الهيولاني قابل للفساد وهو يناسب أكثر الطبائعيين، ملكة مستحدثة. ويستشهد بأرسطو لإثبات رأيه. ويفهم ذاته بصفة عرضية أي من جهة ما يعرض لمعقولات الأشياء وتهيئة العقل الهيولاني صورة للخيال وامتزاج للأسطقسات. ويرى أن النفس في الحيوان كمال لها. وهو ضد أرسطو وضد الحق بعينه. ورأي أرسطو في أن اللحم متوسط في حاسة اللمس ضد رأي الإسكندر. ويقول ثامسطيوس إنه رأي أرسطو. ويعرض ابن رشد حجج الإسكندر، ويعطي الحجة على كون المشف بالفعل يتحرك على ما يظهر بفعل اللون.١٤ ويحدد ابن رشد آراء الشراح في ثلاثة اتجاهات؛ الإسكندر وثامسطيوس ورأي ابن رشد شاقًّا طريقه بينهما؛ إذ يقصد الإسكندر بالعقل القوة المتهيئة الموجودة في المزاج الإنساني، وعند ثامسطيوس هو العقل الهيولاني المفارق. وعند ابن رشد، وهو رأي أرسطو، هو العقل الفاعل أي العقل النظري.
عند ثامسطيوس العقل مفارق وجلي، وفهم أنواع المدركات الحسية عند أرسطو مثل الحركة والسكون في حين ظن ثاوفرسطس أن العقل لا يدرك أية صورة إلا عن طريق اتصال العقل الفاعل بالعقل الهيولاني، ويظن كلاهما أن العقل الهيولاني جوهر لا كائن ولا فاسد. وهي عبارة أرسطو للعارفين بألفاظه في التعليم البرهاني. وهم مع نيقولاوس وقدماء المشائين على برهان أرسطو وألفاظه. والعقل النظري هو الذي يخلق وينشئ المعقولات. وهو العقل الفاعل، يضعف مرة ويقوى مرة أخرى. وهو ما قد يعارض قول أرسطو في التمييز بين العقل الهيولاني والعقل بالفعل.١٥
ويعيب ابن رشد على القدماء جهلهم. فالعلم تقدم من القدماء إلى المحدثين حتى يكتمل في أرسطو على عكس ما يبدو أحيانًا من أنه تقهقر من القدماء إلى المحدثين، من أرسطو إلى الشراح. وأرسطو يعرض آراء القدماء في النفس ويثني عليها لما فيها من حق وصحة. فما قالوه هو الصواب. ويعرض لثلاثة اتجاهات في النفس؛ أن حركتها من ذاتها، وأنها جسم لطيف أو أبعد عن الجسمانية، وأنها من بين المبادئ والأسطقسات لأنها مفكرة عارفة. وبعد عرض ابن رشد آراء القدماء في الكتاب الأول يبحث في جوهرها، الخيال في الكتاب الثاني؛ إذ تتكشف البنية من التاريخ.١٦ وفي العقل في الكتاب الثالث. وقد قال القدماء إن النار تغتذي نظرًا لحاجة كل ذي حرارة إلى الغذاء. ويستشهد ابن رشد بما قاله أرسطو في الآثار العلوية وفي الكون والفساد وفي كتاب الحيوان. وقالوا إن السمع يقع بخلاء ذي رنين لأنهم ظنوا أن السمع لا يتم إلا بالعضو الذي يوجد فيه هواء منفصل عن الهواء الخارجي. كما أخطأ الطبيعيون القدامى بقولهم أن لا كون بدون بصر، ولا طعم بدون ذوق على الإطلاق بحجة وجود تناسب بسيط بين الحس والمحسوس. كما أخطأ القدماء في ظنهم أن الخيال مركب من الظن والحس وهو ما ظنه أفلاطون أيضًا.

(ب) الموروث

ومن الموروث يتصدر ابن باجه شارحًا أرسطو، ثم الفارابي المعلم الثاني، ثم ابن سينا، ثم أبو الفرج البابلي.١٧ ومن المؤلفات تظهر مؤلفات الفارابي، نيقوماخيا ثم العقل والمعقول ثم العقل ثم المواضع الجدلية. ولابن باجه يظهر اتصال العقل بالإنسان، ثم التقديم.١٨ ويذكر كله في الكتاب الثالث عن العقل كقوة من قوى النفس. ويستشهد ابن رشد بالفارابي على العقل الأول الذي لا يفهم أي شيء خارج ذاته في مقالته عن العقل والمعقول. وهي أنواع العقل التي قيلت في الأمثلة الجدلية. ولو أمكن للعقل الهيولاني إدراك الصور المفارقة لأصبح الممكن ضروريًّا كما بين ذلك في نيقوماخيا. ويظهر من أقوال الفارابي في رسالته عن العقل أن العقل المفارق غير فاعل. وتعارض رأياه في نيقوماخيا ورسالة العقل. وابن سينا هو المسئول عن عدم فهم كتاب النفس إذ إنه لم يقلد أرسطو إلا في الجدليات وضل طريقه فيما بعد الطبيعة.١٩
ولا يوجد نقد للداخل كما هو الحال في تفسير ما بعد الطبيعة ونقد علم الأشعرية. الداخل مجرد استعمال ابن باجه والفارابي كشارحين لأرسطو واعتماد ابن باجه والفارابي في رسالتين عن العقل والمعقول والكون والفساد. ويتضح من قول ابن باجه أن العقل الهيولاني هو الملكة المتحولة من جهة ما هو مهيأ لتكون المعاني التي هي فيها معقول بالفعل هروبًا من المحالات الحادثة للإسكندر، وهو أن المتقبل للصور جسم مفعول من الأسطقسات أو ملكة الجسم. ويستطيع فهم المعقولات المفارقة، وموضوع العقل الذي هو محركه بأية صفة هو ما حسبه ابن باجه متقبلًا لأنه وجده تارة بالقوة وتارة بالفعل.٢٠ والعقل واحد بالعدد كما عبر عن ذلك ابن باجه في مقالته اتصال العقل بالإنسان. فالاتصال ممكن كما عبر عن ذلك جل المشائين.
وحسب ابن باجه أن التهيئة ليصبح الشيء معقولًا هي التهيئة الموجودة في المعاني الخيالية. ويسلم في رسالته «التقديم» بأن القوة التي تحكم بها حكمًا عامًّا لا محصورة، وظن أن هذه القوة هي العقل الفاعل مع أن الحكم والفكر لا ينتسبان إلا إلى العقل الهيولاني، وحاول ابن باجه بيان هذا الاتصال في رسالته اتصال العقل بالإنسان.٢١ وقد أخطأ أبو الفرج البابلي في شرح كتاب الحس والمحسوس في جعل القوة الهيولانية عقلانية وهو أيضًا خطأ جالينوس.
ويظهر العلم الإلهي في تقسيم العلوم مع اعتبار علم الأخلاق علم سياسة الدول. فالأخلاق هي كل شيء، أساس الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ.٢٢
ويتحدث ابن رشد عن نص أرسطو كآخر، يصف مسار فكره، وطرق استدلاله. يوضح مقدماته، ويبين نتائجه. ويبدو من تحليل أفعال الفكر غلبة أفعال البيان كمقدمة في الاستدلال في عبارات مثل «بعد أن بين»، «بعد أن بين السبب»، «بعد أن بين فائدة.» وقد يكون البيان من ذاته على طريقة الكشف في عبارة «بعد أن تبين.» وقد تستعمل أفعال المعنى، فالبيان للمعنى مثل فعل «يعني». والمعنى قصد في فعل «قصد». والبيان إحصاء واستقصاء ورؤية لجوانب الموضوع كلها في أفعال «أحصى»، «استقصى». والفكر رؤية وملاحظة ومشاهدة في أفعال «لاحظ»، «رأى». ومهمة الشرح إزالة الشكوك والغموض في الفهم والتفسير؛ لذلك تكثر أفعال الشك والظن والنقد. أما باقي الأفعال فتدل على بداية الفكر مثل أفعال «بدأ»، «شرع»، أو أفعال الانتهاء إلى النتائج مثل «انتهى»، «استنتج»، «أكمل» أو أفعال وصف مسار الفكر مثل «وصف»، «اعتبر»، «قسم»، «فحص»، «حاول»، «برهن»، «بحث»، «سلم»، «وضع»، «عرض»، «أشار» … إلخ. ولا تذكر أفعال القول إلا فيما ندر مثل «يقول»، وهي التي أخذت خطأ على أنها تدل على أن الشرح تبعية النص الشارح للنص المشروح.٢٣ ويعود ابن رشد على بدء، ويرجع إلى الموضوع بعد الاستطراد. وتظهر التعبيرات الإسلامية في الأسلوب العربي مثل «اللهم». ويتحدث عن الأجناس البلاغية كأسلوب في التعبير.٢٤
ويشرح ابن رشد الجزء بالكل، ويحيل نص أرسطو إلى مجمل كتاب النفس، ويشرح موضوعًا في مقالة بإحالته إلى باقي المقالات. ويحيل إلى باقي الكتب مثل السماء والعالم وما بعد الطبيعة وكتاب الحيوان والحس والمحسوس مفسرًا الجزء بالكل. فالشرح هو وضع العمل داخل مجمل النسق.٢٥

(٢) شرح أرجوزة ابن سينا في الطب

ليس الشرح فقط للوافد، أرسطو، جالينوس، ولكنه أيضًا للموروث من أجل إحداث التراكم الفلسفي الداخلي الضروري. فالوافد ما هو إلا رافد للموروث، والموروث هو المكون الرئيسي للوعي الفلسفي التاريخي.٢٦ والعجيب اختيار عمل لابن سينا، وهو نموذج الفيلسوف المعادي للعقل والطبيعة باسم الإشراق والفيض. ولا يوجد فيلسوف يوجه إليه ابن رشد سهامه قدر الغزالي وابن سينا، ولكن لا يوجد انتقاد كبير لابن رشد لابن سينا الطبيب، وإن كثر هذا الانتقاد لابن سينا الفيلسوف والشارح لأرسطو والصوفي، ويحدد ابن رشد الشرح كما طلب منه، إنه شرح للألفاظ من أجل بيان أغراضها دون تطويل أو إكثار، فهو شرح ملخص، يجمع بين الشرح والتلخيص للتعبير عن المعاني العلمية بالأقاويل الموزونة أي قد العبارة على المعنى مما يتطلب حذفًا لبعض الألفاظ وجذبًا لبعض المعاني وتوضيحها للأفهام. ويبدو أن ابن رشد كان لديه عدةُ نسخ من الأرجوزة يراجعها كلها، ويعرف الخلاف بينها.٢٧

وقد عبر ابن سينا عن الطب شعرًا اعتمادًا على عبقرية العرب الشعرية؛ فالشعر أداة للعلم وليس مجرد نوع أدبي. فقد طغى الذوق العربي على العلم العربي في المراحل المتأخرة لسرعة حفظه واستنكاره. وحوله ابن رشد إلى نثر علمي. ويوسع ابن رشد من شرحه حتى يخرج من إطار الطب بالمعنى الدقيق ليشمل الطب الجغرافي وعلم الفلك. فالطب ليس مجرد علم عملي للمداواة بل هو علم نظري للتشخيص، هو فلسفة طبيعية، جزء من الطبيعيات التي تشمل باقي العلوم الطبيعية.

وبتحليل أفعال القول تتصدر صيغة «يقول» إشارة لابن سينا. فهي ليست عادة خاصة بأرسطو بل بكل النصوص المشروحة. ليس فيها تبعية لأحد. بل هو أسلوب قرآني. ولا يظهر «قال» إلا مرة واحدة مما يدل على أن ابن رشد يصف حقيقة أكثر مما يتحدث عن ماضٍ. ويتحدث في صيغة الفعل «يقول» وليس في صيغة «القول» الجاهز الذي لا شأن له بأفعال الشعور. ثم يأتي فعل «يريد» أي التوجه نحو المعنى والقصد الإرادي، وتتوالى أفعال الإدراك، أفعال الشعور المعرفي مثل: ظن، تكلم، ذكر، دعا، يحتمل، يوحي، اشترط، وافق، في المضارع أكثر من الماضي لأنه يصف أفعال شعور علمي حاضر وليس علمًا انقضى، ويغلب الإثبات على النفي في صيغ الأفعال. وكلها تقريبًا في ضمير الغائب، وأقلها في ضمير المتكلم، إشارة إلى ابن سينا وليس إحالة إلى ابن رشد. وغالبًا ما تكون أفعال القول في أول الفقرات ونادرًا ما تكون في آخرها.٢٨ أما الأسماء فإنها أقل من الأفعال ولكنها أيضًا تدل على تعامل ابن رشد مع الموضوعات الطبية مستقلة عن أفعال القول. ومعظمها أسماء إشارة أي إشارة إلى أشياء موجودة بالفعل.
وكما يستعمل ابن رشد «قال»، «يقول» فإنه يستعمل أيضًا «قلنا»، تمايزًا بين الأنا والآخر.٢٩ فإذا قال جالينوس بأن الحياة تبقى بالقوة الطبيعية فإن ابن رشد يسميها القوة الغاذية. فالتمايز بين النصين ليس فقط بين الداخل والخارج بين الموروث والوافد، دلالة على التمايز الحضاري، بل بين الماضي والحاضر في الداخل، دلالة على التقدم العلمي.
مهمة الشرح الإيضاح؛ لذلك يتكرر فعل «يعني» أو الحرف «أي». والإيضاح هو إيجاد فكر متسق بين المقدمات والنتائج في منطق محكم للاستدلال.٣٠ لذلك يصف ابن رشد مسار فكر ابن سينا، ويدخل في منطق استدلاله كما يدل على ذلك أفعال الشرط وجوابه، وحروف التوكيد، وأسماء الصلة.٣١ ويحيل السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق في صيغ «فلنرجع إلى ما نحن بسبيله.» بعد الاستطراد.٣٢ ويبحث ابن رشد عن العلل والأسباب التي جعلت ابن سينا ينتهي إلى مثل ما انتهى إليه. فابن رشد يراجع أحكام ابن سينا على الموضوعات نفسها كما هو الحال في تحقيق المناط عند الأصوليين.٣٣ فلا يشرح الطبيب إلا الطبيب لأنه لا يشرح القول بل يرى الموضوع المشترك بين المشروح والشارح، وبعد أن يتحقق ابن رشد من عدة آراء ينتهي إلى «والحق في ذلك هو ما قلناه.»٣٤ ويتخيل ابن رشد الاعتراض المسبق «فإن قال قائل.» ويرد عليه من أجل الحفاظ على الاتساق العقلي.٣٥
وقد استطاع ابن رشد إخضاع الأرجوزة السيالة إلى أقسام فقسمها قسمين؛ الأول: الطب النظري، ويشمل الفزيولوجيا والمرض والدلائل. والثاني: الطب العملي، ويشمل العلاج بالأدوية والجراحة. ويتفرع كل موضوع إلى مسائل متعددة.٣٦ ويضع لكل مجموعة من الفقرات تدخل في موضوع فرعي عنوانًا لا تسمح به صياغة الأرجوزة، تحويلًا لها من الشعر إلى النثر، ومن الصياغة الأدبية إلى الصياغة العلمية.٣٧ ويذكر ابن رشد بين الحين والآخر أقسام الموضوع من أجل احتوائه عقلًا.٣٨ ويقطع فقرات الأرجوزة، وتختلف المقاطع فيما بينها طولًا وقصرًا.٣٩ تبدأ في الطب، وتنتهي بالصيدلة. فالطب علم نظري وعمل للتشخيص والعلاج.
ويركز ابن رشد على منهج الطب، البحث عن الأصول والكليات كما هو معروف من كتاب «الكليات» والتي لا تعرف إلا بالعقل والقياس، وفي نفس الوقت يبحث عن الجزئيات التي لا تعرف إلا بالتجربة، وهو المنهج الفقهي الذي يجمع بين الأصل والفرع على ما هو معروف في القياس الشرعي، بالإضافة إلى «شهادة الجميع» أي إجماع الأخبار وهو ما يعادل الإجماع، المصدر الثالث في علم الأصول. فإذا ما تعارضت الأدلة فإنه يكفي حل التعارض بشهادة الأطباء كما هو الحال في التعارض والتراجيح في علم أصول الفقه، فإذا لم ينحل التعارض فليس على الطبيب إلا الاعتماد على رأيه الخاص، وهو ما يعادل الاجتهاد، الدليل الرابع من أدلة التشريع.٤٠
وأحيانًا لا يصدق ابن رشد رواية عن جالينوس ولا أبقراط، وله وجه من القياس إن شهدت التجربة به، فالرواية لا تقبل إلا بعد أن يشبه العقل والحس بها كما هو الحال في شروط الخبر المتواتر في علم مصطلح الحديث.٤١ ولا يكتفي بالاستشهاد بجالينوس بفصد الدواب آخر الربيع وأول الصيف إلا لأن ذلك نافع بالتجربة.٤٢ والتغيرات على المريض تدرك بالحس وليس قياسًا، ويتحقق ابن رشد من كل رواية طبية. ويبدو أنه اقتصر على الرواية مثل تأويل جالينوس داء الثعلب على أنه الجذام دون أن يتحقق ابن رشد نفسه من ذلك بالتجربة.٤٣
ومن الوافد يتصدر جالينوس على أبقراط مع أن جالينوس لم يذكر عند ابن سينا إلا مرة واحدة.٤٤ وربما يكون الغرض من الإسهاب في ذكر مصادر الوافد كشف مصادر ابن سينا التي أخفاها. وفي نفس الوقت يعتمد ابن رشد في نقده المحدود لابن سينا على جالينوس.٤٥ ويستشهد بجالينوس على صدق تحليلاته الخاصة اعتمادًا على التراث العلمي مثل الحذر الذي اعترى العليل عند شرب الماء البارد. فابن رشد حلقة من تراث علمي طبي طويل، من القدماء إلى المحدثين.٤٦ بل ويدافع عن جالينوس ضد أي معترض يقول إن الأمراض البسيطة التي ذكرها جالينوس هي التي مع غير مادة وأنها تحدث عن الأسباب الخارجية.٤٧ ويعترض على نسبة أقوال خاطئة لجالينوس مثل: إن سبب شعلة العين كثرة الروح. ويعترض على بعض آرائه مثل: إن النفس تستوحش بالخلط السوداوي كما يستوحش الإنسان من الظلام. ويصفه بأنه قول شعري وليس قولًا علميًّا، وذلك أنه يلزمه أن يكون الدم الأبيض مضيئًا. كما زعم أنه لم ير بعض الأمراض في البلاد الحارة. كما يعترض على الإسكندر في قوله إن النار التي في الأسطقسات هي هذه النار المحسوسة.٤٨
ويقارن ابن رشد بين آراء جالينوس وأبقراط. ويعتمد عليهما في أن الأجسام تتكون من الأسطقسات الأربعة وكما بين جالينوس في كتاب «الأسطقسات»؛ إذ يجتمع كلاهما على مذهب واحد. ويعتمد عليهما معًا في الغذاء وبعض الموضوعات الطبية التي يشارك فيها أيضًا أرسجتجانس.٤٩ ويرجع بعض آراء ابن سينا إلى مصادرها اليونانية عند جالينوس وأبقراط. فقول ابن سينا إن الأبدان الحارة لا ينبغي أن تُراض قول أبقراط.٥٠ ويعتمد على أبقراط وحده في قوله الضد شفاء الضد، وإن أبدان الأطفال تحتاج إلى وقود كثير، وإن البراز الأسود في أول المرض علامة رديئة. وقد وضع كتابًا في «تقدمة المعرفة» من أجل مساعدة الطبيب على التنبؤ بالأمراض من علاماتها الأولى.٥١ ويشارك أبقراط وجالينوس وأفلاطون في مذهب واحد، وهو جعل القوى الحساسة والمحركة في الدماغ على عكس المشائين الذين يجعلونها في القلب.٥٢ ويستشهد بأفلاطون في قسمة القوى إلى حساسة ونباتية وحيوانية وبأرسطو في أن الحيوان كثير الجماع قليل العمر.٥٣
ويتكلم عن القدماء واضعًا الأرجوزة في تاريخ الطب مقارنًا بين الأطباء المتقدمين والمتأخرين والأطباء المشائين وبين مذاهب الأطباء ومذهب الفيلسوف، ومراجعًا كتب الطب، واضعًا ذلك كله عند اليونانيين.٥٤ فما يدل عليه الاسم في لسان اليونانيين قد يدل في لسان آخر على جهة التشبيه مثل البحران. ويتحدث عن عادة اليونانيين في جزعهم من شربهم الماء البارد لمكان عادتهم وبلدهم. وقد لاحظ جالينوس توفي أحد المرضى من جراء ذلك.٥٥
والعجيب أن ابن رشد لا يحيل إلى «كتاب القانون» في الطب لابن سينا، ولا يستعين به في الشرح بالرغم من أنه يحيل إلى مؤلفات جالينوس وأبقراط.٥٦ ومع ذلك يتصدر الموروث حنين بن إسحق وابن رضوان، ثم أبو العلاء بن زهر والزهراوي والرازي وابن سينا.٥٧
وينقد ابن رشد ابن سينا دون أن يذكر اسمه إلا في المقدمة كصاحب الأرجوزة، ولكن في ثنايا الشرح يعيب على ابن سينا أنه نقض ذكر أمزجة الأعضاء والعلامات الدالة عليها. ولم يذكر بعض الأخلاط المشهورة، وذكر أصنافًا غير مشهورة. وأنكر عليه نسبة النحوس والسعود إلى الكواكب ودلالتها على سلامة النفوس أو هلاكها في الأمراض. وهو ما يعارض العلم الطبيعي من أن أفعال الكواكب خير كلها، رأيًا برأي، وكلاهما يقوم على الخلط بين العلم والأخلاق، ويتشكك في بعض توصيات ابن سينا مثل أخذ راكب البحر الأغذية الرطبة للوقاية من الدوار لأنها وصية غير طبية. كما يعترض على ابن سينا في فصد ابن الستين والسبعين، ويتشكك في علاج البخر بالفصد. ويعترض عليه لجعله البلغم سببًا في عسر الولادة، وربما يكون سببًا للإسقاط، ويعترض على دهن الجسم بالزيت والشمع خوفًا من أثر الشمس. كما يعيب عليه عدم ذكره الحميات والأورام. لا يعني الشرح إذن مجرد بيان لفظي بل يتضمن النقد والتصحيح للأحكام.٥٨
ويعتمد ابن رشد على الموروث الطبي لتأييد قسمة الطب إلى نظري وعملي، ويستشهد بحنين وأبي العلاء ابن زهر الذي رأى هذه القسمة عند جالينوس، في حين رفضها علي بن رضوان، ويعتمد ابن سينا على مذهب حنين. وهو مخالف لمذهب جالينوس كما يذهب ابن رضوان. وأثنى الزهاوي على خبز الطابق وجعله مثل خبز التنور. ويقارن من بين مذهب أطباء العراق الذي يؤثر مياه الأنهار على مياه العيون ومذهب أبقراط وجالينوس الذي يفضل مياه العيون. وإذا قال جالينوس إنه يدرك السكونين، الداخل والخارج فإن الرازي ينكر أن يدرك السكون الداخل، كما شك الرازي على قول جالينوس بإمكانية معالجة صاحب المزاج الخارج عن الاعتدال عن طريق الشبيه.٥٩
وتظهر البيئة العربية الإسلامية في الجغرافيا الطبية في الحديث عن الأقاليم المعتدلة اعتمادًا على جالينوس الذي يقول على أهل الإسكندرية إنه لا يوجد فيهم مزاج معتدل، ويوافقه ابن رشد على ذلك لأن بلاد العراق تقرب من الصحراء ومتاخمة لها، وتجاور بلاد العرب، وبلاد العرب حارة. ويتحدث ابن رشد عن «بلادنا» و«وعندهم بالعراق» و«هذه البلاد». فهو يشرح في سياق جغرافي، ووضع اجتماعي، «على ما جرت به عادة أهل زماننا.» «وطريقة ممارسة المعالجين، والمجبرون من أهل زماننا.» ولا يستعمل الدهاليس «أهل بلادنا وهي جزيرة الأندلس.» إذا كانت بلاد منها في الإقليم الخامس وبلاد المسلمين.٦٠

ومن التراث الديني المباشر تظهر آية قرآنية واحدة إشارة إلى الأسطقسات الأربعة خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ. كما ينقد ابن رشد كثيرًا من الجهال المتكلمين عن عجز الطبيعيين عن معرفة سبب الخواص، ويعني بهم الأشاعرة. وفي نفس الوقت ينقد ابن رشد رأي جالينوس المادي في فهم الطبيعة أو بتأثير الكواكب. ويضيف أنها بتسخير من باريها سبحانه. فهو مع الأشاعرة معتزلي ومع جالينوس أشعري.

ويبين ابن رشد شارحًا ابن سينا مخاطر شرب النبيذ بعيدًا عن الحكم الفقهي، اعتمادًا على حكم الأطباء ووصاياهم في عدم شرب الكثير، يومًا بعد يوم، وبخاصة للمحرورين كما يقول ديسقوريدس، يومًا شرابًا محزومًا، ويومًا ماء قراحًا. والشرب ضار على العموم، يقرع العصب، ويكره على الطعام. والنبيذ مضر بخلطه بالسكر. أباحه الرازي مرة في الشهر وهو خطأ. فالشراب كما يقول جالينوس من ألوم الأشياء للحرارة الغريزية، كالزيت من المصباح، الكثير منه يُطفئه، مفيد للحرارة الغريزية ومضر بالحرارة النفسية الحسية أي بالدماغ والعصب. وكان القدماء يحذرون الشباب منه ويسمحون به للشيوخ.٦١ ويبدأ الكتاب بالبسملة والصلاة على محمد النبي وآله وسلم.٦٢ وتتجاوز الحمدلة إلى الأشعرية الدفينة المخففة بالاعتزال. فالله هو الشافي من الأدواء المعضلة والأسقام بما ركب في البشر من القوى الحافظة للصحة والمبرئة من الآلام. فالله يفعل من خلال الطبيعة وطبقًا لقوانينها وليس ضدها. وهو الذي فهم صناعة الطب وحيلة البرء ذوي الألباب والأفهام.٦٣
والعجيب أن يدعوَ ابن رشد وهو السني الظاهري السلفي للإمام المعصوم والمهدي المعلوم الذي أمره بشرح الأرجوزة. فلا فرق بين الدعاء لله والدعاء للسلطان وفي الخاتمة يعلن عن نهاية شرحه تنفيذًا للأمر المطاع ويدعو للسلطان بدوام العمر والتأييد. وينتهي الدعاء بالصلاة والسلام على الرسول.٦٤
١  ابن رشد: الشرح الكبير لكتاب النفس لأرسطو، نقله من اللاتينية إلى العربية الأستاذ إبراهيم الغربي، بيت الحكمة، قرطاج، ١٩٩٧م.
٢  قام بالترجمة من العربية إلى اللاتينية ميكل سكوت Michel Scot لحساب الإمبراطور فرودريك الثاني.
٣  أرسطو «١٠٧»، الإسكندر «٤٧»، ثامسطيوس «٣١»، أفلاطون «٢٣»، ديموقريطس «١٥»، أمبيدوقليس «١١»، أنكساجوراس «۸»، جالينوس، سقراط «٧»، ثاوفرسطس «٤»، فيثاغورس «٣»، نيقولاوس، لوسبوس، هوميروس، طاليس «٢»، هيبوقراطس، ديوجينس هراقليطس، فيليب، ديدالوس، هرمافروديث، أورفيوس «١».
٤  طيماوس «١٠»، الحس والمحسوس «٦»، الحيوان، ما بعد الطبيعة، النفس «٤»، الكون والفساد «٣»، الآثار العلوية، السماء والعالم، كتاب المناظر «١»، لغة يونان «٥».
٥  السابق، ص٤٨، ٩٣، ٢٢٤، ٢٣٠.
٦  السابق ص٢٦–٩٠.
٧  السابق، ص٣٩، ٤١، ٤٥–٤٨، ٥٦، ٦٣، ٦٥، ٧٤-٧٥، ٧٧، ٧٩، ٨١، ١٢٣-١٢٤، ١٥٠.
٨  يترك ابن رشد تشبيه أرسطو المستمد من البيئة اليونانية وهو أن النفس تتحرك بحركة شبيهة بما قال فيليب من أن ديدلوس فعل الحركة في تمثال هومافروديت بوضعه الزئبق فيه، السابق، ص٥٦.
٩  السابق، ص٢٩.
١٠  السابق، ص٤٦، ٨٢، ١٤٤، ١٦٥-١٦٦، ١٧٨-١٧٩، ١٩٥، ٢٠١-٢٠٢، ٢٢٢، ٢٤٩، ٢٨١.
١١  السابق، ص٣٠، ٥٦–٥٨، ٢٥٦، ٢٦٥.
١٢  السابق، ص٣١، ٤٢-٤٣، ٦٣، ٨٥، ١٣٩، ٢٢٠، ٢٢٢، ٢٢٦، ٢٢٨، ٢٤٧، ٣٠٩.
١٣  السابق، ص٦٧، ٢٥١، ١٢٠، ٢٥٩-٢٦٠، ٢٦٧، ٢٨٩، ٣٠١، ٣٥، ٤٦، ٥٤-١٥٥، ٩٩-١٠٠، ١٤٣، ١٤٦-١٤٨، ١٥٣، ١٥٧، ١٦٥، ١٧٢، ١٧٤، ١٧٩، ١٨٢-١٨٣، ٢٢٣، ٢٢٨–٢٤٠، ٢٤٨–٢٥٠.
١٤  السابق، ص٣٥، ٨٤، ١٤٧، ١٨٢-١٨٣، ١٩٠، ١٩٢، ٢٣٥–٥٣٧، ٢٥١، ٢٦٠-٢٦١، ٢٦٥، ٢٦٨–٢٧٤، ٢٨٠، ٢٩١–٢٩٤.
١٥  السابق، ص٣٥، ١٤٣، ٢٣١–٢٣٣، ٢٣٨، ٢٤٣، ٢٦٠، ٢٩١، ٢٩٧، ٣٠٥.
١٦  الكتاب الثاني، ص٩١–٢٢٤، الثالث ص٢٢٥–٣٢٩.
١٧  ابن باجه «١٤»، الفارابي «٨»، ابن سينا «٤»، أبو الفرج البابلي «١».
١٨  للفارابي: نيقوماخيا «٣»، العقل والمعقول «٢»، العقل، المواضع الجدلية «١»، لابن باجه: اتصال الإنسان التقديم «٣».
١٩  شرح كتاب النفس، ص٢٥٣، ٢٧٥، ٢٨٥، ٢٩١-٢٩٢، ٢٩٤، ٢٩٧-٢٩٨، ٣٠٦.
٢٠  السابق، ص٢٣٧، ٢٣٩، ٢٤٢-٢٤٣، ٢٤٧، ٢٦١، ٢٦٦، ٢٩٤، ٢٩٥، ٢٩٨، ٣٠١–٣٠٥.
٢١  السابق، ص٢٣٧، ٢٣٩، ٢٤٢-٢٤٣، ٢٤٧، ٢٦١، ٢٦٦، ٢٩٤، ٢٩٥، ٢٩٨–٣٠٥.
٢٢  السابق، ص٢٦، ٢٧، ٢٥٠.
٢٣  أفعال البيان والتوضيح «٩٠»، القصد «٢»، الظن والشك «٨»، النقد والتفنيد «٨»، الملاحظة والإحصاء «٧»، بدايات الفكر «١٠»، نهاية الفكر، منطق الاستدلال «٩»، أفعال القول «١٣».
٢٤  السابق، ص١٨٨، ٢٣٠، ٢٥٣، ٦٧، ١٥١.
٢٥  السابق، ص٧٠، ٢٣٥، ٢٤٢، ٢٤٥-٢٤٦، ٢٨٨.
٢٦  ابن رشد: شرح أرجوزة ابن سينا في الطب، تحقيق عمار الطالبي، جامعة قطر، ١٤١٧ﻫ/١٩٩٦م، ويعطي الناسخ لابن رشد ألقاب «الفقيه الأجل الأمجد، القاضي الإمام الأوحد.» أو يدعو له «أدام الله علاه ووصل نعماه.» ص١-٢.
٢٧  وفي بعض النسخ، السابق، ص٢.
٢٨  أفعال القول: يقول «٣٨٨»، قوله «٨»، قال «١». أفعال المعرفة: ذكر، فطن، تكلم «٢»، اشترط، يحتمل، يوحي، دعا «١»، أفعال النفي: ما يجعل، أليس، لست «١»، باقي الأفعال: فعل، يريد «٧٧».
٢٩  «ونحن فقد قلنا إن.» السابق، ص٥٠.
٣٠  أفعال الإيضاح: يعني «١٤»، أي «٤».
٣١  حروف الشرط: إذا كان (إن) «٧»، وحروف التوكيد: إنما له، وإن «٨»، أما «٤٦»، اسم الصلة «١».
٣٢  شرح الأرجوزة، ص٢٨، ١٢١.
٣٣  تذكر ألفاظ السبب «٤»، العلة «١».
٣٤  شرح الأرجوزة، ص٥.
٣٥  السابق، ص٨١.
٣٦  السابق، مقدمة ص٨-٩.
٣٧  أعطاها ابن رشد ١٦٥ عنوانًا فرعيًّا «٩٥ للجزء الأول، ٧٠ للجزء الثاني».
٣٨  شرح الأرجوزة، ص٧.
٣٩  الأرجوزة ٧١٠ بيتًا يقطعها ابن رشد إلى مقاطع أطولها ١١ بيتًا، وأصغرها بيت واحد.
٤٠  السابق، مقدمة، ص٩-١٠.
٤١  السابق، ص١٢٥.
٤٢  السابق، ص٢٠٧، ٢٢٤.
٤٣  السابق، ص١٨٣.
٤٤  ذكر جالينوس «٧۰»، أبقراط «٢٢»، أرسطاطاليس «٧»، أفلاطون «٣»، أرسجتجانس، ديسقوريدس، الإسكندر «١».
٤٥  شرح الأرجوزة، ص٤، ٨–١٠، ٣٨، ١٦-١٧، ٢١، ٢٤-٢٦، ٢٩، ٣٤، ٣٦، ٣٨، ١١٥، ١٩١، ٢١٧، ٢٣، ٢٧، ٤٧، ٦٤، ٦٦-٦٧، ٨٣، ١٥٠، ١٨٢، ١٨٤، ٢١٢، ٢١٨، ٢٢٢-٢٢٣، ٢٢٩، ٢٣٢، ٢٣٧-٢٣٨، ٢٤٣، ٢٤٥، ٢٥٢، ٢٥٧، ٢٦٢.
٤٦  السابق، ص٨١.
٤٧  السابق، ص١٨٣.
٤٨  السابق، ص٣٧، ١٤٣، ٢٨١، ١٤.
٤٩  السابق ص٨–١٠، ٣٨، ١٥٢، ١٦٧، ١٦٤، ١٧٣، ١٨١.
٥٠  السابق، ص٢٠١.
٥١  السابق، ص٢٢، ٦٥، ١٣٢، ١٤٧، ٥٤.
٥٢  السابق، ص٤٣، ٤٧، ١٢٠.
٥٣  السابق، ص٥٤، ٧٦.
٥٤  القدماء «٣»، الأطباء المتأخرون، الفلاسفة المشاءون، مذهب الأطباء، كتاب الطب، مذهب الفيلسوف، اليونانيون «١».
٥٥  السابق، ص١٥٦، ١٩٥-١٩٦.
٥٦  من مؤلفات جالينوس: كتاب الأسطقسات ص١٠، كتاب المزاج ص٢٢، كتاب القوى الطبيعية ص٤، ومن مؤلفات أبقراط كتاب الفصول ص١٠، ١٨١ وتقدمة المعرفة ص١٤٧، كتاب طبيعة الإنسان ص١١، كتاب القياس ص٣٨.
٥٧  حنين، ابن رضوان «٢»، أبو العلاء بن زهر، الزهراوي، الرازي «٢»، ابن سينا «١».
٥٨  السابق، المقدمة، ص٢٤–٢٦.
٥٩  السابق، ص٥، ٤٠، ٦٦، ٦٨، ١٠٩، ١٩٠.
٦٠  السابق، ص٣٤، ١٩٥، ٢١٢، ٢٨٣، ١٩١.
٦١  السابق، ص٩، ٢٧، ١٦٦، ١٩٧-١٩٨.
٦٢  السابق، ص١.
٦٣  وهنا انقضى القول في شرح هذه الأرجوزة على حسب ما نفذ به الأمر المطاع أدام الله تعالى تأييده، وهو غرض إن كان به انتفاع ووقع المقصود فبسببهم وبإرشادهم تَم. وهو موسوم باسمهم، ومنسوب إليهم، وهم المأجورون فيه والمشكورون عليه. زادهم الله رغبة في العلم والحرص على الحق ومحبة في أهله وبلوغهم الأمل في الدنيا والآخرة بفضله ورحمته، السابق، ص٢٨٥.
٦٤  «والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، محيي الدين، ومجدد رسوم الإسلام وعن صاحبه وخليفته أمير المؤمنين، ممشي أمره إلى غاية الكمال والتمام، والدعاء إلى سيدنا أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بالنصر المستصحب على الاتصال والدوام. فإنه ذكرت بالمجلس العالي، مجلس السيد الأجل المعظم الموقر أبي الربيع ابن السيد الأجل، الأعلى الأسمى أبي محمد ابن سيدنا الإمام الخليفة الأعظم أمير المؤمنين أيدهم الله ونصرهم … فأمروا، أدام الله تأييدهم، لما جبلوا عنه من الرغبة في العلم، وخصوا به من إيثار الناس بالخير؛ أن نشرح ألفاظهم … فيدور إلى امتثال رأيهم العالي … والله يتمم من ذلك مقصدهم الشريف، وغرضهم الفاضل الرفيع، ويوفق الكل لما يجب من طاعتهم وخدمتهم ويقع بوفقهم بغرضهم ورحمته.» السابق، ص٢٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤