الفصل السابع والثلاثون

في غياهب السجن

تعثرت فاندا واصطدمت بحافة صلبة فشعرت بألم في قصبة ساقها. سمعت صلصلة مفاتيح ونظرت في الضوء الذي يتحرك من درجة لأخرى إلى جوارها، يميل صاعدًا ثم هابطًا إلى أن استقرَّ عند قدميها، عندئذٍ فقط أدركت أنهما واقفان عند بداية سلم حاد الميل.

همس أندرياس قائلًا: «آسف، كان عليَّ أن أحذرك، لكني لا أريد أن أزيد من درجة الإضاءة هنا. تكفي إضاءة مصباح الجيب.» نظرت فاندا إلى المصباح وقالت: «من أين لكَ به؟»

«سأشرح لكِ فيما بعدُ.» أمسك أندرياس بيدها وحاول أن يصعد السلم. «هلمي، تعالي.» لكن فاندا ظلت واقفة.

«أين نحن؟»

«في مخبأ قصر لاندجراف.» ثم أضاء الدرجات التالية وقال: «تعالي هنا، أرجوك، فأنا أعرف هنا مكانًا آمنًا.»

كانت الدرجات عالية أكثر من المعتاد، كما بدا أن السلم لا يريد أن ينتهي. نظرت فاندا إلى الأسفل، ثمة ضوء أزرق يتخلل القضبان التي أغلقها أندرياس خلفهما. وهكذا، يدًا بيدٍ في ضوء مصباح الجيب، كانا يشكِّلان هدفًا مثاليًّا. أسرعت فاندا خطاها. انحنى الطريق في نهاية السلم انحناءةً حادة نحو اليسار، ثم جاءت بضع درجات إضافية صاعدة، وبعد عدة خطوات هبطت مرة ثانية. كانت منهمكة أيما انهماك في تثبيت خطواتها بشكل صحيح على الدرجات الحجرية الزلقة، بحيث لم تلاحظ الفتحة على اليمين إلا عندما مرَّا منها وتقافز ضوء مصباح أندرياس على السلم فشعرت بالتغيير. وفي ضوء المصباح الذي دار يمينًا ويسارًا عرفت أنها في غرفة تكاد تكون مستديرة. «سنكون هنا في أمان تام.» قالها أندرياس وهو يقودها على آخر الدرجات حتى دخلا الغرفة وظلا واقفين فيها.

«هذا مكان مختلف.» خرجت العبارة مِن فِيها فاستغربتْ من الراحة التي اعترتها على حين غرة. خطت عدة خطوات حذرة في حين كانت الأرضية تصدر صريرًا تحت نعلها. ارتعدت فرائصها وتجمدت. كان أندرياس إلى جوارها وأمسك بها.

«هل كل شيء على ما يرام؟» كان الضوء ينير وجهها، فأغلقت عينيها وأومأت برأسها.

«من كان ذلك؟»

«لا فكرة لدي.» كانت أنفاس أندرياس لا تزال تتهدج وهو يجيب، «مجنون؟ لم أتعرض في حياتي لمثل هذا الأمر قطُّ.»

«وأنا التي كنت أظن أن ماربورج فردوس على الأرض.» أدارت فاندا رأسها، إلا أن الغرفة ابتلعت ضوء المصباح الملقى على الأرض أمام أقدامهما. لا أرى الجدران. وشعرت أنها في قبو. «ماذا عسانا نفعل الآن؟»

«هل معك هاتفك المحمول؟»

كانت تهز رأسها بالنفي وأمارات الندم تعلو وجهها، إلا أنه كان يوجه ضوء المصباح نحو يديها هذه المرة، فتنهدت قائلة: «كلا، إنه الآن متصل بمقبس الكهرباء ليشحن.»

«إذن نحن مضطران للمكوث هنا حتى يطلع النهار.»

لنَبْقَ إذن. فجأةً لم تكترث للأمر. كانت ساقاها ترفضان المسير ولو خطوة واحدة. جلس أندرياس خلفها وأسند ظهره إلى ظهرها. انزلق رأسها المثقل إلى الوراء إلى أن نامت على كتفه.

«ماذا كنتِ تعنين سلفًا بأن المكان هنا مختلف؟» كانت نبرات صوته تسري في عمودها الفقري فتشعرها بالراحة. فكرت فاندا ثم أجابته: «المكان هنا يعبق برائحة البرودة، برودة أزلية.»

«صحيح، برودة جافة مستمرة، لكن بلا صقيع. هذا المكان يُعَدُّ في الصيف أحد أكثر الأمكنة برودة في ماربورج، وأنا آتي إلى هنا أحيانًا في الأيام شديدة الحر. أستطيع هنا أن أفكر بهدوء.» توقف قليلًا ثم واصل الكلام: «بالمناسبة أنت محقة، إنه مكان آخَر بالفعل.» كانت عباراته تشي بالتقدير. «السلالم التي صعدنا عليها كانت تؤدي في السابق إلى المخابئ على الجانب الشمالي، وهي غير موجودة الآن. بعد بنائها في القرن السابع عشر كان المدخل إلى هذه الغرفة مغلقًا تمامًا. نحن في الحقيقة في أسفل دور من مبنى آخَر أكثر قدمًا.»

«أين تحديدًا؟»

«في سجن برج الساحرات.»

«وأنت السجان الذي يحمل مفاتيح السجن؟»

ضحك أندرياس ضحكة قصيرة: «أنا مجرد مرشد سياحي ممل، وهذا بالمناسبة السبب أني أحمل مصباح الجيب. فهو، إلى جانب المفاتيح، من أهم أدوات عملي.» شيء في نبرته أثار حنقها.

لقد جرها إلى السجن إذن.

«لم أحجز لديك جولة سياحية.»

«وأنا أيضًا لم أطلب قاتلًا مأجورًا.»

«هل تعتقد أن الأمر مقصود؟ لا أستطيع تخيُّل أن أحدهم …» قطعت حديثها. وماذا لو أن أحدًا بالفعل ﺑ … تلك المداهمة في المعهد … «أنا خائفة.» قالت بصوت منخفض.

«لقد كاد ينجح هذه المرة. لكن هنا بالأسفل لا يمكن أن يقع لنا مكروه.»

«متأكد؟»

«نحن في أسفل طابق بالبرج الأبيض، هكذا كان يدعى المبنى حين انتهى بناؤه في عام ١٤٧٨، وقد كان في الأصل برجًا من أبراج الدفاع.» ترك الضوء يدور ببطء وهو يقول: «كانت ثمة فتحات في الحائط، تبدو مثل نوافذ ذات أحجام مختلفة. هذه فتحات الرماية، لكن تم إدراك الخطأ التقني في البرج الأبيض في مرحلة متأخرة، ففي منتصف القرن السادس عشر كانوا قد أدركوا أنه لا يطابق المواصفات المطلوبة لبرج دفاع، فبُنِي سور أمام فتحات الرماية ورُدِم الطابق الأرضي الذي نحن فيه هنا الآن، وتم تعديل البرج برمته ليصير سجنًا.»

«للساحرات؟»

«ليس بالضرورة. كانت محاكمات الساحرات يُفصَل فيها بسرعة، فمَن يُتَّهَم بممارسة السحر من الرجال أو النساء كان لا يمكث هنا سوى فترة وجيزة.»

«أتسمح لي؟» أخذت فاندا مصباح الجيب من يد أندرياس وتركت الضوء يتجول في الغرفة. لم تكن كبيرة، ربما يبلغ قطرها خمسة أو ستة أمتار. كان السقف مقببًا ومسننًا مثل جلد تنين، قدَّرَتْ فاندا أن ارتفاعه يبلغ أربعة أمتار، وبعد إمعان النظر تمكَّنت من رؤية الأطراف الرقيقة للمقرنصات. وجَّهتْ الضوء صوب منتصف السقف فوجدت فيه فتحة.

«ما هذا؟»

«في البداية كانت فتحة مدفأة يمكن لدخان المدافع أن يخرج منها، ولاحقًا صارت الفتحة التي يُلقَى منها المساجين إلى السجن.» شعرت لوهلة أنها يُلقَى بها من أعلى. أطفأت الضوء فساد ظلام تام. وحين بدأ أندرياس في الحديث بدا صوته قريبًا جدًّا: «السجين لا يريد أن يقفز، فلا يملك السجَّان إلا أن يركله ليسقط في غياهب السجن. للسقطة وقع مكتوم، وخَزٌّ مؤلم في الساقين. ثم يسمع صوت قعقعة من علٍ، فيعرف أن السجان يسحب الآن حجرًا ثقيلًا يسد الفتحة التي سقط منها للتو. الأمر ميئوس منه إذ كيف عساه يهرب من مكان كهذا؟ فجأةً يسود الظلام والصمت. إنه قبر، لقد دُفِنَ حيًّا. يصرخ وهو يعلم تمامًا أن صرخاته ستضيع سدى. رائحة كريهة تكاد تخنقه، لقد تبلَّل بنطاله. هذا من الذعر، هكذا يقول لنفسه وكأن عليه أن يعتذر. لكن لمَن؟ إنه وحيد. قميصه ملتصق بجروح ظهره المفتوحة جرَّاء التعذيب. كم يشتد ألمُه. يُنصِت، فيسمع صوت رشرشة وصرصرة، فيفكر أنها الفئران، هذا قبل أن يغيب عن الوعي على إثر الإنهاك.

في وقتٍ ما يستيقظ ثانيةً، لكن تظل عيناه مغمضتين. ثمة قمر كبير خلف جفونه. تتخفى النجوم في ضوء الفجر الشاحب. هل أتى الصباح؟ شيء ما يمسح قدمه. يجفل ويتنهد ويفتح عينيه، لكنها لا ترى سوى العتمة. كم ظل هنا؟ إن مفاصله المتصلبة وفمه الجاف لَدلائل موثوقة على أنه مكث لفترة طويلة. لا يتذكر بوضوح. لا يتذكر إلا أنه من المؤكد قد سقط من ارتفاع شاهق.»

«كم من الوقت يظل هنا؟» سألت فاندا بصوتٍ امتزج فيه القلق مع الذعر.

«أقدر يومين، أو ثلاثة. لم يكن أحد ليعيش أكثر من ذلك. كما أظن أن لا أحد كان يود تحمل مسئولية جثة، وإن كنتُ أستطيع تصور أن بعض الأشخاص قد قضوا نحبهم هنا.»

ارتجفت فاندا وقالت: «ماذا فعلوا؟»

«وما يدريني؟ أنا أخترع هذه الحكايات، والزوار يستمعون إليها بسعادة. قد يكون من قضى نحبه هنا قد قتل أحدهم، لكن كان اعترافه ضروريًّا.»

قالت فاندا: «ربما كان مخادعًا. أنا أيضًا خدعت شخصًا، فهل أنا هنا لهذا السبب؟»

«ربما كان بريئًا، لكنه يقف في طريق شخص آخر.» تلمستْ يدَا أندرياس الأرض بحثًا عن المصباح، لكن فاندا كانت لا تزال قابضة عليه. «لقد زوَّرت بيانات.» لقد خرجت الحقيقة الآن. أنصتت في توتر لرد فعله.

«لقد خذلتُ والدي.»

«هذا أمر مختلف.»

«أترين هذا؟»

«لقد أخطأتُ، زورت، ألا تفهم؟»

«كان أبي ليقول أيضًا: ها قد ارتكبت خطأ، لقد زوَّرت الخطة التي رسمتها لك.»

هزت فاندا رأسها.

«هذا شيء مختلف تمامًا.»

«ماذا زوَّرْتِ؟»

حكت له عن الدراسة التي أجريت في روتشيستر، وكان ينصت لها في انتباه.

«لقد تلاعبتُ بالبيانات من أجل أن يُنشَر اسمي في بحث متميز.»

«وأين المشكلة؟»

«ريك يريد البيانات الأصلية.»

«ماذا يمكن أن يحدث لك لو اكتشف الأمر؟»

«لن يقوم بتفنيد البحث، ففي ذلك خسارة فادحة لماء وجهه. لكن سيخيب ظنه بي.»

«أرأيت؟ لقد قلتُ لك إن المسألة هي هي.» ظلَّا صامتين لبعض الوقت، ثم ساور فاندا القلق. لا بد أن نبلغ الشرطة، لا بد أن هناك آثارًا.

كانت تفكر في مصباح الشارع الذي انكسر من الطلقة، وفي الطلقة الأخيرة في الجراج. كان الإنهاك قد بلغ منها مبلغه، فأزاحت ذكرى الحادث الأخير إلى زمن آخَر، ولذلك كانت تظن أيضًا أن ما أصابها بالذعر طلقات مدافع. ربما كان ذلك حلمًا لأنها حين استيقظت كان جسدها لا يزال محنيًّا إلى الأمام. كانت تشعر بالبرد القارس لدرجة أنها فقدت الإحساس بقدمها اليسرى. تبرم أندرياس عندما تحركت هي وأضاءت المصباح. كانت الساعة قد بلغت الرابعة. حاولت النهوض إلا أن مؤخرتها كانت متصلبة من التجمد، وحين نهضت مرتعشة سقط أندرياس جانبًا وتدحرج ضامًّا جسده مثل قطة. خطت فاندا بضع خطوات، فبدأ الخدر يختفي ويعود إليها الإحساس بقدمها تدريجيًّا. في جولتها القصيرة اكتشفت فراشتين بجناحين مضمومين عالقتين بالقبة، لاجئتين مثلنا، ظانتين أنهما بأمان هنا، إلا أن خيوط عنكبوت كانت عالقة بفتحة من فتحات الرماية.

«أنا أشعر بالبرد.» قالت فاندا بلا مقدمات، وبدأت تقفز في مكانها «إلى متى تريد أن تظل هنا؟»

أجاب أندرياس وهو يتثاءب بصوت عالٍ: «إلى أن يطلع النهار.» حركت المصباح في الاتجاه الذي أتى منه صوته، فوجدته قد جلس مستندًا بظهره إلى الحائط وأخذ يفرك عينيه.

قالت فاندا وهي تتحرك في دوائر ويطقطق الحصى أسفل نعليها: «هذا معناه أن نظل هنا على الأقل ثلاث ساعات أخرى. سأكون قد تجمدت حتى ذلك الحين.»

«ستموتين رميًا بالرصاص بأسرع ما تموتين تجمدًا. ثم إن المساجين هنا فيما مضى كانوا يتحملون الحياة لعدة أيام دون معطف ثقيل كالذي معك.» ثم خبط أندرياس على المكان المجاور له وقال: «تعالي، الدفء ينساب دومًا من الدفآن إلى البردان. إنه القانون الأول للديناميكا الحرارية.»

«الدفء هو حركة عشوائية غير قابلة للتنبؤ لجزيئات العناصر …» ثم ضحكت فاندا من كلماتها، واستطردت: «إن لم ننتبه إليها فستؤدي إلى الفوضى. القانون الثاني للديناميكا الحرارية.»

«لكن فقط في نظام مغلق.»

بمصباح اليد أسقطت ضوءًا مرتعشًا سريعًا يدور بالغرفة قائلة: «وهل هذا غير ذلك؟»

«هل لهذا تتحاشينني؟» لم تُجِبْ سؤاله، فقط كانت تشعر أن البرودة تشق شروخًا في جدران مقاومتها الداخلية، فجلست إلى جواره. حين أحاطها أندرياس بذراعه شعرت برائحة كريم ما بعد الحلاقة الذي يستخدمه تحيط بها. كانت يداه دافئتين على نحوٍ مدهشٍ. مرَّ بعض الوقت حتى بدأت الكلام. تلعثمت في البداية مثل محرك بارد، تحدَّثت حديثًا غير واضح عن نتائج طبيةٍ ما، وعن خوفها من مرض قاتل، على الأرجح مثل المرض الذي قتل والده. تهتهت وهي تقول إنه ربما يكونون جميعًا قد أُصِيبوا بتلوثٍ ما حين كانوا في نيو مكسيكو، أو إنهم أُصِيبوا بعدوى شيء جديد، خطير، شيء لم يكشف الطب كنهه تمامًا بعدُ، وربما يكون ذلك كله مجرد وهم. سحبت شكوكها ثانيةً. أشعرتها حالة الهستيريا بالحرج، إلا أن أندرياس ضمها إليه بقوة، فما كان منها إلا أن واصلت حديثها عن إدمان والدها، وهو أمر يجعلها تشعر بالذنب تجاهه دون أن تعرف لماذا. تركت العنان لذكرياتها لتتحدث، ومضات برق فكرية في جلسة عصف ذهني. تحدثت عن المداهمة بالمعهد، عن صورة القبر الرقمي الذي حمل اسمها وسنة وفاتها. لا بد أنه يظنك مجنونة. إلا أن تدفق الكلام كان أقوى من أي نقدٍ توجِّهه لذاتها. ومثل طفل غاضب يلقي بقطع اللغز المصور، ألقت أمام قدميه بآخر ما توصلت إليه من معلومات خاصة بدراسة شركة بي آي تي التي يحاول رئيسهما أن يتفوق من خلالها، فلم يَعُدْ بها أي رغبة أن تسخِّر نفسها في خدمته بعد ذلك، وأن عليه أن يهتم هو ﺑ «نانوسنيف» بنفسه. حتى هذه النقطة كان أندرياس يستمع لها بانتباه ويلمسها برقة إن بكت.

«ربما لكِ بالفعل عدو. مَن تُرَاه لا يرغب أن تذيعي هذه المعلومات؟»

«لا أعرف حقًّا. أحيانًا أحلم به، لكني لا أرى وجهه، وأحيانًا أظن أني أختلق الأمر برمته.»

وبدلًا من التقاط هذه الفكرة واصل أسئلته: «هذا الفيروس المتحول لا يصيب سوى الفئران، فما الخطير في ذلك؟»

«ليست لديك فكرة، الفيروسات تستطيع تغيير مضيفها كما تغيِّر أنت قميصك. تشويه في تركيب إنزيم على السطح الخارجي … ثم … فجأة» طرقعت فاندا أصابعها «تنتقل إلى نوع آخر من الكائنات الحية. وهناك أيضًا فيروسات حيوانية تحورت لتصيب الإنسان. سارس، إيبولا، فيروس-ماربورج … لكن هذه ليست مشكلتنا الآن، فقد ظهر في تجاربنا عضو جديد. أم عساي أقول روبوت صغير مستقل؟ يبدو الأمر مثل الخيال العلمي، ورغم ذلك لا يمكن دفعه بعيدًا. أتمنى أن نقضي عليه قبل أن يستطيع أن يتغلب علينا، لكني لا أعتبر السكوت على هذه المسألة أمرًا صائبًا.»

«كيف يمكن أن يحدث ذلك؟»

«كان السبب في ذلك هو عدم النظافة، عدم الدقة في تخطيط التجارب. سَمِّه حادثًا إنْ شئت. لقد حُقِنت الفئران بفيروس كان يأوي الجين المنزلق. عمليات النقل تلك ليست بالضرورة مستقرة، لكن في حالتنا هذه أخشى أن الأمر وصل إلى ما قد يُسمَّى منحة لا تُرَدُّ، بمقتضاها تحول مثير غير مؤذٍ إلى آخَر مميت.»

«ماذا تريدين أن تفعلي؟»

«ليس من المعتاد التحدث عن هذه الأخطاء. لن يتوِّجك أحد بإكليل الغار. الأرجح أن أمرًا كهذا يُلقِي عليك أضواء سلبية في المجتمع العلمي، كما أن تورُّط الصناعات الدوائية في هذه المسألة يعقدها. أراهن أن الشركة ستلغي المشروع برمته بمجرد أن تعرف بالذي حدث.»

«ربما يكون هذا حلًّا. لماذا لم تخبريهم من قبلُ؟»

«بهذا أعيد المشكلة ثانيةً لكن تحت الطاولة. فيطوي النسيان الموضوع ولن يعرف عنه أحد. علاوة على ذلك، أخشى أن أفقد وظيفتي.»

«مَن سيستفيد من إعلانك للخبر؟ أعني هل تريدين الانتقام أم أن يقام لك نصب تذكاريٌّ؟» فكَّرت فاندا. أن ترى الرئيس غارقًا في عرقه، هذا وحده يكفي ليجعل المخاطرة مجدية.

«للأمانة أقول بعضًا من كلا الأمرين، ناهيك عن أني سأتمكن من التعبير عما أفكر فيه بصراحة. لقد فاض بي الكيل ولم أَعُدْ أتحمل أن أظل أتصنع وأمثل طوال الوقت، أن ألبي التوقعات، وأوقظ الآمال. إنها طبيعة علم السموم، أن تكون ذا عقل ناقد، لكن عليك أن تلعب مع الذئاب، إن كنت تريد أن تنال من مغانمها. إنها مسألة حياة أو موت. عليك أن تتأقلم معها وتجد نفسك قد تغيَّرت. وإن كنت تسمح لنفسك بالتلاعب، فستتجاهل ما يقوم به الآخرون في وقتٍ ما. أليس من الممكن أن يكونوا هم مستقبلًا مَن يقيِّمون أبحاثك العلمية؟» سقطت قطرة من أنفها، فدست يدها في جيب معطفها باحثةً عن منديل ورقي، أخرجته وتمخطت. «فقط حين نستعرض أخطاءنا ونقاط ضعفنا بوضوح أولًا، سنستطيع أن نصل إلى شيء. يمكن للناس أن تصدقنا. أريد مزيدًا من الانفتاح على الناس، والبُعْد عن تجنبهم.»

«أنتِ تريدين إذن أن تُطْلِعي المجتمع العلمي على أمر يعرفه منذ مدة طويلة، لكنه يرفض الحديث عنه بوضوح. أشك أنك ستنالين جائزة عن ذلك.»

«إنك تسخر مني.»

«لا أبدًا، على الإطلاق. هناك جائزة يحصل عليها الواشي؛ تبلِّغين عن خديعة، أو عن معلومة غير مريحة، فيتم تكريمك على ذلك.»

«ليس الأمر بهذه البساطة. إن الجائزة التي تتحدث عنها لهي تكريم من العيار الثقيل، في وسعه أن يحمي العالم من الإفلاس إن كان نَشْر أبحاثه الموثقة سيكلِّفه وظيفته. مقارنةً بهذا لستُ إلا ومضة صغيرة. لا ينال هذا سوى كبار العلماء.»

«ومَن يرعى شئون الآخرين الكثر المرتبطين بعمل الكبار؟ أولئك الذين نسميهم نخبة المستقبل؟»

«على هؤلاء أن يبرزوا أولًا في مجالهم. أينشتاين مثلًا دعم في البداية البرنامج النووي، لكنه ابتعد عنه لاحقًا، قُرْب نهاية مساره الوظيفي، حين كان في وسعه تحمُّل تكلفة أن يكون ناقدًا.»

مس أندرياس أذنها برقة بأرنبة أنفه. كانت باردة، لكن أنفاسه بثَّتْ فيها الدفء.

«لم تكن صدفة أن آتي إليك في المعهد.»

«ماذا؟»

«لقد رأيتك آنذاك في القطار. كنتُ قادمًا من جنازة أبي.»

قالت فاندا: «صحيح. قائد الفرقة الموسيقية.»

«مَن؟»

ابتسمت وقالت: «الصُّدَف واردة.»

رد أندرياس: «لقد قلتُ للتوِّ إني حضرت إليكِ قصدًا.» صمتت فاندا. وعاد السكون يخيم مع الظلمة مرة أخرى. كان عليها أن تعترف أنها تستمتع باقترابه. لكني لن أقبله، ليس الآن.

«مَن تكون إذن لاريسا زخارياس؟» لم يخرج السؤال عفويًّا على لسانها كما تمنَّتْ. لم يُجِبْ أندرياس مباشرةً.

«إنها جد بعيدة نسبيًّا.»

«هذه ليست إجابة.»

قال متردِّدًا: «نحن معًا منذ عامين. هي الآن في نيكاراجوا.»

•••

استيقظا مع أول قرعة جرس من أجراس الكنيسة في الساعة السابعة. كان لا يزال الظلام سائدًا، إلا أن فاندا ظلَّتْ تلحُّ كثيرًا على أنها ستتجمد من البرد إلى أن استسلم أندرياس لرغبتها في مغادرة المكان. عادَا من نفس الطريق الذي جاءَا منه. من بين أقواس الحماية الحديدية في الحصن الأثري أطلَّ قمرٌ آخِذٌ في الزوال. أحيانًا كانت قِطَع السحاب تحجب ضوءه الكثيف. كانت السحب قد انقشعت في الليلة الماضية وانخفضت الحرارة بدرجة ملحوظة. لم يعودا إلى باحة القصر وإنما أسرعا في الهبوط على السلالم المؤدية إلى رنتهوف. لم يتلفتا حولهما، بل ظلَّا يركضان بما سمحت به لهما سيقانهما المرتعدة من سرعة. هذه المرة لم يتحرك شيء وراءهما.

أصرَّ أندرياس على أن يوصِّلها إلى بيتها. لم يكن بالطريق سوى بضع سيارات قليلة، فقط أمام المخبز النشاط المعتاد أيام السبت متأخرًا عن موعده في باقي الأسبوع. افترقا أمام باب منزلها. كانت الشقة باردة، فبدأت أسنان فاندا تصطك وهي تخلع ملابسها، والماء يخر في حوض الاستحمام. وخزها بإبره الدافئة فتحلَّل تصلُّب مفاصلها، لكنها لاحظت أنه لن يتمكن من طرد البرد الذي استقرَّ في عظامها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤