الفصل السادس

عيناتٌ من الحبر

تقدَّم هوليس الطريق على طول الزقاق، بين جدرانٍ عالية مصمتة لا نوافذ فيها، واستدار فجأة نحو فناء صغير، ثم توقَّف أمام باب غائر في أحد جوانب منزل قديم ذي هيكل خشبي.

أدار رأسه قليلًا وقال: «يا له من مكانٍ غريب! لكن كأس نبيذ البورت أو الشيري التي ستحصل عليها هنا، تضاهي في جودتها ما يمكن أن تحصل عليه في أي مكان آخر في إنجلترا؛ فذلك الرجل يفهم زبائنه! هيا لندخل.»

وتقدَّم إلى مكان لم يرَ هيثرويك مثيلًا له من قبل؛ إذ كانت الحجرة دافئة وتبعث على الراحة ومكسوة بألواح وعوارض من خشب البلوط العتيق، وبها نار وهَّاجة تستعر في مدفأة مفتوحة بينما يتراقص وميض ألسنة لهبها على النحاس العتيق والقصدير الذي كان يُزيِّن حوائطها. وعند أحد جوانب الحجرة كانت توجد مِنضدة مشرب يقف خلفَها رجلٌ متقد العينين يرتدي قميصًا بكمَّين وقد برز سيجار من زاوية شفتيه الحليقتين الرطبتين، بينما كان منهمكًا في تلميع كئوس النبيذ.

وقال بنبرة ودودة: «صباح الخير أيها السيدان! إنه صباح لطيف يا سيد هوليس بالنسبة إلى هذا الوقت من العام. ماذا يمكنني أن أقدِّم لك ولصديقك يا سيدي؟»

جال هوليس بعينه حول الحجرة، التي كانت خاوية إلا منهم. وسحب كرسيًّا طويلًا إلى جوار المشرب وطلب من هيثرويك أن يتبعه في فعل ذلك.

ثم أجاب قائلًا: «أظن أننا سنتناول شراب الشيري الجاف والرائع لديك يا هادسون. هذا إن كان لا يزال بنفس الجودة التي تذوقته بها آخر مرة.»

فأجاب ساقي الحانة: «دائمًا ما سيكون على المستوى اللائق يا سيد هوليس، دائمًا ما سيكون على المستوى اللائق يا سيدي! ليس لديَّ هنا مشروبات بمواصفات أقلَّ، ولا بدائل؛ فأنا لا أستغل سمعة الماضي في هذا المكان أيها السادة! إن كأس الشيري الجاف هنا يا سيدي سيكون بنفس الجودة التي ستحصل عليه بها في منشئه، وأعتقد أنك لا تستطيع قول ذلك عن معظم الأماكن في إنجلترا. كل شيء هنا من أفضل الأنواع يا سيد هوليس، كما تعلم!»

ردَّ عليه هوليس بابتسامة خفيفة مازحة، ثم مال عليه فجأة من فوق المشرب.

وقال سرًّا: «يا هادسون! صديقي هنا لديه شيء يريد أن يريك إياه.» وأكمل بينما كان هيثرويك يُخرِج الصورة من جيبه استجابةً لحديثه: «والآن، هذه الصورة، هل تتعرَّف على مَن فيها؟»

وضع ساقي الحانة النظارة وأدار الصورة نحو الضوء وراح يتحقَّق منها عن كثب. أطبق شفتيه بعضهما على بعض، ثم أرخاهما في ابتسامة ساخرة.

وقال بشيء من اللامبالاة: «أجل! إنها تلك المرأة التي خدعت مالاديل في قلادته الماسية. بالطبع! السيدة ويتينجهام!»

سأله هوليس: «أكنت لتتعرف عليها مرة أخرى لو التقيت بها، أعني الآن؟»

أمسك ساقي الحانة بإحدى الكئوس وراح يلمِّعها بنشاط.

وقال في اقتضاب: «أجل! وسأعرفها بشيء آخر غير وجهها!»

حينها دخل رجلان، فذهب هادسون ليلبي لهما طلبهما. وسرعان ما حمل الرجلان كأسَيهما وتوجَّها نحو زاوية دافئة بجوار النار، ثم عاد هادسون مرة أخرى إلى هوليس وهيثرويك.

قال بثقة: «أجل! إن كان هناك حاجة لذلك، فيمكنني أن أتعرَّف على تلك السيدة من خلال شيء آخر غير وجهها، على الرغم من مدى جماله! كنت أقول لهانافورد حين كان مشغولًا بالبحث عنها إن بإمكاني أن أتعرَّف عليها إن لم يستطِع أحد آخر التعرُّف عليها ووجد هو صعوبة في التيقن من هويتها. فقد رأيت الكثير منها حين كانت تمكث في فندق «وايت بير». ثم إنني أعرف شيئًا لا أحد غيري يعرفه.»

سأله هيثرويك: «وما ذاك؟»

مال هادسون مقتربًا منهما من فوق المشرب وأخفض صوته.

وأكمل يقول: «كانت السيدة ويتينجهام تلك امرأة جميلة ممتلئة الجسد. كانت مبهرجة وتحب ارتداء الملابس الأنيقة؛ فكانت مولعة بالملابس الرائعة والمصوغات، وما إلى ذلك؛ إنها كما تعرفون من نوعية النساء اللائي يجذبن الانتباه إليهن في أي مكان. ومن الجلي أيضًا أنها كانت من السيدات اللائي اعتدن تلقي جميع أشكال الخدمة والرعاية؛ يسعني القول إنها استفادت من فندق «وايت بير» بمقدارِ ما دفعته من مال! لقد خدمتُها بطرق عدة، وأنا أشهد لها بأنها كانت سخية في المال. وإذا أرادت أن يفعل لها المرء شيئًا، فإنها تبقيه منشغلًا به حتى يتمَّه، لكنها كانت تلقي بعملات الخمسة الشلنات أو النصف الجنيه وكأنها لا شيء! كانت لترسلك من أجل توصيل برقية قيمتها ستة بنسات وتعطيك على ذلك شلنين. لقد عرفتها من جوانب عدة مثلما أخبرتكما؛ إذ كنت أحضر لها سيارات الأجرة وآخذ لها الأشياء لحجرتها، وأفعل لها هذا وذاك. وذات يوم صعدت فجأة إلى غرفتها ببرقية أتتها للتو، واكتشفت شيئًا بشأنها؛ شيئًا كنت لأميزها به كما أقول، حتى ولو غيَّرت من شكل وجهها وارتدت شعرًا مستعارًا!»

سأله هوليس: «حسنًا، وما ذلك الشيء؟»

أجاب هادسون بنظرة تنم عن المعرفة وقال: «هذا! ربما أنني رجل دقيق الملاحظة، على أي حال، كان هناك شيء دائمًا ما كنت ألاحظه بشأن السيدة ويتينجهام. فأيًّا ما ذهبت، وأيًّا ما كانت الملابس التي ترتديها، سواء أكانت ثيابَ خروج أو ثيابَ تناول العشاء الأنيقة، كانت دائمًا ما ترتدي شريطًا من المخمل الأسود حول ساعدها الأيمن، فوق رسغها تمامًا، حيث ترتدي النساء الأساور. الحق أنَّ ذلك الشريط كان شبيهًا بالسوار، شريط من المخمل الأسود عرضه بوصتان تقريبًا ومزيَّن في المقدمة بحلية من حجر كريم منقوش بحجم الشلن، وكان الحجر أبيض اللون تقريبًا ومنقوشًا عليه أحد الأشكال الوثنية. ثمة أشخاص آخرون في المكان لاحظوا ذلك الشريط المخملي الأسود هم أيضًا؛ إذ لم تكن تُرى من دونه كما أخبركما؛ وقد قالت الخادمات المسئولات عن غرف النوم إنها كانت تنام وهي ترتديه. لكن في تلك الواقعة التي أخبركم بشأنها، وحين صعدت إلى حجرتها ومعي البرقية، لاحظت أنها لم تكن ترتديه. فتحت السيدة الباب لترى مَن الطارق، كانت حينها ترتدي روبًا استعدادًا لتغيير ملابسها من أجل تناول العشاء على ما أظن، وقد مدَّت يدها اليُمنى لتأخذ ما أحضرتُ إليها. ولم يكن الشريط المخملي الأسود على يدها، ولثانية واحدة تسنَّت لي رؤيةُ ما كان على ذراعها!»

قال هوليس: «ماذا؟ أهو شيء بارز؟»

أجاب هادسون بضحكة خبيثة: «بالنسبة إلى سيدة، أجل! كان هناك وشم على ذراعها! ففي المكان الذي كانت ترتدي عليه الشريط المخملي الأسود دائمًا، كان هناك ثعبان، ألوانه الأخضر والأحمر والأصفر والأزرق وذيله في فمه! كان الوشم بديعًا؛ وأقول إن مَن رسمه لم يكن مبتدئًا! لقد رأيته فقط بالطبع، وليس أكثر من ذلك، لكن كان هناك مصباح كهربائي قوي بالقرب مني، فرأيته واضحًا جليًّا. وهذا شيء لا يمكن لتلك المرأة، أيًّا كانت هي وأيًّا كان المكان الذي ذهبت إليه، أن تكشطه أو تمسحه! ستظل تحمل ذلك الوشم حتى وفاتها.»

راح السامعان ينظران أحدهما إلى الآخر.

وعلَّق هوليس قائلًا: «عجيب!»

التفت هيثرويك إلى ساقي الحانة.

وسأله: «هل لاحظت هي أنك رأيت الوشم المرسوم على ذراعها؟»

فأجاب هادسون: «لا، لا أظنُّ أنها لاحظت. لقد مرَّ الأمر في ثانية خاطفة بالطبع. ولم أُبدِ أنا أيَّ إشارة أنني رأيت شيئًا معينًا، ولم تذكر هي شيئًا. لكنني رأيته!»

هنا دخل زبائنُ آخرون إلى الحانة، والتفت ساقي الحانة إليهم لكي يحضر لهم ما يريدون. وانتقل هوليس وهيثرويك من منضدة المشرب إلى الزوايا الدافئة في الطرف الآخر من الحجرة.

وعلَّق هوليس قائلًا: «أيًّا كانت هي وأيًّا كان المكان الذي ذهبت إليه كما قال هادسون لتوه، وإن كان لتلك المرأة يدٌ في الظروف الغامضة المحيطة بمقتل هانافورد، فلن يكون من الصعب إيجادها. امرأة تحمل علامة بارزة كهذه على ذراعها، وظهرت صورتها مؤخَّرًا في الصحف، سيكون تتبُّعها سهلًا.»

قال هيثرويك موافقًا: «أظنُّ أنني سأصل إليها من خلال الصورة. يبدو أن الصورة التي ظهرت في الجريدة أُخذت من صورة فوتوغرافية لها يبدو من وضوحها وإتقانها أنها من إنتاج شركة من الطِّراز الأول في لندن. سأزور مثل تلك الشركات حالما أعود. وربما يكون لها يدٌ في مقتل هانافورد بأي شكل من الأشكال بالطبع، لكنَّه لا يزال طريقًا ينبغي عليَّ أن أتتبَّعه حتى النهاية إذ بدأت فيه بالفعل. حسنًا! يبدو أن تلك هي نهاية عملي هنا فيما يتعلَّق بأمر تلك المرأة. لكن يتبقى أمرٌ آخر؛ فقد أخبرتك أن هانافورد حين وصل إلى المدينة كان معه ظرف مختوم يحتوي على سرٍّ بشأن اختراعٍ ما أو اكتشاف، وأن ذلك الظرف مفقود بصورة غريبة لا مبرِّر لها. تقول حفيدته إنه وجد حلًّا لذلك الأمر — أيًّا كان هو — في معملٍ كان في حديقته. والآن وقبل أن أذهب، أريد أن ألقي نظرة على ذلك المعمل. أعتقد أن الأشياء لا تزال على حالها كما تركها في منزله القديم؛ إذ لم يترك المكان إلا حديثًا. فأين كان يعيش؟»

أجاب هوليس: «في ضواحي المدينة. كان يعيش في منزلٍ قديم الطِّراز كان قد اشتراه قبل عدة أعوام، وأنا أعرفه من شكله بما يكفي، رغم أنني لم أدخله قط. ولا أظنُّ أنه قد استُؤجر بعد، لكنني أعرف أنه أُعلِن عنه في الصحف المحلية. لنتناول طعام الغداء في فندق «وايت بير»، ثم نقود السيارة إلى هناك ونرى ما يمكننا فعله. أتود أن تكوِّن فكرة عما كان هانافورد يخترعه؟»

قال هيثرويك موافقًا: «أجل، بالفعل. إذا كان السر يساوي ما أخبر به حفيدته فعلًا، فربما لقي حتفه على يد شخص أراد أن يحصل على ذلك السر. إنه خيط آخر على أية حال، وعلينا أن نعمل عليه.»

علَّق هوليس قائلًا: «لم أسمع قط أن هانافورد كان مخترعًا أو يُجرِي التجارِب. لكنني لم أكن أعرف عنه سوى القليل، إلا فيما يتعلَّق بصفته الرسمية؛ إذ كان هو وحفيدته وامرأة عجوز كانت تعيش معهما بصفتها ربة منزل، من نوعية الأشخاص الهادئين. كنت أعرف أنه ربَّى حفيدته منذ طفولتها، وأنه جعلها تتلقى تعليمًا جيدًا في مدرسة الفتيات الثانوية، لكن فيما عدا ذلك، لا أعرف عن أمورهم الخاصة سوى القليل. أفهم من هذا أنه كان يسلِّي نفسه في وقت فراغه في المعمل الذي تتحدَّث عنه؟»

قال هيثرويك: «فهمت أنه كان يهوى الكيمياء. وإذا ما لم يُزَل المعمل، فقد نجد فيه شيئًا يعطينا إشارةً ما.»

بدا هوليس غارقًا في التفكير لدقيقة أو اثنتين.

ثم قال فجأة: «لديَّ فكرة! هناك رجل يتناول غداءه في فندق «وايت بير» كلَّ يوم: رجلٌ يُدعى كوليسون؛ وهو يعمل محللًا كيميائيًّا لشركة كبيرة في مجال الصباغة في المدينة. كنت أراه يتحدَّث مع هانافورد بين الحين والآخر. ربما يمكنه أن يخبرنا بشيء عن هذا الأمر. هيا! هذا هو الوقت الذي يتناول فيه الغداء.»

بعد بضع دقائق، وفي غرفة المشروبات في الفندق، سار هوليس أمام هيثرويك متوجهًا نحو رجلٍ ملتحٍ ويرتدي نظارة، كان الرجل قد جلس لتوه ليتناول الغداء، فقام هوليس بتقديم هيثرويك إليه وشرح له بإيجاز سببَ زيارته إلى سيليثوايت. أومأ كوليسون بالإيجاب وابتسم.

وقال بينما جلسا إلى طاولته: «أعرف أن هانافورد كان يمارس الكيمياء بعض الشيء على سبيل الهواية. أما أن يتمكَّن من اختراع شيء كهذا؛ فهذا احتمال بعيد! ومع ذلك، كان الرجل عبقريًّا بالنسبة إلى كونه هاويًا، وربما توصَّل إلى شيء ذي قيمة كبيرة فعلًا.»

قال هيثرويك متسائلًا: «ألا تملك أدنى فكرة عمَّا كان يسعى إليه؟»

فأجاب كوليسون: «في الآونة الأخيرة، لا! لكنه كان قبل ذلك شديد الاهتمام بأصباغ الأنيلين. لقد اعتاد الحديثَ معي بشأنها. فهذا أمرٌ مهم للغاية في هذا الحي. والحق أنه يجدر بي القول إنَّ الألمان تقدَّموا علينا بشوط كبير فيما يتعلَّق بالأصباغ الأنيلينية، ونحن نحصل على معظم المواد التي نستخدمها من ألمانيا، إن لم يكن كلها. وشغل هانافورد نفسه بأسباب عدم تمكُّننا من صناعة الأصباغ الأنيلينية الخاصة بنا، وأظنُّ أنه جرَّب فِعْل ذلك. لكن بالنظر إلى موارده وباعتباره هاويًا، فإن ذلك كان أمرًا ميئوسًا منه بالطبع.»

علَّق هوليس قائلًا: «لقد رأيته يحدِّثك في بعض الأحيان. أليس لديك أدنى فكرة عمَّا كان يسعى إليه في الآونة الأخيرة؟»

فردَّ كوليسون: «لا. كان معتادًا طرحَ الأسئلة التقنية عليَّ. وكنت أعدُّه رجلًا يتمتع برغبة فطرية في تجربة الأشياء. كان من الواضح أنَّ تلك هوايته. وقد اعتدت المزاحَ معه بشأن ذلك. ومع ذلك، كان الرجل ذا عزيمة، ومن خلال القراءة والتجريب اكتسب معرفةً كبيرة.»

فتساءل هيثرويك: «أتعتقد أنَّ توصُّله إلى شيء ذي قيمة فعلية ربما يكون ممكنًا؟»

وافقه كوليسون: «حسنًا، هذا ممكن إلى حدٍّ كبير! وربما توصَّل إلى شيء بالفعل. أعرف الكثير من الهواة الذين توصَّلوا إلى بعض الاكتشافات فجأة. وحينها، يكون السؤال هو: هل يعرفون ما يكفي لأن يمكِّنهم من تحويل اكتشافهم إلى شيء له غرض واستعمال عملي؟»

قال هيثرويك: «بناءً على ما أخبر به حفيدته، من الواضح أنَّ هانافورد كان يعتقد أنه يعرف ما يكفي. وما أريد أن أكتشفه من خلال زيارة إلى معمله هو ماذا يكون ذلك الشيء الذي اكتشفه؟»

علَّق هوليس قائلًا وهو يضحك: «وحيث إنك لست بكيميائي، ولست حتى هاويًا للكيمياء فلن يكون هذا سهلًا! من الأفضل لو أتيت معنا بعد الغداء يا كوليسون.»

قال كوليسون موافقًا: «يمكنني أن أذهب معكما بضع ساعات. فالفضول يعتريني بالفعل، لا سيما إن كان ما سنأتي عليه من اكتشاف سيسلِّط الضوء على لغز وفاة هانافورد.» ثم أضاف وهو ينظر إلى هيثرويك: «من المؤسف أن الشرطة لم تتمكَّن من القبض على الرجل الذي كان معه. أعتقد أنك تستطيع التعرُّف عليه؟»

فأجابه هيثرويك: «أجل، قطعًا، إلا أن يكون شديد البراعة في التنكُّر! فقد كان لافتًا للنظر.»

بعد مرور ساعة قاد الرجال الثلاثة السيارةَ إلى منزلٍ يقع بعيدًا عن المدينة بعض الشيء، على حافة أراضي المستنقعات التي تمتد إلى التلال العظيمة في الغرب. كان المنزل العتيق الطِّراز المنعزل خاويًا، إلا من حارس يقطن الغرفة الخلفية ليحافظ على تهويته وليعرضه على المستأجرين المحتملين. أما المختبر الذي كان يقع عند طرف الحديقة، وهو سقيفة جدرانها من الحجارة وسقفها من الخشب، فلم يُفتح قط منذ أغلقه السيد هانافورد وتركه، بحسب ما قاله الحارس. لكنه سرعان ما أحضر المفتاح ودلف الزوار الثلاثة إليه وراحوا ينظرون في الأرجاء، كلٌّ بتقدير مختلف لما يرى.

كان المكان كلُّه عبارة عن غابة من القمامة والفوضى. كان كل شيء يمتلكه هانافورد في المختبر من الأدوات والأجهزة قد أُزيل، ولم يَعُد به الآن سوى القمامة: زجاج سليم ومكسور، وورق وصناديق وأقفاص مهملة ونثريات صغيرة محطَّمة. لكن الكيميائي التحليلي نظر حوله بعين العارف، فراح يفحص الزجاجات والصناديق، ويلاحظ شيئًا هنا وآخر هناك، ولم يمرَّ وقتٌ طويل حتى التفت إلى رفاقه وأخذ يضحك بينما هو يشير إلى طاولةٍ في زاوية موضوعٍ عليها آنية يكسوها الغبار.

وقال: «من السهل جدًّا رؤيةُ ما كان يسعى إليه هانافورد! كان يحاول ابتكار حبر جديد!»

صاح هوليس متعجبًا في ارتياب: «حبر! أليس هناك الكثير من الأحبار في الأسواق؟»

وافقه كوليسون بضحكة أخرى: «لا حصر لها!» وأشار مرة أخرى إلى الطاولة. وأردف: «هذه عينات من جميع الأنواع الجيدة، وهي إنجليزية بالطبع، فما من أحبار جيدة تُصنع في أيِّ مكان آخر. لكن حتى أفضل الأحبار لا تزال حتى هذه اللحظة غير مثالية. ولمَّا كان هانافورد هاويًا، فربما ظن أنه يستطيع صنْع حبرٍ أفضل من أفضل الأنواع المعروفة. الحبر! هذا هو ما كان يسعى إليه. حبر كتابة ممتاز مثالي السيولة، نافذ وثابت وغير قابل للتآكل: كان هذا هو تصوُّره، ذلك حُلم بعيد المنال! ألاحظ وجود الكثير من المواد الخام التي استخدمها.»

أراهما الكثيرَ من الأشياء المختلفة، وشرح لهما خصائصها وأضاف بضعة تعليقات على تاريخ تصنيع حبر الكتابة في غضون الأعوام المائة المنصرمة.

واختتم كلامه قائلًا: «بالنظر إلى كل ذلك، وعلى الرغم من إعلانات المصنِّعين ورضاهم عما يصنعون، فلا يوجد حبر كتابة ممتاز ومثالي في الأسواق، على حد علمي على أي حال. وإن كان هانافورد يظنُّ أن باستطاعته صناعةَ حبر بهذا الشكل ونجح في ذلك، فسأكون مسرورًا في الواقع إن حصلت على صيغته وتركيبته! سأشتري ذلك بالمال!»

سأله هيثرويك: «إلى حد دفع مائة ألف جنيه؟ إلى ذلك الحد؟» ذلك أنه تذكَّر ما أخبرته به رونا.

ضحك كوليسون وقال: «حسنًا! ينبغي أن تتذكَّر أن المخترعين متفائلون دائمًا؛ فهم يميلون دائمًا إلى رؤية كل شيء بلون ورديٍّ، وهم عرضة باستمرار إلى المبالغة بشأن مزايا ابتكاراتهم. بالرغم من ذلك، إذا كان هانافورد قد توصَّل بالتجربة إلى تركيبة مثالية لصناعة حبر كتابة يمتاز عن كل نظرائه في جميع الصفات اللازمة، فأجل، سيجني بذلك مالًا كثيرًا. لا شك في ذلك!»

تساءل هيثرويك: «أعتقد أنه كان سيتحتم عليه أن يستخرج براءة اختراع على ابتكاره، أليس كذلك؟»

أقرَّ كوليسون قائلًا: «بلى، دون أدنى شك! وأظنُّ أن هذا كان أحد أسباب ذهابه إلى لندن: ليسعى إلى ذلك.» راح ينظر حوله مرة أخرى وأخذ يضحك. وقال: «حسنًا، أظنُّ أنكم تعرفون الآن، ويمكن لكم أن تثقوا في ذلك استنادًا إلى ما رأيتُ هنا؛ ذلك هو ما كان يسعى إليه هانافورد! الحبر، الحبر فحسب!»

قبِل هيثرويك بهذا الحكم، وحين غادر سيليثوايت في وقت لاحق من ظهر ذلك اليوم في رحلة عودته إلى لندن، راح يوجز النتائج التي عرفها. لقد توصَّل إلى نتيجتين. الأولى، أنه اكتشف أن المرأة التي تحدَّث هانافورد عنها في القطار كانت تُسمَّى قبل عشر سنوات بالسيدة ويتينجهام، وأنها كانت امرأة مغامرة تقوم بأعمال مشبوهة من نوعٍ ما، وعلى الرغم من أنها عوَّضت الصائغ الذي سرقته، كانت لا تزال عرضة للقبض عليها وإدانتها ومعاقبتها، إذا كان من الممكن إيجادها. والثانية أنه وجد أن الاختراع الثمين الذي تحدَّث عنه هانافورد وأسرَّ به في حماس إلى حفيدته، والذي اختفت تفاصيله بصورة غامضة، يتعلَّق بصناعة حبر كتابة جديد يمكن بالفعل أن تصبح له قيمة تجارية كبيرة. الوضع جيد حتى الآن؛ إذ كانت تتضح له بعض الأمور. وحين كان يتناول عشاءه في عربة تناوُلِ الطعام راح يفكِّر في خطواته التالية. لكن ذلك لم يكن في حاجة إلا إلى قليل من التفكير ليقرِّر بشأنها. ينبغي عليه أن يعرف كلَّ ما يمكنه عن المرأة التي قبعت صورتها في جيبه: الاسم الذي تطلقه على نفسها الآن، والمكان الذي تقطنه، وما أدَّى إلى ظهور صورتها في الجريدة مجددًا، وأخيرًا لكن ليس آخرًا بالمرة، عليه معرفة ما إن كان هانافورد قد تواصل معها أو قدَّم معلومات عنها بعد رؤية صوتها في الجريدة. أجل، كان هانافورد قد ذكر إلى الرجل الذي كان معه في القطار أنه لم يفصح بأي شيء عنها حتى ذلك المساء، لكن أكان ذلك الرجل هو الوحيد الذي تحدَّث إليه هانافورد؟ سيتطلب هذا جهدًا كبيرًا، والشيء التالي الذي ينبغي عليه اكتشافه بطريقةٍ ما، هو ما حدث إلى الظرف المختوم والمغلق الذي كان هانافورد يحمله بالتأكيد حين خرج من فندق مالتر ليلة موته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤