الفصل السادس والعشرون

المكاشفة

«سنفعلها بهذه الطريقة بالضبط»، قالت بيترا هذه العبارة وهي تلعق شفتها العليا المطلية بأحمر الشفاه بتلذُّذ. كانوا يجلسون في مقهى هافانا، كل واحد أمامه مشروب الكايبيرينها يشربونه من الماصة ببعض التحفُّظ. كانت زابينة تعبث صامتةً بمكعبات الثلج، أما يوهانيس فقد احمرَّ وجهه مرة أخرى، لكن الأمر بدا واضحًا لبيترا بصورة قاطعة.

«إذن، في أثناء أخذ يوهانيس لمفتاح خزانة السموم من درج مكتب ميشائيل، سأقوم أنا بصرف انتباه العزيز ميشائيل عنه.»

«لست أدري» قاطعتها زابينة «فالأمور كلها تسير بشكل سريع للغاية بالنسبة لي.»

وضعت فاندا يدًا على فمها. الأفضل ألا أتفوَّه بأي شيء الآن، وعاجلًا ستفشي زابينة ما تخفيه.

ردت بيترا: «لكننا ناقشنا كل شيء، إنها خطة عبقرية. كيف سيتسنى لنا إذن الوصول للبقية الباقية من المادة التي استُخْدِمت في الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي، هل لديك فكرة أفضل؟»

عادت زابينة تحرِّك مكعبات الثلج في كأسها، ولم تنطق بكلمة. فكرت فاندا: إن لم تَقُلِ الآن، فلن تقول أبدًا، وأضافت بحذر: «ربما لا يزال هناك أمر آخَر يحتاج إلى توضيح.» وبينما كانت تمد يدها في جيب بنطالها، لم تسمح ليوهانيس أن يغادر ناظريها. كان جالسًا قُبَالتها وبدا ناظرًا باندهاش إلى الزر الأحمر الذي جعلته يتدحرج على الطاولة ليستقر أمامه مباشرة. قالت فاندا بحسم: «فَلْتبدأ أنت.» ضمَّ يوهانيس عينيه، ثم ترك كتفيه تهبطان فجأةً واستلقى للوراء في كرسيه.

تنهَّد قائلًا: «حسنًا. إذا كنَّا سنضع كل الكروت على الطاولة، فلا بد أن ينطبق ذلك على الجميع.» أومأت فاندا برأسها موافقة. رفعت زابينة رأسها ونظرت إليه نظرات ملؤها الدهشة. أما بيترا فواضح أن الكلمات تاهت منها؛ إذ ظلت جالسة فاغرةً فاها دون أن تنطق. كان بعض من أحمر الشفاه عالقًا بسنها الأمامية.

«هل تتذكر الليلة التي قضيناها معًا في غرفة الكمبيوتر المركزي؟»

أرادت فاندا أن تتناول الموضوع بسلاسة، لكن ملامح وجه يوهانيس ظلت جامدة، فتابعت فاندا: «وجدنا زرًّا كهذا إلى جوار جهاز الكمبيوتر. الآن أعرف عمَّا يعبِّر هذا الزر، لكن بالتأكيد الآخرون أيضًا يريدون أن يعرفوا، وأرى أنك أنت مَن ينبغي عليه أن يوضِّح لهم الأمر.» ازدرد يوهانيس ريقه.

حين كان يتحدث كانت تعلو شفتيه الرفيعتين ارتعاشةٌ خفيفةٌ، وكلما توقف عن الكلام انزلقت زاويتا فمه إلى أسفل. لا بد أن هذه السَّنَة — فكرت فاندا — كانت قاسيةً عليه؛ لهذا فإن اعترافاته لم تدهش فاندا على نحوٍ خاص. لقد استخدم يوهانيس مجموعةً من النشطاء مثيري الريبة العاملين في مجال حماية البيئة؛ إذ كان يبحث عن أوراق ضغط تدين الرئيس. لقد ترك شتورم يوهانيس مدةً طويلةً دون أن يوضِّح له نيَّته بشأن تجديد عقد عمله، كما أنه رفض ببساطة أن يقوم طرف ثالث بتمويل مشروعه البحثي. كان الأمر يبدو وكأن الرئيس يريد التخلص منه.

في النهاية حصل بالفعل على تمديد لعقده، ولم يتمكن أحدٌ من فهم لِمَ كانت حرب الأعصاب تلك ضرورية؟ وتحت وطأة الشعور بالذل هبطت أيضًا فتحتا منخاره إلى أسفل مثل زوايا فمه. وحين وصلته أطراف أخبار عن الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي أصغى جيدًا. كان ذلك في فصل الربيع، كان واقفًا في غرفة الانتظار وسمع بالصدفة البحتة — وعليهم أن يصدقوه في ذلك — كل الحوار الذي دار بين زابينة وشتورم، وهنا بدأ في مراقبة حيواناتها سرًّا، كما سجَّل معدلات نفوقها، وأخيرًا اتصل بجماعة «والدن أربعة» لتصل إلى البيانات.

قالت له فاندا: «هل كانوا هم مَن ضربونا على رأسنا، وفرَّغوا حساب زابينة من البيانات؟ يا لهم من هواة، هؤلاء الذين اعتمدت عليهم.»

هز يوهانيس رأسه.

«أعترف أنني في البداية كانت لي نفس تلك الأفكار، وكان عليَّ أن أصبر عدة أيام إلى أن يأتيني منهم ردٌّ.» صمت فيما كان ينظر إليه الآخرون بفضول، وكان هو يستمتع بأن يراهم مشدوهين. قاومت فاندا رغبتها في تأنيبه على أسلوبه.

«لقد تم مسح البيانات عندما ظهر أحد رجالك عندنا.»

«ثم قام بضربنا على رءوسنا لأننا أزعجناه فيما كان يريد أن يظل مجهولًا، أليس كذلك؟»

«بلى، إنهم يخمنون أن شخصًا آخَر سبقهم.»

«وهل تعتقد أني سأصدق هذا؟»

«بغض النظر إن كنت تصدقين هذا الكلام أم لا، هذا الأمر جائز الوقوع جدًّا، ممكن جدًّا، علاوةً على ذلك، ما الذي سيجنونه لو عملوا ضدنا؟»

دخلت زابينة في الحديث: «إنْ افترضنا أنك تقول الحقيقة، فلا بد إذن من وجود شخص آخَر في نفس الوقت بالقسم، شخص يستطيع دخول المعهد وله اهتمام ببيانات الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي.»

ألقى يوهانيس رده الفوري: «الرئيس على سبيل المثال.»

هزت زابينة رأسها غير مصدِّقة.

«ما الذي يجبر شتورم على هذه السرية؟ فهو يستطيع النفاذ لأي مكان في أي وقت.»

قالت بيترا شيئًا مثيرًا للاهتمام: «أي شخص من القسم قد يكون هو الفاعل. أرجو ألَّا ننسى الزملاء من المستشفى التعليمي الذين يحق لهم استخدام المعمل، وكيف الحال مع ذاك البن لادن؟»

أشارت فاندا: «لنظل في نفس نطاقنا أولًا.»

رد يوهانيس: «ولِمَ لا؟ طالما راودتني ظنونٌ أن الأمر وراءه أحد الرعاة العرب.»

زفرت فاندا وحكَّتْ سوالفها: «واضح أنك تقرأ الكثير من الروايات البوليسية السياسية.» لقد عاودها الخفقان المعتاد في الرأس منذ بضع ساعات. «لا نريد أن نضيع وقتنا في هذه الأحجيات الطفولية.» نظرت في المجموعة وقالت: «مَن يملك الدخول إلى غرفة الكمبيوتر المركزي وعنده اهتمام ببيانات زابينة؟»

اقترحت بيترا: «إذن لنبدأ بأنفسنا. صحيح أنا بإمكاني الدخول إلى الغرفة إلا أن هذه البيانات لا تهمني على الإطلاق.»

«لقد صعدت إلى هناك من أجل أن أجلب بيانات زابينة من الكمبيوتر، وقد تم ذلك بالاتفاق معها، كنت أريد مساعدتها.» أوضحت فاندا، ثم نظرت إلى يوهانيس.

«تملَّكَني الفضول، كنت أخمن أن جماعة «والدن أربعة» ستنفِّذ العملية في تلك الليلة؛ لذلك بقيت في المعهد.»

سألت فاندا: «مَن كان هناك أيضًا؟»

«ميشائيل هو آخِر مَن غادر المعهد، كان ذلك نحو الساعة الثامنة، شتورم غادر قبله بمدة قصيرة. لم يلاحظ وجودي أيٌّ منهما. كنتُ جالسًا في غرفتي الصغيرة المظلمة وأتصرف بمنتهى الهدوء، ظللت أنتظر، وقبل منتصف الليل بربع ساعة سمعت أزيز الباب، ومن فرجة باب غرفتي رأيت كرة ضوء منبعثة من مصباح يدوي تتحرك على الجدران. بدا الشخص يتحرك بخفة قطة. لم أسمع وقع خطوات. انتظرت لبعض الوقت ثم تبعته. كان باب غرفة الكمبيوتر مواربًا، والغرفة مظلمة، وفي نفس اللحظة التي أشعلت فيها النور عاجلني بضربة على رأسي.» نظر إلى فاندا وقال: «أما الباقي فأنت تعرفينه أفضل مني.»

«أنت لم تَرَ شيئًا حقًّا؟»

هز يوهانيس رأسه بالنفي.

تنهدت فاندا قائلة: «لست أفهم حقًّا. لقد وصلت بعدك بدقائق قليلة. للأسف لا أذكر إن كان الكمبيوتر مفتوحًا. لو افترضنا أن ذلك الغريب المجهول كان يريد حقًّا الدخول على حساب زابينة، ففي الغالب كنت أنا سببًا في إزعاجه.» نظرت في الوجوه المتطلعة إليها على الطاولة. «لماذا إذن سرق مني الورقة التي عليها كلمة المرور؟»

ردت بيترا: «من أجل الدخول إلى البيانات.»

ردت فاندا: «لا بد إذن أنه كان يعلم بوجودي. مَن بخلاف زابينة كان على علم بخطتي؟»

توجهت أنظار الجميع إلى زابينة التي قالت مدافِعة عن نفسها: «لقد قضيت الأمسية كلها مع فولفجانج، وآويت إلى فراشي في وقت مبكر نوعًا ما، وهو ليس بالأمر العجيب بعد يومٍ كذاك.»

«وفولفجانج؟» سألت فاندا «لقد استمع إلى حديثنا الهاتفي.»

«هراء.» ردت زابينة غاضبة «فولفجانج ينكمش على نفسه إن اضطرَّ أن يَعْبُر الطريق والإشارةُ حمراءُ، فأنَّى له أن يدخل إلى المعهد، ثم إن مفتاحي الإلكتروني كان معك أنت.»

سكتت فاندا، لم تكن هذه هي الطريقة السليمة لدفع زابينة إلى الكلام. بعد تلك الرسالة الإلكترونية التي وجدتها على كمبيوتر زابينة صارت فاندا تشك أن صديقتها تنفذ خططًا سرية. ما الذي يدفعها لكل هذا العند؟

قالت بيترا في محاولة لتهدئة الموقف: «لِمَ لا يكون هو الناشط البيئي؟ ألَمْ يكن هناك في تلك الليلة؟»

علقت فاندا: «كان سيثير مخاطر جمة … وعمل غير مسئول أن يضربنا ببساطة ثم يتركنا مستلقيَيْن على الأرض.»

أردف يوهانيس: «أو يكون قد جاء بعد أن غادرنا» … تأملته فاندا متسائلة، فواصل الكلام: «لا أعرف حقًّا. لم أتحدث مع أحد منهم من قبلُ، ناهيك عن أن أقابله وجهًا لوجه. لقد جرى الاتصال عن طريق البريد الإلكتروني. قصير وموجز.» لم تترك فاندا الزمام يفلت منها: «مَن الذي أدخل محاربي «والدن» أولئك إلى المعهد إذن؟»

«لا تسأليني. بطريقةٍ ما نجحوا في قرصنة النظام الأمني. لقد تركت لهم مفتاحي الإلكتروني طوال عطلة نهاية الأسبوع بأكملها.»

«كيف حدث التسليم والاستلام؟»

«في بيت دعارة بمدينة هانوفر، من خلال المنظمة الأوروبية لنقل الزهور. الذريعة عيد الحب.»

«إنك تخاطر بكل شيء. هل الأمر يساوي كل ذلك بالنسبة لك؟»

تصلَّبَ فكُّ يوهانيس السفلي على نحوٍ منذر ولم يُجب بشيء. جلسوا بلا حيلة بعضهم أمام بعض، وكان الوقت مناسبًا لطلب دور ثانٍ من شراب الكايبي. أما بيترا فكانت تلمس الزر البلاستيكي الأحمر بأناملها.

غمغمت وهي تفكر: «غريب.»

سأل يوهانيس: «ما الغريب؟»

«لقد رافقني أحدهم، كان لديه كيس بكامله مملوء بهذه الأزرار. كنت أظنها قشاط لعب.» ثم ألقت بالزر إلى منتصف الطاولة وغمغمت بالفرنسية: «لا أكثر من ذلك.»

ظلت نظراتهم جميعًا معلقة بالزر الأحمر لبعض الوقت.

«حدث ذلك بعد الديسكو، يوم الأحد قبل أسبوعين، وحين استيقظت صباح اليوم التالي، كان قد اختفى. خسارة حقًّا!»

قالت فاندا: «اللعنة، لقد هوجمنا أنا ويوهانيس يوم الاثنين، يا بيترا إن هذا لخيط.»

«ما اسمه؟ ما شكله؟» استعاد وجه يوهانيس بعضًا من لونه «ماذا حكى لك؟»

دافعت بيترا: «تمهلوا قليلًا، لم نتحدث كثيرًا مع بعضنا.» ثم ابتسمت وقالت: «طويل، مفتول العضلات، أسمر البشرة. كان يروق لي. لم أره هنا من قبلُ، وكذلك بعدها لم أره مطلقًا. مايك، على الأقل هكذا كان يُدعَى.»

ألحَّتْ فاندا: «ماذا أيضًا؟ حاولي أن تتذكري.»

«ما تطلبونه كثير حقًّا. كان يرتدي ملابس سوداء، لا أعلم إن كان في وسعي التعرف عليه ثانية في ضوء النهار. ربما من رائحته. نعم. كان يعبق برائحة تربة الغابة.»

نظرت فاندا إلى المجموعة متسائلة: «ماذا ترون؟» أطلقت زابينة صفيرًا ينم عن أنها لم تتوصل إلى أي أفكار، بينما هز يوهانيس كتفيه وقال: «ممكن أن يكون. وممكن ألَّا يكون. إنه البحث عن الإبرة في كومة القش.» ثم دفع الزر تجاه بيترا متسائلًا: «هل أنت متأكدة أن الأزرار كان شكلها تمامًا مثل هذا الزر هنا؟»

رفعت بيترا حاجبيها وقالت: «لقد انزلق الكيس من جيب معطفه، وانفجر في كل الاتجاهات على الأرض.» ثم ابتسمت واستطردت: «يعني. كما تعلمون. ساعدته في جمعها. وكان الأمر مرهقًا لأنه أصرَّ أن نبحث تحت الدولاب والفراش، لقد كان مصمِّمًا على أن يجدها كلها.» ثم التقطت الزر مرةً أخرى في يدها، «نعم، بالفعل، كانت كلها بهذا الشكل، لكني لا أستطيع أن أقسم على ذلك.»

قالت فاندا: «حسنًا يا فتيات.» ثم ألقت نظرة على يوهانيس بطرف عينها: «دعونا نغلق الدائرة على الفاعل.»

سألت بيترا: «أَلَا يمكن أن يكون الفاعل امرأة؟»

غريب — فكرت فاندا — هذا السؤال طرحته أنا أيضًا على نفسي من قبلُ. ما الذي يجعلني متأكدةً تمامًا أن الفاعل رجل؟ قررت بيترا أن تراقب ميشائيل، ونوى يوهانيس أن يدعو أستريد مرة أخرى على الطعام، واقترحت زابينة أن تهتم فاندا بأمر توماس.

«بوصفه من الإداريين يستطيع أن يراقبنا جميعًا في أي وقت.» فقالت فاندا معترضة: «إنه ليس في الحسبان.»

«ربما ليس كفاعل»، ردتْ عليها زابينة ورمقتها بنظرة لم تستطع فاندا تفسيرها، وكان يضايقها أن يوهانيس يراقبها بانتباه، ثم سأل متمنيًا: «ومَن يراقب الرئيس؟» فعلقت فاندا تعليقًا لاذعًا: «لا نريد أن نستغني عن خبرتك في مراقبة هذه الأجناس القيادية.» فابتسم يوهانيس راضيًا، وقال: «بالإضافة إلى ذلك، سأجرب حظي مرة أخرى مع جماعة «والدن». ربما أمكنني اجتذاب ذاك المايك من خارج المحمية.» فردت بيترا متشككة: «إن كان يوجد هناك أصلًا.»

«قبل أن أنسى. عبث أحدهم بمكتبي قبل المداهمة بمدة وجيزة.» قالتها فاندا وهي توجه ناظريها إلى يوهانيس الذي ارتعشت أجفانه سريعًا ثم أومأ برأسه.

«ذاكرة اليو إس بي، كانت لدي شكوك. أعرف أن هذه حماقة.»

«وأية حماقة! نعم، ولكن كيف دخلت مكتبي؟»

«سأريك، ولكن كيف لاحظت ذلك؟»

لم تُجِبْ فاندا. في المجمل كانت تشعر بالارتياح أن شتورم لم يكن الفاعل، واقترحت: «علينا أن نتقابل مستقبلًا بصورة منتظمة، فَلْنَقُلْ كإجراء لبناء الثقة. حين نتبادل المعلومات بصراحة لن نكون في حاجة إلى أن يتجسس بعضنا على بعض.» واتفقوا على أن يلتقوا مساء أيام الاثنين في مقهى هافانا.

سألت بيترا بنفاد صبر: «وماذا نحن فاعلون بشأن خزانة السموم؟» ازدادت بقعة أحمر الشفاه على أسنانها.

«هلا فعلت هكذا.» قالتها فاندا وهي تمر بلسانها على الفتحة التي بين الشفة العليا والقواطع الأمامية، «فثمة شيء عالق بأسنانك.» فعلت بيترا ما طلبت فاندا، لكن ليس بدون أن تسدد عينيها المستديرتين على أرنبة أنفها حتى احولَّتْ عيناها، وليس بدون أن تستدير شفتاها المكتنزتان وكأنها تستعد للتقبيل، مصدرةً صوتًا يشبه الرضيع وهو يمص. لم تكن فاندا متأكدة إن كانت هي الشخص المناسب ليحمي ظهر يوهانيس في مهمته، لكن لم يكن ثمة خيارات أخرى؛ فحسبما تقول زابينة لا تزال بقية المادة التي أرسلتها شركة بي آي تي مخزَّنة في دولاب السموم؛ لأنها قد تمكنت من الاقتصاد في استخدامها بأكثر مما كان متوقعًا. صحيح أن الاتفاق الموقَّع بين الشركاء يمنع بشكل قاطع عمل أي أبحاث على المادة، لكن حقيقة أن شتورم لم يكن يريد أن يعرف الآثار المتأخرة لدراسة السمية أقنعت زابينة بأن عليهم أن يتولوا الأمر بأنفسهم.

قالت معترضةً وبدت غير سعيدة بالخطة: «لكنكم لا تعرفون حتى مَن سيقوم بالتحاليل؟»

حاولت فاندا أن تبدو عفوية: «سمعت عن مختصٍّ في نيويورك، يدعى نادريان سيمان. متخصص في علم البلورات، ويبدو مناسبًا للمهمة.» راقبت كيف تسمرت زابينة، ثم أخذت الصديقة نفسًا عميقًا، وقالت بصوت خفيض: «لقد فكرت فيه أنا أيضًا، بل إنني حاولت الاتصال به.» ثم سكتت قليلًا، «لكن الرسالة صادرتها الجمارك الأمريكية.» ثم واصلت بصوتها الخفيض: «ثمة منع لدخول المواد العضوية. كنتُ صادِقةً أكثر من اللازم وأعلنتُ بغباء أن الطرد يحتوي على مواد حيوية نشطة، سيقومون بإعدامه. ما نفعله الآن هو الفرصة الأخيرة.»

وأخيرًا، فكرت فاندا بارتياح، كانت سعيدة أنها لم تضطر للإفصاح عما اكتشفته سرًّا في شقة زابينة. لم تكن تريد أن تثير حفيظتها بأكثر مما فعلت.

«هناك أيضًا عنوان آخر يمكننا اللجوء إليه في النهاية، لكنه أيضًا هناك في أمريكا، سأستوضح أولًا عن كيفية تمرير المادة هذه المرة عبر الحدود، لكن هذه هي الخطة (ب). علينا أولًا أن نحصل على المادة.»

عادت بيترا لإلحاحها: «إذن غدًا في الظهيرة الخطة (أ)؟ معظمهم يكون ساعتها بالمطعم.»

تذكرت فاندا حفل الصيف، ونظرات ميشائيل الهانئة، وساقَيْ بيترا العاريتين ترتاحان باسترخاء على ركبتيه. لم تكن متأكدة إن كان ميشائيل الذي يبدو دائمًا متفانيًا في عمله من الممكن مخاطبته في المعمل، لكن الذي تحدَّثَ الآن كان يوهانيس: «لا يمكن لأحد أن يخطئ، وإلا فسيجدني أنا في ظهره.» فردت بيترا وهي تمسد ذراعه بود: «لا لا لا يا يوهانيس. اتركني فقط أعمل، إن هذا مجرد تمرين سهل بالنسبة لي.»

قالت فاندا محذرة: «من فضلك يا بيترا لا نريد مناورات تعرِّضنا للخطر … إذا أفسدْتِ الأمر فسينفجر في وجوهنا جميعًا.»

ابتسمت بيترا ابتسامة تشي بالكثير، ولعقت فمها بطرف لسانها. هذه المرة ومضت أسنانها المنتظمة بشكل يدعو إلى الحسد كحبات لؤلؤ صغيرة متراصة في الفرجة بين الشفتين. «سأقوم بجذبه إلى حمام السيدات، تعرفونه؟ ذاك المستقل الصغير إلى جوار غرفة النظافة.» ضحكت وهي تقول: «ستنجح الخطة، أضمن لكم ذلك، لقد نجحت بروفة سابقة.» فتأملتها فاندا متسائلة.

«لقد حدث هذا من قبلُ.» قالت بيترا، ثم فردت ظهرها لدرجة مطت ملابسها العلوية شديدة الضيق فوق نهديها، فبرزا مثل شراعي زورق تدفعهما الرياح، وواصلت حديثها: «أنا متأكدة أنه سيسعد بلعب دوره في المسرحية مرة أخرى.» وبعد فترةِ صمتٍ قصيرة قالت: «أنت يا يوهانيس. أنت عليك أن تحضر مفتاح دولاب السموم ثم تعيده إلى مكانه مرة أخرى، بحسب علمي هو يضع المفتاح في درج المكتب العلوي الأيسر، في الصندوق الصغير إلى جوار دبابيس الدباسة. لا يكون الدرج مغلقًا بالمفتاح طوال اليوم، سأمنحك عشر دقائق للعملية برمتها، لا أكثر ولا أقل!»

كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بقليل حين دخلت فاندا إلى طرقة منزلها، هذه المرة كان النور يضيء السلم. وجدتْ في صندوق البريد ظرفًا أبيض اللون يحمل ختم موثِّق العقود. تذكرته. كان نفس الشخص الذي راسلها وهي في أمريكا، وحين فتحت الشقة افتقدت الشعرة التي بدأت تثبتها في الآونة الأخيرة ما بين الباب وحلقه، بعد أن قررت أن الخدعة التي تستخدم فيها قصاصة الورق مكشوفة أكثر من اللازم، ففي الحمام يتساقط شعر كثير، وكانتْ دائمًا ما تجد واحدة طويلة وداكنة اللون بحيث تناسب المهمة، لكنها سرعان ما نحَّتِ المسألة جانبًا؛ لأنها لا تذكر إن كانت قد تذكرت وضع هذه الوسيلة التحذيرية موضع التنفيذ أم لا، نظرًا لأنها غادرت في الصباح على عجل. وفي مكانٍ ما بين الطرقة والمطبخ وضعت حقيبة يدها لتسقط مدوية على الأرض، كما خلعت معطفها وألقته على ظهر الكرسي المجاور لطاولة الطعام الصغيرة الموضوعة تحت نافذة المطبخ. ظلت تنقِّب في الدرج عن السكين الحاد، فهكذا كانت تحب فض المظاريف. كان قطع المظروف من حافته العلوية بنظافة يمثِّل لها تجربة نجاح سريعة ورائعة.

كان ورق الخطابات السميك يحمل الأحرف الأولى لمكتب استشاري محاماة بمدينة جوترسلوه، أما النص فقصير ورسمي ويطالبها بالاتصال بهم في غضون أسبوعين. كان الأمر يتعلق بالميراث، وشعرت بتلك الوخزات تعاودها في صدرها. لم تكن تريد أن ترث شيئًا البتة؛ تحديدًا من والدَيْها، أَلَا يستطيع روبرت أن ينهي هذه المسألة بمفرده؟ في الغالب سيتعيَّن عليها أن توقِّع أوراقًا ما. وماذا لو ظهرت ديون؟ لن يعفيني روبرت أبدًا منها، هذا هو ما آلَ إليه. محاسب. أَلَا يعمل في بنك؟ الأفضل أن أنتهي من هذه المسألة في القريب العاجل، لكنها لم تكن تريد أن تسافر بالقطار؛ فهذا من شأنه أن يجعلها معتمدة على مواصلات ضعيفة في تلك المنطقة الريفية، وتحت رحمة أخيها ومزاجه. كانت تنقبض لفكرة أنها من الممكن ألا تتمكن من الخروج من هناك بالسرعة الكافية. ربما من الممكن أن يعيرها يوهانيس سيارته يوم الجمعة. سقطت نظراتها على حافة النافذة، وكان هناك إلى جوار قائمة سنايدر خطاب طبيب الأسرة. ظلت تديره لبعض الوقت بين يديها. شعرت بالقلق. أولًا مكالمات هاتفية، ثم ثانيًا هذا الخطاب. ربما لا يكون سوى كشف الحساب. لكن حساب ماذا؟ وفي حركة واحدة فتحت الظرف. كان فتحه أسهل من قراءته. طلب منها دكتور جليزر أن تحضر لعيادته للقيام بفحص آخَر. كان الشيء الغامض الذي ذكره الدكتور لا يزال يشغل بالها، وهي تحاول محاولات غير مجدية أن تنام. لاحقتها صور وأزعجتها. وفجأة وجدت أمامها وجه جونتر هيلبيرج شاحبًا وغريبًا، وفئرانًا بيضاء نافقة في ازدياد مستمر مكونة كثيبًا لا يمكن تقدير حجمه، ثم إضافةً لذلك ماري كامبل وهي تقول بصوت متحشرج: «ننتظر لنعرف.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤