الفصل الثالث عشر

في كون العالِم براون

حبست فاندا أنفاسها، لقد تجرأت بونتي حقًّا وحوَّلت المكالمة عليها. تصاعد الدم الساخن إلى رأسها، ولوهلة أغوتها فكرة أن تقطع الاتصال. إن ضغطة خفيفة على علامة «الشباك» التي على الهاتف كفيلة بذلك. لتكن بالصدفة. إزعاج. ترددت. أكيد ستخبر بونتي الرئيس بذلك. سحبت فاندا سبابتها.

سألت بتردد: «مرحبًا؟»

«فيلفريد جانتر. جريدة ميتيل هيسسيشه ناخريشتن. صباح الخير.»

«فاندا فالس …» لم تكمل أكثر من ذلك.

«لستِ العالمة المخولة بالحديث، مشغولة جدًّا، وغالبًا ما ستضطرين للعودة للمعمل بعد قليل لأن المكبس سيسخن أكثر من اللازم؟»

«ليس تمامًا، لكن واحدًا من دواليب الحضانات يُطلِق صفير الإنذار، وعليَّ أن أنقذ مزارع الخلايا قبل أن ينفد منها الهواء.» اندهشت من البساطة التي خرجت منها الكذبة من بين شفتيها.

«إنقاذ المزارع؟ لا بأس. ما رأيك لو ألقينا نظرة على الصين؟»

«ملف التبت يتولاه زميل آخر … هلا انتظرت قليلًا إلى أن …»

«لا تتعبي نفسك»، قاطعها ثانية، لمحت ظل ابتسامة في كلامه، وبدا الحديث لها مسليًا. أكمل كلامه بودٍّ:

«السيدة الدكتورة فالس، لا أريد أن أعطلك كثيرًا. أحتاج فقط لبعض المعلومات حتى أستطيع أن أفهم أفضل … لقد انطلقت سحابة من جزيئات النانو في الصين. ما مخاطر ذلك علينا؟»

«بالتأكيد ليس سيناريو من سيناريوهات ميشائيل كريشتن إن كان هذا ما تعني. إن سحابة جزيئات النانو تتحلل ذاتيًّا بسرعة. أما الجزيئات الدقيقة جدًّا فتظل ارتكاسية إلى حدٍّ بعيد بسبب سطحها الكبير نسبيًّا.»

«ولا يبقى منها شيء معلَّق في الهواء؟»

«جزيئات النانو التي تنطلق بفعل الانفجار تلتصق ببعضها البعض مُشكِّلة تجمعًا يمكن أن يترسب في النهاية في أي مكان. إنها لا تكون أسرابًا طائرة مثل النانوبوتس التي كتب عنها كريشتون في روايته وأطلقها في صحراء نيفادا.»

«وكيف تستطيعين أن تكوني متأكدة هكذا؟»

«ببساطة لأن هذه العملية لا تنجح على هذه الصورة. الجزيئات أصغر من أن تتمكن من الطيران. إن أصغر حشرة معروفة لنا تستطيع الطيران هي ذبابة النمس. إن طولها لا يصل حتى إلى ٢٠٠ ميكرومتر، وهذا يشبه رأس دبوس الخياطة مقسومًا على عشرة أقسام. ما دون ذلك لا يمكنه الطيران. يصبح غير عملي. جزيئات السخام والغبار التي تنشأ عن حريق أو انفجار لا تتحرك إلا من خلال خاصية الانتشار، وبهذه الطريقة في الحركة لا تتمكن من السير بعيدًا.»

سمعت فاندا أزيزًا خفيفًا على الجانب الآخر من الخط. فرغم صمته، كانت فاندا تستشعر نفاد صبره وهو يحاول أن يصنف المعلومات حسب قيمتها في السوق.

قال وهو يمط كلامه: «إما أن توقظي اهتمام الناس ببعض الأكاذيب، أو تصيبيهم بالملل بسرد الحقائق … ومن الممكن الجدل حول أي الأمرين أفضل.» توقف قليلًا ثم قال: «الحقيقة ممكن أن تكون مملة بشكل يفوق الوصف، أَلَا تتفقين معي؟»

«حضرتك صحفي. إن كان لا يعنيك كشف الحقيقة، فمَن يعنى إذن؟» سألت فاندا نفسها عن حقيقة ما تفعل. إن جانتر هو الصحفي الخاص ببلاط جلالة شتورم، وليس بعيدًا أن يلتقيا مرة كل شهر يدخنان معًا في النادي.

«أنتِ عالمة؟»

«طبعًا، ولهذا السبب أتمسك دائمًا بالحقائق، وهي مختلفة عما تعتقد. من السذاجة أن تعتقد أن الأشياء من الممكن التقليل من حجمها، ثم يسير كل شيء بنجاح وكأنه عادي. الغواصات دقيقة الحجم، أو الجراحات دقيقة الحجم، كلها ألعاب من صنع الخيال الإنساني … وهي لا يمكن أن تتواجد في العالم على صورتها تلك تمامًا، كما لا يمكن أن تتواجد … حسنًا … لنَقُل … العماليق التي تنسج حولها الخرافات.»

«لكن الخيال قد يصنع حقائق.»

«برأيي الخيال يساعدنا على فهم الحقائق. تخيَّلْ أني سأناولك مخمرًا يمكن أن يجعلك تنكمش إلى حجم البكتيريا.» أعجبها هذا المثال. صمتت قليلًا ليتمكن من استيعاب الصورة، ثم أكملت: «في الوهلة الأولى ستمسك بالشعيرات الموجودة في أنفي، ولكن إنْ عطستُ وقذفتُكَ في الهواء في صورة إعصار، فستعلق في قطرات الماء الدقيقة، التي ستتولد حولك من دوامات جزيئات الهواء التي تتلاطم يمينًا ويسارًا مثل عباب البحر. لم يَعُدْ الهواء فجأةً هو ذاك العنصر الحريري الذي يتملق حركتك، وإنما أصبح كتلةً خشنة تمنعك من الحركة، بل وعلى العكس تدوم وتلعب بك مثلما تلعب القطة بفأر مذعور.»

همهم جانتر: «ليس هذا سيناريو أحلامي.»

واصلت فاندا بثقة: «لأول مرة ستشعر بقوى كون النانو. الرقص المتواصل للجزيئات. لقد هبطت إلى كون العالِم براون بما فيه من قوانينه الخاصة.»

قاطعها جانتر عابسًا: «ما هذه المجرة؟ لا بد أن توضحي لي الأمر بالتفصيل. بالمناسبة كانت الرياضة إحدى مواد التخصص الفرعي في دراستي.»

ردت فاندا بفطنة: «إذن لديك مؤهلات جيدة؛ فأنا أتحدث عن تحرك الجزيئات وفق قوانين الحركة التي اكتشفها العالِم براون. إنها تصف الحركة الذاتية للجزيئات بفعل الحرارة. هل راقبت ذات مرة نقطة ماء تحت المجهر؟» زمجر الصحفي بشيء غير مفهوم، فلم تستطرد فاندا الحديث في هذا الشأن: «بالتأكيد إذن رأيت أجزاء الغبار الدقيقة ترتعش. هذه هي الحركة التي وصفها العالم براون، إنها حركة جزيئات الماء غير المرئية لنا، تدفعها باستمرار من هنا لهناك.»

«وهذا ما يحدث معي في الهواء حين أتركك تسحرينني؟»

صوَّبت فاندا: «أجعلك تنكمش»، ثم أكملت: «حتى في الهواء تكون الحركة مصادفة وبلا اتجاه، فالإيقاع سريع جدًّا، أكثر كثيرًا من مائة متر في الساعة، لكنك لن تتمكن أبدًا من الابتعاد؛ لأنك دائمًا ما ستتطوح إلى اتجاه جديد، وفي وقت ما ستصطدم بأحد الجزيئات المساوية لك في الحجم، لنَقُلْ مثلًا بواحد من زملاء مهنة الكتابة. بعدها سنرى ما الذي يحدث.»

«أخشى أن هذا هو حالي الآن. ما قولك في ساعة طيران معًا؟»

ضحكت فاندا في الوقت الذي بدأت تنقر فيه بعض عبارات الترحيب على الكمبيوتر. «الطيران ليس جزءًا من هذه العملية. الانتقال عبر الهواء يشكِّل صعوبةً أكبر على الأشياء الصغيرة من الكبيرة؛ لذلك يتعيَّن على الحشرات الصغيرة أن تضرب بجناحيها باجتهاد كبير، وبصورة جوهرية فإنه في حالة الطائرة تكون علاقة الطفو بالنسبة لمقاومة التيار مواتية أكثر.»

تنهَّد قائلًا: «كنتُ أعرف أن الأمر مملٌّ.»

ردت فاندا: «هنا عليَّ أن أعترض بشدة.» ظهر على الشاشة تساؤل حائر: «ماذا لو سمحت؟» لم يفهمها الكمبيوتر، لقد انزلقت يدها على لوحة المفاتيح ونقرت سطورًا خاطئة، فلم يتمكن جهازها من هضم سلطة الحروف المشكَّلة تلك. «صحيح لا تستطيع جزيئات النانو الطيران، لكن قوة الضغط الناجمة عن انفجار هذا المصنع الصيني قد تمكِّنها من الانتقال في الهواء. ربما استنشقَ العمال المتواجدون بشكل مباشر في الموقع قدرًا من ذرات الغبار هذه بالغة الدقة. إن سحابة الغبار تلك تتكون من خليط من الجسيمات متباينة الحجم والتي يمكن أن تترسب عميقًا في الرئة وتسبب الالتهابات، وحين يكون متاحًا تنزلق عبر الجدران الرقيقة المبطِّنة للرئة إلى الخلايا المناعية في تيار الدم وتنتشر عبرها في الجسم كله. ومن عواقب ذلك أمراض الجهاز الدوري والأورام.»

تنهَّد جانتر قائلًا: «أنت تفهمين جيدًا ما تتحدثين عنه، وما أنا سوى صحفي أحمق.»

«لا أفهم تمامًا»، صوت بداخلها ناداها محذرًا فجأةً.

أبدى جانتر ملاحظاته: «حسنًا، أنت تتحدثين عن جزيئات النانو التي يمكن أن تُسبِّب لنا الأمراض. على الجانب الآخر تتواتر أنباء عن نجاح معجزة العلاج بجزيئات النانو، الكرات السحرية حسبما يسميها الكثيرون، وقد تسمح لنا بالبقاء حتى سن المائتين على قيد الحياة، وهو ليس العمر الذي أحلم بالوصول إليه إن شئت الصدق. فهل هذه نعمة أم نقمة؟»

«إن نقل الأدوية بمساعدة جزيئات النانو من الممكن أن يكون فعَّالًا جدًّا»، طالما رددت فاندا هذه الجملة مرارًا وتكرارًا. هي صيغة موثوق بها تستطيع أن تتكئ عليها كدرابزين السلم، ولن تسمح لأحد أن يستدرجها أبعد من ذلك. «يمكن للعقارات السمية مثل علاجات السرطان أن تُتناول من خلالها في كميات ضئيلة جدًّا.»

أجاب جانتر وقد زادت استثارته: «يستطيع رئيسك أن يرى الأمر على هذا النحو، لكني أنا لا أعتقد في هذه الرسائل العلاجية. من الممكن أن يتم بالفعل علاج بعض الأمراض التي تسببها الحضارة بصورة أفضل، وهذا ما يدعو الساسة إلى أخذ زيادة متوسط الحياة في حساباتهم. سيصل الإنسان لعمر ٢٠٠ سنة، ولِمَ لا؟ معنى هذا أن يُحال في سن ١٦٧ إلى التقاعد. لكن هل سنصل يومًا إلى سن التقاعد تلك؟ ستكون أعضاؤنا قد تحمَّلت بجزيئات النانو مثلما هي محمَّلة اليوم بالمبيدات، وربما من هذا الطريق ينجح الانتقال من الإنسان إلى الآلة. نوع من التبلور، أو يسير الأمر كما الحال حتى الآن: أمراض جديدة، أدوية جديدة، لكن سن التقاعد لن تخفض.»

كانت فاندا تقضم قلمها الحبر، كانت تفضِّل لو أنهت المكالمة حتى ذلك الحد. لم يكن جانتر مخطئًا؛ فبالطبع كانت أنباء نجاح النانو في العلاج والتشخيص ثقلًا سياسيًّا. كانت تفكر في الموجة العارمة من مواد النانو الجديدة والتي تجاوزت علم السموم. إنهم ليقفون مشدوهين أمام أعمدة قوية لقصر مشيد، يقوم فيه العلماء بإعداد المأدبة الملكية للتزويج فيما بين علوم النانو وعلوم الجينات، في الوقت الذي يظل فيه أثر الكثير من المكونات مجهولًا. من الممكن أن نتوقع قوة هذه الزيجة التي رتبت بين البيتين الملكيين، مثلما يتم ترتيب الزيجات الملكية منذ القدم، إلا أن الجيل الصاعد من هذا الزواج يفوق قدراتنا على التصور. وكان على رأس المحركات الاجتماعية التي دفعت نحو هذه الأحداث حاجةُ البشر المتنامية إلى التحكم في العمليات الحيوية، وهنا لم تستطع فاندا أن تدفع من ذهنها خاطر أن طموح الإنسان في السيطرة هو ذاته ما يعظم من خروج التكنولوجيا الحديثة عن نطاق أي سيطرة، وفي ظل عدم المعرفة والتسابق نحو حيازتها قام علماء البيوتكنولوجي بممارسة لعبة «فيروبولي» «بنك الحظ الفيروسي»، وكان من المحرج مشاهدة كيف أن علم السموم بدأ يعرج وراء التطورات الأخيرة. «سأتمسك بالحقائق» قالتها فاندا أخيرًا، وعضت لسانها، فمثل هذه التشكُّكات لو أفصحت عنها للرأي العام لكلَّفتها وظيفتها.

فرد الصحفي بلا مواربة: «وأنا لا أصدق في رؤيتك. بل إنني أدعي أنه في تكنولوجيا النانو خاصة، فإن المسافة شاسعةٌ بين الممكن والمأمول، إنهما لا يتقاطعان إلا في إدراكنا لهما.»

«أَلَا تسهم وسائل الإعلام في تكريس هذه الحال؟»

«بالتأكيد، ولكن أيضًا العلماء الذين يستغلوننا من أجل الترويج لمشروعاتهم. القلة فقط تتحدث عن المخاطر.»

«ربما لأنهم لا يعرفونها؛ فليس من السهل تقديرها على النحو السليم.»

«إنك أنت الخبيرة. فماذا ترين في تلوث أجسام الجنود الإيطاليين في كوسوفو؟ قيل وقتها إنه على الأرجح هو ناتج عن كشط القشرة الخارجية لصواريخ كروز.» لقد حان وقت إنهاء المكالمة مع جانتر.

«أعتقد أن على حضرتك أن تواصل الحديث مع بروفيسور شتورم، فهذا هو مجال تخصصه.»

«دَعيكِ من هذا الكلام، أنا أعرف رئيسك؛ إنه لا يخبر شيئًا.»

فأسرعت فاندا قائلة: «عليَّ الآن أن أعود إلى المعمل حقًّا.»

«نعم، دولاب التخمير. لكنْ عندي سؤال أخير: ما هي الأبعاد التي يتحرك فيها هذا النانو الشبح؟»

«مقياس النانو يطابق واحدًا على مليار من المتر»، ردت فاندا آليًّا، فأخيرًا عادت للتحرك على المسار الآمن.

«ريتشارد فيمان، واحد من أوائل مَن حلموا بتكنولوجيا النانو، قال ذات مرة في الغور البعيد مكان شاسع. إذا ما قارنَّا بين الأحجام فجزيء النانو بالنسبة لكرة القدم هو كمثل كرة القدم إذا ما قورنت بالقمر. نحن نعرِّفه على أنه وحدة في منظومة أكبر بين واحد إلى مائة نانومتر.»

«ولماذا مائة نانومتر؟»

ترددت فاندا قليلًا ثم قالت: «لأن بيل كلينتون أصدر توجيهاته في هذا الشأن.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤