مقدمة: هل كانت التعليقات على الجزء الأول نقدًا؟

منذ أن صدر الجزء الأول «ذكريات»، وبالرغم من قلة توزيعه؛ لأنه طُبع على نفقتي الخاصة جاءتني بعض التعليقات؛ معظمها شفاهيةً، وأقلها كتابةً، وتركز على الفصل الرابع، وهي ذكرياتي في قسم الفلسفة؛ مدرسًا، وأستاذًا مساعدًا، وأستاذًا، ورئيس قسم، وأستاذًا متفرغًا.

و«ذكريات» أشمل من ذلك بكثير؛ إذ تشمل ذكريات الطفولة، المدرسة، الجامعة، السفر إلى فرنسا، والعودة إلى الكلية، والسفر إلى أمريكا، ثم إلى المغرب، ثم إلى اليابان، ثم محاولة تكوين مدارس فكرية، وإنشاء «الجمعية الفلسفية المصرية»، ثم «التراث والتجديد»، والثورة المصرية، والربيع العربي.

وكل قارئ رأى «ذكريات» من خلال لماذا لم يُذكر؟ أو لماذا ذُكر قليلًا؟ أو هل أنا هو من تصفونه؟ لأنني لم أذكر الأسماء.

وتُرك الكل من أجل الجزء، والمصلحة العامة من أجل المصلحة الخاصة. وجاءت تعليقاتٌ أخرى خُلقية: هل كان من الضروري ذكر مرحلة البلوغ أثناء المدرسة؟ هل كان من الضروري أن تذكر علاقاتك النسائية المتعددة؟ هل كان من اللياقة أن تصف إحدى الشقيقات بأنها «طيبة القلب وساذجة إلى حدٍّ كبير»؟ فالحياة الخاصة لا تدخل في الذكريات العامة لما فيها من إحراجٍ شخصي أكثر مما فيها من فائدةٍ عامة.

فيُعاتَب الكاتب العربي على ذكرياته، في حين يُمدَح الكاتب الغربي عند كتابة ذكرياته، وذكر فيها ما لا يذكر أخلاقيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا ودينيًّا، وكأن الغرب هو الذي يتمتع بحرية التعبير، ولا لوم عليه، بل يُصبح من كبار الكتاب مثل جان بول سارتر في «الكلمات». أما صاحب الذكريات العربي فإنه لا بد أن يعمل بمقص الرقيب أو بتدخل الإرادة الشخصية التي تحيط به، والنظم السياسية التي يعيش تحت سلطتها؛ فهي ذكريات تفتقد الصدق، وتكون أقرب إلى التأريخ، وليست تجربةً إنسانية لفردٍ يعيش أيضًا في جماعة.

ولا يعني الجزء الثاني تتبع المراحل التاريخية؛ لأن الفرق بين الجزء الأول والجزء الثاني ثلاث سنوات لا يكفي لإتمام مرحلة، ويعني الجزء الثاني إعادة كتابة الذكريات من المراحل التاريخية إلى الموضوعات الإنسانية مثل: الفلسفة والموسيقى، العلم والعالم، الدين والسياسة، التأليف والمؤلفات.

و«ذكريات» نوعٌ أدبيٌّ مستقل بين الأدب والفلسفة وعلم النفس والاجتماع، والسياسة، والأخلاق، والدين. فهو نصٌّ أدبي مثل باقي الأنواع الأدبية: القصة، والرواية، والشعر، والمسرح. يُطبق عليه معايير النقد الأدبي ومناهجه، وهو نصٌّ فلسفي يدل على تصوراتٍ فلسفيةٍ عامة، ورؤى للإنسان والوجود في العالم، وفي البيئة الاجتماعية. وهو تحليلٌ نفسيٌّ أيضًا؛ لأن الذكريات تجارب حية في وعي الكاتب، كانت في ماضيه ولم يجرفها النسيان، وظلت في الذاكرة جزءًا من الشخصية التاريخية التي تكشف عن العصر بأفراحه وأحزانه، وهو نصٌّ اجتماعيٌّ يكشف عن البيئة الاجتماعية التي عاش فيها المؤلف؛ فالإنسان ابن بيئته، وأفكاره صدًى لها، تمر أحلامه بها، وتصاحبه إذا ما تغيرت البيئة وانتقل إلى بيئةٍ أخرى.

وهو نصٌّ سياسي؛ لأن المجتمع حاملٌ للسياسة؛ فالذكريات صرخات في الهواء السياسي، ظلمًا وعدلًا، غِنىً وفقرًا، ظالمًا ومظلومًا، استبدادًا وحريةً، إصلاحًا وفسادًا، صدقًا وكذبًا، شجاعةً وجبنًا، سلطةً أو معارضةً، جلادًا أو ضحيةً؛ فكل نص هو سياسي بالضرورة، مباشر أو غير مباشر، باستثناء بعض الأفلام المصرية المعلقة في الهواء؛ لا يربط بين شخصيات أبطالها إلا المحبة والكراهية، والوفاء والغدر، والخير والشر، دون بيئةٍ اجتماعية لمعرفة الأسباب، أو سياسية لمعرفة الهدف.

والنص ليس موعظةً خلقية تُطبق عليه مقاييس الأخلاق في الحجاب والسفور، واللباس والعري، والذكر والأنثى. بل إن النص كثيرًا ما ينقد هذه الثنائيات ويكشف عن المستور الذي يُخبئه الناس، ولا يظهرون إلا عكسه؛ فالكل يعشق المرأة ويتمناها ويتظاهر بالقدرة على البعد عنها؛ خوفًا على فضيلته من الشر القادم، وهم كثيرًا ما يقبلون الرشاوى، ويُطلب من الراشي الانتظار لحين الانتهاء من الصلاة.

وإذا كانت الفضيلة في كل سلوك فمن أين تأتي الرذيلة؟ وإذا كان الإصلاح عامًّا في كل هيئة فمن أين يأتي الفساد؟ وإذا كان كل البشر آلهة أو ملائكة فمن أين تأتي الشياطين؟

والنقد الأدبي للنصوص لا يعني الدفاع عنها أو الهجوم عليها، مدحها أو ذمَّها، إبقاءها أو استبعادها؛ فتلك أحكامٌ مسبقة على النص وعلى كاتبه، طبقًا لمواقف الناقد الأخلاقية أو الدينية أو السياسية الشخصية، وكلها مواقفُ متغيرة للناقد قبل أن يتناول موضوع النقد وهو النص. يحتاج النص إلى قراءةٍ محايدة بصرف النظر عن آراء الناقد أو آراء المؤلف الشخصية؛ فالنقد عملٌ حرفيٌّ خالص، يُحلل النص في بنيته اللغوية، وفي مدى تصويره للبيئة الاجتماعية، وفي مدى حمله لنداءٍ مستقبلي؛ فالنص عالمٌ مستقل بذاته، وحياةٌ خاصة؛ لا يمكن وضعه في قالبٍ آخر، وإعطاؤه لونًا ليس له؛ فالقالب أو اللون يأتي من الناقد؛ فيُصبح النقد قراءة على أحسن الظروف، وتأويلًا في أسوأ الظروف. والنقد المتغير ضد الأمانة العلمية؛ إذ لا يكفي طلاء المنزل من الخارج، بل لا بد من الدخول فيه، ومعرفة أدواره وحجراته وحوائطه؛ فالنقد ليس إسقاطًا من الناقد على النص، بل هو دخول على النص دون أحكامٍ مسبقة، واعتمادًا على البداهة الفعلية والفطرة الإنسانية.

ويبدأ النقد بمحبة الناقد للنص وتعاطفه المبدئي معه، كالمحب في أول تعرفه على الحبيبة يحتاج إلى عدة جلسات معها؛ يظهر التعاطف من الناقد تجاه النص، حتى تتكشف جوانبه، ويظهر دلالاته. بين الناقد والنص علاقةٌ متبادلة، من الناقد إلى النص، وهو فتح الساعدين. ومن النص إلى الناقد، وهو الارتماء في الأحضان. يُخاطب بعضهما بعضًا.١

والتحدي الكبير للذكريات هو استرسال ذكريات الحياة الشخصية مع الحياة العامة، فكلاهما ذكريات، فلا يمكن استبعاد ذكريات الحياة الشخصية لصاحب الذكريات ونفسه أو أسرته الصغيرة أو أسرته الكبيرة، ولا تَبقى إلا الحياة العامة؛ خاصةً الوظيفية؛ فالخاص دون العام تمركزٌ على الذات وكأن الذات هي مركز العالم. والعام دون الخاص تاريخٌ صرف، ووصف لحوادث ووقائع محايدة، أشبه بالتقرير الصحفي أو الوثيقة التاريخية، وقد وقع كثير من أصحاب الذكريات في هذين الخطأين. وقع الكتاب العرب في الخطأ الأول، أي الذكريات كتاريخٍ (بدوي). ووقع بعض الكتاب الغربيين في الخطأ الثاني (جان بول سارتر).

وحاولت القلة الجمع بين الاثنين (عثمان أمين، زكي نجيب محمود). ويظل التحدي قائمًا. رؤية الذات من خلال الموضوع أو رؤية الموضوع من خلال الذات.

وهذه الذكريات قراءة النص كعلاقةٍ متبادلة بين الذات والموضوع.

١  من القلب للقلب رسول، والحب له شرح يطول، عرفت من غير ما تقول (غناء: ليلى مراد).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤