الصَّيَّادُ وَالْعَنْكَبَةُ

(١) نَشْأَةُ «مَرْمَرٍ»

نَشَأَ الْفَتَى الْإِفْرِيقِيُّ «مَرْمَرٌ» نَشْأَةً رِيَاضِيَّةً صَحِيحَةً؛ فَكَانَ مُنْذُ طُفُولَتِهِ مَشْغُوفًا بِتَمْرِينِ أَعْضَائِهِ عَلَى الْحَرَكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَظَلَّ يُزَاوِلُهَا بِنَشَاطٍ وَإِقْبَالٍ. وَقَدْ أَتْقَنَ — بِطُولِ التَّمْرِينِ وَالْمُمَارَسَةِ — كُلَّ فُنُونِ الْقَفْزِ وَالْوَثْبِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِلرِّيَاضِيِّ الْمَاهِرِ؛ فَكَانَ فِيهَا فَتَى الْفِتْيَانِ!..

وَقَدْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مَيْلًا إِلَى اسْتِغْلَالِ مَهَارَتِهِ الرِّيَّاضِيَّةِ فِي اصْطِيَادِ الْحَيَوَانَاتِ وَاقْتِنَاصِهَا، عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا.

وَكَانَ «مَرْمَرٌ» الصَّيَّادُ مِثَالَ الشَّجَاعَةِ وَالْجُرْأَةِ وَالْإِقْدَامِ، مُوْلَعًا بِالصَّيْدِ وَالْقَنْصِ فِي أَوْقَاتِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ.

وَلَمْ يَكُنْ يُخْطِئُهُ الْفَوْزُ وَالنَّصْرُ، وَلَا يُفْلِتُ مِنْ رُمْحِهِ الْقَصِيرِ حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ أَوْ بَحْرِيٌّ، كُلَّمَا سَدَّدَهُ إِلَيْهِ.

وَكَانَ يَقْضِي أَكْثَرَ أَوْقَاتِهِ فِي الْغَابَةِ، مُتَفَائِلًا كُلَّ التَّفَاؤُلِ، مَوْفُورَ الثِّقَةِ بِنَفْسِهِ، لَا يَعْرِفُ لِلْإِخْفَاقِ وَلَا لِلْيَأْسِ مَعْنًى.

وَقَدْ عُرِفَ بَيْنَ أَهْلِ بَلَدِهِ بِالْمُرُوءَةِ وَالشَّهَامَةِ وَالنَّجْدَةِ، لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ خِدْمَةِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ عَوْنًا، كَمَا عُرِفَ بَيْنَ أَقْرَانِهِ مِنَ الْفِتْيَانِ بِكَرَمِ الصُّحْبَةِ، وَلُطْفِ الْمَوَدَّةِ، وَصَفَاءِ النَّفْسِ.

لِذَلِكَ أَحَبَّهُ كُلُّ مَنْ عَرَفَهُ، مِنْ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ.

figure

(٢) «زُمُرُّدَةُ» زَوْجَةُ «مَرْمَرٍ»

لَمَّا بَلَغَ «مَرْمَرٌ» مَبْلَغَ الشَّبَابِ، فَكَّرَ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَ، لِتَكُونَ لَهُ شَرِيكَةُ حَيَاةٍ مُخْلِصَةٌ، يَسْعَدُ بِهَا وَتَسْعَدُ بِهِ، طُولَ الْعُمْرِ، وَيَتَبَادَلَانِ الْعَوْنَ عَلَى تَكَالِيفِ الْعَيْشِ مَعًا.

وَلَمْ يَتَعَجَّلْ «مَرْمَرٌ» فِي الْأَمْرِ، بَلْ أَمْضَى بَعْضَ الْوَقْتِ، وَهُوَ يُعْمِلُ فِكْرَهُ فِي الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَتَوَافَرَ فِيمَنْ يَخْتَارُهَا زَوْجَةً لَهُ، تَعْمُرُ بَيْتَهُ.

وَوَفَّقَهُ اللهُ إِلَى اخْتِيَارِ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، مِنْ بَنَاتِ قَوْمِهِ: شابَّةٍ حَسْناءَ، مِنْ أُسْرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَكانَ اسْمُها «زُمُرُّدَةَ».

وَحَقًّا، كَانَتْ «زُمُرُّدَةُ» مِثْلَ اسْمِهَا: جَوْهَرَةً كَرِيمَةً، تَتَمَتَّعُ مِنَ الْأَخْلَاقِ بِأَحْسَنِ مَا يَتَحَلَّى بِهِ الْإِنْسَانُ.

وَكَانَتْ «زُمُرُّدَةُ» — هَذِهِ — رَحِيمَةً بِالْحَيَوَانِ، عَطُوفًا عَلَيْهِ، تَأْلَمُ لِمَا يُصِيبُهُ مِنْ أَذًى، وَتَحْرِصُ عَلَى أَلَّا يَنَالَهُ أَحَدٌ بِسُوءٍ.

كَذَلِكَ كَانَتْ «زُمُرُّدَةُ» بَارَّةً بِزَوْجِهَا، مُكْرِمَةً لَهُ، تُحِبُّ لَهُ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ، وَتَخْشَى مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنَ الْأَخْطَارِ.

وَلِهَذَا عَاشَ «مَرْمَرٌ» مَعَ «زُمُرُّدَةَ» عِيشَةً رَاضِيَةً، يُحِبُّ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ مَحَبَّةً صَادِقَةً، وَيَحْرِصُ عَلَى الْقِيَامِ بِكُلِّ مَا يُرْضِيهِ، فِي أَمَانَةٍ وَإِخْلَاصٍ.

figure

(٣) أُنْشُودَةُ الصَّيَّادِ

وَكَانَ «مَرْمَرٌ» الصَّيَّادُ — مَعَ مَهَارَتِهِ فِي الصَّيْدِ وَالْقَنْصِ — يَتَّخِذُ كُلَّ حِيلَةٍ لِلْفَوْزِ وَالنَّجَاحِ، فَكَانَ يَدْهُنُ رُمْحَهُ الْقَصِيرَ بِدِهَانٍ مَسْحُورٍ، وَيُغَنِّي هَذِهِ الْأُنْشُودَةَ:

اُقْتُلْ يَا رُمْحِي
يَا رُمْحِي الصَّغِيرْ:
أَسْمَاكًا سَبَحَتْ
فِي الْبَحْرِ الْكَبِيرْ
وَطُيُورًا طَارَتْ
فِي الرَّوْضِ النَّضِيرْ
شَتِّتْ يَا رُمْحِي
أَبْقَارَ الْغَابَهْ
وَغَزَالَ الْوَادِيِ
بَدِّدْ أَسْرَابَهْ
أَهْلِكْ — يَا رُمْحِي —
خِنْزِيرَ الْبَرِّ
وَاصْرَعْ — يَا رُمْحِي —
حِيتَانَ الْبَحْرِ
وَاقْتُلْ — يَا رُمْحِي —
قُنْفُذَةً تَجْرِي
فِي وَقْتِ الظُّهْرِ
وَأَوَانِ الْعَصْرِ
وَقُبَيْلَ الْفَجْرِ

وَكَانَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ الصَّيَّادِينَ وَالْقَنَّاصِينَ، أَنَّ هَذَا الدِّهَانَ فِيهِ خَاصَّةٌ غَرِيبَةٌ؛ هِيَ أَنَّهُ مَا يَمَسُّ وَاحِدًا مِنْ صَيْدِ الْغَابَةِ إِلَّا أَفْقَدَهُ — فِي الْحَالِ — قُوَاهُ، فَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إِلَى النَّجَاةِ … وَأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي الْغَرَضَ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّغَنِّي بِتِلْكَ الْأُنْشُودَةِ!…

(٤) أُنْشُودَةُ «زُمُرُّدَةَ»

وَلَكِنَّ زَوْجَتَهُ الطَّيِّبَةَ «زُمُرُّدَةَ» كَانَتْ تُغَافِلُهُ، وَتَدْهُنُ رُمْحَهُ بِدِهَانٍ مَسْحُورٍ آخَرَ، حَتَّى لَا يُؤْذِيَ أَيَّ حَيَوَانٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ طَيِّبَةَ الْقَلْبِ، رَقِيقَةَ الْعَوَاطِفِ، تَكْرَهُ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْتُلَ حَيَوَانًا سَارِبًا فِي الْأَرْضِ، أَوْ يَسْلُبَهُ حُرِّيَّتَهُ الَّتِي يَنْعَمُ بِهَا فِي حَيَاتِهِ، وَلَا تُطِيقُ أَنْ تَرَى حَيَوَانًا صَرِيعًا بِيَدِ إِنْسَانِ؛ فَهِيَ تُحِسُّ أَنَّ لَهُ رُوحًا تَتَأَلَّمُ وَتَتَعَذَّبُ، كَشَأْنِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَهِيَ لَا تَرْضَى التَّعْذِيبَ لِكَائِنٍ كَانَ، مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ.

وَقَدْ وَضَعَتْ «زُمُرُّدَةُ» أُنْشُودَةً تُقَابِلُ أُنْشُودَةَ زَوْجِهَا الصَّيَّادِ … وَكَانَتْ تُغَنِّي بِأُنْشُودَتِهَا، وَهِيَ تَدْهُنُ الرِّمْحَ:

يَا رُمْحَ الشَّرِّ
لَا تَقْتُلْ أَحَدَا
لَا تَقْتُلْ وَحْشًا
أَوْ طَيْرًا غَرِدَا
لَا تَصْرَعْ رَجُلًا
لَا تُهْلِكْ وَلَدَا
لَا تَقْتُلْ أَحَدَا
لَا تَقْتُلْ أَبَدَا

•••

أَبْقَارَ الْغَابِ
وَغَزَالَ الْوَادِي:
سِيرِي آمِنَةً
عُدْوَانَ الْعَادِي

•••

أَسْمَاكَ الْبَحْرِ
وَطُيُورَ الْبَرِّ:
عِيشِي وَادِعَةً
آمِنَةَ الشَّرِّ
فِي وَقْتِ الظُّهْرِ
وَأَوَانِ الْعَصْرِ
وَقُبَيْلَ الْفَجْرِ
figure

وَقَدْ تَبَدَّلَتْ أَحْوَالُ «مَرْمَرٍ» الصَّيَّادِ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ «زُمُرُّدَةَ»؛ فَلَمْ يَعُدْ رُمْحُهُ — بَعْدَ ذَلِكَ — يُصِيبُ الْهَدَفَ!..

وَكَانَ إِذَا صَوَّبَهُ إِلَى بَقَرَةٍ مِنْ أَبْقَارِ الْغَابِ، أَوْ غَزَالَةٍ مِنْ غِزْلَانِهِ، انْزَلَقَ الرُّمْحُ سَرِيعًا مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ يَمَسَّ الْبَقَرَةَ بِسُوءٍ؛ وَرُبَّمَا اخْتَرَقَ الْأَشْجَارَ دُونَ أَنْ يُصِيبَ الْفَرِيسَةَ الَّتِي يَقْصِدُهَا.

وَهَكَذَا تَغَلَّبَ سِحْرُ «زُمُرُّدَةَ» عَلَى سِحْرِ زَوْجِهَا «مَرْمَرٍ» الصَّيَّادِ؛ فَكَانَ يَعُودُ إِلَى بَيْتِهِ — كُلَّ يَوْمٍ — صِفْرَ الْيَدَيْنِ، لَمْ يَصْطَدْ مِنَ الْغَابَةِ شَيْئًا..

وَبِقَدْرِ مَا كَانَتْ «زُمُرُّدَةُ» مَسْرُورَةً بِهَذِهِ الْحِيلَةِ الَّتِي اتَّخَذَتْهَا لِمَنْعِ إِيذَاءِ الْحَيَوَانِ، كَانَ زَوْجُهَا مَهْمُومًا مَحْزُونًا لِخَيْبَةِ أَمَلِهِ فِي الصَّيْدِ وَالْقَنْصِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي لِذَلِكَ سَبَبًا!

وَقَدْ حَاوَلَ الصَّيَّادُ «مَرْمَرٌ» أَنْ يَتَعَرَّفَ سِرَّ مَا يَحْدُثُ لَهُ، فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى شَيْءٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْقِدِ الْأَمَلَ فِي أَنْ تَتَبَدَّلَ حَالُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ.

(٥) الْبَقَرَةُ الْوَحْشِيَّةُ

وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ: خَرَجَ «مَرْمَرٌ» عَلَى عَادَتِهِ إِلَى الْغَابَةِ، وَرَأَى بَقَرَةً وَحْشِيَّةً كَبِيرَةً؛ فَظَلَّ يُطَارِدُهَا حَتَّى دَانَاهَا … ثُمَّ صَوَّبَ إِلَيْهَا رُمْحَهُ فِي مَهَارَةٍ، وَحِذْقٍ وَرَشَاقَةٍ.

وَلَمْ يَشُكَّ «مَرْمَرٌ» فِي أَنَّ الرُّمْحَ سَيُصِيبُ الْبَقَرَةَ الْوَحْشِيَّةَ، وَأَنَّهُ قَاتِلُهَا، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهَا.

وَقَدْ حَرَصَ «مَرْمَرٌ» — قَبْلَ خُرُوجِهِ لِلصَّيْدِ — أَنْ يَدْهُنَ الرُّمْحَ بِالدِّهَانِ السِّحْرِيِّ، وَأَنْ يُغَنِّيَ الْأُنْشُودَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ إِنْشَادِهَا، لِكَيْ يَكُونَ لِلدِّهَانِ أَثَرُهُ فِي اجْتِذَابِ الْفَرِيسَةِ!..

وَهَكَذَا اطْمَأَنَّ «مَرْمَرٌ» بِأَنَّهُ ظَافِرٌ بِالْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ صَيْدًا طَيِّبًا، مَتَى سَدَّدَ إِلَيْهَا الرُّمْحَ..

وَلَكِنَّ الرُّمْحَ انْزَلَقَ بَيْنَ قَرْنَيْهَا، وَنَفَذَ فِي جِذْعِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ مَكَانِ الْبَقَرَةِ، دُونَ أَنْ يَمَسَّهَا بِسُوءٍ.

وَسُرْعَانَ مَا اهْتَاجَتِ الْبَقَرَةُ، وَاشْتَدَّ غَيْظُهَا عَلَى «مَرْمَرٍ»؛ فَانْطَلَقَتْ تَعْدُو فِي أَثَرِهِ حَتَّى أَدْرَكَتْهُ، فَنَطِحَتْهُ بِقَرْنَيْهَا، فَأَلْقَتْهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَتَرَكَتْهُ أَقْرَبَ إِلَى الْمَوْتِ مِنْهُ إِلَى الْحَيَاةِ.

وَتَبَيَّنَ «مَرْمَرٌ» الصَّيَّادُ أَنَّ نَطْحَةَ الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ الْمُهْتَاجَةِ قَدْ أَحْدَثَتْ فِيهِ جُرْحًا، وَأَنَّ جُرْحَهُ يَدْمَى!

كَانَ جُرْحُ «مَرْمَرٍ» خَطِيرًا. فَلَمْ يَسْتَطِعِ السَّيْرَ إِلَى بَيْتِهِ!..

وَقَدْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي الْعَوْدَةِ إِلَى عُشِّهِ زَحْفًا، حَتَّى بَلَغَهُ بَعْدَ عَنَاءٍ شَدِيدٍ، لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُ أَنْ يُكَابِدَهُ!..

وَظَلَّ «مَرْمَرٌ» رَاقِدًا فِي عُشِّهِ، صَابِرًا عَلَى مَا يَشْعُرُ بِهِ مِنْ آلَامٍ لَمْ تَكُنْ تَخِفُّ إِلَّا بِقَدْرٍ ضَئِيلٍ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ.

وَقَد حَزِنَتْ «زُمُرُّدَةُ» لِمَرَضِهِ أَشَدَّ الْحُزْنِ، وَنَدِمَتْ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ — فِي خُفْيَةٍ مِنْهُ — تَصْنَعُ مَا صَنَعَتْ بِرُمْحِهِ، وَوَدَّتْ لَوْ أَنَّهَا تَرَكَتْ رُمْحَهُ — كَمَا كَانَ — مَاضِيًا نَفَّاذًا، دُونَ أَنْ تَدْهُنَهُ بِالدِّهَانِ الْمَسْحُورِ، الَّذِي أَفْقَدَهُ مَضَاءَهُ وَنَفَاذَهُ.

عَلَى أَنَّ «زُمُرُّدَةَ» كَانَتْ تَبْذُلُ كُلَّ وُسْعِهَا وَجُهْدِهَا فِي الْعِنَايَةِ بِزَوْجِهَا الْمَرِيضِ، فِي أَثْنَاءِ مَرَضِهِ، فَظَلَّتْ تَقُومُ بِكُلِّ مَا يَحْتاجُ إِلَيْهِ، فِي حُنُوٍّ بَالِغٍ، وَإِشْفَاقٍ شَدِيدٍ.

وَلَمْ يَكُنْ حُزْنُ أَصْحَابِ «مَرْمَرٍ» بِأَقَلَّ مِنْ حُزْنِ زَوْجَتِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ كَانُوا يُكبِرُونَ فِيهِ ذَكَاءَهُ وَشَجَاعَتَهُ وَمُرُوءَتَهُ.

وَاسْتَمَرَّ أَصْحَابُهُ وَجِيرَانُهُ يَعُودُونَهُ فِي مَرَضِهِ، وَيُقَدِّمُونَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّعَايَةِ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُونَ، عَنْ طِيبِ خَاطِرٍ.

وَنَظَرًا لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ حُزْنَ زَوْجَتِهِ عَلَى مَا أَصَابَهُ وَعِنَايَتَهَا بِهِ، لَمْ يَشُكَّ أَحَدٌ فِي أَنَّهَا هِيَ السَّبَبُ فِيمَا جَرَى لَهُ.

figure

(٦) حِوَارُ الصَّيَّادِ وَزَوْجَتِهِ

وَبَعْدَ أُسْبُوعَيْنِ انْدَمَلَتْ جِرَاحُ «مَرْمَرٍ».. وَلَكِنَّ قَدَمَيْهِ لَمْ تُشْفَيَا مِنْ أَثَرِ سُقُوطِهِ عَلَى الْأَرْضِ.

وَفِي مَسَاءِ يَوْمٍ جَلَسَتْ إِلَيْهِ زَوْجَتُهُ، وَقَالَتْ لَهُ فِي حُنُوٍّ وَرِقَّةٍ: «اغْفِرْ لِي — أَيُّهَا الزَّوْجُ الْكَرِيمُ — ذَلِكَ الْخَطَأَ الَّذِي ارْتَكَبْتُهُ؛ فَقَدِ اضْطُرِرْتُ إِلَيْهِ اضْطِرَارًا … وَسَحَرْتُ رُمْحَكَ، حَتَّى أُرْغِمَكَ عَلَى تَرْكِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّنِي كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْكَ مِنْهُ.»

فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا «مَرْمَرٌ»: «إِنَّ مَنْ شُغِفَ بِالصَّيْدِ وَالْقَنْصِ لَا يَعْدِلُ عَنْهُمَا، مَهْمَا يَلْقَ مِنْ أَحْدَاثٍ وَخُطُوبٍ!..

فَلَا تَحْسَبِينِي قَدْ كَفَفْتُ عَنِ الصَّيْدِ، بَعْدَ أَنْ تَعَرَّضْتُ لِلْهَلَاكِ.

وَلْتَكُونِي عَلَى ثِقَةٍ أَنَّنِي لَنْ أَهْجُرَ الصَّيْدَ أَبَدًا.

فَلَوْ فَقَدْتُ سَاقًا، لَمَضَيْتُ إِلَى الْغَابَةِ أَصْطَادُ بِسَاقٍ وَاحِدَةٍ، مُتَّخِذًا مِنْ أَعْوَادِ الشَّجَرِ سَاقًا مِنْ خَشَبٍ!..

وَلَوْ فَقَدْتُ السَّاقَيْنِ الِاثْنَتَيْنِ مَعًا، لَمَا تَوَانَيْتُ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْغَابَةِ، وَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعِ الذَّهَابَ إِلَيْهَا إِلَّا زَحْفًا!»

وَحَاوَلَتْ زَوْجَتُهُ أَنْ تُقْنِعَهُ بِالْبَقَاءِ فِي الْعُشِّ؛ وَلَكِنَّهُ رَأَى الْحَيَاةَ الْكَرِيمَةَ فِي أَنْ يَجِدَّ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَأَلَّا يَرْضَى بِالتَّعَطُّلِ.. وَأَنْسَاهُ شَغَفُهُ بِالصَّيْدِ مَا يُحِسُّ بِهِ مِنَ الضَّعْفِ!..

(٧) عَنْكَبَةُ الْغَابَةِ

وَذَهَبَ «مَرْمَرٌ» — صُبْحًا — إِلَى الْغَابَةِ زَحْفًا عَلَى يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَظَلَّ يُرَاقِبُ حَيَوَانَ الْغَابَةِ، غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى اقْتِنَاصِ شَيْءٍ مِنْهُ. فَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عَادَ «مَرْمَرٌ» إِلَى عُشِّهِ، وَقَضَى — عَلَى هَذِهِ الْحَالِ — أَيَّامًا، لَا يَفُوزُ مِنَ الْغَابَةِ بِشَيْءٍ.

وَذَا صَبَاحٍ، اسْتَلْقَى «مَرْمَرٌ» عَلَى ظَهْرِهِ فِي الْغَابَةِ، وَظَلَّ يُرَاقِبُ الْأَشْجَارَ، فَرَأَى عَنْكَبَةً تَنْسُجُ عُشَّهَا، وَتَمُدُّ شِبَاكًا مِنْ نَسْجِ يَدَيْهَا، تَصْطَادُ بِهَا فَرَائِسَهَا.

فَصَاحَ «مَرْمَرٌ» وَقَدْ تَمَلَّكَهُ الدَّهَشُ، يَقُولُ لَهَا: «حَتَّى أَنْتِ يَا سَيِّدَةَ الْعَنَاكِبِ، تَصْطَادِينَ بِمَهَارَةٍ!»

فَقَالَتْ لَهُ الْعَنْكَبَةُ: «وَمَنْ أَعْلَمُ بِالصَّيْدِ مِنِّي وَأَخْبَرُ؟»

فَقَالَ لَهَا «مَرْمَرٌ»، وَهُوَ مُعْجَبٌ بِهَا: «مَا كُنْتُ أَحْسَبُكِ مُتَمَيِّزَةً بِمِثْلِ هَذِهِ الْبَرَاعَةِ!»

فَقَالَتِ الْعَنْكَبَةُ، وَهِيَ تَنْسُجُ الْعُشَّ: «لَوْ أَنَّكَ حَاكَيْتَنِي فِيمَا أَعْمَلُ، وَصَنَعْتَ شَبَكَةً عَلَى غِرَارِ هَذِهِ الشَّبَكَةِ؛ لَسَهُلَ عَلَيْكَ أَنْ تَصْطَادَ مَا شِئْتَ مِنْ وُعُولِ الْغَابَةِ وَأَبْقَارِهَا، وَقَنَافِذِهَا وَغِزْلَانِهَا، دُونَ أَنْ يَمَسَّكَ سُوءٌ! إِنَّكَ تَرَانِي أَصْطَادُ فَرَائِسِي، لَا يَنَالُنِي مِنْهَا أَذًى. وَلَوْ أَنَّكَ فَعَلْتَ مِثْلَ مَا أَفْعَلُ، لَمَا تَعَرَّضْتَ لِخَطَرِ الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ الَّتِي نَطِحَتْكَ، وَكَادَتْ تَقْتُلُكَ، يَا فَتَى الْفِتْيَانِ.»

فَعَجِبَ «مَرْمَرٌ» مِنْ ذَكَاءِ الْعَنْكَبَةِ، وَبَرَاعَةِ حِيلَتِهَا، وَجَلَسَ يُفَكِّرُ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ لِنَفْسِهِ: «حَقًّا إِنَّهَا صَيَّادَةٌ مَاهِرَةٌ، تَصْطَادُ فَرَائِسَهَا، دُونَ التَّعَرُّضِ لِسُوءٍ، وَلَا بُدَّ لِي مِنْ مُحَاكَاتِهَا فِي هَذَا الَّذِي تَصْنَعُهُ.

لَقَدْ هَدَتْنِي إِلَى فِكْرَةٍ مُفِيدَةٍ، يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَنْتَفِعَ بِهَا فِي حَيَاتِي … وَلَيْسَ الْعَيْبُ أَنْ أُقَلِّدَ غَيْرِي فِيمَا يُفِيدُ، وَلَكِنَّ الْعَيْبَ أَنْ أَعْرِفَ الْفِكْرَةَ الْمُفِيدَةَ، دُونَ أَنْ أَنْتَفِعَ بِهَا.

وَلَا شَكَّ أَنِّي أَقْدَرُ مِنَ الْعَنْكَبَةِ عَلَى صُنْعِ الشِّبَاكِ.

وَمَا أَجْدَرَنِي أَنْ أَصْنَعَ شَبَكَةً كَبِيرَةً مِنْ حِبَالِ الْأَشْجَارِ، لِأَصْطَادَ فَرَائِسِي مِنَ الْحَيَوَانِ — كَمَا تَصْطَادُ الْعَنْكَبَةُ فَرَائِسَهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ — دُونَ أَنْ أَتَعَرَّضَ لِسُوءٍ.»

وَظَلَّ «مَرْمَرٌ» الصَّيَّادُ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — يَفْتِلُ الْحِبَالَ مِنْ سُوقِ النَّبَاتَاتِ الْقَوِيَّةِ الْمَتِينَةِ؛ حَتَّى تَتَهَيَّأَ لَهُ مِنَ الْحِبَالِ مَا يُرِيدُ … فَعَكَفَ عَلَيْهَا يَصْنَعُ مِنْهَا شِبَاكًا عَلَى غِرَارِ شِبَاكِ الْعَنْكَبَةِ، ثُمَّ وَضَعَهَا بَيْنَ أَشْجَارِ الْغَابَةِ، بَعْدَ أَنْ شَدَّ الشِّبَاكَ إِلَى جُذُوعِ الْأَشْجَارِ، لِكَي لَا تَذْهَبَ بِهَا الرِّيَاحُ.

figure

(٨) حِبَالَةُ الصَّيَّادِ

وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ التَّالِي، ذَهَبَ «مَرْمَرٌ» فِي الصَّبَاحِ، وَهُوَ يَأْمُلُ أَنْ تَكْوُنَ حِيلَتُهُ الْجَدِيدَةُ قَدْ نَجَحَتْ، فَوَجَدَ — فِي كُلِّ حِبَالَةٍ مِنْ حَبَائِلِهِ، أَيْ: شَبَكَةٍ مِنْ شِبَاكِهِ — حَيَوَانًا مِنْ حَيَوَانِ الْغَابَةِ: الْوُعُولِ، وَالْغِزْلَانِ، وَغَيْرِهَا.

وَرَآهَا جَمِيعًا مُرْتَبِكَةً فِي الْحَبَائِلِ، لَا تَسْتَطِيعُ مِنْهَا فَكَاكًا، وَهِي تُحَاوِلُ النَّجَاةَ — جَاهِدَةً — فَلَا تَجِدُ إِلَيْهَا سَبِيلًا.

فَالْتَفَتَ «مَرْمَرٌ» إِلَى الْعَنْكَبَةِ الذَّكِيَّةِ، وَهِي بَيْنَ الْأَشْجَارِ تَنْسُجُ عُشَّهَا، وَتَمُدُّ شِبَاكَهَا، وَقَالَ لَهَا مُحَيِّيًا: «شُكْرًا لَكِ، أَيَّتُهَا الصَّدِيقَةُ الْمَاهِرَةُ، عَلَى مَا هَدَيْتِنِي إِلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ … فَقَدْ صَنَعْتُ الْحِبَالَةَ، وَفْقَ مَا أَرْشَدْتِنِي، وَنَسَجْتُهَا عَلَى غِرَارِ مَا عَلَّمْتِنِي؛ فَأَصَبْتُ بِهَا غُنْمًا عَظِيمًا!»

فَقَالَتِ الْعَنْكَبَةُ: «إِنِّي مَسْرُورَةٌ جِدًّا بِنَجَاحِكَ وَتَوْفِيقِكَ، وَمَا أَسْعَدَنِي بِمَا تُفِيدُ مِنِ اتِّبَاعِ نَصِيحَتِي.»

وَجَعَلَ «مَرْمَرٌ» يَنْقُلُ إِلَى عُشِّهِ مَا حَوَتْ حَبَائِلُهُ، وَهُوَ مُمْتَلِئُ النَّفْسِ سُرُورًا! … فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَوْجَتُهُ، أَظْهَرَتْ لَهُ فَرَحَهَا، وَهَنَّأَتْهُ بِمَا أَحْرَزَهُ مِنْ نَجَاحٍ، وَقَالَتْ لَهُ: «الْآنَ أَطْمَئِنُّ بِأَنَّكَ لَنْ يُصِيبَكَ أَذًى مِنْ صَيْدِ الْحَيَوانِ.»

(٩) الثَّوْبُ الْمَنْسُوجُ

وَمَا زَالَ «مَرْمَرٌ» يَتَفَنَّنُ فِي نَسْجِ حَبَائِلِهِ (شِبَاكِهِ)، مُرْتَقِيًا فِي إِتْقَانِهَا؛ حَتَّى أَصْبَحَتْ شِبَاكُهُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا لِلصَّيْدِ عَلَى أَحْسَنِ غِرَارٍ، وَصَارَتْ حِبَالُهَا أَلْيَنَ مَلْمِسًا، وَأَمْتَنَ نَسْجًا.

وَيَوْمًا جَلَسَتْ إِلَيْهِ زَوْجَتُهُ تُؤْنِسُهُ، وَتَقُولُ لَهُ: «مَا أَجْمَلَ هَذِهِ الشِّبَاكِ، وَمَا أَجْدَرَنِي أَنْ أَرْتَدِيَ وَاحِدَةً مِنْهَا، إِذَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تُرَقِّقَ مِنْ نَسْجِهَا؛ فَإِنَّ مَنْظَرَهَا جَمِيلٌ!»

وَلَمْ يَكُنْ لِنِسَاءِ الْغَابَةِ — حِينَئِذٍ — عَهْدٌ بِارْتِدَاءِ مِثْلِ هَذِهِ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ؛ فَقَدْ كَانَتْ ثِيَابُهُنَّ تُصْنَعُ — فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ — مِنَ الْأَلْيَافِ الْخَشِنَةِ، الَّتِي تَزْدَادُ خُشُونَتُهَا كُلَّمَا بَلَّلَهَا الْمَاءُ.

فَرَحَّبَ «مَرْمَرٌ» بِمَا رَغِبَتْ فِيهِ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُصُولِ عَلَى ثَوْبٍ رَقِيقِ النَّسِجِ، وَوَعَدَهَا بِتَلْبِيَةِ رَغْبَتِهَا فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ مُسْتَطَاعٍ.

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى صَدِيقَتِهِ الْعَنْكَبَةِ، فَرَحَّبَتْ بِهِ، وَسَأَلَتْهُ: «مَاذَا تَطْلُبُ مِنِّي، لِأُحَقِّقَهُ لَكَ؟»

فَقَالَ لَهَا وَهُوَ يَتَلَطَّفُ فِي قَوْلِهِ: «لَقَدْ جِئْتُكِ مُسْتَرْشِدًا، لِأَسْأَلَكِ: كَيْفَ أَنْسُجُ ثَوْبًا عَلَى غِرَارِ بَيْتِكِ الْعَجِيبِ؟

لَقَدْ رَغِبَتْ زَوْجَتِي «زُمُرُّدَةُ» فِي أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوْبٌ مِنْ هَذِهِ الشِّبَاكِ، فَهَلْ تُرْشِدِينَنِي إِلَى ذَلِكَ؟!»

فَقَالَتْ لَهُ الْعَنْكَبَةُ: «لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ تُقِيمَ عِصِيًّا — كَمَا أَفْعَلُ — ثُمَّ تَنْسُجَ عَلَى مِنْوَالِي بِدِقَّةٍ وَعِنَايَةٍ، وَبِذَلِكَ تُحَقِّقُ مَا رَغِبَتْ فِيهِ زَوْجَتُكَ «زُمُرُّدَةُ».

فَذَهَبَ «مَرْمَرٌ» وَتَخَيَّرَ جَمْهَرَةً مِنَ الْعِصِيِّ، وَأَقَامَهَا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبَةِ، ثُمَّ رَاحَ يَنْسُجُ ثَوْبًا عَلَى غِرَارِ مَا تَصْنَعُ.

فَلَمَّا أَتَمَّ نَسْجَ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ، أَهْدَاهُ إِلَى زَوْجَتِهِ … فَأَظْهَرَتْ لَهُ سُرُورًا بِهِ … وَلَكِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ جَعَلَتْ تَتَفَحَّصُ الثَّوْبَ، وَتَجُسُّهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، ثُمَّ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: «إِنَّ حِبَالَهُ غَلِيظَةٌ خَشِنَةُ الْمَلْمِسِ، وَخَيْرٌا لَنَا أَنْ نَتَخَيَّرَ الْحَشَائِشَ الرَّقِيقَةَ الْحَرِيرِيَّةَ، لِنَسْجِ الثَّوْبِ؛ فَإِنَّهَا — فِيمَا أَرَى — أَصْلَحُ مِنْ تِلْكَ الْحِبَالِ الْغَلِيظَةِ، وَأَلْيَنُ مَلْمِسًا.»

ثُمَّ ذَهَبَتْ «زُمُرُّدَةُ» مَعَ زَوْجِهَا «مَرْمَرٍ»، وَأَرْشَدَتْهُ إِلَى حَيْثُ تَنْمُو النَّبَاتَاتُ الْحَرِيرِيَّةُ الطَّوِيلَةُ، فَجَمَعَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَحَمَلَهُ إِلَى صَدِيقَتِهِ الْعَنْكَبَةِ، وَقَالَ لَهَا مُتَلَطِّفًا: «لَقَدْ بَدَأْتُ بِنَسْجِ شِبَاكِي مِنْ غَلِيظِ الْحِبَالِ. ثُمَّ ارْتَقَيْتُ — بَعْدَ ذَلِكَ — فَصَنَعْتُ لِزَوْجِي ثَوْبًا مِنْ حِبَالٍ أَرَقَّ مِنْهَا وَأَلْيَنَ. فَهَلْ أَسْتَطِيعُ بِإِرْشَادِكِ أَنْ أَنْسُجَ مِنَ الْحَشَائِشِ الطَّوِيلَةِ النَّاعِمَةِ ثَوْبًا لِزَوْجَتِي، أَرَقَّ مِنَ الثَّوْبِ الْأَوَّلِ، وَأَكْثَرَ لِينًا؟»

figure

فَقَالَتِ الْعَنْكَبَةُ لِصَاحِبِهَا «مَرْمَرٍ»: «أَحْضِرْ إِلَيَّ زَوْجَتَكَ، لِأُعَلِّمَهَا: كَيْفَ تَصْنَعُ ثَوْبَهَا بِيَدَيْهَا.»

وَرَجَعَ «مَرْمَرٌ» إِلَى زَوْجَتِهِ، يُخْبِرُهَا بِمَا قَالَتْهُ الْعَنْكَبَةُ..

فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: «مَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْفِكْرَةَ! لِمَاذَا لَا أَتَعَلَّمُ النَّسْجَ، كَمَا تَعَلَّمْتَ أَنْتَ؟ لِمَاذَا لَا أَنْسُجُ ثَوْبِي بِيَدِي؟»

وَوَاظَبَتْ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الْعَنْكَبَةِ، لِتُعَلِّمَهَا طَرِيقَةَ النَّسْجِ.

وَبَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ، تَعَلَّمَتْ «زُمُرُّدَةُ» مِنَ الْعَنْكَبَةِ: كَيْفَ تَنْسُجُ ثَوْبَهَا مِنَ الْخُيُوطِ الرَّفِيعَةِ، بِمَهَارَةٍ.

فَلَمَّا ارْتَدَتْهُ اشْتَدَّ فَرَحُهَا، وَذَهَبَتْ إِلَى جَارَاتِهَا مَزْهُوَّةً فَخُورَةً بِمَا عَلَيْهَا مِنْ ثَوْبٍ صَنَعَتْهُ بِيَدَيْهَا.

وَأَخْبَرَتْ «زُمُرُّدَةُ» جَارَاتِهَا بِأَنَّ الْعَنْكَبَةَ هِيَ الَّتِي عَلَّمَتْ زَوْجَهَا وَعَلَّمَتْهَا نَسْجَ الْخُيُوطِ، وَأَنَّ لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْبَرَاعَةِ مَا يَفُوقُ فِيهِ الْإِنْسَانَ، فِي كُلِّ مَكَانٍ.

وَقَدْ أُعْجِبَتْ نِسَاءُ الْغَابَةِ بِهَذَا الثَّوْبِ الْجَمِيلِ، الدَّقِيقِ النَّسْجِ، وَهَنَّأْنَ «زُمُرُّدَةَ» بِمَهَارَتِهَا فِي صُنْعِهِ، كَمَا أُعْجِبْنَ بِفَضْلِ «مَرْمَرٍ» الَّذِي هَدَى زَوْجَتَهُ إِلَى صُنْعِ هَذَا الثَّوْبِ الْبَهِيجِ..

وَطَلَبْنَ مِنْهُمَا أَنْ يَصْنَعَا لَهُنَّ ثِيَابًا رَقِيقَةً، عَلَى غِرَارِ هَذَا الثَّوْبِ الْجَمِيلِ الَّذِي تَرْتَدِيهِ «زُمُرُّدَةُ».

figure

(١٠) زَعَامَةُ «مَرْمَرٍ»

وَكَانَ الرِّجَالُ يُطْلِقُونَ عَلَى «مَرْمَرٍ» لَقَبَ: «زَعِيمِ الصَّيَّادِينَ».

فَأَصْبَحَ النِّسَاءُ يُطْلِقْنَ عَلَيْهِ لَقَبَ: «زَعِيمِ النَّسَّاجِينَ».

وَكَانَ مَا يَصْطَادُهُ «مَرْمَرٌ» بِشِبَاكِهِ وَحَبَائِلِهِ يَزِيدُ عَلَى حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ أُسْرَتِهِ؛ فَرَاحَ يُهْدِي إِلَى جِيرَانِهِ وَعَشِيرَتِهِ — مِنَ الصَّيْدِ — مَا يَكْفِيهِمْ طُولَ الْعَامِ، دُونَ عَنَاءٍ.

وَهَكَذَا قَضَى «مَرْمَرٌ» الصَّيَّادُ حَيَاتَهُ طَيِّبَةً هَنِيئَةً، وَأَصْبَحَ مَوْضِعَ إِجْلَالِ قَوْمِهِ وَحُبَّهُمْ … وَاتَّخَذُوهُ لَهُمْ زَعِيمًا. وَعَاشَ مَعَ أَبْنَائِهِ وَحَفَدَتِهِ فِي هَنَاءَةٍ وَسَعَادَةٍ.

وَسَمَّاهُ النَّاسُ جَمِيعًا مِنْ بَعْدُ: «سَيِّدَ النُّسَّاجِ».

وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ هَذَا اللَّقَبَ، أَشَارَ إِلَى صَدِيقَتِهِ الْعَنْكَبَةِ، مُعْتَرِفًا لَهَا بِبَرَاعَتِهَا، وَجَمِيلِ صُنْعِهَا وَدِقَّتِهَا.

ثُمَّ يَقُولُ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْجِيرَةِ وَالْعَشِيرَةِ، فِي صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ: «كَلَّا، الْحَقُّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا «سَيِّدَ النُّسَّاجِ»! إِنَّمَا أَنَا تِلْمِيذُ هَذِهِ الْعَنْكَبَةِ الصَّنَاعِ (الْبَارِعَةِ الصُّنْعِ). هِيَ الَّتِي عَلَّمَتْنِي كَيْفَ أَنْسُجُ، وَهِي أَجْدَرُ بِزَعَامَةِ النَّسَّاجِينَ. لَوْلَا هِيَ مَا عَرَفْتُ مِنْ صَنْعَةِ النَّسْجِ شَيْئَا، طُولَ الْحَيَاةِ!»

يُجَابُ مِمَّا فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْآتِيَةِ

(س١) كَيْفَ أَتْقَنَ «مَرْمَرٌ» فُنُونَ الرِّيَاضَةِ؟
(س٢) لِمَاذَا كَانَ يَقْضِي «مَرْمَرٌ» أَغْلَبَ وَقْتِهِ فِي الْغَابَةِ؟
(س٣) بِمَاذَا عُرِفَ «مَرْمَرٌ» بَيْنَ أَهْلِ بَلَدِهِ وَأَقْرَانِهِ؟
(س٤) مَا هِيَ الصِّفَاتُ الَّتِي تَحَلَّتْ بِهَا «زُمُرُّدَةُ»؟
(س٥) مَاذَا كَانَتْ حِيلَةُ «مَرْمَرٍ» لِيَنْجَحَ فِي صَيْدِهِ؟
(س٦) لِمَاذَا كَانَتْ «زُمُرُّدَةُ» تَحْتَالُ لِحِمَايَةِ الْحَيَوَانِ مِنَ الِاصْطِيَادِ؟
(س٧) كَيْفَ خَابَ أَمَلُ «مَرْمَرٍ» فِي إِصَابَةِ الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ؟
(س٨) مَاذَا كَانَتْ حَالُ «زُمُرُّدَةَ»، لَمَّا حَدَثَ لِزَوْجِهَا مَا حَدَثَ؟
(س٩) مَاذَا جَرَى بَيْنَ «مَرْمَرٍ» وَزَوْجَتِهِ، حِينَ بَاحَتْ لَهُ بِسِرِّهَا؟
(س١٠) مَاذَا قَالَتِ الْعَنْكَبَةُ لِـ«مَرْمَرٍ»، وَهُوَ فِي الْغَابَةِ يُرَاقِبُ الْأَشْجَارَ؟
(س١١) مَا هِيَ الْوَسِيلَةُ الَّتِي اسْتَفَادَهَا «مَرْمَرٌ» مِنْ مُحَاكَاةِ «الْعَنْكَبَةِ»؟
(س١٢) مَاذَا قَالَتْ «زُمُرُّدَةُ» حِينَ رَأَتِ الْحَبَائِلَ وَالشِّبَاكَ الْمُتْقَنَةَ؟
(س١٣) مِمَّ كَانَتْ تُصْنَعُ الثِّيَابُ الَّتِي يَلْبَسُهَا أَهْلُ الْغَابَةِ؟
(س١٤) كَيْفَ وَصَفَتِ «الْعَنْكَبَةُ» لِـ«مَرْمَرٍ» طَرِيقَةَ نَسْجِ الثِّيابِ؟
(س١٥) ماذا كانت مُلاحظة «زُمُرُّدَةَ» لمَّا قدَّم لها زوْجُها الثوب؟
(س١٦) كَيْفَ تَعَلَّمَتْ «زُمُرُّدَةُ» أَنْ تَنْسُجَ ثَوْبَهَا بِيَدَيْهَا؟
(س١٧) لِمَاذَا أَطْلَقَ نِسَاءُ الْغَابَةِ عَلَى «مَرْمَرٍ» لَقَبَ «زَعِيمِ النَّسَّاجِين»؟
(س١٨) كَيْفَ اعْتَرَفَ «مَرْمَرٌ» بِالْفَضْلِ لِمَنْ عَلَّمَهُ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤