الفصل الخامس عشر

الهدية

فكَّرت فاندا وهي تأخذ الحافلة رقم ٧ التي ستحملها إلى المدينة أن «كايبيرينها تمام التاسعة» شفرة لا بأس بها، ولحسن طالعها فإن يوهانيس لم يعترض طريقها ثانيةً هذا اليوم؛ إذ كانت تريد أولًا أن تتحدث مع زابينة في كل شيء. مشروب الكايبي متوافر في بعض بارات ماربورج، لكنهما تفضِّلان بار «هافانا»، حيث غالبًا ما يمكن لهما العثور فيه على ركن هادئ. أما بار «ميكسيكالي» فكانتا تذهبان إليه إن كانت بهما رغبة في تجريب تأثير مشروبات جديدة، فتجلسان في المنتصف حيث تحصلان على أفضل إطلالة على المكان، بحيث لا يمكن لأحد ألا يلاحظ وجودهما. رنَّ هاتفها الخلوي قبل أن تصل الحافلة إلى المحطة بقليل. اختبأت فاندا وراء ظهر أحد الركاب وراقبت السائق كيما تتأكد أنه لم يفطن للمسألة؛ إذ كانت لافتات الممنوعات معلَّقة على شريط أعلى الزجاج الأمامي: «التدخين ممنوع، الهاتف المحمول ممنوع». لم تكن سوى مجرد رسالة نصية قصيرة.

«لا بد من تأجيل اللقاء إلى الغد. نفس المكان، نفس التوقيت. ز.»

ردت فاندا من فورها: «حسنًا، ف.» لقد نال من فاندا التعب، لدرجة أنها استراحت لترك الموضوع عدة ساعات قبل استئنافه، فطوال اليوم يدخل مكتبها زملاء يستعلمون عما حدث؛ فخبر رحيل زابينة المفاجئ ألقى بشكوك حول الأسباب الحقيقية لتركها العمل. كان بعضهم غاضبًا، لكن لم يكن من الصعب استشفاف أن معظمهم خائفون، ففي نهاية المطاف، معظم العاملين عقودهم مؤقتة، ومصير زابينة جعلهم يدركون كيف تتقلب الأقدار بسهولة، وكيف تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وكيف أنهم جميعًا يجلسون في نفس القارب.

لا تزال القمامة على حالها جرَّاء الليلة السابقة أمام باب شقة الجيران. رنت فاندا الجرس، فلم يُفتَح الباب. وحين سحبت فاندا شريط الورق من عتبة بابها تساءلت سريعًا إن كانت تركته في هذا الموضع، لكنها عادت فقالت ربما هي لم تدرك أين وقع حين فتحت الباب. وفي حالة تعبها الشديد تلك بدت لها فكرة أن أحدًا دخل شقتها في غيابها مدعاة للضحك رغم قلقها.

نامت نومًا عميقًا في تلك الليلة.

•••

وفي صبيحة اليوم التالي كان ذهنها صافيًا كما لم يكن من قبلُ، ورغم ذلك كانت تحرك رأسها بالكاد، فعلى نحوٍ ما بدت المشكلة وكأنها تدحرجت إلى غور أعمق، وكانت رقبتها متصلبة كلوح خشبي. نحَّت لحافها جانبًا فشعرت بالبرودة على الفور. وجدت جهاز التدفئة في غرفة الجلوس مغلقًا. تأففت فاندا من الرائحة المكتومة جرَّاء عدم التهوية. أنا لا أتواجد هنا إلا نادرًا، فكرت فاندا وقالت: «لن يدهشني لو أن أحدهم يعيش هنا حياته سرًّا طوال الصباح. إن هذا ليشبه فيلم «بين جيب» الفيلم الكوري الذي شاهدته في السينما مؤخرًا. كان الفيلم يحكي عن شاب يقتحم المنازل والشقق الخاوية، ويظل فيها طوال فترة غياب أصحابها، وكان كل منزل جديد يسمح له بالتمتع بنمط حياة مختلِف، ما دعاه إلى إظهار الامتنان نحو مضيفيه الغائبين بأن يغسل ملابسهم وصحونهم، وينظِّف منزلهم ويسلِّك بالوعاتهم المسدودة، ويصلح ألعابهم المعطوبة. لا يمكن أن يكون هذا الشاب قد حل ضيفًا عليَّ.» قالت لنفسها بعد أن تيقَّظتْ تمامًا بمجرد أن خبط ظهرها غطاء المرحاض ليسلبها استمتاعها بهذه اللحظات من اللافعل المطلق. دخلت إلى البانيو لتستحم وتركت الماء الساخن ينهمر على رقبتها المتصلبة. أعانها ذلك على تحسين حالتها، رغم أن رشاش الماء قد سُدَّتْ بعض فتحاته بفعل تراكم الجير.

بعد نصف الساعة كانت في المركز وفتحت مكتبها. وجدت اللمبة الحمراء ترتعش على هاتفها إشارةً لوجود مكالمة سُجِّلتْ على جهاز الرد الآلي. أما مقدمة الدوارة التي على مكتبها فكانت تشير تجاه الباب. تجولت عيناها تلقاء تقويم المكتب، كان يشير إلى الأربعاء التاسع من نوفمبر. في درج المراسلات كانت طلبية الأجسام المضادة لا تزال على حالها. كانت قد نسيت أن تمرِّرها لقسم المشتريات. فتحت فاندا درجًا في المكتبة المثبتة على الحائط، وبحثت عن شيء أسفل عبوة المناديل الورقية. أخرجت قرصًا صغيرًا من الكرتون ووضعته بحذر على المكتب، إلى جوار الطاولة الصغيرة المصنوعة من زجاج البليكسي التي تستقر فوقها دوارة الخشب الطبيعي. كانت قد صنعت هذا القرص الكرتوني مؤخرًا حين وضعت علبة بتري (وعاء مسطح دائري الشكل وشفاف، يُصنَع من الزجاج أو من اللدائن، ويستعمله علماء الأحياء لزراعة الخلايا) على ورق مقوى رمادي اللون، ثم رسمت دائرة حولها بالقلم الرصاص حتى تظل مستوية ومتناسقة، وباستخدام المسطرة رسمت خطًّا في وسط الدائرة لتقسِّم المساحة إلى جزأين، ثم إلى أربعة، ثم إلى ثمانية أجزاء مثل الكعكة، لكن دون أن تقصها بالمقص، فقط بالقلم لتكون الدائرة مقسَّمة فقط بخطوط القلم. كانت هذه هي اللوحة التي قامت بترقيمها وحرَّكت عليها الدوارة مثل المؤشر. كان بالدرج نردان تستخدمهما لتحديد مكان الدوارة كل مساء قبل أن تغادر إلى منزلها، وفي اليوم التالي كانت تستطيع أن تختبر إن كان شيء تغيَّر. دفعت فاندا بمنتهى الحذر القرص الكرتوني أسفل القاعدة المصنوعة من زجاج البليكسي. أدارت لوحة الأرقام ووضعت الخط الذي يحمل الرقم صفرًا على حرف المكتب الذي يساعدها عند وضع العلامة الجديدة وقت تغيير وضعية الدوارة مساءً، ثم الرجوع إليها في اليوم التالي؛ وبهذا كانت ترقد الدوارة كل يوم في زاوية مختلفة لا يعلمها سواها، وهي فقط التي تستطيع مراجعة وضعها بواسطة هذا القرص المصنوع من الورق المقوى. انحنت فاندا فوق الدوارة. من خلال زجاج البليكسي تمكَّنت من تحديد العلامات على قرص الكرتون. المصادفة اختارت لها بالأمس الموضع رقم ٤، إلا أن قمة الدوارة تشير إلى الرقم ٧.

طرق طارق على الباب، ثم ضُغِطت أكرة الباب إلى الأسفل، وأطلت السيدة بونتي من فرجة الباب.

«ها أنت هنا، الرئيس يريد التحدث إليك.»

قالت فاندا متوسلة: «أمهليني خمس دقائق.»

ردت السكرتيرة ردًّا مقتضبًا: «الأمر عاجل»، ثم اختفت. سحبت فاندا قرص الكرتون من على المكتب وأعادته إلى الدرج أسفل عبوة المناديل الورقية، ثم التقطت طلب الأجسام المضادة من مكان حفظ الأوراق وتوجهت نحو مكتب شتورم. وفي غرفة السكرتيرة كانت السيدة بونتي تُعِيد سماعات الديكتافون إلى وضعية الاستماع، في الوقت الذي تصاعد فيه دخان من فنجان الشاي الموضوع على مكتبها ليعبق الحجرة برائحة توت مسكر لاذع نفذت إلى أنف فاندا. كان الباب المزدوج الموصل إلى حجرة الرئيس مفتوحًا.

وماكس شتورم خلف مكتبه جالسًا يلوح بيده: «تفضلي بالدخول.» كانت حركة يديه تشبه حركات مدير سيرك يَعِدُ جمهوره بمزيدٍ من الإثارة، وأمامه هو أيضًا فنجان من نفس البورسلين تتصاعد أدخنته بنفس الرائحة.

«سيدة بونتي، لو سمحت فنجان شاي للسيدة فالس.» إلا أن النقر على لوحة المفاتيح لم يتوقف. لم تسمعه سكرتيرته.

ردت فاندا: «شكرًا، لا داعي، لقد تناولت الإفطار لتوي.»

«هلا جلست؟ أتمنى أن يكون لديك قليل من الوقت.»

أومأت بصورة غير ملحوظة لتحمي رقبتها، وجلست على مقعد الضيوف، على حافته، فقد كانت تتمنى أن تخرج في نفس اللحظة. ذاك المقعد المصنوع من الكروم المغطَّى بالجلد يتأرجح بسهولة وفقًا لحركة الجالس عليه. متى كانت آخِر مرة يحدِّثها فيها شتورم بهذه النبرة؟ إن علاقتها به يمكن أن تُقسَّم إلى عهدين: عصور ما قبل وما بعد توقيع العقد، وفيما بينهما فترةُ فراغٍ تاريخيٍّ لم تستطع أن تفهم أسبابها. كل ما تحمله لها اللحظة الراهنة يعود بها إلى عصر ما قبل توقيع العقد. ماذا عساه يريد؟ تجولت نظرات شتورم متفحصة إياها من أسفل إلى أعلى، وتوقَّفت لبرهة عند الوادي المنبسط أسفل ذقنها، إلى أن ثبَّتَ نظراته أخيرًا نحو عينيها. كان يريد أن يمنحها من فيض إشعاعاته، إلا أن خبرتها معه تَحُول بينها وبين أن تثق فيه.

«فيلفريد جانتر، تعرفينه سلفًا، إنه ذلك الرجل من الجريدة. التقيت به بالأمس. حوار جيد. ممتاز.» كان يقولها وهو لا يَنِي ينقر على المكتب بقلمه الحبر بلا انقطاع. أدار رأسه نحو النافذة فراقبت فاندا كمفتونةٍ تفاحةَ آدم فوق ياقة القميص البيضاء، وهي ترتفع ببطء لتعود فتغرق من جديد، كما رأت أثر دمٍ سال أسفل ذقنه جرَّاء خدش أو قطع، بدا وكأن كل ما في هذا الرجل قد استطال؛ رقبته الرفيعة، ثم شكل أنفه المدبَّب بلونه المصفر، فلكأنه طرف الممص (تلك الأداة المخبرية التي تستخدم في نقل أو قياس حجم سائل ما). كان لا يزال ينظر من النافذة وهو يكمل كلامه: «بالمناسبة يؤسفني ما حدث مع زابينة ميرتينز، لكنْ يداي الآن مقيدتان. رغم ذلك سأعمل ما في وسعي. هل تعرفينها بشكل أكثر حميمية؟»

ترددت فاندا، وانطلقت صافرة إنذار في رأسها: فالرئيس والتبرير، أمران لا يجتمعان. «لا تسمح أن يطويك أحد»، تذكرت هذه الكلمات التي كانت على الملصق الذي لصقه باحث دكتوراه آخَر على كتاب المعمل وقت أن كانت لا تزال بالجامعة. ما الذي استدعى هذه الكلمات الآن تحديدًا؟

سمعت نفسها تقول: «ماذا تقصد ﺑ «تعرفين»؟» تحركت نظرة شتورم إلى يديها، حيث كانت أصابعها تقوم بطيِّ الطلب بعناية.

تقطعت كلماتها: «نحن زملاء. كنا زملاء.» نظرت إلى الورقة المطوية بين يديها، وتصبَّبتْ عرقًا فقد تقتلها زابينة على ذلك.

«لا بد لأحد أن يستكمل هذا المشروع.» كان مغزى كلماته يتساقط تدريجيًّا في وعيها. «هل سمعتني؟»

صاحت مباشرةً: «لقد ظننتُ أن المشروع قد تبخَّرَ.» وكان صوتها عاليًا ما دفعها أن تعض لسانها ندمًا. الآن كشفَتْ نفسها، لكن شتورم قرب فنجانه من فمه بمنتهى الهدوء، وبدأ يرتشف الشاي رشفات صغيرة. قال مبتسمًا: «ممتاز، لكن أسخن مما يجب.» وضع الفنجان مكانه، ثم دفع تجاهها أوراقًا على المكتب.

«عليك أن توقِّعي على مبدأ الكتمان هذا. فالشركة التي نعمل معها تُقِيم وزنًا لحفظ السرية.» ثم فتح درجًا من المكتب وأخرج منه حافظة أقراص مدمجة «سي دي».

«أريدك أن تحَضِّري عرضًا حول نتائج الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي، وهذا هو كل ما تحتاجينه لذلك.» كان يلوح بقرص المعلومات، وكأنها مكافأة عليها أولًا أن تكتسبها عن جدارة. «سيكون الأمر جد مربح.»

«مربح؟»

«سيظهر اسمك في كل الأحوال على البحث المنشور، سيُنشَر بالتأكيد في أرفع الدوريات مكانة، فمستقبلًا لن ننشر إلا في الدوريات راقية المستوى؛ فالقسم يحتاج بلا شك مزيدًا من النقاط الخاصة بالنشر العلمي. لا بد أن هذا يوافقك بكل تأكيد، أم ماذا؟»

لم تكن سوى مجرد رجعة اعتباطية برأسها إلى الوراء، انقبضت على إثرها عضلات رقبتها كلها، كأنما وُضِعت يد مثلجة عليها. هل يعلم بأمر الموضوع السابق في روتشيستر؟ هل من الممكن أن يكون أحدهم تتبَّع المسألة ليكتشف أني تلاعبت بالأرقام قليلًا ليظهر اسمي كمشارِكة في البحث المنشور؟

«ما قولك؟» كان شتورم لا يزال ينظر إلى فاندا متسائلًا.

ردت فاندا: «رقبتي متصلبة.» وأمسكت برأسها وكأنها تحاول أن توازن حملًا ثقيلًا عليها.

«أعرف طبيب علاج طبيعي جيدًا.»

«أشكرك. سأعود لك في هذا الأمر لو اقتضت الحاجة»، وكأن هذا هو ما ينقصها، أن تضع نفسها مجدَّدًا تحت رحمة أحد أعوانه، فهي لا تزال تستنكر محادثتها مع جانتر.

«وحين ننتهي من هذا الأمر من الممكن البدء في الحديث حول تقدُّمك لوظيفة أستاذ مساعد.» كان شتورم يبتسم ابتسامة مَن يقدِّم منحة. هذا إذن هو الثمن الذي سيتعيَّنُ عليَّ دفعه إن رفضتُ العرض. آلمتها رقبتها ألمًا شديدًا إلا أنها تمالكت نفسها.

«ما المطلوب فعله تحديدًا؟»

«أحتاج تحليلات إحصائية، ورسومًا بيانية، وكذلك شرائح العرض الضوئي صباح الاثنين؛ فأنا مرتبط بمحاضرة ألقيها في بوسطن، وليس عندي أي وقت لأحضرها بنفسي، وأريد منك أن تقومي عني بهذه المهمة. لقد قمت بهذا من قبلُ. تكفي تمامًا عشرون شريحة عرض. هل يعمل غيرك على جهاز الكمبيوتر الخاص بك؟»

هزت فاندا رأسها بالنفي. هذه المرة امتد الألم حتى ذراعها، ولعنتْ نفسها سرًّا على الإيماءة التي لم تفكِّر فيها مليًّا. لم تتمكن من استيعاب الأمر، فالمسألة بدت أسهل مما ينبغي، فبالأمس القريب ضُرِبت بالهراوة حتى أغشي عليها من أجل الحصول على هذه البيانات، والآن تأتيها البيانات بين يديها على هذا القرص الفضي اللامع.

«حين توقعين هنا فأنت بذلك تؤكدين أنك ستتعاملين مع البيانات على هذا الكمبيوتر فقط، وأن كل النتائج والتقييمات ستظل داخل المعهد، وأي انحراف عن تطبيق هذه التعليمات ستكون له عواقب وخيمة لن يرغبها أنت ولا أنا.» وبهذا دفع نحوها حافظة القرص المدمج على الطاولة مبتسمًا وكأنه قدَّم لها هدية.

«من الأفضل أن تبدئي على الفور، أما القرص المدمج فترجعينه على وجه السرعة لي أنا شخصيًّا. هذا طبعًا أمر مفهوم، و…»

«ماذا؟» ترى ماذا يدبر بعدُ من حقارات؟

«خذي رقم هاتف فيرنر فيشتل من السيدة بونتي.»

«فيرنر فيشتل؟»

«طبيب العلاج الطبيعي. وبلِّغيه مني السلام.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤