العصر الجاهلي

لم يسمَّ هذا العصر بالجاهلية إلا بعد ظهور الإسلام، سماه القرآن الكريم الجاهلية، بمعنى الجهل ضد الحلم.
  • الأدب الجاهلي: نسبناه إلى الجاهلية فقلنا الأدب الجاهلي، وهو يتناول الشعر والنثر، الدالين على حالة ذلك العصر من اجتماع وسياسة ودين، وهذا الأدب لم يُبدَأ بتدوينه إلا في القرن الثاني للهجرة، حين بدأ عصر التصنيف والجمع.

    كان ذلك الأدب غير مدوَّن شأن سواه في عصر كعصر الجاهلية قلَّ فيه من يكتبون ويعنون بهذه الشئون.

    دُوِّن هذا الأدب فساد الخلاف وحامت الشكوك والظنون حول صحته؛ فمنهم من شك ببعضها، ومنهم من أنكره جملة وتفصيلًا، ولا يزال إلى يومنا هذا عرضة للنقد والتمحيص وميدانًا لطالبي الشهرة العاجلة. لا يعنينا البحث في صحة هذه النصوص، بل نفترضها صحيحة كما هي؛ خوفًا من إضاعة الوقت بما لا يفيد.

  • نشأة الشعر الجاهلي: لا أحيلك يا أخي على التاريخ، فهناك مسالك وعرة لا تستطيع اجتيازها، وخرافات لا يمكن تصديقها؛ فأجدادنا — رحمهم الله — أكدوا لنا أن جدنا آدم نطق بالشعر، واتسعت دائرة أوهامهم حتى قالوا لنا إن إبليس أيضًا قال الشعر العربي، فهذا ما لا أريد أن أحشو به دماغك، وعليه أقول: الشعر العربي نشأ ككل شعر في كل أمة متبدية كاليونان وغيرها. الشعر غناء وأوزانه توافق الغناء، ولذلك سبق الشعر النثر. الشعر وليد الخيال، والنثر وليد التفكير، والخيال في العقل البشري أسبق من التفكير.

    أما كيف نشأ الشعر فليس لدينا تاريخ نعوِّل عليه، بل جلُّ ما هنالك أقاصيص وخرافات، فإن رغبت فيها فإنني أحيلك على خزائن الأدب فهي تعج بها عجيجًا.

  • أقسام الشعر الجاهلي: الشعر الجاهلي قسمان: قسم قاله الشعراء ارتجالًا بلا تروٍّ ولا كدِّ ذهن، كشعراء الزجل عندنا اليوم. وقسم قالوه بتعمُّل وإعنات رويَّة، وآية هذا ما قرأناه عن زهير وقصائده الحوليات التي كانت تنظم بأربعة أشهر، وتنقَّح بأربعة، وتعرض بأربعة.
  • الوحدة في الشعر الجاهلي: نتهم الشعر العربي عمومًا والشعر الجاهلي خصوصًا بأن لا وحدة فيه، بل وحدته تقوم في البيت لا في القصيدة، وهذا أراه تطرفًا، بل تحاملًا على الشعر العربي جاء بهما بعض أدباء اليوم، وإليك البيان: إن الشعر العربي الجاهلي لم يتبع الوحدة المنطقية كما يكتب شعراء الغرب الذين ينظمون طبقًا لأصول وقواعد معلومة، ولكن هذا لا يعني أن الشعر العربي يخلو من الوحدة، فكل كلام يخلو من وحدة تربطه ببعضه نعدُّ صاحبه مجنونًا، وأسلافنا لم يكونوا كذلك، بل هم أصحاب عقول ثاقبة كما تخبرنا آثارهم.

    إن وحدة الشعر العربي الجاهلي تقوم بالعاطفة والتصور، والخطة الواقعية.

    فالشاعر الجاهلي اتبع السلَّم العقلي بقصيدته التي ينتقل فيها من ذكرى إلى ذكرى، والشعر الحقيقي ذكريات عذبة ومرة وهي منبع الشعر.

    إذن للشعر الجاهلي وحدة خاصة هي وحدة العاطفة التي تدفعه إلى ترتيب قصيدته بحسب ذكرياته واحدة تلو الأخرى. وكما أن لكل شاعر أسلوبًا خاصًّا، نستطيع أن نقول إن للشعر الجاهلي أسلوبًا خاصًّا ووحدة خاصة.

  • مسلك الشعر القديم: سلك الشعر العربي طريقًا منذ نشأته غير الطريقة التي سلكها الشعر الأجنبي، نشأ ذاك قصصيًّا يتناول وصف حياة الآلهة والأبطال، لا يذكر الشاعر نفسه بشيء، بل يتكلم بلسان الجماعة، فكان شعرهم طبقًا لصور اجتماعاتهم.

    وبعد زمن عثر الشاعر الأجنبي القديم على شخصيته، فأخذ يصفها، فأنشأ الشعر الغنائي.

    ثم تطورت تلك العقلية، فنظم أولئك الشعراء الشعر الذي يصف الحياة الاجتماعية وصفًا دقيقًا، ونعني به الشعر التمثيلي.

    هكذا نشأ الشعر عند اليونان والرومان وعند شعراء القرون الوسطى في أوروبا، وعلى هذه الطريق سلك شعر الهند، نشأ قصصيًّا وصار غنائيًّا، ولكنه لم يصل إلى التمثيل.

  • مسلك الشعر العربي: أما الشعر العربي فسلك سبيلًا خاصًّا: ابتدأ غنائيًّا خطابي اللهجة ولم يزل. لا يصف الجماعة، وإن وصفها فالقسط الأوفر لعواطفه وميوله، ولذلك كان قصصيًّا لا تمثيليًّا.

    فالعربي — كما قلنا — لا يعرف من الدنيا إلا شخصيته فقبيلته، فإن تكلم في شعره فعن شخصيته أولًا، ولا يذكر قبيلته إلا إذا اقتضت الحال أن يفتخر بها؛ ولذلك لا نرى الشعر العربي إلا غزلًا ومدحًا وفخرًا وهجاء ورثاء «أكثره أهلي».

    وكل هذا من الشعر الغنائي. أما النهضة الحديثة فلا نتناولها بالبحث الآن كما قلنا سابقًا.

  • النفَس العربي: الشعر العربي بالنسبة لغيره قصير النفَس، قوامه القصيدة، وأطولها ما أربى على المائة قليلًا، وقِصر نفَسهم جعلهم يحسبون كل سبعة أبيات قصيدة. وتقيُّدهم بقافية واحدة سبب قصر النفس.
  • القصيدة: قوامها الموضوع، والقافية، والوزن، والأوزان ستة عشر. فالقافية والوزن يلتزمهما الشاعر في كل القصيدة، أما الموضوع فقد يتوصل إلى الوصول إليه بدواعٍ عدة، وإليكها.
  • سياق التصور: غالبًا ما يكون هكذا:

    راحل راكب جملًا ومع رفيق أو رفيقان، يرى آثار الأحبة فيذكر أيامه معهم، فيبدأ بوصف الحبيبة ثم الناقة، يصف وعوثة الطريق ومشقات السفر — السفر قطعة من العذاب — ثم يصف الحيوانات التي تعرض فيصطادها، ثم يتخلص إلى غايته التي كثيرًا ما يفجأك بها، وينتقل إلى الفخر بالنفس فالقبيلة … إلخ.

  • أغراض الشعر: أغراض الشعر عند العرب يسيرة، والبدوي العربي يحب الاختصار في كل شيء حتى في الشعر. فكما أن لباسه مختصر، فهو يختصر في تصوره أيضًا، ولذلك كانت أغراضه الشعرية قليلة سهلة هينة، فلا يصف غير مرئياته، ولهذا فهو لا يكد ذهنك ولا يتعبك.

    كانوا أقدر في الصور اللفظية منهم في المعاني والابتكار. لبعضهم شخصية واضحة كزهير وطرفة، وبعضهم يندمج بقبيلته وهذا أقل كعمرو بن كلثوم، فما معلقة عمرو بن كلثوم إلا قبيلة تتكلم. وقد بدت في سماء الشعر العربي ظاهرة جديدة بظهور النصرانية واليهودية في الجزيرة.

  • ديباجة الشعر الجاهلي: الشعر الجاهلي سهل متين شديد الأسر، حلو الوقع في الآذان، لا تكلف فيه، متين رصين قليل الغرابة والحوشية، إذا قسناه بمقياس بيئتهم ومحيطهم لا بمقياس بيئتنا وعصرنا هذا.

    لم يألفوا الغرابة، ولم يميلوا إليها إلا في بعض قصائد يسمونها المعلقات. أما القصائد الرقيقة جدًّا كبعض شعر المهلهل وعنترة فيظن أنها ليست من قولهم، بل أكثرها منحولة.

  • اللغة في الجاهلية: من صفات اللغة في الجاهلية:
    • (أ) مقدرتها على التعبير عن النفس البدوية ومطامحها وأغراضها.
    • (ب) مقدرتها على التعبير عن المشاحنات والمنازعات على كل مرافق الحياة.
    • (جـ) وصف الوقائع والغارات والانتصارات والمفاخر وما يختلج في الصدور من لواعج.
    • (د) عجزها عن شرح الأفكار العامة والمعاني المعقولة، وما يتعلق بما وراء الطبيعة من علوم دينية وغيرها؛ لأنهم لم يعنوا بذلك.
  • العبارة الجاهلية: صفاتها:
    • (أ) استعمال الألفاظ في معانيها الوصفية الحقيقية.
    • (ب) اجتناب تلطيف العبارة.
    • (جـ) كثرة المترادف والمتوارد الناتج عن لغات قبائل متعددة.
    • (د) الإيجاز، وهو مزية من أهم مزايا الأدب الجاهلي.
  • النهضة الجاهلية: الذي وصل إلينا من الشعر الجاهلي يدل على أن أصحابه مقلدون من تقدمهم، فهم متَّبعون لا مبتدعون.

    بيد أن شعر المتأخرين منهم؛ كزهير والأعشى وعنترة والنابغة؛ هو خير ما نُظِم في ذلك العهد، فهؤلاء جاروا المتوسطين كامرئ القيس وطرفة وابن حلزة وابن كلثوم وفاقوا المتقدمين.

    فالعهد الأخير من العصر الجاهلي — أي المائة الأخيرة — هو عصر النهضة الجاهلية.

  • الأسواق: كانت ولا تزال إلى اليوم تقام في البلاد العربية، في مدن عديدة ومواقع متوسطة، دعا إليها أولًا الاضطرار إلى المقايضة؛ لأن الناس لم تكن تتعامل كاليوم بالنقود. كان للعرب كما كان لغيرهم من أمم الأرض في طور البداوة أسواق تُعرَض بها منتوجاتهم، وهذا لا يزال أثره إلى اليوم في العالم.

    بيد أن الإقبال على هذه الأسواق لا يعظم إلا إذا كانت الغاية منها دينية كالحج عند العرب.

  • أسواق العرب: فللعرب أسواق كانوا يقيمونها في أشهر السنة يحضرها السواد الأعظم منهم، ينتقلون من سوق إلى أخرى، ينزلون دومة الجندل في أعالي نجد في غرة ربيع الأول، فيقيمون الأسواق للبيع والشراء والأخذ والعطاء، ثم ينتقلون إلى هَجَر فيقيمون شهرًا، ثم ينتقلون إلى عُمان، ثم إلى حضرموت فعَدَن، ثم إلى عكاظ في الأشهر الحرام، وكانت لهم أسواق أخرى في المجنَّة وذي المجاز.
  • عكاظ: أشهر الأسواق، وهو مكان بين نخلة والطائف، وهي خاتمة الأسواق يقيمون فيها من غرة ذي القعدة إلى العشرين منه، ثم يتوجَّهون إلى مكة لقضاء مناسك الحج. كان شرفاء العرب يحضرون من الأسواق سوق بلدهم إلا عكاظًا، فإنهم كانوا يحضرون إليها جميعهم، ففيها تفصل الدعاوى وتفتدى الأسرى، ويطلب الثأر، ويفاخر العرب بعضهم بعضًا، فقد كان العرب يفاخرون بكل شيء حتى في كبر المصائب.

    ثم تطورت النظرية فصارت السوق سوق أدب أيضًا.

    لقد كانت هذه الأسواق محترمة جدًّا، وخصوصًا سوق عكاظ، لا يدخلها أحد بسلاحه، بل يسلِّمون أسلحتهم لأهل السدانة من قريش، ومن لا يفعل ذلك يعرِّض نفسه للقتل.

    وكان ينادي المنادي في هذه الأسواق على لسان أشراف العرب: هل من راحل فنحمله، أو من جائع فنطعمه، أو خائف فنؤمِّنه. وكان الأمراء في هذه المجتمعات يتقاضون الضرائب، والإتاوة.

  • عكاظ واللغة: لم يكن العرب وحدهم يقيمون مثل هذه المجتمعات الأدبية، فعند الرومان كان الجمناسيوم مجتمعًا للألعاب، وفيه كان يتباحث فلاسفتهم وعلماؤهم ويتنافرون كالعرب في عكاظ.

    إن أثر عكاظ في اللغة عظيم، فهذه السوق جعلت لغة العرب واحدة، ولولاها لصارت اللغة العربية لغات مختلفة منفصلة انفصال السريانية والعبرية عن أختهما اللغة العربية؛ فاختلاف منطق العرب جعل المترادفات كثيرة، وهذه أوقعتنا ببلية عين الفعل وغيرها، تلك التي لا يسلم من الوقوع بها أكبر علماء اللغة، فللسيف والأسد والجَمل ألفاظ عديدة جدًّا؛ لأن كل قبيلة تسميها اسمًا، فلما عظم شأن عكاظ عمد الشعراء إلى انتقاء أفصح الألفاظ، طلبًا للاستحسان.

  • لغة قريش: لوقوع عكاظ بين نخلة والطائف كانت السيادة فيها لقريش سدنة الكعبة، والقرشيون رجال تجارة يعرفون كيف يروجون الأسواق أكثر من غيرهم الذين لا عهد لهم بالتجارة، فغلبت سوقهم الأسواق كلها لهذا السبب، وهناك سبب آخر هو دنوها من الكعبة.

    ولما صارت عكاظ سوقًا أدبية أيضًا كانت السيادة فيها للغة قريش طبعًا كما تسود اليوم لغة الأجانب في البلاد المستعمرة.

    فعمد الشعراء للغة قريش المُضَرية تقربًا منهم، وهكذا قويت لغتهم وغلبت بقية اللهجات.

  • أقسام الشعر وطبقات الشعراء: يقسم الشعر الجاهلي من حيث الكمية إلى شعراء مكثرين ومعتدلين ومقلِّين.

    يقسم الشعر الجاهلي من حيث الزمان إلى شعراء متقدمين ومتوسطين ومتأخرين.

    يقسم الشعر الجاهلي من حيث الإجادة إلى شعراء متفوقين وممتازين ومجيدين.

    فالمتفوقون هم أصحاب المعلقات شعراء الطبقة الأولى: امرؤ القيس، زهير، النابغة.

    والممتازون شعراء الطبقة الثانية: الأعشى، لبيد، طرفة.

    والمجيدون شعراء الطبقة الثالثة: عنترة، عروة بن الورد، دُريد بن الصمة، المرقش الأكبر.

    فالشعراء الجاهليون كلهم مجيدون، ولكنهم متفاوتون في الإجادة، وهم طبقات كما سترى.

    قال الشاعر العربي:

    الشعراء فاعلمن أربعه
    فشاعر يجري ولا يُجرى معه
    وشاعر يخوض وسط المعمعه
    وشاعر لا تشتهي أن تسمعه
    وشاعر لا تستحي أن تصفعه

    الطبقة الأولى: شعراء الطبقة الأولى هم أصحاب المعلقات السبع، ومنهم من زاد عليهم ثلاثة، ومنهم من جعل النابغة والأعشى موضع عنترة ولبيد. أما المقدمون على الجميع؛ أي المتفوقون، فهم: امرؤ القيس والنابغة وزهير.

    واختلف الناس في أي من هؤلاء أشعر من أخيه.

    • أغراض شعرهم: وصف الأطلال والأحباب، الفراق والهيام وسوء المصير، وصف الناقة والقِرى، مفاخر القبيلة ومآثرها، مفاخر الشاعر والممدوح، وصف الصحراء وما يعرض لهم بها. وبكلمة مختصرة وصفوا كل ما أحسوا به من المرئيات وصفًا دقيقًا. إن قوام الشعر العربي في هذا الطور كان الوصف من جميع مناحيه وألوانه.
    • مزية شعرهم: الدنو من الحقيقة، بُعد عن الخيال والمجاز، وصف ما تراه العين وتسمع به الأذن ويشعر به القلب، وهذه حقيقة الشعر.
    • ميزته: سذاجة، ابتكار معانٍ وتصورات، متانة تعبير مع خشونة ألفاظ وفخامة، اختصار وإيجاز مع قصد في المجاز، مطابقة المعاني للواقع، قلة الغلو والمبالغة، قلة المعاني الغريبة، قلة التأنق في ترتيب المعاني والأفكار، الانتقال الفجائي من غرض إلى غرض بلا تمهيد، بل قد يكتفي الشاعر بأن يقول لك: دع ذا أو عد عن ذا، كما نقول نحن اليوم في حديثنا: بلا طول سيرة.

      ثم مقت استعمال الأعجمي، وعدم تعمد المحسنات البديعية مثل الجناس … إلخ.

    • أفضلية هذا الطور: يَفضُل هذا الطور سواه بكثرة الشعراء المجيدين فيه، فكل شاعر يفضل غيره بباب يبدع فيه.
      فلامرئ القيس: حسن الوصف والتشبيه والابتكار والتصرف بالمعاني.
      ولزهير: الحكم والمدح والصناعة الشعرية؛ أي إتقان التعبير.
      وللنابغة: التصبر والاعتذار وجودة القريحة والإحاطة بالموضوع من جميع أطرافه.
      وللأعشى: الرنة الشعرية.
      ولعمرو بن كلثوم: الفخر والحماسة.
      وللحارث بن حلزة: البرهان والحجة.
      وللمهلهل: رقة الشعور والشعر والحماسة.
شعراء الجاهلية بحسب التاريخ:
  • أولًا: المتقدمون: يكثرون الغريب من الألفاظ والوصف، معظم شعرهم في وصف الوحوش والأودية القفرة الكثيرة الخطر، وأشهرهم: الشنفرى وتأبط شرًّا والمهلهل.
  • ثانيًا: المتوسطون: طالت قصائدهم وتنسقت معانيهم واتسعت ورقت أفكارهم، فرقَّت عبارتهم وتوسعوا بالأوصاف المختلفة. أشهرهم: امرؤ القيس وطرفة وابن حلزة وابن كلثوم.
  • ثالثًا: المتأخرون: نسجوا على منوال المتوسطين، ويمتاز شعرهم بدقة الوصف؛ وخصوصًا المحسوسات، والإسهاب حتى التمام، وأشهرم: عنترة وزهير والنابغة والأعشى ولبيد.

(١) الشعراء الأولون

(١-١) الشنفرى

هو ثابت بن أوس، أو عمرو بن مالك الأزدي اليمني، لُقب الشنفرى لضخامة شفتيه، أو لحدته.

أما كيف أسره بنو سلامان صغيرًا وأدرك ذلك كبيرًا وتركهم وحلف أنه يقتل منهم مائة، وكيف قتل تسعة وتسعين، وكيف كان يترصدهم ولا يصيب من الرجل إلى عينه فيرديه، وكيف كملت المائة بعد موته، فهذا ما لا أصدقه أنا، أما أنت فصدق إن شئت.
  • عدوه: كان الشنفرى من عدَّائي العرب، وهم: تأبط شرًّا الذي يروي صاحب الأغاني قصيدة له في رثاء الشنفرى زميله، واشتهر تأبط شرًّا بوصف الأودية وقتال الغول.

    ومن عدائي العرب السُّليَك بن السلكة وعمرو بن البراق وأسيد بن جابر، وقد فاقهم الشنفرى جميعًا فقيل: «أعدى من الشنفرى.» وبالطبع فهذا العَدْو في الجاهلية يحبب إلى صاحبه الغزو والنهب، وما لامية العرب إلا وصف حالة هؤلاء الشعراء الصعاليك الذين كانوا يخيفون الناس ويقلقون راحتهم، ومعظم شعرهم في وصف غزواتهم، وهربهم بعد سرقتهم وغزوهم.

  • لاميته: ٦٨ بيتًا من بحر الطويل، مطلقة القافية، عني بطبعها وشرحها كثيرون من أدباء العرب، وترجمها كثيرون من المستشرقين إلى لغاتهم وطبعوها. شك بعضهم بنسبتها إليه، ولكنهم اتفقوا على أنها تمثل الجاهلية، ولا يعنينا من أمرها أكثر من هذا.
  • أغراضها: يبدؤها قائلها بالتأهب للرحيل عن قومه؛ لأن في الابتعاد منأى للكريم عن الأذى، ثم شرع يفضل الضواري على قومه؛ لأنها لا تبوح بسره مثلهم، ولا تتركه إذا اقترف جريمة. ويقول عن الضواري إنها إن كانت باسلة فهو أبسل منها، ثم ينتقل إلى وصف عفَّته عن الطعام ليقنع قومه أنه سيعيش في البرية راضيًا قانعًا. أما رفاقه في هذه الرحلة فثلاثة: فؤاده، وسيفه، وقوسه التي وصفها ببضعة أبيات.

    ولكي يؤكد لهم أنه لن يعود إليهم يصف شخصيته ويفتخر بنفسه وبأعماله، يقول إنه ليس من المولعين بالنساء وليس بالجبان، وليس من المخنثين ولا الأوغاد القليلي الخير، أو الجاهلين بمخارم الأرض. وهنا يصف جَلَده على الأسفار واحتماله وعوثة الطريق:

    إذا الأمعز الصوان لاقى مناسمي
    تطاير منه قادحٌ ومفلَّل

    أما الجوع فيقول بشأنه:

    أُديم مطال الجوع حتى أميته
    وأضرب عنه الذكر صفحًا فأذهلُ

    وإذا اضطر فإنه يستفُّ ترب الأرض كيلا يكون لأحد عليه فضل. وهناك أوصاف شديدة لمعاناة الصبر على الجوع؛ لأن نفسه لا تقيم على الضيم.

    ولما اشتد جوعه دعا الضواري فألفاها أشد منه جوعًا، وأخذ يصف حالها وحالته، إلى أن وصف نفسه بأنه أشد منها، وأسرع عدوًا حتى إنه يسبق القطا إلى المورد ولو كانت عطاشًا لخمس.

    وهو يرى في التراب فراشًا وثيرًا ينام عليه هانئًا، ثم يصف حلمه وعزمه اللذين لا يطيران حتى في أشد الليالي ظلمة وبردًا، تلك الليلة التي يصطلي بها الرجل قوسه وسهامه، وهي عدة البدوي، وسلاح المسافر في الصحراء. كل هذا الشقاء والشنفرى ماضٍ في سبيله لا تثني عزمه المخاوف والأهوال حتى مر بالغميصاء فأزعج الحي والكلاب، فأصبحوا يتساءلون عن الطارق أهو إنس أم جن.

    ولما انتهى من برد الليل وصف ما لاقاه في نهاره من شدة الحر، وكيف قابل تلك الحرارة المحرقة بوجه لا تؤثر به النار، وكان له من شعره ظلٌّ يقيه، فظل سائرًا حتى أدرك الجبال وأقام بين الوعول. آه.

    وللشنفرى شعر غير هذه اللامية؛ أهمها تائيته التي مطلعها: أرى أم عمرو أزمعت ثم ولَّتِ … إلخ.

  • شعره: شديد الأسر، خشن المبنى والمعنى، وماذا تطلب من واحد أليف وحوش ويعيش كالوحوش! دقيق التصوير، وصفه حقيقي، مادي، تام الإخراج، قوي الخيال، بديهي.

(١-٢) المهلهل

أبو ليلى عدي بن ربيعة النغلي، شاعر يمني نجدي، لم يُرْوَ لأحد قبله شعر طويل. سمي المهلهل لأنه أول من هلهل الشعر؛ أي جعله رقيقًا، وقال فيه الغزل.

عاش في أول حياته رجل لهْوٍ وقصف وسكر، حتى سمَّاه أخوه كليب «زير نساء».

قال معظم شعره في رثاء أخيه كليب الذي قتله جسَّاس بناقة البسوس التي عُرِفت حرب تغلب والبسوس باسمها، وبشؤمها ضرب المثل: «أشأم من البسوس.»

لم يكن سبب مقتل كليب تلك الناقة، إنما قتل كليبًا بغيُهُ؛ كان كليب ذا بغي.
  • شعره: يُلتَمس الشاعر في البيئة التي توجده. فالشاعر أثر من آثار البيئة والزمان والجنس.

    كان مهلهلًا أميرًا لاهيًا سكيرًا محبًّا للنساء كما يصفه لنا المؤرخون، فرَقَّ شعره ديباجةً وسهُل معنًى.

  • أغراض شعره، ديباجته: رثاء، غزل، وصف الخمر والحروب، تهديد ووعيد، اتفق والخنساء في موضوع واحد هو رثاء الأخ.

    سهل الألفاظ، سهل التركيب، لا شدة فيه ولا أسر، تتدفق منه العاطفة تدفقًا. تقرؤه فتشعر أنك تقرأ شعر رجل من معاصريك، حتى تخال نفسك شريكًا له في بلواه.

  • خير قصائده:
    أهاج قذاء عيني الادِّكار
    هدوءًا فالدموع لها انحدار
    كليب لا خير في الدنيا وما فيها
    إن أنت خليتها فيمن يخلِّيها

    أما صاحب جمهرة العرب فنقل له القصيدة التي عرفت «بالداهية»، وأحصاها في مصاف «المنتقيات» وإليك مطلعها:

    جارت بنو بكر ولم يعدلوا
    والمرء قد يعرف قصد الطريق

    وأظنه عدها من المنتقيات لأن فيها بعض الألفاظ الغريبة التي كان يألفها الجاهليون، ولأنها أكثر بقية قصائده متانة وشدة أسر.

(١-٣) الشنفرى والمهلهل

شاعران مختلفان معنى ومبنى وإن كانا من الشعراء الأولين، فكأنهما لم يعيشا في عصر واحد، بل كأن بينهما ألف عام.

أما الأسباب فإليكها: عاش الشنفرى كما مر بك عيشة شظف وخشونة ليس بعدها خشونة، في بيئة هي أخشن البيئات كما مثَّلها في لاميته، فجاء شعره خشن المعنى والمبنى.

أنت تكره تلك الخشونة وتأنس بسهولة المهلهل ورقته، إنما عليك أن تعلم أنَّ الشنفرى أليف المحسوسات، لا يصف إلا السلب والنهب وما يتبعهما من أهوال ومخاوف، فترى ذلك الجفاء وتلك الغلظة في نظمه؛ لأن الموضوع يتطلبها، فهي إذن متفقة كل الاتفاق مع موضوعاته.

وبالعكس المهلهل، فإنه رقَّ لأنه عاش عيشة ترف ورخاء، فبعُدَ عن كل خشونة.

فإذا رأيت شاعرًا يصلب ويلين ولو في القصيدة الواحدة فلا تعلل ذلك بالانتحال، بل انظر إلى الموضوع والمعاني، فقد يستدعي معنًى ما رقةً وعذوبة لفظ كما يستدعي معنى غيره شدةَ أسرٍ وخشونة لفظ، وقد يكون ذلك كله في قصيدة واحدة.

(٢) أصحاب المعلقات السبع

  • الشاعر: الشاعر علم القبيلة وخطيبها المِدْرَه، ولذلك كان له المقام الأول في القبيلة، وكانت القبيلة تهنأ كما قال صاحب العمدة «ابن رشيق» بظهور شاعر فيها لشدة احتياجها إليه فتولَم الولائم وتُقام الأفراح.

    ولذلك ترى أكثر الشعر الجاهلي خطابي اللهجة؛ لأنه كان يلقى على الجماهير، ولا بدع في ذلك؛ فالشاعر كان الخطيب، في المفاخرة والمنافرة … إلخ.

    وما هذه العاطفة التي تراها في مطلع كل قصيدة إلا نتيجة تنقُّلهم المستمر الذي يولد فيهم هذه العواطف، فيصورونها لك شعرًا يعرب عما في نفوسهم من تأثر.

    فما العربي الجاهلي إلا مسافر لا يقرُّ له قرار، ولا ينام إلا على سفر.

  • المعلقات: هذه القصائد اختارها الرواة القدماء؛ فمنهم من عدَّها سبعًا، ومنهم من عدَّها عشرًا بحسب الغرض والميل، وهكذا صنفوا الشعراء طبقات أولى فثانية فثالثة، حتى العشرة.

    فالبصرة قدَّمت امرأ القيس لأنها يمنية ربعية، والكوفيون قدموا الأعشى، وأهل البادية والحجاز قدموا النابغة وزهيرًا لأنهما مواطنان لهما، وعلى هذا القيام صنفوا مراتب أصحاب المعلقات.

    سموها المطولات ثم المعلقات، وسيان عندنا أعلِّقت على أستار الكعبة أم لم تعلق، فلا يعنيني أن أبحث في هذا الأمر.

    هذه القصائد عني بها فريق من الأدباء فشرحوها وفسروها وذهبوا فيها مذاهب شتى، فمنهم من أنكر صحتها كلها، ومنهم من شك ببعض أبيات منها، ومنهم من اختلف بروايتها، ومنهم من أغفل كثيرًا من الشعراء الذين لا يقلون أهمية وشأنًا عن أصحاب هذه المعلقات.

  • أصحاب المعلقات: أما أصحاب المعلقات الذين يهمنا درسهم فهم: امرؤ القيس، طرفة، زهير، لبيد، عمرو بن كلثوم، الحارث بن حلزة، عنترة.

(٢-١) امرؤ القيس

  • نسبه: الملك الضليل، أبو الحارث جندح بن حجر، الكندي، شاعر يماني، حامل لواء الشعر في الجاهلية، الفاتح فيه فتحًا مبينًا. لا أرى أسلوب عمر بن أبي ربيعة إلا وليد أسلوبه، طالع بدقة معلقته وقصيدته اللامية: ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي، فتشاركني في الحكم.

    أبوه ملك كندة، وخالاه كليب ومهلهل، وهنا أبدي رأيًا آخر، وهو أن العذوبة الشعرية في شعر امرئ القيس ومهلهل وابن كلثوم متأتية عن هذا النسب، كما تأتت الديباجة التي سيأتي الكلام عليها في شعر زهير ومدرسته.

    عاش امرؤ القيس كما عاش المهلهل يسكر ويلهو ويقامر وينادم ويلحق بالنساء ويتشبب بهم. فغضب لذلك أبوه وركب الفتى رأسه، وانصرف إلى الملذات حتى قُتِل أبوه لعسفه في حكمه وإرهاقه الرعية وقسوته في الجباية.

    فهب امرؤ القيس من سكرته عندما أُلقيَت التبعة عليه وصار مسئولًا عن دم أبيه، فكان في حالته هذه أشبه بخاله المهلهل، فاستنجد قبائل العرب فلم ينجده إلا قليل منهم.

    قاتل بني أسد قتلةَ أبيه، فأنجدهم المنذر أحد ملوك الحيرة وناهض امرأ القيس لعداوة قديمة بينه وبين الحارث جد امرئ القيس، فغُلب امرؤ القيس على أمره وفر من وجههم، ونزل على السموأل فأودعه دروعه وابنته وكل ما له من متاع.

    وذهب إلى ملك الروم يستنصره على مناوئيه؛ شيعة المناذرة التابعين للفرس، والفرس كما نعلم أعداء الروم في جزيرة العرب.

    يقال إن قيصر أنجده ثم عدل، ومنهم من ينكر ذهابه إلى قيصر الروم، وحجته أن امرأ القيس لم يصف شيئًا من مظاهر القسطنطينية.

    والعالِم بنكبته لا ينكر ذهابه إلى القسطنطينية لأنه لم يصفها ولم يصف إحدى كنائسها، فأظن أنه كان في شاغل عنها!

    وهب أننا قلنا وصفها، فكيف يصل إلينا ما قاله فيها ونحن نعلم أنه مات على الطريق.

    أما قولهم إنه مات بحلة مسمومة أرسلها إليه قيصر فهو ما لا أصدقه، ولا أظن إلا أنه مات بالجدري، هذا أصح تأويل لتلك القروح، وقد ثبت تاريخيًّا أن الجدري كان منتشرًا في السنة التي مات فيها. ويقولون إنه دفن في أنقره حيث لفظ روحه.

شعره

  • (١)

    تشبيب ووصف أيام الصبا، وذكر حوادث غرامية. شكوى وألم في المحنة، ويعذره من أنكروا وجوده؛ لأنه رقق النسيب وأجاد الاستعارة وتفنن بالتشبيه، لما تقدم من الأسباب.

  • (٢)

    تصرُّف في المعنى الواحد بطرق عديدة، وهذا تحديد البيان العربي.

  • (٣)

    وصفٌ دقيق مطابق للحقيقة والواقع.

  • (٤)

    ابتداع أسلوب جديد اتُّبع، ولا يزال بعضهم يمشي على الطريق التي شقَّها لهم.

  • (٥)

    في شعره تهتك وفحش، إلى جانب النبل والسيادة.

  • (٦)

    في بعض شعره عبارة جافية، ألفاظ خشنة، ومعانٍ قد تغرب عنك، وإلى جانب كل هذا: ديباجة حسنة، معنى بديع، رقة نسيب، سهولة مأخذ. وعلى منواله نسج الذين جاءوا بعده. وبكلمة مختصرة: إنه زعيم الشعراء الوصافين في هذا العصر.

معلقته

  • موضوعها: ذكر الأطلال والبكاء عليها، ذكرى عنيزة ويوم دارة جلجل، وصف الليل وتشكي طوله، وصف الوادي والمطر، والوحوش والفرَس والبرق، وكاد يكون صادقًا في كل ما قال.
    وتفوق معلقته غيرها بما يأتي:
    • (١) بابتداع طريقة اتبعها بعده الشعراء، فكأنها كانت الطريق المعبدة حتى آخر العصر العباسي، وأستطيع أقول إن شعر النهضة الأخيرة لم يخلُ من التأثر بها.
    • (٢) وصف صحيح، تشابيه مبتكرة، مطابقة للواقع لم يسبق إليها ولم يلحق بها، فقلما خلا بيت من تشبيه ووصف معًا.
    • (٣) قوة التصرف بالمعنى الواحد، فيكون المعنى حسب المقام، فلا يمل بالإسهاب كطرفة ولبيد بوصف الناقة، ولا يخل الإيجاز.
    • (٤) فيها بعض ألفاظ ينفر منها السمع، وقد تجاوز حدود اللياقة والكياسة ببعض تعابير وأوصاف فكان كلامه فيها من نوع الأدب العاري.
    • (٥) فيها وصف خمسة أشياء: النساء، الليل، الخيل، الصيد، المطر وما يتخلله ويعقبه … إلخ.

    وبكلمة مختصرة نقول: لو قام الشعر بالوصف والتشبيه فقط لكانت خير الشعر.

(٢-٢) طرفة بن العبد

  • سيرته: طرفة بن العبد، شاعر بكري من ربيعة، أقصر فحول الشعراء الجاهليين عمرًا، وأجودهم طويلة، وأوصفهم للناقة.

    طواه الردى في ميعة الشباب، سمَّاه المتقدمون: «ابن العشرين»؛ لأنه مات في تلك السن، أو ما يناهزها.

    يُروى أنه نادمَ النعمان، ومنهم من قال عمرو بن هند، مع خاله المتلمس، ثم توترت العلاقات بينهما لأسباب لا تهمنا معرفتها، فسلَّم النعمان كلًّا منهما رسالة إلى عامله في البحرين، فأخذا الكتابين معتقدين أن فيهما جائزة أو صلة، فإذا الأمر بالعكس؛ لأن المتلمس شك فأقرأ كتابه غلامًا من الحيرة، فإذا فيه أمر بالقتل. فألقى المتلمس كتابه في النهر وهرب إلى الشام. وفي صحيفة المتلمس يُضرَب المثل وقد قال الشاعر فيه:

    ألقى الصحيفة كي يخفف رحله
    والزاد، حتى نعله ألقاها

    وعاش المتلمس بقية عمره يهجو النعمان، ويدعو العرب إلى عصيانه.

    أما طرفة فلم يشك، وظل سائرًا في طريقه إلى البحرين حيث قتله عامل النعمان فمات ولمَّا يتمتع بشبابه إلا قليلًا.

  • شعره: على قلته قيِّم ممتع «عمومًا»، شديد الأسر متين النسج «أحيانًا»، معقد التركيب، كثير الغريب، مبهم المعنى.

    جيد الوصف، مع عدم تطرف في الغلو، يدل شعره على نفسية عاتية جبارة، لا تنظر إلا إلى الساعة التي هي فيها. يرى الدنيا على حداثته بعين الحكيم المجرب.

معلقته

  • أغراضها: وصف الدار وآثارها، تغزُّل، وصف الأحباب وسفرهم، وصف الناقة، افتخار بالنفس، زهد بالحياة، يأس منها، حكم.
  • مميزاتها: متينة اللفظ والأسلوب، يكثر فيها الغريب في مواضع وتسهل في مواضع، غزيرة المعنى، دقيقة الوضع والوصف إلى حد الإسهاب الممل.

    هي من أجود المعلقات السبع، تمثل حياة صاحبها الخاصة ونفسيته، والمثل الأعلى في الحياة الجاهلية، وهذا مكتسب من المحيط وتقاليده.

    أسهب في وصف ناقته، فأغرب في الألفاظ والمعاني لاضطراره إلى ألفاظ وضعية.

    أهم ما يلفت النظر في معلقته، نظره إلى الحياة ويأسه منها، ومعرفته أنه فانٍ، فلماذا لا يتلذذ في حياته ويقابل منيَّته بكل ما يملك.

    ثم يعلن رغبته في الحياة لثلاثة أسباب هي لذاته الثلاث: الحب والشرب والحرب.

    وإذا تساءلنا عما جاء به طرفة من فكرة فلسفية فلا نجده جاء بالبدع، ولم يقل إلا ما يعرفه كل رجل رأى وسمع. أنصت إلى مناقشة أهل قريتك لتصدقني.

(٢-٣) زهير بن أبي سلمي

  • نسبه: زهير بن أبي سلمى المزني، نشأ في غطفان، وإن كان نسبه في مزينة، فهو شاعر قيسي مضري.
  • بيته: جلُّ أهل بيته شعراء، رجالًا ونساء، أخذ الشعر والحكمة عن خال أبيه بشامة بن الغدير أحد أشراف غطفان، كان خال أبيه بشامة هذا مقعدًا فلزمه زهير فتخلَّق بأخلاقه.
  • زهير الراوية: كان أوس بن حَجَر شاعر مضر في زمانه، فلزمه زهير، فروى عنه الشعر، فتأثر به في عمل الشعر، ثم فاقه فأخمله.
  • المدرسة الشعرية: رأى طه حسين بالاستنتاج من أقوال القدماء، ورأيه حق، أن رواية زهير لشعر أوس بن حجر كوَّنت مدرسة شعرية، امتازت بوصف المرئيات والمحسوسات، مؤسسها أوس بن حجر زوج أم زهير. اتبع طريقة هذه المدرسة زهير فابناه: كعب وبجير، والحطيئة الذي كان راوية زهير، والنابغة، ثم امتد بهذه المدرسة إلى جميل الذي أخذ عن الحطيئة وتأثر بطريقته، فكثيِّر الذي أخذ عن جميل وتأثر به.
    إن أهم مميزات هؤلاء الشعراء المأخوذة عن أستاذهم الأكبر أوس هي:
    • (١) الخيال المادي الحسي، حتى جاء شعر أوس أشبه بالتصوير منه بأي شيء آخر.
    • (٢) الفن؛ أي اتخاذ الشعر صنعة وحرفة فيمحِّصه ويتعلمه صاحبه عمليًّا وينشئه بإمعان ورويَّة، ولا يقوله عفو الطبع.
    • (٣) وعلى هذا النمط درج زهير في حولياته وبقية شعره، وهكذا فعل الحطيئة الذي سمَّاه الأقدمون عبد الشعر؛ لكثرة تجويده وإطالة النظر فيه.
  • التكسب بالشعر: كان أشراف العرب يأنفون أن يقولوا الشعر، فهل الشعر معرَّة؟!

    لا لعمري، ولكن تكسُّب بعض الشعراء به وجعلهم إياه وسيلة للارتزاق جعل نبلاء العرب يتجافونه. أما كيف نشأ التكسب بالشعر، فأقول كلمة هي رأي خاص، وهي أن ميل العرب إلى المنافسة في الجاهلية جعلهم يحملون بعض الشعراء على مدحهم، وأعطوهم مالًا لقاء هذا العمل، فشاعت الفكرة واستغلها الشعراء.

    أما تكسُّب زهير بالشعر فلم يكن مبتذلًا مكروهًا، ولم يحطَّ من قدره كما حطَّ من قدر راويته الحطيئة.

  • مدحه: قال زهير معظم شعره في مدح هرم بن سنان، وهو سيد غني توسط مع الحارث بن عوف في الإصلاح بين قبيلتي عبس وذبيان في حرب «داحس والغبراء»، ودفعا ديات القتلى من مالهما، وقد بلغت ٣٠٠٠ بعير.
  • شخصيته: كان زهير حكيمًا طيب النفس، مؤثرًا للخير، محبًّا للسلم داعيًا إليه، ولو كانت جائزة نوبل للسلم في زمانه لأخذها واستراح من تعب الفكر.
  • شعره: عفيف القول، وجيز اللفظ، غزير الحكمة، تهذيب كثير، لا تعقيد ولا حشو، مدح صادق، لا سخف ولا هذر في كلامه، شديد الاعتماد على الحواس في إخراج صوره الشعرية، برز في الحكمة العامة والأمثال، وقد يكون شق الطريق لمن جاءوا بعده وقالوا الحكمة في شعرهم؛ كأبي العتاهية والمتنبي والمعري.

    دقيق التصوير، يسير اللغة، منسجم التركيب.

معلقته

  • موضوعها: ذكر الديار، وصف رحيل الأحباب، وصف الحرب وشؤمها، ذكر حزنه، مدح هرم والحارث، وصف زهده في الحياة وسآمته، حكم عامة.
  • صفتها: متينة الألفاظ والتعبير، أكثر أبياتها صور محسوسة، اعتمد عليها ليصل إلى غايته وهي المدح، ولذلك لم يبحث في معلقته بحث امرئ القيس وطرفة. ومع أن غرضه، وهو المدح، لا يمكنه من إظهار شخصيته، فقد استطاع أن يرينا شخصية إنسانية عامة النزعة في عهد لم يكن فيه أثر إلا أثر القبيلة.

    انتقل إلى المدح بلا تخلص ولا حيلة، ومدح صاحبيه بطريقة قصصية، وقد أصاب؛ لأن سرد القصة الواقعية عن عمل نبيل كعملهما، هو أعظم مدح.

    وبعد أن امتدح عملهما وإصلاحهما بين قبيلتين كبيرتين أخذ يعرض أمامنا صوره في تقبيح الحرب، فجاءت هذه الصور أشبه بصور السينماء الناطقة حتى لتكاد تسمعك الضوضاء.

    ثم أعاد الكرَّة على صاحبيه فمدحهما حتى شبع. وبعد أن أخذ قسطًا قليلًا من الراحة وجَّه نظره إلى الإنسانية جمعاء فقال: سئمت تكاليف الحياة … إلخ.

    وفي أبياته الأخيرة هذه يتصل بطرفة من حيث النظر في الحياة.

    فكلاهما لم يهتدِ إلى حل لغز الحياة إلا كما تراءى له، وبما أوحي به إليه، وبما اعتقد أنه خير حل لمعضلة الحياة والعيش.

    رأى طرفة الحياة فراح يجني ثمار ملذاتها، ويلبي من دعاه إلى الجُلَّى، أما زهير فلم يفكر إلا بما أخذه عن خال أبيه المقعد، والمقعد لا يدعو إلى السيف.

(٢-٤) لبيد

  • حياته: أبو عقيل، لبيد بن ربيعة، عامري، من قبيلة قيس، مضري. عمَّر طويلًا بدليل قوله:
    ولقد سئمت من الحياة وطولها
    وسؤال هذا الناس كيف لبيد

    عاش في الجاهلية عيشة الشعراء الفرسان الأغنياء، قال أكثر شعره في الجاهلية. دخل الإسلام وشُغل بحفظ القرآن وتلاوته عن الشعر، ويقولون إنه لم يقل إلا بيتًا واحدًا في الإسلام، هو أحد هذين البيتين:

    ما عاتب الحر الكريم كنفسه
    والمرء يصلحه الجليس الصالح

    أو:

    الحمد لله لمَّا يأتني أجلي
    حتى لبست من الإسلام سربالا
  • خصاله: جواد، شجاع، فاتك، ورث الجود عن أبيه الملقب بربيعة المعترين، والشجاعة والفتك عن قبيلته، فعمه ملاعب الأسنة، فارس مضر.

    عاش بعد فتح العراق في الكوفة عيشة وداعة وكرم، ينفق ماله على الضعفاء الجياع، حتى كان والي الكوفة يسأل الناس أن يعينوه على مروءته، وقد أرسل إليه كما يروى ١٠٠ ناقة بَكْرة؛ لأنه ألزم نفسه في الجاهلية «ألَّا تهبَّ الصَّبا إلا أطعم.» وبقي على ذلك في الإسلام.

  • أغراض شعره: لم يقل الشعر إلا كما قاله الشعراء الفرسان، فلم يتكسب به. قاله بالفخر والفتوة والنجدة والكرم وإيواء الجار وعزة القبيل. في شعره الحكمة والموعظة.
    في رثائه التعزية والحكمة، وهو أحد الرثَّائين الثلاثة: المهلهل والخنساء، ويزيدهما بما يمزج به رثاءه من الحكم.
    • ديباجته: جزل الألفاظ، فخم العبارة، دقيق المعنى، لا لغو ولا حشو، لا غرابة لفظ ولا تعقيد معنى.

معلقته

  • أغراضها: ذكر الديار، وصف الناقة، وصف نفسه لاهيًا متغزلًا، جوادًا في السلم، باسلًا مخاطرًا في الحرب.

    الافتخار بنفسه وقومه ووصفهم بخير الخلال الجاهلية التي يتعشَّقها العرب، وهي تمثل الحياة ومطمح أصحابها.

  • ديباجتها: متينة لفظًا وأسلوبًا، صلابة وفخامة، حتى في أسهل أبياتها. تشابيهها لطيفة ممتعة؛ وخصوصًا عندما يصف ناقته، وهو في كل هذا لم يعمد إلى الكذب والغلو.

    والخلاصة أنه شاعر قوي يستمد قوته من صدقه وإخلاصه وإيمانه الشديد بالمثل العليا الأخلاقية البدوية التي يسمو إليها.

  • عيب: في معلقته هفوة نحوية في هذا البيت:
    تراك أمكنة إذا لم أرضها
    أو يرتبطْ بعض النفوس حمامها

    فلا داعي هنا لجزم يرتبط.

(٢-٥) عمرو بن كلثوم

  • حياته: هو أبو الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك التغلبي، زعيم تغلب وفارسها وشاعرها.

    أمه بنت مهلهل أخي كليب. نشأ بالجزيرة الفراتية شاعرًا خطيبًا. قاد قبيلته في «أيامٍ» جمَّة كان الظفر حليفه في معظمها.

    أما أيام تغلب فكانت مع أختها قبيلة بكر، إلى أن كان الصلح على يد عمرو بن هند آخر ملوك الحيرة من آل المنذر.

    يقولون إنه بعد الصلح بقليل اجتمع وجوه تغلب وبكر في مجلس عمرو بن هند وتلاحوا حتى التشاتم، وإذ ذاك أنشد الحارث بن حلزة معلقته: «آذنتنا ببينها أسماء».

    وبعد إنشادها خرج عمرو بن كلثوم غاضبًا من مجلس عمرو بن هند؛ لأنه رأى ميله مع البكريين.

  • شخصيته: أبيُّ النفس، عظيم الهوس والنخوة، جريء النفس عزيزها، لا يهاب إنسانًا ولو ملكًا، لا تستطيع أن تفصل شخصيته عن قبيلته في شعره.
  • شعره: حسن اللفظ، منسجم العبارة، واضح المعنى، رشيق الأسلوب، حافل بفخر لا يضاهى، نبيل القصد والمرمى، يقول شعره لحاجة في نفسه.

معلقته

  • أغراضها: غزلية خمرية، قصصية؛ أي إنه يصف حادثته مع عمرو بن هند عندما حاول استخدام أمه، حماسية فخرية بالنفس والقوم، فيها شيء من ملامح الملاحم.
  • ديباجتها: كما جاء في وصف شعره، لا غرابة فيها، اتفاق تام بين أغراضها وألفاظها ومعانيها، رنانة طنانة.

محاسنها

  • (١)

    نفس شعري متصل من المطلع حتى ختامها الجميل.

  • (٢)

    مملوءة عاطفة وشاعرية.

  • (٣)

    شعرها سليقي فطري لا تكلف فيه.

  • (٤)

    حافلة بالطلاوة والرونق والمتانة إلى جانب الحمية والزهو والحماسة.

  • (٥)

    جاء فيها على موضوعات شتى جمعها في موضوع واحد وهو هذه القصيدة.

  • (٦)

    فيها محسنات الشعر اللفظية كالتشابيه والاستعارات المطابقة للواقع.

  • (٧)

    إفناء شخصيته في شخصية قبيلته، فكأن القصيدة قبيلة تتكلم لا سيدها وزعيمها. وهذا يدلنا على زعامته الحقيقية في رهطه، فكأنه يعتبر قبيلته شخصيته نفسها.

  • (٨)

    إننا نسميها بحق «أنشودة الشباب»؛ لانطباقها على ميوله وأهوائه.

عيوبها

  • (١)

    ترديد بعض الأفكار ومراجعتها.

  • (٢)

    تنسيقها غير واضح.

  • (٣)

    ضعف الارتباط ما بين أغراضها.

  • (٤)

    غلو زائد، على غير ما ألفناه من شعراء الجاهلية، إنما يصيِّره مقبولًا حسن الابتكار، وتوطِّئ له الحماسة.

  • مدرسة أخرى: المهلهل وامرؤ القيس وعمرو بن كلثوم مدرسة واحدة، منشؤها المهلهل ولم يخرج عن منهاجها عمرو بن كلثوم، وإن اختلف عنها امرؤ القيس في معلقته كما خرج المهلهل «بالداهية» التي عدها صاحب جمهرة العرب من المنتقيات.

    وللوراثة عملها في هذه المدرسة، فهؤلاء الشعراء من سلالة واحدة.

(٢-٦) الحارث بن حلزة

  • نسبه: الحارث بن حلِّزة اليشكري، البكري، كان من اليشكريين كابن كلثوم من التغلبيين.

معلقته

قيلت في مجلس عمرو بن هند كما تقدم. يقولون إنه قالها ارتجالًا — ولا أظن ذلك — دفاعًا عن قومه.
  • أغراضها: تغزُّل، وصف الناقة، مدح الملك عمرو بن هند، الفخر بقومه، وذكْر كثير من أيام العرب، تعييب بني تغلب.
  • ديباجتها: مُحكَمة النسج، متينة السبك، وجيزة الوصف، رشيقة العبارة، بليغة — أي إنها تجمع معاني كثيرة في قليل من الألفاظ — كثيرة الغريب، عديدة الفنون، شديدة الارتباط.

محاسنها

  • (١)

    التحام شديد وبراهين تدريجية قاطعة لإثبات القضية بجلاء.

  • (٢)

    تهكم ذو أسلوب خاص في تعييب التغلبيين، وإلقاء التبعة على التاريخ.

  • (٣)

    حجة قوية، دفاع بلا اندفاع.

  • (٤)

    مخاطبة الملك كما يود الملك، بخلاف عمرو بن كلثوم فإنه خاطبه كندٍّ له.

  • (٥)

    تبين مناصرة البكريين لعمرو بن هند، وخذل التغلبيين له.

أما «الخدم» التي بيَّنها الحارث فهي: (١) مساعدتهم إياه. (٢) تخليص امرئ القيس من السجن. (٣) وأخذهم بثأر أبيه من بني كندة. (٤) القرابة بين ابن هند والبكريين.

أما عيوبها فهي

  • (١)

    الإقواء «وهذا وارد في الشعر الجاهلي».

  • (٢)

    كان صاحبها خطيبًا أكثر منه شاعرًا، ولهذا قلنا إنها غير مرتجلة كما زعموا.

  • بين المعلقتين: الشعراء وخصوصًا الشباب، يفضلون معلقة ابن كلثوم لحماستها ورنتها وسهولة فهمها وقوة نفسها الشعري، واستيفاء كل معاني الموضوع بلا ضجر ولا ملل.

    أما الخطباء، فيفضلون معلقة الحارث بن حلزة على كل معلقات العرب لحججها وبراهينها القاطعة. وبكلمة نقول: إن الحارث أدهى من عمرو بن كلثوم، فاستطاع بمداورته أن يستميل الملك ويوقفه في صف قبيلته، فكان ما كان بينه وبين عمرو بن كلثوم «إن صدقت الرواية».

    ولا بد من كلمة أخرى بشأن معلقة الحارث، فهي أمتن وأرصن من أختها الكلثومية.

(٢-٧) عنترة

  • نسبه: عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، من الشعراء الفرسان، أحد أغربة الجاهلية؛ وهم: خفاف بن ندبة، وأبو عمر بن الحباب، وسليك بن السلكة. أبوه سيد عبسي، وأمُّه أمةٌ حبشية. نشأ عبدًا كعادة العرب في أبناء الإماء، وقد حررته شجاعته كما يروي لنا الرواة. كان بطل حرب داحس والغبراء، ومات بعد أن عمَّر طويلًا.

    في شعر عنترة إشارة إلى كل ما يرويه الرواة عنه، ولهذا يُشك في صحة نسبة كل هذا الشعر إليه، فهو يخبرنا في هذا الشعر عن عبوديته وعن فروسيته وعن سواده.

    إننا إلى الشك أميل في هذا الشعر، فهو موضوع مع القصة المعروفة باسم «عنترة»، والقصة من إنتاج أقلام القرن الرابع كما سنتكلم عن ذلك حين ندرس القصة في الأدب العربي.

  • شعره: سهل اللفظ بالنسبة للجاهليين، منسجم التركيب فخم، رنان الأسلوب، بعيد عن الكلام الوحشي، جليل الوصف، رقيق الغزل عفيفه، وقد قيل إن النبي قال: «ما ذكر لي شاعر وأحببت أن أراه إلا عنترة.» وهو يقصد بهذا القول أن عنترة عفيف القول وعفيف الفعل، لم ينزل عن المستوى العربي الرفيع وهو القائل:
    وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
    حتى يواري جارتي مأواها

معلقة عنترة

  • موضوعها: (١) ذكر الديار والأحباب. (٢) الغزل. (٣) وصف ناقته وجواده. (٤) وصف شربه الخمر. (٥) فخره بنفسه وسيفه. (٦) اعتزازه بهما. (٧) وصف النزال والطعن وتقتيل الفرسان. (٨) عزته بقومه. (٩) شتم شاتميه.
  • الكبت: كان مُعينًا لعنترة على قول الشعر؛ لأن العاطفة متى اتقدت يسهل قول الشعر على الشاعر ويدخل قلوب سامعيه، بعكس الشاعر الذي لا يحسُّ شيئًا فإنه لا يوفق مهما كان مجيدًا.
  • مركب النقص: «كل ذي عاهة جبار.» هذا ما قالته العرب قبل الوصول إلى معرفة العقل الباطن في علم النفس، فكل فراغ عند الإنسان لا بد له من إملاء. فعندما يحس الرجل أنه ينقصه شيء، يسعى إلى الحصول عليه من جهة أخرى.
  • أسلوب عنترة: هو أقرب الشعراء الجاهليين إلينا، فلسفته سهلة وعبارته هينة ومعانيه سامية، فهو لم يلهِ نفسه بالسفاسف، وما عالج إلَّا كلَّ موضوع أخلاقي، فوصف نفسه بأنه متنزه عن كل هذه الأشياء، وقد عمل بما قال، كل ذلك بصورة لطيفة ذات تشابيه واستعارات من حياة راقية، لا كما رأينا عند امرئ القيس مثلًا حين راح يشبه أصابع عنيزة بالديدان.

    لا أثر للكلفة والتعمد في قصيدة عنترة، وقد خصَّصنا هذه القصيدة للبحث لأنها جامعة للصورة العنترية، ولا عيب فيها إلا الانتقال من غائب إلى مخاطب ولكن بصورة مستحبة، وهي لا تخلو من ألفاظ وإن كانت كريهة وقبيحة الوقع في السمع لكنها مفهومة. ينتقل سريعًا من موضوع إلى آخر، فتبدو قصيدته كأنها مفككة، وقد استعمل هذا العبد ألفاظًا جميلة مثل «دار لآنسةٍ» و«حامي الحقيقة» … إلخ.

  • فخره: كان عنترة يفخر بنفسه ولا يخرج في شعره عن وصف ذاته، وسبب ذلك مركب النقص والكبت، فإذا فتشنا عن شاعر عربي مغرم بذاته «نرجسي» لم نجد له مثيلًا، ففخره يتناول جميع ما تفخر به العرب من شجاعة وجود وفروسية ودفاع عن الحوض. وهو في هذا يختلف عن شعراء الفخر؛ كالشريف الرضي الذي يفتخر أكثر ما يفتخر بنبل أصله وشرف جدوده، بينما عنترة والمتنبي لا يفتخران إلا بشخصهما؛ كقول المتنبي مثلًا:
    ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
    وبجدِّي سموت لا بجدودي
  • تأثير سواده: كان عنترة في جهد جهيد من سواده وهو لا يعرف كيف يتخلص من نكبته، فإذا بإحساسه يجعله يشعر بأن هذا السواد لا بد له من ماحٍ، فلجأ إلى الصور الشعرية التي لم يوفق إليها أسود غيره؛ قال:
    يعيبون لوني بالسواد جهالة
    ولولا سواد الليل ما طلع الفجر
    تعيرني العدى بسواد جلدي
    وبيض فعائلي تمحو السواد

    والمتنبي يلتقي مع عنترة عند كافور فيقول له: «أبا المسك!»

    تفضح الشمس متى تطلع الشمس
    بشمس منيرة سوداء

    كما شبَّه الملوك بكتيبة من الخيل تتسابق في الميدان وكافور هو المجلِّي «الأول»: سوابق خيل يهتدين بأدهم.

  • شعره الملحمي: نلتقي مع هوميروس بقصة عنترة عندنا، وسيأتي الكلام على هوميروس، ونرى أن قصة الإلياذة شديدة الشبه بقصة عنترة. والناس مختلفون حول عنترة؛ فمنهم من ينكر وجوده كما أنكر بعضهم وجود هوميروس. وسيان عندنا أَوُجِد عنترة أم لم يوجد، فنحن ننظر إلى هذا الشخص الذي تعجبنا أخلاقه وفروسيته فنحبه ونعجب به.

    وأخيرًا أقول في هذا البطل: سيان عندنا أكان هجينًا، أم كان غرابًا، مشقوق الشفة. وماذا تهمنا أمه، فلتكن زبيبة، أو زيتونة، أو تفاحة، المهم خلق الرجل وشجاعته، وهذان لا يشك بهما أحد. وإذا لم يكن قد وُجد، فالفضل للذي أوجده. ولا بأس علينا إذا كرمناه كما نكرم الجندي المجهول. هبْ أنه شخص روائي مثل شخوص سرفنتس وموليير والجاحظ، أفما صار هؤلاء كالأشخاص الأكابر الذين عاشوا على وجه الأرض؟ فلينعم عنترة بالًا.

(٣) أنواع الشعر الأخرى

(٣-١) الرثاء

هو عندي أصدق أغراض الشعر إذا قيل عن عاطفة، كما كان يقوله المهلهل، وامرؤ القيس، ولبيد، والخنساء، وكما قالته جليلة. وأرى أبعده عن الشعر ما كان من هذا الرثاء الاصطناعي.

إن الرثاء الاصطناعي لأشبه بقول النوادب في المآتم، يرددون أقوالًا لا يشعرون بما فيها من التأثير والعاطفة.

لم يقل شعراء العرب في الجاهلية الرثاء إلا في إخوانهم وأبنائهم وأحبابهم، فجاء مؤثرًا واتصل بالقلب لأنه صادر من القلب.

يقولون إن الرثاء هو مدح الميت، وهذا بعيد عن الحقيقة، فليس الرثاء من المديح في شيء إذا كان عاطفيًّا، أما إذا كان صناعيًّا موضوعيًّا، فهو المديح المزيف.

أمامك رثاء الشعراء الجاهليين الذين قالوه في ذويهم وآلهم؛ كرثاء جرير في زوجته، ورثاء ابن الرومي في بنيه.

اقرأ قصيدة «وا كبدا قد تقطعت كبدي» ترَ العاطفة متدفقة. اقرأ قصيدة «حكم المنية في البرية جارٍ» على برودة عاطفتها ومحاولة الموعظة فيها، والاعتماد على الصناعة الشعرية.

قابل كل هذا الرثاء بغيره من الذي يقال للقيام بالواجب تدرك الفرق.

إن هذا الشعر الذي نطلق عليه في الأدب العربي اسم الرثاء، لهو شعر الصنعة والكلفة، يقوله كثير من الشعراء حتى يقال إنهم نظموا في كل أغراض الشعر، وهكذا تتحول الحفلة التأبينية مباراة شعرية.

الخنساء

  • نسبها: هي تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية، لقبها الخنساء، وهي مؤنث الأخنث من صفات الظباء، وهو تأخر الأنف وارتفاع أرنبته. ودعيت خناس اختزالًا للتحبب، وهذا كثير حتى في اللغة العامية.

    كانت جميلة الصورة، خطبها كثير من أجواد العرب فلم تتزوج إلا في قومها. رزقت أولادًا أربعة ماتوا في وقعة القادسية جملةً، أما هي فماتت في خلافة معاوية في البادية.

  • رثاؤها: وهذا ما اشتهرت فيه من ضروب الشعر. قالت معظمه وأجوده في صخر أخيها لأبيها، ثم في شقيقها معاوية، وكلاهما قتلا.

    قُتل معاوية أولًا في يوم الحوزة الأول، وسبب قتله خلاف نشأ في سوق عكاظ بينه وبين هاشم بن حرملة المرِّي الغطفاني.

    أما صخر، فجُرح في يوم كلاب مطالبًا بثأر أخيه، ومات متأثرًا من جراحه.

    إن موت أخوي الخنساء؛ وخصوصًا صخرًا، أفاض شعورها وأسال قريحتها كينبوع غزير، تدفق حين انبثق.

    ومعظم رثائها قالته في أخيها صخر؛ لأنه كان يحبها حبًّا جمًّا، ويعطف عليها أشد العطف، حتى قسم ثروته بينها وبينه مرارًا.

شعرها

  • أغراضه: الرثاء وما يدخل فيه من محامد وفخر.

    هي أشعر النساء من حيث المطولات والإكثار من الشعر، والقدماء مجمعون على أنها أشعر النساء في الرثاء.

  • ديباجته: متين التركيب، لين الألفاظ، رقيق التعبير، سهل الفهم، شديد الوقع في النفوس لأنه شعر العاطفة.
  • في عكاظ: يقولون إنها أنشدت النابغة في عكاظ، ويقولون إن قصيدتها كانت في رثاء أخيها صخر، وإنها «قذًى بعينك أم بالعين عوار».

    ثم يخبروننا عن غضب حسان بن ثابت عندما سمع النابغة يقول لها: كنتُ فضَّلتك على شعراء الموسم، لو لم ينشدني أبو بصير؛ أي الأعشى.

    ثم مساجلتها مع حسان بن ثابت، ونقدها شعره «لنا الجفنات الغر … إلخ» إلى آخر ما هنالك من القصة.

    لا ريب أن هذه القصة من تلفيق الرواة، نأتي لدحضها بدليل واحد نظن أنه كافٍ، وهو: أننا نسأل هل كانت القواعد؛ وخصوصًا قاعدة «الجموع» من حيث القلة والكثرة معروفة كما هي مدونة بالكتب النحوية اليوم؟

  • الجواب: لا؛ لأن أصول النحو وُضعت بعد عكاظ بكثير.

    أما قصيدتها «قذًى بعينك أم بالعين عوار» فإنني أرى فيها صنعة ظاهرة وتكلفًا باديًا، وما سياقها وضخامتها باللذين عرفناهما في شعر شاعرتنا. فقصيدتها هذه أقرب إلى المدح منها إلى الرثاء والتفجع اللذين نلمسهما في شعر الخنساء. وهي هنا على خلاف عادتها تترك الموضوع ثم تعود إليه، كأصحابنا شعراء عكاظ.

    اسمع يا أخي الخنساء تقول:

    يؤرقني التذكر حين أمسي … إلخ

    إلى أن تقول:

    يذكرني طلوع الشمس صخرًا
    وأذكره لكل غروب شمس
    ولولا كثرة الباكين حولي
    على إخوانهم لقتلت نفسي
    وما يبكين مثل أخي ولكن
    أعزِّي النفس عنه بالتأسي
    فلا والله لا أنساك حتى
    أفارق مهجتي ويشق رمسي
    فقد ودعت يوم فراق صخر
    أبي حسان، لذاتي وأنسي
    فيا لهفي عليه ولهف نفسي
    أيصبح في الضريح وفيه يمسي!

    فيا لها من عاطفة تتجلى فيها الأخوة الصادقة بكل قوتها وإخلاصها، وما أشد هذا التفجع وما أعظم تأثيره في النفس!

    لا أدري إذا كنت تتمثلها معي كما أتمثلها أنا حين تهتف: فيا لهفي عليه … إلخ.

    أفلا ترى معي أن كل العاطفة الإنسانية والمحبة البشرية متمثلة مجسمة بهذا الإصباح والإمساء.

    أما قصيدة «قذى بعينك … إلخ» التي قالوا إن النابغة حاول تفضيلها فيها فهذا هو رأيي فيها: ألفاظها ضخمة غريبة لا تتفق وعاطفة الرثاء. أما عيوبها فهي قولها: ترتع ما رتعت … إلخ. فهذا لم نرَه في شعر الخنساء. ثم قولها: لم ترأه جارة … إلخ. وقولها أيضًا: تبكي لصخر هي العبرى … إلخ. وقولها: مورث المجد ميمون نقيبته.

    وبكلمة مختصرة أقول: إنني وجدت هذه القصيدة أكثر قصائد الشاعرة كلفة. ولا عجب، فكذلك كانت البضاعة التي تصدَّر وتُعرض في سوق عكاظ.

أمية بن أبي الصلت

الثقفي، شاعر شهير. وإذا قالوا في ابن الرومي إنه شاعر يغني في غير سربه، فأمية هو ذاك الطائر الغريب حقًّا. لبس أمية المسح واطلع على كتب النصارى وشكَّ في الأوثان وحرَّم الخمر، وهو القائل:

كل دينٍ يوم القيامة عند
الله إلا دين الحنيفة زور

ومن غرائبه تسمية الله بالتغرور وتسمية السماء صاقورة وحاقورة. وأمعن في الإغراب فجعل للقمر غلافًا سماه الساهور. وإغرابه هذا حمل الرواة على الإغراب في حوادث حياته. فراجعها في كتاب الأغاني إذا شئت.

وكان أمية يظن أنه سيكون نبي العرب، فلما خاب ظنه، أخذ يحرض مقاومي النبي على قتاله.

أما شعره فغريب اللون في تفكيره وتعبيره، وسترى شيئًا منه في النصوص المختارة.

الأعشى

  • حياته: أبو بصير ميمون بن قيس البكري. ولقبه الأعشى الأكبر.

    ولد باليمامة، وعاش متشردًا ماجنًا؛ أي بوهيميًّا بلغة هذا الزمان. أدمن شرب الخمر وقامر فافتقر وراح يسعى وراء المال، فرحل إلى جميع البلاد العربية طارقًا أبواب الملوك والأمراء طالبًا عطاءهم.

  • حكاية: كان للمحلق الكلابي عدة بنات لم يخطبهن أحد، فأكرم الأعشى فقال فيه قصيدته المشهورة: أرقت … إلخ. وما أنشدها في سوق عكاظ حتى نفقت بناته جميعهن.
  • التشخيص: كان الأعشى موهوبًا ملكة القصص وتشخيص ما لا يعقل، ومن هذا قوله في مدح النبي مخاطبًا ناقته:
    متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
    تراحي وتلقي من فواضله يدا
  • شاعر الخمرة: كان الأعشى رائدًا للأخطل وأبي نواس، فوصف الخمرة مشخصًا لها، ووصف النديم والساقي والقنينة، ورسم صورة السكارى، وأدخل في وصف السكارى الحوار مع بياع الخمرة وساقيها.
  • فن الأعشى: سموه صنَّاجة العرب؛ لموسيقاه التي يقوم عليها أساس فنه الشعري، وشعره سهل منسجم جلي ذو رنة عجيبة مقرونة بمتانة وشدة؛ ولذلك تناقل الناس شعره وطارت شهرته وكسب كثيرًا.

    كان يتغزل ويمدح، ويقول خمرياته بمناسبة المدح، أما أسلوبه في مدحه فهو عادة الأسلوب القديم والخطة القديمة للقصيدة. امتاز بالقص الحسن الحوار إلى أبعد حد، وحسبنا منه نظمه حكاية امرئ القيس والسموأل وابنه.

  • آثاره: ديوان كبير فيه جميع أغراض الشعر، وإن كان أكثره في المديح بضاعة ذلك الزمان التي كانت تطعم خبزًا. وأشهر قصائده اللاميتان؛ الأولى: ودِّع هريرة، وهي معلقة عند الذين يعدون أصحاب المعلقات عشرة، وقد ترجمت إلى الألمانية والفرنسية والفارسية، وموضوعها غزل ووصف الخمرة واللهو ووصف السفر والعارض والبرق، وأخيرًا تهديد ابن عمه يزيد.
  • منزلته: له مقام رفيع عند من ينظرون إلى الفن، ولهذا عدُّوه من أصحاب المعلقات. وهو شاعر خمرة عند هؤلاء لا يجارى، كما أنه شاعر قصصي من الطراز الأول. وهاكَ واحدة من أروع ما قال:

    حكاية السموأل

    كن كالسموأل إذ طاف الهمام به
    في جحفل كسواد الليل جرَّارِ
    بالأبلق الفرد من تيماء منزله
    حصن حصين وجارٌ غير غدَّارِ
    إذ سامه خطتي خسفٍ فقال له
    مهما تقلهُ فإني سامعٌ حارِ
    فقال: ثكلٌ وغدرٌ أنت بينهما
    فاخترْ فما فيهما حظٌّ لمختارِ
    فشكَّ غيرَ طويلٍ ثم قال له:
    اقتل أسيرك إني مانعٌ جاري
    أنا لهُ خلفٌ إن كنتَ قاتله
    وإن قتلتَ كريمًا غير خوَّار
    وسوف يُعقبهُ إن كنتَ قاتله
    ربٌ كريمٌ وقومٌ وُلْدُ أحرار
    فقال محتدمًا إذ قام يقتله:
    أشرفْ سموألُ، فانظر للدم الجاري
    أأقتل ابنك صبرًا، أو تجيء بها
    طوعًا، فأنكر هذا أيَّ إنكارِ
    فشدَّ أوداجه والصدر في مضضٍ
    عليه منطويًا كالدرع بالنارِ
    واختار أدرَعه كيلا يسبَّ بها
    ولم يكن عهده فيها بختَّارِ
    وقال لا نشتري عارًا بمكرمة
    واختار مكرمة الدنيا على العارِ
    فصان بالصبر عِرضًا لم يشنه خنًا
    وزنده في الوفاء الثاقبُ الواري

(٣-٢) الهجاء

الهجاء وليد المدح والفخر، فقد كان العرب في أول عهدهم يمدحون ويفخرون. ومن يمتدح نفسه ويفخر بقومه لا بد أن يتعرض لذم من يفتخر عليه، وهكذا انبثق هذا النوع من الشعر.

لم يكن شعراء العرب في الجاهلية يتوخون الهجو فيقولونه محضًا؛ أي إنهم لم يفردوا له بابًا خاصًّا.

كان الشعراء في بادئ عهدهم يتكسبون بالمدح حتى ملَّ الناس من هذا المدح ورغبوا عنه، فقلَّت الجوائز والصلات. قد يهمل الممدوح الشاعر وقد لا يكترث له، وقد ينتظر على باب الأمراء مدة. وهذا ما حدث للحطيئة مع الزبرقان، فإنه أهمله ولم يكن شديد الاهتمام به، حتى جاء آل شماس واستمالوه إليهم فهجا الزبرقان.

ويشبه هذا ما أصاب المتنبي مع كافور، فإنه ملَّ إهمال كافور ووعوده ففرَّ من عنده وهجاه ذاك الهجو الخالد.

إذا ضاق صدر الشاعر يهجو ويذم، وقد يكون الهجاء بابًا للرزق، كما كان يفعل بشار بن برد. وكيف كان الأمر فالشعراء لَجئوا إلى هذه الوسيلة اكتسابًا للرزق أولًا، ثم قال الشعر بعدئذٍ بعضهم لغرض سياسي يسعون لتأييده في حزب من الأحزاب، كما سترى هذا في بحثنا الشعر السياسي.
  • الهجاءون: أما الشعراء الهجاءون في الجاهلية فليسوا بكثيرين. نذكر منهم أوس بن حجر، وزهيرًا، والحطيئة الشاعر المخضرم الذي اشتهر بالهجاء في هذا العصر.

الحطيئة

  • حياته: هو أبو مُلَيكة جَرْوَل، الحطيئة العبسي، ولد مغموز النسب في بيت رجل عبسي، ولكن نسبه لعبس لم يثبت صريحًا، وهذا ما دعاه إلى هجو أمه وأبيه، وهذا أيضًا سهَّل له الانتماء إلى قبيلة إذا غضب من أخرى.

    كان العرب يحرصون على النسب ويفخرون به، فجاء الحطيئة لا نسب له فغضب على الإنسانية جمعاء، ولم يسلم من هجوه أحد — كما يقولون — حتى نفسه.

  • شخصيته: كان قبيح المنظر، رثَّ الهيئة، مغموز النسب، فاسد الدين، بخيلًا، قليل الخير، كثير الشر، دنيء النفس جشعًا، يلحف في السؤال، يتهدد الناس بهجوه ليبتزَّ أموالهم ويستدرَّ عطاياهم، شبِّهه إذا شئت ببعض الصحف التي تنال من كرامة الناس طمعًا بأموالهم.

    كان الحطيئة إذا قدم بلدًا تنادى أهلها لجمع الأعطيات له ليشتروا بها كرامتهم وأعراضهم. وما زال هذا شأنه حتى هجا الزبرقان بن بدر صاحب الرسول وعامل عمر بن الخطاب على الصدقات، فسجنه عمر وأخرجه من السجن بعد أن استعطفه. هدده عمر أن يقطع لسانه إن هجا أحدًا، ويقولون إن عمر اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، ولكن الحطيئة نكث عهده بعد موت عمر، وظل يهجو حتى مات في عهد معاوية سنة ٥٣.

  • وصيته: لا إخال وصية الحطيئة المشهورة إلا منتحلة، وأهم ما جاء فيها: جعلُ عبيده عبيد قنٍّ، وأكل أموال اليتامى، وإيصاء الفقراء بالسؤال والإلحاف … إلخ.

    ولكنها في كل حال تدل على أخلاقه أصدق دلالة.

  • دينه: كما تقدم الكلام عنه في أخلاقه؛ أي إنه رقيق الإسلام، ضعيف الإيمان، قليل الدين، أسلم وارتد بعد موت النبي، وفي ذلك يقول:
    أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
    فيا ويلتي ما بالُ دينِ أبي بكر
  • أخلاقه: يمثل الجاهلية أصدق تمثيل في الحرية والإباحة وقلة الدين.

    غلظة طبع وجفوة خلق وخشونة عيش.

    أطواره غريبة، يضحك منه الناس ويخشونه. جبان ساخط على الدين الجديد، ولا يجرؤ على إظهار سخطه لجبنه.

    تحاماه فريق من الناس خوفًا من لسانه، وأقبل عليه فريق آخر يستعين بهجائه على خصومه، كما وقع للزبرقان وأبناء عمه.

شعره

  • أغراضه: الهجاء، المدح، الفخر.
  • ديباجته: متين التعبير، رائق الأسلوب، لا غرابة ولا ركاكة فيه، ولا تعقيد، تأنق وتحكيك حتى سموه عبد الشعر، متأثر قليلًا بالدين الجديد لفظًا ومعنى.

    أما معانيه، فصورها حسية مادية كما قلنا عن أستاذه زهير.

  • هجاؤه: إذا ذكر الهجاء تبادر إلى الذهن اسم الحطيئة، ويظنون أنه شتَّام في هجوه، يتناول الأعراض بكلامه البذيء، في حين أن شعره بريء من ذلك.

    فشعره على شدته ولذعه لا فحش فيه ولا هجر، ينال الناس بهجوه من قبل منزلتهم الاجتماعية، ويعيِّرهم بما يكرهه العرب، وكثيرًا ما يكون هجاؤه دقيق المعنى خفيَّه، كما في قوله في هجاء الزبرقان:

    دع المكارم لا ترحل لبغيتها
    واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

    وقوله أيضًا في مدح أخصامه والتهكم عليهم:

    ما كان ذنبي أن فلَّت معاولكم
    من آل لأيٍ صفاةٌ أصلها راسِ

    وقد رووا له هجوًا بوالدته وأبيه ونفسه.

    راجع قصيدته السينية التي حُبس فيها، التي أولها:

    والله يا معشر لاموا امرءًا جنبًا
    في آل لأي بن شماسٍ بأكياس
  • مدحه: كان لا يبالغ في مدحه إلا بأخلاق العرب المحبوبة، وكثيرًا ما يتعرض لذكر الكرم والجود شأن كل مستعطٍ، وينزِّه ممدوحه عن المنِّ الذي يشين العطاء ويصيِّره ممقوتًا عند العرب.

    وخير ما قاله من المدح قصيدته الدالية التي مدح فيها آل شماس، كما أن خير ما قاله في المدح كان فيهم أيضًا.

    أما قصيدته الدالية فأذكر لك شيئًا منها وأترك لك التفتيش عن السينية ومطالعتها:

    ألا طرقتنا بعد ما هجعوا هندُ
    وقد سرن خمسًا واتلأبَّ بنا نجدُ
    ألا حبذا هند وأرضٌ بها هند
    وهند أتى من دونها النأي والبعدُ
    وهند أتى من دونها ذو غوارب
    يقمَّص بالبوصي معرورفٌ وردُ
    وإن التي نكَّبتها عن معاشر
    غضابٍ عليَّ أن صددت كما صدوا
    أتت آل شماس بن لأي وإنما
    أتاهم بها الأحلام والحسب العد
    فإن الشقي من تعادي صدورهم
    وذو الجد من لانوا إليه ومن ودوا
    يسوسون أحلامًا بعيدًا أناتها
    وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
    أقلُّوا عليهم لا أبًا لأبيكمُ
    من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
    أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
    وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
    وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها
    وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
    وإن غاب عن لأي بعيد كفتهم
    نواشئ لم تطرر شواربهم مرد
    مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجى
    بنى لهم آباؤهم وبنى الجد
    فمن مبلغ لأيًا بأن قد سعى لكم
    إلى السورة العليا أخ لكم جلد
    رأى مجد أقوام أُضيع فحثهم
    على مجدهم لما رأى أنه المجد
    وقد لامني أفناء سعد عليهم
    وما قلت إلا بالذي علمت سعد

    وخلاصة الكلام، أن الصور المادية تسيطر على كل شعره. فارجع إليه يتضح لك ذلك.

(٣-٣) السياسة والمديح

إننا نعلم أن العرب البدو كانوا قليلي التأثر بالدين قبل الإسلام، ومع ذلك نرى لليهودية والنصرانية تأثيرًا في الأدب العربي الجاهلي.

كان العرب في جاهليتهم — كما علمنا — قبائل متعددة متفرقة، كل قبيلة تركب رأسها وتتبع هواها، لا تتأثر إلا بالتقاليد التي توارثتها عن الأجداد وتناقلتها كابرًا عن كابر دون أن تفكر بتحويرها أو تنكب عن نهجها.

وكان يجاور هذه القبائل إمارتا الحيرة والشام، كما أن اليهودية والنصرانية احتلتا أماكن كثيرة في جزيرة العرب، فالمدينة كانت مستعمرة يهودية، بنى اليهود فيها قلاعهم وحصونهم. وقد تجاوزت اليهودية المدينة إلى اليمن حيث احتلتها وكان لها فيها شأن كبير.

أما النصرانية فقد انتشرت في مناذرة الحيرة وفي غساسنة الشام وسائر قبائله، وقد كان قساوسة النصارى ورهبانهم على جانب كبير من العلم والمعرفة، وخطيبهم المشهور أسقف نجران، قس بن ساعدة الإيادي، وعظ الناس وخطب فيهم كثيرًا، وذكَّرهم بالجنة والنار والبعث والحساب. وقد شهده النبي في سوق عكاظ يخطب الناس فيها على جمله.

ومتى وُجد الاحتكاك الديني وُجد التعصب، وعن هذا التعصب تنشأ الأغراض والأهواء والأحزاب، وهذا ما يعبرون عنه بالسياسة.

فأربعة أمور أوجدت السياسة في جزيرة العرب:
  • الأول: احتكاك الأديان.
  • الثاني: مخالطة الأمم المختلفة بالتجارة.
  • الثالث: سوق عكاظ التي كانت أشبه ببؤرة سياسية.
  • الرابع: نفوذ الفرس والرومان الذي يمثله الغساسنة والمناذرة.

لا إخالك تقول بعد هذا: وماذا يعني البدوي الضارب في صحرائه من السياسة! وإن قلت ذلك فاسمع: إن ما بيَّنتُهُ لك لسبب قوي لإنتاج شعراء عديدين سياسيين، يخوضون غمار السياسة.

فلا شك أن السياسة وُجدت في ذلك الزمان، ولو لم تكن موجودة فلماذا يترك امرؤ القيس وطنه طالبًا من ينصره على قوم قتلوا أباه وسلبوا ملكه؟!

أجل، لقد خاض امرؤ القيس الشاعر الحرب السياسية بسيفه وعدَّته كما خاضها بلسانه، لقد قال في قصيدته المشهورة بعد أن وصف لك المتاعب والمشقات التي قاساها:

ولو أنني أسعى لأدنى معيشة
كفاني — ولم أطلب — قليل من المالِ
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آلِ

ثم قوله في قصيدته الرائية:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبكِ عينك إنما
نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا

ثم ما قولك في قصيدة زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان، وهرم من أجواد العرب ومن كبرائهم؟!

أصلح هرم ذات البين بين عبس وذبيان بمؤازرة الحارث بن عوف، ودفعا ديات القتلى.

ومعلقة عمرو بن كلثوم أليست من الشعر السياسي أيضًا؟!

ولقد أرسلت النساء الشعر السياسي في الجاهلية كالرجال، وهذا ظاهر جلي في قصة ليلى العفيفة.

فليلى هذه كانت رائعة الجمال غزيرة الأدب، نزل بها أبوها قرية فارسية فسمع ملك الفرس بجمالها فاغتصبها من أبيها، ولكنه لم يتغلَّب عليها، بل ظلت تستثير العرب بشعرها وتحثهم على نجدتها وحفظ عرض العرب من العجم، وبسببها نشبت حرب ضروس قهر بها العرب العجم ورجعت ليلى إلى مأمنها.

وهناك أدلة كثيرة غير هذه لا حاجة إلى سردها، ولكنني قبل أن أختم هذه الكلمة في السياسة أذكِّرك بالمتلمس، فماذا فعل بعد أن ألقى صحيفته وهرب؟ ألم يجعل كل همه إثارة الناس على عمرو بن هند فكان يقول الشعر دائمًا في تأليب العرب عليه؟!

ولماذا غضب النعمان على النابغة؟ أليس لأنه مدح الغساسنة مناظريه السياسيين، ومنازعيه النفوذ في الجزيرة العربية؟!

أتظن أن كل سبب غضب النعمان عليه لأنه قال شعرًا في وصف المتجردة زوجة النعمان؟! فهذا الوصف لا يستوجب كل هذه الضغينة، فالأدب العاري كان هفوة لا جريمة في الجاهلية، بدليل ما نقرؤه من شعرهم …
  • المديح: كان الشعر في أول عهده وسيلة لإظهار كوامن الصدور وما تجيش به من عواطف. كان قوامه الوصف: وصف العاطفة، وصف الطبيعة، وصف المشقات والأسفار. وصف كل ما تقع عليه العين ويحس به القلب.

    ثم دنا من المدح قليلًا، عندما قيل في الافتخار بالنفس والاعتداد بها، ثم مدح عزة القبيلة ومنعتها والاعتزاز بها، حتى توصلوا أخيرًا إلى مدح الأفراد والأفذاذ، لا لدفع مغرم أو لجر مغنم، بل للاعتزاز بهم.

    ولما أصبح للعرب شبه ملك، من إمارات وغيرها، أصبح المدح شخصيًّا، يدفع إليه الغرض والميل حتى صار الشاعر لسان حال الأمير، والأمير يجيز الشاعر ويثيبه، فصار المدح المجرد من أبواب الشعر، فلجأ إليه كثيرون، ثم أصبح مورد رزق لهم يعولون عليه.

    وانتقل الشعر من مدح الأمراء إلى مدح الأفراد الذين لم يؤمَّروا، فقيل في مدح كل جوَّاد كريم يجزل العطاء أو يثيب.

    وإمام المداحين وزعيمهم النابغة الذبياني، بيد أنه لم يمدح إلا الملوك.

النابغة الذبياني

  • نسبه: هو أبو أمامة، زياد بن معاوية الذبياني. لقبه النابغة، وبهذا الاسم عُرف عند أهل الأدب ورجال التاريخ.
  • منزلته: من أشراف ذبيان، إلا أن تكسُّبه بالشعر غضَّ من منزلته، وإن لم يتكسب به إلا في مدح الملوك.
  • في قومه: كانت مكانة النابغة في قومه سامية جدًّا، له فيهم نفوذ كبير وتأثير عظيم، وهذه المنزلة العالية جعلت المناذرة والغساسنة يتنافسون في استرضائه ويتسابقون إلى استمالته شأنه في هذا شأن الأخطل في بني أمية.

    فالنابغة كان زعيم قومه النجديين يأمرهم بالحرب وينهاهم عنها، وقد كان في القبائل زعماء أيضًا يعارضونه ويناوئونه، فكان يدافع في شعره عن سياسته هذه تارة باللين وطورًا بالعنف.

    وفي شعره الذي قاله في هذا الباب دليل على ماجريات السياسة — داخلية وخارجية — في عرب نجد في آخر العصر الجاهلي.

  • عند الملوك: اتصل النابغة أولًا بملوك الحيرة ومدحهم، فأدناه النعمان بن المنذر ونادمه، ووصله بجوائز سنية إلى أن وشى به أحد بطانته، فهمَّ بقتله فهرب إلى الغساسنة ومدحهم. ولكنه ظل يحنُّ إلى النعمان، وما فتئ يعتذر إليه حتى استعطفه واستعاد منزلته عنده.
  • أسباب الغضب: يزعم الرواة أن سبب غضب النعمان سيفٌ كان عند النابغة أراده النعمان فوُشي به أنه ضنين به على الملك.

    وفي رواية أخرى وصفُهُ المتجردة كما تقدم الكلام. والسببان مدحوضان لا قيمة لهما، ولا يستوجبان هذا الغضب الشديد.

    فسبب الغضب هو كما تقدم؛ أي مدح النابغة للغساسنة منافسي النعمان، وهذه المنافسة ناشئة عن تنافس الفرس والروم في جزيرة العرب، والناس على دين ملوكهم.

    أقسام شعره: شعره ثلاثة أقسام:
    • الأول: قاله في ملوك الحيرة مادحًا ومعتذرًا.
    • الثاني: قاله في ملوك غسان مادحًا ومستعطفًا.
    • الثالث: قاله في شئون بدوية جاهلية تمس قبائل نجد، وما كان بينها من صلات حرب وسلم.
  • أغراض شعره: مدح، فخر، هجاء، رثاء، اعتذار.
  • ديباجته: هو أحسن شعراء العصر الجاهلي ديباجة لفظ، وجلاء معنى، ولطف اعتذار، لم يرسل شعره على السجية «كالقول» بل هو فنيٌّ يتوكأ على التشبيه والاستعارة والمجاز، بيد أن هذا التكلف لم يعبه.

    له صور شعرية جميلة. حبُّه الكسب جعله يتفنن في هذه الصور ويبتدعها. صوره مادية حسية، يشبعها درسًا وتلوينًا حتى تظهر ظهورًا تامًّا، كما هي الحال في صورة ذهاب الحارث الغساني إلى الغزو؛ أي الحرب.

  • أنت أشعر العرب: تقديمهم إياه في سوق عكاظ اعتراف له بالأسبقية؛ فقد كانت تُضرب له قبة من أدم فيقضي لشاعر على شاعر.

    وكثيرًا ما كان ينشده شاعر في غير هذه السوق فيقضي له فورًا بهذه الكلمة المأثورة: أنت يا ابن أخي أشعر العرب.

    وقد يكون سائرًا في الطريق فيستوقفه شاعر وينشده شيئًا، فيقول له كلمته المأثورة: أنت يا ابن أخي أشعر العرب (على الماشي).

    فاحكم أنت إذن «يا ابن أخي» على قيمة هذه الكلمة وتصوَّر ما شئت.

  • ملاحظة: من ينظر إلى شعر هذه الفترة، كشعر النابغة مثلًا، وخصوصًا شعر الحطيئة، يدرك أن الشعر العربي كان يسير بخطوات واسعة في آخر العصر الجاهلي نحو الرِّقَّة الحضرية.

عديُّ بن زيد

  • حياته: هو عديُّ بن زيد العبادي، تعلم الفارسية وصار ترجمان كسرى أبرويز ملك فارس، وكتب له بالعربية. فلما قُتل عمرو بن هند أشار عدي على ملك الفرس بتولية النعمان بن المنذر على العرب، فولاه. وخاف النعمان من عدي فسجنه ثم قتله، ولكن العين الساهرة اقتصَّت لعدي فأمات كسرى النعمان تحت أقدام الفيلة.
  • شعره: نظم الشعر، واقتبس حكايات من التوراة ونظمها شعرًا، مثل حكاية حواء والحية. فجاءت بين بين.

    وأشهر قصائده قالها في السجن ووجَّهها إلى النعمان قبل أن يقتله.

  • حكمته: مثل حكمة زهير مقتبسة من واقع الحياة واختبارها، وكلامه بسيط ساذج، ونظمه ركيك؛ لأن فارسيته أخذت من فصاحة عربيته، ولو كانت قصائده من طراز هذه الأبيات لكان شاعرًا معدودًا.

    قال في الخمرة:

    ودعوا بالصبوح يومًا فجاءت
    قينة في يمينها إبريقُ
    قدَّمتْهُ على عقارٍ كعين الدِّ
    يك صفَّى سُلافها الراووقُ
    مزَّة قبل مزجها فإذا ما
    مُزجت لذَّ طعمها من يذوقُ
    وطفا فوقها فقاقيع كاليا
    قُوت حمر يزينها التصفيقُ

(٣-٤) النثر – الأمثال

يعلل القدماء قلة النثر بأن الشعر أيسر حفظًا وأعلق بالأذهان لوزنه ورنته، ومع اعتبارنا لهذا التعليل نقول: إن الشعر يسبق النثر في جاهليات الأمم لأنه لغة العاطفة والخيال، والنثر الفني لغة العقل والتفكير، وقد كان العرب أميين في كثرتهم، والشعر يعيش مع الأمية. أما النثر الفني فلا يستطيع أن يعيش معها.

لا ننكر أن بعض أفراد العرب كانوا يكتبون في المعاملات في آخر عهد الجاهلية، ولكن الكتابة لم تكن منتشرة إلى حد يمكن من تدوين الشعر والنثر.

إن في النثر شعرًا، وفي الشعر نثرًا.

فهوميروس وشعراء إسرائيل وأصحاب المعلقات وخطباء العرب لم يكونوا شعراء ولا ناثرين في خطبهم وقصائدهم، بل كان همهم أن يؤثِّروا في سامعيهم، ولا فرق عندهم بين النثر والشعر.

ولم يكن العرب يفرقون بين النثر والشعر؛ ولذلك اعتقد فريق منهم زمنًا أن القرآن الكريم شعر، أو طريقة من الإنشاد الذي كانوا يسمعونه في منتدياتهم ويسمونه شعرًا، وأخذوا يحفظونه وينشدونه بدليل قوله — تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ.

وظلوا أيضًا بعد هذه الآية الكريمة يخلطون بين أبيات الحكم والأمثال الجاهلية والآيات القرآنية حتى عصر الأمويين، ولم يكن هذا عند الأعراب، بل تعداهم إلى الخطباء إذ ذاك، كما ذكر ابن عساكر والأغاني: أنهم كانوا يوردون الأبيات الحكمية والأمثال على المنابر في الجوامع ظانين أنها آيات منزلة.

وكذلك كان العرب لا يميزون بين سجع الكهان والعرَّافين والرجز — الذي صار بحرًا — بل كثيرًا ما استعملوا الكلمتين على الترادف، كما تدلنا خطب قس وغيره، فهي تبدأ بالسجع المنظم القريب الفواصل التي تتسع بعدئذٍ رويدًا رويدًا.

ومثلها خطبة أكثم بن صيفي، ففيها بعض أسطر ذات رنة موسيقية أتت عفوًا.

وكذلك بعض الأمثال، فإن بعضها شعري اللهجة وبعضها موزون، وفي القرآن بعض آيات موزونة.

أما النثر الفني فلم يكن موجودًا مستقلًا عن الشعر، بل كان نوعًا منه «للإنشاد».

(٣-٥) الخطابة

كان للعرب خطباء، دعت إليهم الحال الاجتماعية والسياسية، وكان لهم خطباء مشهورون نعرف أسماءهم وشيئًا لا يُذكر من أقوالهم.

لقد مهدتْ لتفشي الخطابة في العرب بلاغتُهم الفطرية وسرعة الخاطر، والاحتياج إليها للإقناع في الدفاع. وعدم انتشار الكتابة، وقلة المواصلات كانت تدفع الأمير العربي إلى أن ينتدب عنه رجلًا لسنًا للتفاهم على قضية. وقد كانت هذه السفارة في آخر الجاهلية لعمر بن الخطاب.

في أخلاق العربي عصبية شديدة التأثير، تدفعه إلى الاهتزاز بسرعة لإجابة مجيب أو رد عليه، وكانوا يتأثرون بموسيقى الألفاظ، وقوة ذاكرتهم تحملهم على الحفظ.

قد تكون خطابتهم غير فنية على طرق اليونان، ولكنها كانت موجودة.

غاية الخطابة

  • (١)

    المواعظ الدينية والأخلاقية والعِبَر.

  • (٢)

    المفاخرة والمنافرة «حديث السلم».

  • (٣)

    التحريض على أخذ الثأر.

  • (٤)

    الحض على الصلح بعد المعارك.

  • (٥)

    في عقد الزواج؛ لتبيين مكارم المخطوب إليه في قبيل المخطوب له.

  • (٦)

    التوصية بالمحامد والتبصر والتروي … إلخ.

  • سجع الكهان: هو كغيره من الإنشاء الجاهلي، ويزيده في تكلف السجع والغموض والتلميح.

    أشهر كهَّانهم سَطِيح، واسمه ربيعة، مات بعد مولد النبي، وشق أنمار كان كاهنًا في عهد كسرى.

    أما الخطب فامَّحى أكثرها ودرس ولم يحفظ لأنه وثني، ولم يبقَ منه إلا الذي له علاقة بالإله الواحد، ولا يمتُّ إلى الوثنية بنسب.

  • الأمثال: بعكس ذلك، فإنها بقيت؛ لأن لا علاقة لها بوثنيتهم، ولا سيما أن معظمها أصبح كالمفردات والعبارات التي يستعملها الإنسان، وهي تشبه الإنشاء الإنشادي.

    والأمثال: حقيقية وفرضية.

    فالحقيقية لها أصل معروف أو حادثة قيلت فيها.

    أما الفرضية، فهي تمثل لسان حيوان أو نبات أو جماد، ويكثر هذا النوع منها متى اشتد الضغط السياسي.

    أما الأمثال فنتيجة رويَّة شعب مدة أجيال، والأمثال موجودة عند كل الأمم، وكلها مستمدة من التجاريب ومظاهر الطبيعة والحوادث والطرق التي تتجدد كل يوم.

  • الحكمة: اشتهر العرب أكثر من سواهم بالحكمة، وفاقوا كل الشرقيين بها، بدليل قول التوراة في سفر الملوك ف٣: وفاقت حكمة سليمان جميع أهل المشرق؛ ويريد العرب.

    وللعرب اهتمام كبير بالأمثال والحكم لا نزال نلمس أثره حتى يومنا هذا في إنشاء كتابنا.

  • قيمة الأمثال: فالذي نستطيع درسه من النثر الجاهلي هو الأمثال.

    فللعرب في جاهليتهم أمثال شعبية كثيرة، وهي في صورة نثرية غير منظومة، وإذا لم نستطع أخذها مقياسًا للنثر في ذلك العصر لقصرها فعلى كل حال نرى فيها العقلية العربية والخلق العربي، وفيها نرى الجملة العربية القوية الظريفة التعبير، المصيبة المعنى، المتقنة التشبيه، الحسنة الإيجاز.

    لقد أجاد العرب في المثل، وهو يمثلهم أصدق تمثيل؛ لأنه — كما قلنا سابقًا — ينبع من كل طبقة فيهم، بخلاف الشعر الذي لا يمثل الشعب كله؛ لأن الشعراء عادة يكونون أرقى من العامة.

    ولكن الأمثال الجاهلية اختلطت بالأمثال الإسلامية حتى صعب التمييز بينهما، إلا إذا كان المثل قيل في حادثة تاريخية أو عُرِف قائله.

    إذن على الذين يرغبون فهم النثر الجاهلي ومكانته العالية وجماله الفني فليطلبوه من «الحديث الشريف» وخطب الخلفاء والأمراء في صدر الإسلام حتى آخر العصر الأموي، وأخيرًا في عصر بني العباس حين أصبح صناعة فنية.

  • جمع الأمثال: عني العرب بها كثيرًا فجمعوها، وأول جامع لها: عبيد بن شرية، وحماد العبدي في عهد معاوية، ثم الضبي في أول الدولة العباسية، ثم أبو عبيد القاسم، والأصمعي، وأبو زيد القرشي، وهشام الكلبي، وابن الأعرابي، وابن قتيبة، والعسكري، والميداني، وهذا جمع ٦٠٠٠ مثل ليست كلها من أصل عربي.
  • مميزات هذا النثر: لهذا النثر القليل مميزاتٌ وإن كان قليلًا جدًّا لا يصلح للحكم عليه:
    • (١) قلة التأنق في الألفاظ.
    • (٢) بعدهم عن المترادف والمتوارد.
    • (٣) لا تكلف في صوغ العبارة والأساليب.
    • (٤) قِصَر الجمل أو توسطها، ويلتزمون ذلك في الحِكم والأمثال والوصايا.
    • (٥) إيجاز من غير إخلال بالمعنى.
    • (٦) استعمال الكناية القريبة المثال، والابتعاد عن التصريح بما يستهجن.
    • (٧) قلة التعمق في المعاني والأفكار.

(٣-٦) الرواية والرواة

ما وصل إلينا من كلام العرب شعر ونثر مرويٌّ عن أهل البدو الأميين، ورواته أميون أيضًا؛ ولذلك ضاع كثير من الأدب الجاهلي، ولم يصل إلينا إلا ما بقي على ألسن الرواة، حتى كان الخط والتدوين.

وما الرواة إلا الشعراء والمتأدبون وأرباب الأحساب والمجد، فهؤلاء يتفانون في حفظ مفاخر الأمم في كل عصر.

لقد كان امرؤ القيس راوية أبي دؤاد الإيادي، وزهير راوية أوس بن حجر، والأعشى راوية المسيب بن علس … إلخ.

واشتهر من قريش أربعة بأنهم من رواة الأشعار وعلماء بالأنساب، وهم: مخرمة بن نوفل، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزَّى، وعقيل بن أبي طالب.

(٣-٧) الخط العربي

عرف العرب الكتابة من النصارى واليهود، وقد كانت بالخط المسند في اليمن، وهو منفصل الحروف يشبه الخط الحبشي. أما في الشمال فكانت بالخط النبطي، وله علاقة بالخط الآرامي؛ أي «الأسطرنجيلي» ويسمونه الجزم، وهذا تحول بعدئذٍ إلى الكوفي.

والكتابة وصلت إلى الحجاز من بين النهرين بواسطة السوريين.

قال ابن عبد ربه في العقد الفريد:

حكوا أن ثلاثة من طيء اجتمعوا ببقعة، وهم: مرار بن مرة، وأسلم بن سدرة، وغامر بن جدرة، فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية فتعلمه قوم من الأنبار، وجاء الإسلام وليس أحد يكتب العربية غير بضعة عشر إنسانًا.

وفي رواية أن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران، والكوفي من العراق، وعندما جاء الإسلام فرض على الأسرى أن يفتدوا أنفسهم بتعليم الكتابة لعشرة من صبيان المسلمين إذا عجزوا عن دفع الفدية. وكذلك فعل المأمون فيما بعد، فجعل إخراج الكتب ونسخها شرطًا من شروط الصلح، فنزل الملوك المغلوبون عند هذا الطلب.

أما تحسُّن الخط وترقِّيه إلى ما وصل إليه، وما دخل عليه من حركات وضوابط وأناقة، فهنا ليس محل الكلام عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤